المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاجتهاد ومجالاته للشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله تعالى -



أهــل الحـديث
04-07-2013, 03:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الإجتهاد ومجالاته
للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد
- رحمه الله تعالى -



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
في مطالع الشرع صلاحيته لكل زمان ومكان, إذ جاءت أحكامه رحمة للناس مبنية على رعاية المصالح وتكثيرها, ودرء المفاسد وتقليلها ورفع الحرج والمشقة عمن أتم الله عليهم النعمة بالإيمان بها, غاية في اقامة القسط والعدل, العدل الذي ترسم معالمه الشريعة ذاتها لا على التفلسف والملاينة, والنزول على الرغبات ومجاراة الناس وتبرير أعمالهم.
وتأسيساً على هذا أعطى الشرع من انبسطت يداه ودرجت خطاه في سن التحقيق منصب اعمال الفكر, وإجالة النظر بالتفهم والتفقه والتدبر في فهم النصوص وتطبيقها على الواقعات المستجدة باستخراج الدليل للواقعة من الكتاب والسنة والحاق مالا نص فيه منها على ماورد به النص بما اكتسب بعد اسم ((الاجتهاد)) ومعتمله اسم ((المجتهد)).
وقد تسلم الصحابة رضي الله عنهم منصب الأستاذية في هذا وتتابع عليه أهلوه من علماء الشريعة على توالي العصور, بالتفقه وبذل الجهد الفكري.
وبه: استمر دولاب الحياة مترابط الحلقات بالدين وحبل الله المتين وصار جسراً ممتداً في الإسلام معلنا الخلود والنفاذ واستلهام الحوادث والواقعات, والصمود امام ظروف الحياة ومواجهات العصور إذا سيرت الحال لميزان عصور القوة والنضوج والترقي من عصور الضعف و . . .. حملك هذا إلى معرفة مدى توفر العقول الحاملة لملكة الاجتهاد الحقيقي في الأمة الذي يسعى من متكمل أدواته إلى ما يريده الله من عباده.
كل هذا قد علم في سلم المسلمات الشرعية في إطار الطواعية والانقياد لله تعالى ومنها ما أوجبه الله من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع الناس كما في نحو اربعين موضعاً من التنزيل الكريم, وطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى, وهذا عين العبودية لله وحده لا شريك له, وذلك دين الإسلام والأصل الأخذ بالنص عند ظهوره فيسقط معه كل اجتهاد أو قياس أو تقليد وهذه لا تكون إلا عند الاضطرار.
ولذا كان الأصل في شأن الفقيه أن يكون مستقلاً لا يتقيد بمذهب معين وإنما يتقيد بنصوص الكتاب والسنة وما يؤديه اليه اجتهاده المقبول, وهو مأجور أخطأ أم أصاب وهذا كما أنه عين الطواعية لله ورسوله فهو من أعظم الأسباب لإثراء الفقه, وتنمية الملكات الفقهية, والنشوء والتربية على مبدأ البحث واستقلال الفكر سيراً على منهاج النبوة.
وعليه: فقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز لعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد وتبين له الحق. والإجماع أيضاً على أن التقليد المحرم بالنص والإجماع هو كل تقليد يعارض قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وأن الشريعة لا يمكن حصرها بمذهب أو قول مقنن وأنها حجة على كل مذهب, ولا يجوز بحال أن يحتج بالمذهب عليها وما المذهب إلا قطرة في بحرها الزاخر.
وما الأخذ بالدليل إلا تقليد في صورة ترك التقليد, لقول كل إمام: ((إذا صح الحديث فهو مذهبي)) ولذا رفض العلماء مقولة من قال: بسد الإجتهاد, ورأوها عملية اجهاض للفقه الإسلامي, وان الذمم مشغولة بتحقيقه ولا تبرأ بسده على أهله, بل قال الشوكاني – رحمه الله – كلمته المشهورة: ((سد باب الاجتهاد يؤدي إلى نسخ الشريعة)) وقد أحسن العلماء في تخريجها وحملها بقصر سد الباب على غير المتأهل دفعاً لفساد الفتيا بغير علم, والقول على الله بلا علم أساس كل بلية, ولذا صار حفظ الدين رأس مقاصد الإسلام الخمسة: حفظ الدين فالنفس, فالعقل, فالعرض, فالمال.
