المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيخ السنة في العراق صبحي بن جاسم البدري السامرائي الحسيني، ومواد أخرى



أهــل الحـديث
03-07-2013, 02:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


شيخ السنّة في العراق صبحي بن جاسم البَدْري السامَرّائي الحُسيني
(1354-1434)
رحمه الله تعالى

اسمه ونسبه[1]:
هو المحدّث المحقق المسند النسابة، بقية أهل الحديث في العراق، السيّد الشريف: أبو عبدالرحمن، صبحي بن السيد جاسم بن حُمَيِّد بن حمد بن صالح بن مصطفى بن حسن بن عثمان بن دَوْلَة بن محمد بن بَدْري بن عَرْموش بن علي بن عيد بن بدري بن بدر الدين بن خليل بن حسين بن عبدالله بن إبراهيم الأواه بن الشريف يحيى عز الدين بن شريف بن بشير ابن ماجد بن عطية بن يعلى بن دُوَيد بن ماجد بن عبدالرحمن ابن قاسم بن الشريف إدريس بن جعفر الزكي بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

وأمه شريفة كذلك من نفس الأسرة.

مولده ونشأته:
ولد ببغداد يوم الأضحى سنة 1354 (يوافقها 1936م).
ودَرَس أولاً في الكتاتيب، ثم أتم الدراسة الابتدائية والمتوسطة، ودرس في المساجد، ومنه على الشيخ كاظم الشيخلي في مسجد السيد سلطان علي، ودرس عليه مبادئ التجويد والفقه الحنفي، ثم لازم محدّث العراق الشيخ عبدالكريم أبو الصاعقة، والعلامة شاكر البدري السامرائي، واستفاد من غيرهما.

شيوخه ومقروءاته:
1) محدّث العراق العلّامة المعمر عبدالكريم بن العباس الشَّيْخَلي الحَسَني الأَثَري، الشهير بالصاعقة (1285-1379): لازمه سنوات عديدة إلى وفاته، وهو عمدة شيخنا في الرواية، وجاء في إجازته الخطية لشيخنا ما نصُّه: «إن السيد صبحي المذكور قرأ عليَّ: الكتابين الصحيحين للإمامين البخاري ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، ومجتبى النسائي، وبعض مسند الإمام أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك برواية يحيى بن يحيى، وسنن ابن ماجه، وبعض مسند أبي داود الطَّيَالسي، والمنتقى لابن الجارود، وبعض مستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وسنن الدارمي، والمنتقى لمجد الدين أبي البركات، وبلوغ المرام لابن حجر، وعمدة الأحكام للمقدسي، والكفاية للخطيب البغدادي، وعلوم الحديث لأبي عبدالله الحاكم، ومقدمة ابن الصلاح، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، والنُّبَذ في الفقه الظاهري، وروضة الناظر لابن قدامة، وشرح الكوكب المنير لأبي البقاء محمد بن أحمد الفُتُوحي الحنبلي، ومختصر الخِرَقي، والمقنع لابن قدامة، والإقناع في فقه الحنابلة للحَجّاوي، والرسالة للإمام الشافعي، وبعض كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وشرح الطحاوية، والجوائز والصِّلات لشيخنا يوسف أبي إسماعيل الخانْفوري»[2].

وتاريخ الإجازة 12 المحرم سنة 1378، فأتم شيخنا هذه المقروءات الضخمة وهو ابن ثلاث وعشرين سنة! وقد عاش المجيز بعدها سنة وخمسة أشهر، وبقي شيخنا يقرأ عليه إلى مماته كما أخبرني.

ومما كتب لي بخطه أنه قرأ عليه أيضًا: جزء رفع اليدين، والقراءة خلف الإمام، كلاهما للبخاري، والفرقان، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام.

وقيّد قراءة مسند أحمد بمسند العشرة منه، والدارمي ببعضه.

ومما قاله لي شفاها وثَبَت عليه: المسلسل بالأولية، وبعض الدارقطني، والأربعين لابن تيمية، وحائية ابن أبي داود، والواسطية، وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، والتوحيد، وأكثر جلاء العينين للنعمان الآلوسي.

