المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مِنة المَنان في تَحقيق تَدليس الثوريِّ سفيان



أهــل الحـديث
03-07-2013, 10:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِالله من شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَما بَعد :
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ محَمَّدٍ صَلى الله عليه وسلم، وَشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
لقد اهتم العلماء اهتماماً منقطعاً بعلم مصطلح الحديث، وأولوه كل عنايتهم، بل هم الذين وضعوه، وأسسوا قواعده وأصوله، وذلك حفاظاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب والوضع، فوضعوا أعظم المناهج والمصطلحات في ذلك، وتتبعوا رواة الحديث وأخبارهم، وقسموا الحديث إلى أنواعه المعروفة عند أهل العلم، حتى استقر على ما هو عليه اليوم، ومن الأنواع التي وضعوها: الإرسال والتدليس، وتتبعوا رواية المرسلين والمدلسين، وصنفوها إلى طبقات، وذلك كله من أجل الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فرحمهم الله، وأجزل مثوبتهم.
قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – في التذكرة : (( فحقٌّ على المحدِّثِ أن يَتورَّعَ في ما يُؤديهِ، وأن يَسألَ أهلَ المعرفةِ والورعِ؛ ليعينوه على إيضاحِ مَرويَّاتهِ، ولا سَبيلَ إلى أن يصيرَ العَارِفُ الذي يُزَكِّي نَقَلةَ الأخبارِ ويَجرحهم جهبذًا إلاَّ بإدمانِ الطَّلبِ، والفَحْص عن هذا الشأنِ، وكَثرةِ المذاكرةِ والسَّهر، والتيقُّظ والفَهم، مع التقوى والدِّين المتين، والإنصاف والتردُّد إلى مجالسِ العلماء، والتحرِّي والإتْقان، وإلاَّ تفعل :فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا *** وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالْمِدَادِ
قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [بالنحل: 43]، فإنْ آنستَ يا هذا مِن نفسك فهمًا وصدقًا ودِينًا وورعًا، وإلاَّ فلا تَتَعَنَّ، وإن غلَب عليكَ الهَوى والعصبيَّة لرأيٍ أو لمذهَب، فباللهِ لا تتعَب، وإنْ عرفتَ أنَّك مُخَلِّطٌ مُخَبّطٌ مهملٌ لحدودِ الله، فأرِحْنا منك، فبعدَ قليلٍ ينكشف البَهْرَجُ، وَيَنْكَبُ الزَغَلُ، ولا يَحيق المكرُ السيِّئُ إلا بأهلِه، فقد نصحتُك، فعِلم الحديثِ صَلفٌ؛ فأين عِلمُ الحديث، وأينَ أهلُه؟ كدتُ ألاَّ أراهم إلاَّ في كِتاب أو تحتَ تُرابِ )) .
وإخترت هذه الدراسة عنواناً لما هو قادمٌ بإذن الله : (( مرويات الإمام سفيان الثوري المعلة بالإختلاف عليه في علل الدارقطني )) وقد رأيت مُتطفلاً مُشاغباً يطعن في الإمام الثوري - رحمه الله - بتهمة التدليس ! آخذاً عَن الأئمة ما لم يستطع عقله أن يفقهه فجعل تدليس التسوية مِن القوادح في العدالة وهذا ما بينا خلافه في تدليس الوليد بن مسلم ، وهذا العلم المقدام والثبت الإمام والمُحدث الثقة المأمون على حديث سيد الأنام مِن أقل الأئمة تدليساً وأحسنهم حديثاً وأرواهم للأخبار عَن الثقات وأعلمهم بالمتون والأسانيد ، ووقعت يد المتطفلين على أقوال الأعلام في تدليس التسوية وأرادوا بها شراً فأولوها وفق الأهواء وتداخلت عليهم أقوال الثقات من علماء الإسلام فلا أتوا بخيرٍ وما أكثر شرهم ! فهيهات أن يبلغ أحدٌ منازل الأئمة الأثبات ، وأما تأويلاتهم لأقوالهم في تدليس التسوية وتدليس الإسناد فباطلٌ محضٌ وشرٌ مستطيرٌ يريد أن يعصف في سماءٍ ملبدةٌ بالغيوم فإحذر مِن الكلام فيمن عرف بالوثاقة والإيمان وممن أتاه الله فضلاً بين الرواة والأئمة والأعلام فرحمة الله على سفيانٍ ما أقل تدليسه فهو الإمام الثقة الثبت شآبيب الرحمة عليه وعلى من سار على دربه ودرب السلف من قبله وصحابة خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته وآل بيته أفضل الصلاة والسلام ، فإخترت أن أدرس تدليس الإمام الثوري رضوان الله تعالى عليه وبيان الصواب فيها إن شاء الله تبارك وتعالى .