وقد علم على سبيل اليقين والقطع ضرورة الحياة وسياسة العمران إلى قيام منصب الاجتهاد الشرعي, إذ الواقعات متجددة لا تقبل الحصر, والنص لم يرد في كل حادثة, وهي غير متناهية, فصار نصب القياس والتفقه واجباً, وهذا الواجب لا يتم إلا بأن يسعى من بسط الله يده إلى وجود سبل التعلم التي تؤهل الكفاءات العلمية في مهد عنايتها وتنمية مداركهم على يد من استقامت موازينهم وخلصت نيتهم, لاسيما والآلات العلمية متوفرة في هذا الزمن أكثر وأسهل من ذي قبل, فالشأن في التوجيه لحملها في سنن الشرع.
وبهذا يكون في ساحة المسلمين واحدة من كبرى الضمانات التي تعصمهم من التموج والأهواء والاضطراب في أمر الدين والدنيا.
وقد صنف أهل العلم أصحاب المدارك الفقهية إلى طبقات ومراتب بين الإجتهاد والتقليد على اختلاف بينهم, فمنهم من جعلهم ثلاث طبقات:
1- طبقة المجتهدين المستقلين ويقال: باطلاق.
2- طبقة المجتهدين في المذهب.
3- طبقة أرباب الترجيح
ومنهم من زاد:
4- طبقة الحافظين في المذهب.
5- طبقة المقلدة.
إلى غير ذلك مما يعلم من النظر في تفاريق كلام الأصوليين في أخريات مباحث الإجتهاد والتقليد من كتب الأصول.
والمتعين على أهل العلم والإيمان أن يقولوا من حيث يعلمون وأن يكفوا عما لا يعلمون وأن يسيروا في الأمة سيرة سلفهم الصالح في رعاياهم, فإن لم تنبسط حاله في الفقه وقف عند حده ولم يتجاوز طوره. والمتأهل نزل في الساحة ولم يتخل عنها لمتعالم يفسد على الناس دينهم ودنياهم وتخلصوا وخلصوا الأمة من أسر الضغط بالتقليد في جميع صورة وأشكاله, وسلكوا بها طريقاً بين ذلك قواما ((فيبذل الفقيه المتأهل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد الطلب لاستخراج الأحكام العلمية في أدلتها التفصيلية)) وهذه حقيقة الإجتهاد وكلمة ((الاستخراج)) هنا أولى من كلمة ((الاستنباط)) حتى يشمل نوعي الاجتهاد في استنباط الحكم الشرعي من النص أو على سبيل التنظير أو الإجتهاد غي تطبيق النص على الواقعة, وبذله هذا لا يخلو أن يكون واجباً عينياً إن وقعت له الحادثة أو سئل عنها وخاف فوتها, أو وجوباً كفائياً إن لم يخف فوتها, أو سبيله الندب فيما عدا ذلك. وهذا الذي له حق بذل الوسع: هو من يملك اسبابه من فقيه النفس المتبحر في الكتاب والسنة والأحكام الشرعية المشتركة بينهما, راسخاً في أصول الفقه بالبينة لا بالتبعية المذهبية, بصيراً بمواطن الإجماع والخلاف الفقهي ومداركه, قائلاً بالقياس عالماً به, عارفاً بوجوه دلالة اللفظ المختلفة, وعلوم الآلة صدراً في اللغة العربية, وبالجملة تمكنه هذه الأسباب من إناطة الأحكام بمداركها الشرعية, قد أنس من نفسه ذلك. وكثيراً ما تنتشر في الناس أهليته, فمتى كان كذلك صح وصف العالم المجتهد, وصح اجتهاده, وصار قبوله متى كان عدلاً مقيماً للفرائض والسنن.
ولعله بعد هذا التطواف المعتصر من كلام أهل العلم تستشرف النفس إلى معرفة مجالات الاجتهاد, ومن هنا فاعلم أن الأحكام تدور في قالبين:
الأول: ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع قطعي الثبوت والدلالة أو معلومات الدين بالضرورة كمسائل الاعتقاد وأركان الإسلام والحدود, والفضائل والمقدرات كالمواريث, والكفارات . . ونحو ذلك. فهذه لا مسرح للإجتهاد فيها باجماع, وطالما أنها ليست محلاً للإجتهاد فلا يقال فيها: كل مجتهد مصيب, بل المجتهد فيها مقطوع بخطئه واثمه, بل وكفره في مواضع.