2) محدّث الهند العلامة عُبيد الله بن عبدالسلام المُبارَكْفُوري الرَّحْماني (ت1414): قرأ عليه شيخنا في مكة الجزء الأول من شرحه النفيس «المرعاة شرح المشكاة»، وأطراف الستة، وأجازه.

3) الشيخ المحدّث المحقق حبيب الرحمن بن محمد صابر الأعظمي الهِنْدي (ت1412): قرأ عليه في مكة أطراف الستة وغيرها، وأجازه.

4) الشيخ العلامة محمد الحافظ بن عبداللطيف التِّجاني (ت1398): قرأ عليه في القاهرة شيئاً من الستة، ومن مسند الشافعي، ومن سنن الدارقطني، ومن سنن البيهقي، والأربعين النووية، واختصار علوم الحديث لابن كثير، ونزهة النظر لابن حجر، وألفية العراقي، وبعض شرحها للسخاوي، وجملة من المسلسلات، ومختصر خليل، وأجازه إجازة عامة.

وقال لنا شيخنا: هو عالم محدّث، ينكر عقائد غلاة المتصوفة. وناقشته في أمرٍ فقال: أنا لا أؤمن بهذا، ولكن حتى يسمعون كلامي!

5) الشيخ العلامة محمد الشاذلي بن محمد الصادق النَّيْفَر (ت1418): قرأ عليه في تونس أطراف السبعة ومن المسند، وقرأ عليه الأربعين النووية، ومختصر ابن كثير، ونزهة النظر، وأجازه.

6) الشيخ العلامة شاكر بن محمود البدري السامرائي (ت1405): قرأ عليه الموطأ كاملاً، وتفقه عليه، وقرأ عليه علوم الآلة، وأكثر عنه، وأجازه.

7) الشيخ محمد بن عبدالوهاب البُحَيري المصري: قرأ عليه في بغداد شرح النووي على مسلم، وتدريب الراوي، وغيرهما، وأجازه.

8) الشيخ محمد التهامي (قرأ عليه في المغرب كثيراً من البخاري).

9) الشيخ العلامة محمد بن أبي بكر التطواني السَّلَاوي: قرأ عليه في سَلَا طرفًا من البخاري ومن الموطأ، وأجاز له عامة.

10) ومحمود المفتي الباكستاني، ومحمود نور الدين البريفكاني، وعبد القيوم بن زين الله الرحماني (ت1429)، وعبد الله بن عبدالعزيز العَقيل (1432)، ومحمد زهير بن مصطفى الشاويش (1434)، ومحمد إسرائيل السلفي النَّدْوي، وعبد الرحمن بن سعد العَيّاف[3]، وكلهم أجازوه.
* ومن شيوخه في الإفادة المشايخ: فؤاد الألوسي، ومحمود صالح، وتقي الدين الهلالي، وعبد الحميد المسلوت، وأمجد الزهاوي، ومحمد القزلجي، وعبد العزيز بن باز، ومحمد الغزالي، ويوسف بن عبد الرزاق، وغيرهم.

الحياة العملية:
بعد تأهله قام بالتدريس في مساجد بغداد، وعلى رأسها جامع الآصفية خَلَفاً لشيخه أبي الصاعقة، وجامع 12 ربيع الأول، وجامع المرادية، كلاهما في الرصافة، وجامع الحاج محمود البُنية، وجامع برهان الدين ملا حَمّادي، كلاهما في الكرخ.

ودرّس في جامعة بغداد مادة الحديث ومصطلحه وعلوم القرآن والتجويد وفقه الحديث ومادة مخطوطات الحديث، وكذلك دّرس مادة الحديث ومصطلحه وعلوم القرآن والتجويد وفقه الحديث والأديان والفقه المقارن في المعهد العالي لإعداد الأئمة والخطباء في بغداد، وغير ذلك.

وتولى حسبةً إمامة وخطابة عدة مساجد، منها جامع الخاصكي، وجامع المرادية، وجامع 12 ربيع الأول.