إعلم علمني الله تعالى وإياك أن الأئمة اهتموا اهتماما بالغاً بالتدليس والمدلسين وكان لبعضهم الوقع الشديد على المدلسين فوصف التسوية بقدح في العدالة مثل الإمام ابن حبان ، وكان لشعبة أقوالٌ شديدةٌ في التدليس والمدلسين حتى تشدد فقال : (( لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أدلس )) فميزوا الصحيح من السقيم والضعيف من المعضل والمدلس من غيره ومما أثبت فيه سماع الراوي ومن عدمه وكل ذلك مِن الغيرة العظيمة على السنة وحمل الأمانة حق حملها - فرضي الله عنهم جميعا - وألحقنا ركبهم ورزقنا مد علم أحدٍ أو نصيفه .
وقد قسم الإمام الحافظ ابن حجر التدليس إلي مراتب خمس ومن المراتب التي نحن في صدد الكلام عليها هي المرتبة الثانية وهي معنية بأقوام أثبات أئمة أعلام وصفوا بالتدليس واحتمل الأئمة تدليسهم فأخرجوا أحاديثهم في الصحاح إما لإمامتهم أو قلة تدليسهم أمام ما رووا من الأحاديث ، أو أنهم لا يدلسون إلا عن ثقةٍ ومنهم من ثبت عليه التدليس وكان إماما عالما ثبتاً واحتمل الأئمة حديثه ومنهم سفيان الثوري وهو من أقل الناس تدليساً كما وصفه الإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول شعبة: أمير المؤمنين في الحديث الثوري، وكان إذا خالف الثوري شعبة قال شعبة: قدموا الثوري، فكان يقدم الثوري على نفسه؛ ولذلك كان ابن مهدي يقول: يقدم الثوري، فهو إمام زمانه، وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قورن عنده بين شعبة والثوري قدم الثوري في علم الرجال، وأيضاً في حفظ المتون والروايات.
وكنت قد رأيت الإمام النسائي قد وصف الثوري - رحمه الله - بالتدليس ووصفه به غيره حتى بلغ الأمر أن يرمى بتدليس التسوية ! وقدح بعض المبتدعة بإمامته وعدالته حتى بلغ الشطط بهم أن قدحوا بروايته كلها ! وإعلم أن ما رمي به من تدليس التسوية ليس بالقادح فيه .
[1] تَدليس التسوية وتَعريفه وهل يقدح بعدالة الراوي .
وهذا النوعُ مِنْ التدليس هو أردى أنواعهِ وشرهُ قال الحافظ الذهبي في ترجمة الوليد بن مسلم - رحمه الله - : (( وكان من أوعية العلم ، ثقة حافظا ، لكن رديء التدليس ، فإذا قال : حدثنا ، فهو حجة . هو في نفسه أوثق من بقية وأعلم )) وهو أن يسقط الراوي شيخاً ضعيفاً بين ثقتين علم سماعهما مِنْ بعضهما البعض أو تلاقيهما ، ففي هذه الحالة يأتي الراوي فيسقط الضعيف من بين الثقتين حتى يصبح السند مستقيماً كله، ثم يأتي بالعنعنة، ولذلك كثير من المدلسين لا يقبل منه إلا إذا صرح بالتحديث، كما قال الذهبي في بقية، قال: أما بقية إن قال: عن، فلا تلتفت إليه، وإن صرح بالتحديث فذاك، يعني: إذا قال: حدثني، فخذ، فالمدلس هنا يقول: حدثني ثم يأتي بشيخه الثقة، ثم يقول: عن؛ لأنه لو قال: حدثني، لكان كاذباً، فيسقط الضعيف من بين الثقتين ويأتي بصيغة موهمة للسماع وهي عن، ويكون شيخه قد عاصر الثقة الذي بعد الضعيف.