الثاني: ما سوى ذلك وهو ما كان بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة أو عكسه أو طرفاه ظنيان أو لا نص فيه مطلقاً من الواقعات والمسائل والأقضيات المستجدة فهذه محل الإجتهاد في أطرة الشريعة, وعلى هذا معظم أحكام الشريعة فهذا محل الإجتهاد ومجاله. ولا يسبق إلى فهمك هنا أن المراد بالقطعي ((الحديث المتواتر)) وبالظني (حديث الآحاد)) على ما درج عليه عامة أهل الأصول كلا ثم كلا لأنهم بهذا يفرقون بين شرعي وشرعي ويستدلون للتفريق بل في جميع مباحث الأصول بآحاد الأدلة من مفردات العربية وأبيات الاعراب فانظر كيف يستدلون على الشرع بالآحاد وينكرون دلالة السنة الآحادية في الشرع في الإعتقاد أو يجعلونها ظنية الثبوت في الأحكام فما هذا أريد, ولكن أريد بالظني هنا ما وقع فيه خلاف له حظ من النظر بين التحسين والتضعيف أو الحديث الضعيف ضعف حفظ, وما جرى مجرى ذلك . . . والله أعلم.
وقد يكون الحكم هنا من الوضوح والبيان ما يلتحق بالقسم الأول وقد تتزاحم الدلائل فيكون التفهم والتفقه والتفتيش عن وجوه الترجيح لأحد القولين أو الأقوال على غيره وهنا يصح أن يقال في حق من له بذل الوسع ((كل مجتهد عند نفسه مصيب)) فهذا لا يلحقه إثم وإن أخطأ فالمصيب مأجور والمخطيء معذور إذ الحق في واحد من القولين أو الأقوال كما أن القبلة في جة واحدة من الجهات.
وهناك قالب ثالث: هو مجال لنظر الفقيه وذلك في فهم النص ومدى انطباقه على الواقعة ومن جهة ما يرد عليه من اطلاق أو تقييد أو ربطه بعلة وتحرير قيامها أو زوالها, وهل النص مما سر فيه النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى العادة أو الجبلة أو لا أو أن النص مما قام الدليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم به أو لا إلى غير ذلك من وجوه التفقه في الأدلة, وما ترمي اليه مقاصد الشرع من حفظ المصالح ودرء المفاسد في مصادره الأصلية وقواعده الكلية ومصادره التبعية: كالاستحسان أو الاستصلاح, والعرف والمصالح المرسلة, وسد الذرائع. . ونحوها من مسالك التفقه المقدرة بميزان الشرع الصحيح لا بالهوى والتشهي.
تنبيه هام:
لقد أخطأ خطأ فاحشاً من قال بشمول: تغير الفتوى بتغير الزمان للقالبين المذكورين فإنهما بالنسبة للأول ثابتة لا تتغير ولا تتبدل وما علمت في المتقدمين من قال عن هذه القاعدة بشمولها بل كلامهم عنها يفيد أنها قاعدة فرعية صورية وليست حقيقية, إذ يضربون لها المثال بتغير الأعراف وهذا محكوم بقواعد العرف والعادة ومن هنا فهي صورية لا حقيقية وابن القيم – رحمه الله تعالى – مع جلالة قدره قد توسع بضرب المثال لها بما لا يسلم له – رحمه الله - .
وليعلم هنا أن هذه القاعدة مع مسألة البحث هذه ((فتح باب الإجتهاد)) يستغلهما فقهاء المدرسة العصرانية الذين اعتلت اذواقهم وساورتهم الأهواء الغالبة والشهوات الطائشة أسوأ استغلال بما يؤدي إلى الإسترسال مع الأهواء ومجاراة الأغراض. فهذا يشيد حججاً لإباحة الربا, وذلك لوقف تنفيذ الحدود وهكذا. وكلها شبه على اساس دار تتداعى للسقوط وبأول معول. فيجب على من ولاه الله أمر المسلمين معالجة هذه الأذواق الفاسدة بتحجيمها والقضاء عليها لتسلم الأمة من أراضها واعتلالها, ورضي الله عن ابن مسعود إذ قال: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق)) والله أعلم.


مجلة: [المجمع الفقهي الإسلامي, العدد ((6)) صفحة 47, 52]