وفي السلك الوظيفي كان قد تخرج من كلية الشرطة سنة 1951م وترقى إلى أن صار نائب مديرالمرور في بغداد، برتبة عميد، وتقاعد سنة 1397 (يوافقها 1977م)، وكان رئيس جمعية الآداب الإسلامية، وتولى عدة عضويات علمية، منها في نقابة الأشراف.

وأما خارج العراق: فدَرّس الحديث في المسجد الحرام بمكة المكرمة، مثل البخاري، وسنن الترمذي، وكان عضواً بارزاً في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، وأفاده بمصورات نفيسة كثيرة للمخطوطات.

وحاضر في عدة جامعات، منها جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، وجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وكلية العلوم الأثرية بجهلم في باكستان، ووعظ في كثير من مساجد العراق والسعودية وقطر والكويت وغيرها.

وأقرأ الكتب السبعة وغيرها مراراً في بغداد، ومرة في بيروت، وأقرأ الصحيحين في البحرين، والبخاري وغيره في مكة، وفي المدينة، وفيها أقرأ المسند أيضا وغيره، وفي الكويت، وأقرأ فيها الصحيحين والموطأين وابن خزيمة وغيرها، وأقرأ في قطر السنن الأربع والموطأ والدارمي وكتبًا عدة، وأقرأ في الأردن.

إنتاجه العلمي:
ألّف عدة كتب، أغلبها ما يزال مخطوطاً، ومنها شرح سنن ابن ماجه (وصل فيه لنحو النصف)، ولطائف المنن في زوائد المستدرك على الصحيحين والسنن (ولم يتما)، والكمال في تاريخ علم الرجال، وفن تخريج الأحاديث (بحث نشر في مجلة الرسالة الإسلامية عدد 25-26)، ومجموعة إجازاتي في السنة المشرفة، وحاشية على الرسالة المستطرفة، وبحثان في وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال أصحاب المذهب المتبوعة والصوفية في التمسك بها ونبذ ما سواها من الآراء.

وحقق أكثر من أربعين كتاباً، ولا سيما في الحديث الشريف وعلومه، وقارب ستين سنة في هذا الميدان، فحقق رسالة الميانشي ما لا يسع المحدث جهله وعمره 19 سنة فقط! ومما طبع منها:
مسند عبدالله بن المبارك، واختلاف الفقهاء لمحمد بن نصر المروزي، ومقدمة الكامل لابن عدي، وشرح علل الترمذي لابن رجب، ومجموعة رسائل في الحديث للنسائي والخطيب، وتاريخ الثقات لابن شاهين، والضعفاء والمتروكون للدراقطني، وأحوال الرجال للجوزجاني، والكشف الحثيث لسبط ابن العجمي، وسؤالات المروذي وغيره للإمام أحمد، والأشربة للإمام أحمد، ومسند المقلين من الأمراء والسلاطين لتمام الرازي، وفضائل الكتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي للإسعردي.

ومما حققه بالمشاركة: المنتخب من مسند عبدبن حميد، وموافقة الخُبْر الخَبَر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر لابن حجر، وعلل الترمذي الكبير بترتيب أبي طالب القاضي، والأحكام الوسطى لعبد الحق الأشبيلي، وانتقاض الاعتراض لابن حجر، ورد الذهبي على ابن القطان.

ومما يتصل بإنتاجه العلمي بذله المشتهر لمخطوطاته ومكتبته النفيسة للباحثين، وإشرافه عليهم، ومن ذلك أعمال تلاميذه المصريين، وعلى رأسهم محمود خليل الصعيدي، وأبو المعاطي النوري، حيث أنجزوا كتباً قيمة بفضل الله ثم بمساعدة شيخنا، وعلى رأسها المسند الجامع، والجامع في الجرح والتعديل، وحققوا عدة كتب، وما أكثر الكتب الحديثية التي صدرت -في العراق وخارجها- بسبب بذل شيخنا لمصوراته من المخطوطات، في وقت عسر الحصول عليها وتكلفتها المادية العالية، وهذه من الحسنات الجارية لشيخنا.