وقد دفع هذا الأمر العُلماء إلي التشنيع على تدليس التسوية واتهم بذلك الثوري -وكان مقلاً- والأعمش والوليد بن مسلم وهشيم بن بشير وبقية بن الوليد .
وقد بالغ ابن حزم فقال : (( إن الذي يدلس تدليس التسوية ساقط العدالة، رقيق الديانة؛ لأنه سيضيع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو نقول: يدخل في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها )) أهـ .
قُلت : وهذه مُبالغة مِنْ ابن حزم - رحمه الله - فليس مَنْ اتهم بتدليس التسوية ساقطُ العدالة رقيق الديانة في حين أنا نرى الأئمة يثنون على مثل الوليد بن مسلم ويقولون بأنه ثقةٌ ثبتٌ مِنْ الأعلام إلا أنه متهم بتدليس التسوية ، والحق أننا لابد أن ننظر للأمر بعينٍ ناقدةٍ ، وليس مثل الوليد بن مسلم سافط العدلة تماما بل مَنْ كان معروفا بتدليس التسوية فهذا مطعنٌ في عدالته ولا يقتضي اسقاط حديثه بالكلية فكونه ساقط العدالة تماما يقتضي ترك حديثه بالكلية وإن كان تكلم فيه لتدليسه فهذا لا يعني رد حديثه بالكلية كما هو ظاهر كلام ابن حزم - غفر الله له - ! وأعجب من وصفه إياهم بقوله - رقيق الديانة - وهذا وإن كان هذا أردى أنواع التدليس وأقبحها عند المحدثين فإنه ليس بمسلكٍ يسلك في الكلام عمن اتهم فيه .
ولا نعلم أحداً مِنْ الأئمة قديما ولا حديثاً قال بهذا القول والفاصل في المسألة أن لا يقول الراوي المتهم بتدليس التسوية ! حدثنا وإلا صار بذلك كذاباً بل إن الغالب على أمثال تدليس الوليد بن مسلم إذا دلس تسويةً عن الإمام الأوزاعي أن يقول (( قال الأوزاعي )) وليس بصيغةِ حدثنا ! او كأن يوهم الرواي بصيغةٍ توهم السماع وهو أن يقول (( عن )) وهذا لا يجعلها ممن استساغ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فإنا لا نسلم لابن حزم بقوله هذا .
[ تنبيه ] وهذا النوع مِنْ التدليس قد سماهُ بعد المُتقدمين تجويداً ، وإنظر بذلك لتدريب الراوي وفتح المغيث وشرح ألفية السيوطي أي أنهُ يذكر في جياد أهل الإسناد ، أي أنه جعل ظاهر الإسناد بهذا الفعل المُستقبح جيداً ، وسماه صاحب ظفر الاماني بالتحسين وهو أن يحسن الراوي ظاهر الإسناد بأن يحذف منه الضعيف ويبقى الثقات مِنْ الرواة .
ويشترط في هذا النوع مِنْ التدليس يشترط فيه التحديث والإخبار مِنْ المدلس إلي آخره ولذلك قال العلائي جامع التحصيل (ص94) : (( وهو مذموم جداً من وجوه كثيرة منها أنه غش وتغطية لحال الحديث الضعيف وتلبيس على من أراد الاحتجاج به. ومنها أنه يروي عن شيخه ما لم يتحمله عنه لأنه لم يسمع منه الحديث إلا بتوسط الضعيف ولم يروه شيخه بدونه ، ومنها أنه يصرف على شيخه بتدليس لم يأذن له فيه، وربما ألحق بشيخه وصمة التدليس إذا تتحقق عليه أنه رواه عن الواسطة الضعيف ثم يوجد ساقط في هذه الرواية فيظن أن شيخه الذي أسقطه ودلس الحديث وليس كذلك )) وعليه فإنه لابد مِنْ أن يصرح المدلس المُتهم بتدليس التسوية مِنْ أول الإسناد إلي أخرهِ ولا ينفع أن يصرح بالتحديث بينهُ وبين شيخه فقط .