أيامه الأخيرة ووفاته:
كان شيخنا تعرض للتضييق من حزب البعث وبعض غلاة مشايخ الصوفية، ثم اشتدت المضايقات بعد سطوة الرافضة في بلاده طهّرها الله، وأنجاه الله مرتين من الاغتيال كما أخبرنا، فخرج من بلاده سنة 1427 تقريبًا، وتعرض له قطاع الطرق وهو خارجٌ واستولوا على ما تزوده من مال، ثم استقر في بيروت في حالٍ صعبة، وكان عزيز النفس عفيفًا صابرًا.

وأُرشد إليه بعض أعيان الأفاضل في لبنان؛ فلازموه، وساهموا بخدمته وبِرِّه بما يُذكر ويُشكر، وكذلك عاضده الشيخ الوجيه زهير الشاويش رحمهما الله، وكان بينهما الود الكبير والاجتماع الدائم، ورحل إليه عدد من المشايخ وطلبة العلم من دول متعددة.

وطُلب مرات لدول الخليج لإقراء أُمّات كتب الحديث النبوي، فأخذ عنه الرواية الآلاف آخر عمره، إضافة للذين جمعوا معها الدراية في بلده العراق.

وكانت الأمراض تعتريه، إضافة لهمومه وأحواله وأحوال بلاده المنكوبة، وأثّر ذلك عليه، وهو صابر على التعب والضيق، مواظبٌ على الإقراء، وما كان يتوقف إلا أثناء اشتداد مرضه، وآخر ذلك قبل دخوله الأخير للمستشفى بيومين، بل كان قد وافق على السفر إلى الرياض لإقراء مسند أحمد، وكذلك كانت هناك همة ورغبة للتحديث في غَزّة، لكن سبق الأجل الأمل، فأُصيب بجُلْطة دماغية، دخل على إثرها العناية المركزة في مستشفى الجامعة الأمريكية، وبقي في المستشفى مدة شهرين وبضعة أيام في وضع حَرِج، يغيب تارة ويفيق، واضطرت التكاليف الباهظة أهله أن يبيعوا بعض كتبته مع الأسف الشديد، ثم اشتدت حالته الصحية، وبدأت معه السكرات بحدود الساعة العاشرة ليلة الثلاثاء 16 شعبان 1434، وكان مرافقه -أحد تلاميذه- يقرأ عليه القرآن، وعندما قرأ قوله تعالى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]: خرجت من عينه دمعة عندها وخرجت روحه، وهو مبتسم مشرق الوجه، وذلك بعيد الفجر، وهو في الثمانين من عمره، وبقي على تلك الصفة كما أخبرتني ابنته السيدة أسماء بالهاتف.

وبعيد وفاته شاع الخبر عبر وسائل الاتصال والمنتديات بين الناس، وكثر عليه التأسف، ولهجت الألسن بالدعاء والثناء عليه، ومن هؤلاء مشايخنا: محمد بن لطفي الصبّاغ، وثناء الله المدني، وسعد الحميّد، وعبد الله التويجري.

وصُلي عليه في جامع الخاشقجي ببيروت، ودُفن في المقبرة الجديدة، غير بعيد عن شيخنا زهير الشاويش رحمه الله الذي سبقه إلى الآخرة قبل ثلاثة أسابيع.

وأَمَّ المصلين عليه تلميذه البار الشيخ محمد أمين الكردي، أمين الفتوى في لبنان، وحضر الجنازة عددٌ من كبار تلاميذه ومحبيه هناك، منهم صهره، والسيد بلال بن زهير الشاويش، والشيخ منصور بَنُّوت -وكان من البارّين به- والشيخ نور الدين طالب، والشيخ الداني بن منير آل زهوي، والشيخ بسام الحمزاوي، وغيرهم.

وذكرت لي ابنته أنهم سيوقفون البقية الباقية من مكتبته بناء على رغبته رحمه الله.

وبعد وفاته أصدرت عدة جهات بيانات في نعيه، منها: الأزهر، وهيئة العلماء المسلمين في العراق، وديوان الوقف السني فيها، ومجلس علماء العراق، وكتب عنه عددٌ من تلامذته في العراق وخارجها كتابات متعددة عنه، منها جملة في الشابكة على ملتقى أهل الحديث، وشبكة الألوكة.