[ مثال ] ما أورده ابن أبي حاتم في العلل : (( سمعت أبي -وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه، عن بقية قال: حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع، عن ابن عمر، حديث: "لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه"- قال أبي: هذا الحديث له أمر قل من يفهمه. روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعبيد الله بن عمرو، كنيته أبو وهب، وهو أسدي، فكناه بقية ونسبه إلى بني أسد كي لا يفطن له، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة لا يهتدى له )) أهـ .
قُلت : وعبيد الله بن عمرو ( ثقة ) ، إسحاق بن أبي فروة ( متروك الحديث ) ، نافع ( ثقة جليل ) فإنظر يا رعاك الله كيف هي عند ابن أبي حاتم ! فسواهُ بقية بن الوليد فجعل ظاهر الإسناد أنه جيدٌ وهذا مما وقع فيه بقية بن الوليد مِنْ التجويد - تدليس التسوية - . والله أعلم .
ومِنْ أكثر مَنْ وقع فيه مِنْ الرواة بقية بن الوليد والوليد بن مسلم ! قال الشيخ الجديع في كتابه النفيس تحرير علوم الحديث (2/956) : (( دخلت حمص وأكثر همي شأن بقية، فتتبعت حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً، ولكنه كان مدلساً، سمع من عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة، ثم سمع عن أقوام كذابين ضعفاء متروكين عن عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك، مثل: المجاشع بن عمرو، والسري بن عبد الحميد، وعمر بن موسى الميثمي، وأشباههم، وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء، وكان يقول: (قال عبيد الله بن عمر عن نافع) و (قال مالك عن نافع كذا)، فحملوا عن بقية عن عبيد الله، وعن بقية عن مالك، وأسقط الواهي بينهما، فالتزق الموضوع ببقية و تخلص الواضع من الواسط )) ثُم اعتذر له الإمام ابن حبان - رحمه الله تعالى - المجروحين (1/200) كما نقل الشيخ الجديع .
لاشك في كون تدليس التسوية قادحاً في عدالة الرواة ! وقد اتهم به مَنْ هم بالجلالة والمكانة ما الله تعالى به عليمٌ كالإمام الثوري وكان - قليلاً ما يقع منه - والأعمش وأحسن ما يعتذر لمثل هذين الإمامين أنهما ما كانا يفعلانه إن وقع منهم إلا لمَنْ يعرف عندهم بانه ثقة ، ومَنْ اشتهر به أكثر هما الوليد بن مسلم وبقية ، والإكثارُ مِنْ تدليس التسوية قدحٌ في الراوي إلا أن بعضاً مِنْ الأئمة الكبار قد وقع فيهِ كما أسلفنا وليس بسبب يترك لأجله رواية المُدلس إنما يقوم المرء بجمع طرق الحديث وتخريجه وبذلك يعرف ما إن وقع فيهِ أم لم يقع ، ومثل الثوري ومنه يكاد أن يكون نادرا ومن الأعمش فإنهما فعلاه إجتهادا منهما وعمن هو عندهم ثقةٌ ! ولكن تبقى رواية الوليد بن مسلم والذي اجتمع الناس على أنه معروفٌ بهِ فهل اقتضى ذلك اسقاط عدالته بالكامل ! أم أنه لا يقبل منه ما قد دلس به وما صرح به بالسماع فمقبولٌ بلا خلاف .
يتبع بإذن الله تبارك وتعالى ترجمة الإمام سفيان .