نسأل الله أن يغفر لشيخنا الجليل، وأن يبارك في ذريته، وفي طلبته، وفي دعوته، وأن يجزيه خير الجزاء على على جهده وجهاده في سبيل خدمة السنة ونشرها، وأن يعوض أهل العراق ولبنان خاصة، والمسلمين عامة بالكثير الطيب من أمثاله.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

وكتب في رثائه تلميذه الشيخ بسام الحسيني قائلا:
أقولُ وقد سالت من العين أدمعي
وفي قلبي المحزون نار فراقِ
أقول وقد نِلْنا من اليُتْمِ شدّةً
وهَمًّا وكربًا حلَّ في الأعماقِ
أقول وقد فارقتُ شيخي وقُدوتي
وزهرةَ عُمْري قرةَ الأحداقِ
إلى الله نمضي كلُّنا دون رجعةٍ
إلى دارِ أخرى والمهيمنُ باقي
لقد كان شيخي معقِلًا نحتمي به
من الجهلِ والضُلال والفُسّاقِ
لقد كان بحرًا في العلومِ ومنهَلًا
فيا حبذا البحرُ وذاك الساقي
فقدناكَ شيخي والحواضرُ قد خَلَتْ
وأَقْفَرْت الدنيا من الحُذّاقِ
وأَعْتَمَتِ الأمصارُ لما تساقطتْ
شموسٌ تضيء الصبحَ في الآفاقِ
لقد طِبْتَ حيًّا شيخَنا ومودّعًا
فأَنْعِمْ بذاك الشيخِ مِنْ ِعْملاقِ
سَقَى الله ذاكَ القَبْرَ غيثًا ورَحْمَةً
فقدْ حَلّ فيه طَيِّبُ الأعراقِ
فيا ربِّ أكرِمْ نُزْلَهُ وارْفَعَنْ له
مكانًا كريمًا في العُلا هو راقِ

وقال أيضًا:
شَيخيْ الحبيبَ بَكاكَ كلُّ مُوَحَّدٍ
وبَكَتْكَ بغدادٌ لخيِر مقامِ
وبَكاكَ شِعْريْ يومَ أن قالوا قَضَى
ومَضَى برِفْقَةِ صالحينِ كِرامِ
ذَهَبَ الذين تُفاخرُ الدُّنيا بِهِمْ
وبَقى الرّعاعُ حُثالةُ الأَقْوامِ
رَحَلَتْ بفَقْدِكَ خَيرُ أَيّامٍ مَضَتْ
عِشْنا بها في أَسْعَدِ الأَيّامِ
يَرْحَمْكَ ربُّ العالمين برَحْمَةٍ
محفوفةِ بالفوزِ والإنعامِ


متفرقات ومنوعات
• كان شيخنا رحمه الله رضي الأخلاق، لطيف المعشر، بشوشًا، حانيًا على طلابه، وعنده تودد خاص للأطفال، لكنه إذا غضب تعتريه حدَّة وشدة!

وأفادنا بعض أصحابه القدامى في العراق عن مواقف أبوية له:
فكتب الشيخ رعد السامرائي: «رحمه الله تعالى رحمة واسعة، فلقد كان يعاملني أنا وأخي محمد بن غازي معاملة الوالد لأبنائه، وكان يهتم بمشاكلنا، ويتابع أخبارنا».

وكتب الشيخ عماد الجنابي: «إن الشيخ رحمه الله كان على أغلب ظني يأمر أخانا الشيخ محمد غازي أن ينظر هل في الطلبة من هو محتاج ماديا فيقوم بمساعدته من غير أن يعلم ان الشيخ هو الذي يساعده».

وكتب لي الشيخ محمد البغدادي: «كان في زمن الحصار تأتي مساعدات غذائية لجمعية الشبان ولجمعيات أخرى، ومخصص لشيخنا بطاقات، فيحتفظ بها ويوزعها على الطلبة تقريبا في كل رمضان».

وكتب الشيخ بسام الحسيني: «لا أدري ماذا أقول، ولا من أين أبدأ؟ فقد أصبحنا أيتاما على الحقيقة، فقد يتمنا يوم أن هاجر الشيخ، واليوم أصبحنا أيتاما فعلا، لقد كان رحمة الله عليه كالوالد رعاية وحنانا وعطفًا على كل طلابه وأحبابه».

ومما كتب الشيخ رياض بن حسين الطائي: «ما كان الشيخ -واللهِ- إلا بمثابة الوالد ، إذ لم نجد فيه ما وجدناه في كثير من المشايخ من الكُلفة والتكلف، فإنه -واللهِ- يصدق عليه وصف "إذا رأيتَه من غير معرفة هبته، وإذا عرفتَه أحببتَه".

كان الشيخ كريماً يجود بما عنده، رحب الصدر لطلاب العلم، وللعامة، قوياً في السنة، محبًّا لأهلها، ما من طالب علم عراقي إلا وللشيخ فضل -بعد الله- عليه، شاء من شاء وأبى من أبى!! فإنه إن لم يتفضل عليه بعلمه، جاد عليه بكتبه ومصورات مخطوطاته.

وما رأينا في العراق أشدَّ غيرةً على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أئمة الحديث من شيخنا رحمه الله».

وكتب الشيخ المحدّث ماهر الفحل: «كان صاحب فضل علي ّحينما كنت في أول الطلب - ولا زلت في أول الطلب - وكان رفيقًا بي رحيمًا، وكان يمدني بالكتب قبل أن أراه لمّا كنت في الثانوية، وكنا نتراسل، فلما دخلت الكلية زاد عطفه لي وحسنه علي».

وكتب لي الشيخ عدنان العايد: «من المواقف التي نقشت في قلبي وأثّرت في نفس أيما تأثير! كان من دأب طلاب الحلقة الخاصة -أي حلقة جامع 12 ربيع الأول في بغداد- أداء صلاة العيد عند الشيخ رحمه الله تعالى، فيخطب الشيخ خطبة العيد، ويصلي بنا صلاة العيد، فنتلقاه بعد إتمام الصلاة مهنئين بالعيد، ويجلس معنا، ويسمعنا الحديث المسلسل بيوم العيد، ويتناول معنا فطور العيد على طريقة أهل بغداد (القيمر -القشطة البلدية- مع العسل والبسبوسة الرائعة التي كان يحضرها أخونا الشيخ منذر الشيخلي)، وفي أحد الأعياد أخرج الشيخ محفظته من جيبه ووزع علينا الدنانير! فقلنا متعجبين: ما هذا يا شيخنا! فقال رحمه الله تعالى وعيناه بان فيها رقراق الدمع: كان شيخنا أبو الصاعقة رحمه الله تعالى يعطينا العيدية يوم العيد ويقول أنتم ابنائي. وأنتم ابنائي»!

قلت: وأيّد القصة الشيخ محمد البغدادي وقال فيما كتبه إليّ بتصرف يسير: إن الأمر صار عادة لشيخنا، وكان الأخ الكريم الشيخ رعد يأتي بإفطار ويدعو له الطلبة في المسجد، ويأتي شيخنا منذر بالبسبوسة ويصنعها بنفسه، وكما قال أحد الطلبة كنا نجتمع في العيد فيعطينا الشيخ العيدية.

قلت: ورأيتُ من تودده الخاص مع الأطفال الشيخ العجيب، ووالله كنت أراه في بعض المجالس والإرهاقُ بادٍ عليه، فما أن يلحظ بعض الأطفال الصغار ممن يحضر مجالس السماع، فنراه يبتسم ويُسَرُّ، ويتلطف معهم، ويتنشط في المجلس.
ففي مجالس البحرين مثلًا كان يحتفي بعبد الرحمن ابن أخينا الشيخ أنس العقيل، وكان يكنيه أبا عوف، ويقول كل ما رآه: هذا يذكرني بحفيدي فلان! وأحيانًا كان يناديه ويجلسه بجانبه.

وزرته في شعبان الماضي مع ولديَّ عمر وعلي في بيروت، وكان شيخنا وزوجه أم عبدالرحمن أبديا الفرحة والسرور الكبيرين بزيارة الطفلين وسماعهما على الشيخ، وكذلك قالا: هذان يذكرانا بحفيدينا فلان وفلان، وأكرماهما بضيافة خاصة، ورضي الشيخ أن نقرأ عليه لأجلهما مع كونه مريضًا متعبًا ولا يقرئ أيامها، وقال لي يومها تلميذه البار الشيخ محمد عارف الحسن: إن الشيخ تنشط لمجيئك ومجيء الصغيرين خصوصًا. ثم ما خرجا من عند الشيخ إلا وهما محمَّلان بكيسين فيهما من أنواع الحلويات والهدايا!

ولما أخبرتهما بوفاة الشيخ رحمه الله، عرفه ولدي عليّ بأنه الشيخ الذي أعطاه الهدايا في لبنان! فرحمه الله رحمة واسعة.

• وهاتان قصيدتان في مدح الشيخ صبحي للشيخ أبي الحسنات حسنين بن سلمان آل بريك البغدادي، قال الأخ الشيخ محمد البغدادي:
قرأتها على شيخنا بحضور أخي أبي الحسنات فبكى شيخنا، وقال: أنا لا أستحق هذا الكلام. وقبل البدء بالقصيدة استأذنته أن أقرأ عليه، فقال لي إن كان فيها مدح فلا تقرأ:
صُبحٌ كما اسمِكَ عِلمُكَ الوَضَّاحُ
و حياةُ مثلكَ للعلومِ رباحُ
و وُجودُ مثلِكَ في الزمانِ علامةٌ
عن سعدِهِ فعَلامَ قومٌ ناحوا؟!
لم يعرفوكَ فلازمٌ أن يلطِموا خَ
دّاً و تَعلو وَجهَهم أتراحُ
رزقٌ سماعُكَ و الكريمُ مُقسِّمٌ
رزقَ العبادِ فحمدُنا سَيَّاحُ
أنْ قد رُزِقنا في سماعِكَ نعمةً
في شكرِها تُستَهلَكُ الأرواحُ
فُزنا بكونِكَ شيخَنا بفضيلةٍ
هي للمَفاخِرِ و العُلا المِفتاحُ
عُذراً إذا تِهْنا على أقراننا
بكَ إذْ هُمُ لم يلزَموكَ و راحوا
يجرونَ خلفَ مناصِبٍ و مَقاعِدٍ
في ذي الحياةِ وأيُّ ذاكَ نَجاحُ؟!
يا أيُّها التُزجى إليه رِكابُنا
إنسانُ عين الدَّهرِ فيكَ مُلاَحُ
مِشكاةُ عِلمٍ في زجاجةِ خَشيَةٍ
ما مثلُ ذا في ذي العُصورِ مُتاحُ
ألبَستَ طُلاّبَ المعارِف حُلَّةً
من نورِ عِلمكَ أيُّها المصباحُ
و سَلَكْتَهم في دَربِ أحمدَ مُرشِداً
و مُعَلِّماً حتى يُنالَ فلاحُ
تغدو إلى التدريسِ مِلؤكَ همَّةٌ
علياءُ قالَت للشبابِ: انزاحوا !
شيخاً و رِجْلُكَ في الطِّلاَبِ قويةٌ
في حين أنَّ فتوَّةً قد طاحوا
تَلقى وفودَ العلم سِنُّكَ ضاحِكٌ
و شِعارُ وَجهِكَ طيبةٌ و سَماحُ
فلَأَنتَ أفرَحُ منهمُ إذ أقبَلوا
و لأنتَ أسعَدُ منهمُ إن لاحوا
كم من غَوَامِضَ للوَرى وَضَّحتَها
من قَبلُ ما قد حَلَّها الشُّرَّاحُ
شيخي و أستاذي و قُرَّةَ أعيُنِ الطُّ
لاَّبِ حينَ غَدَو إلَيكَ و راحوا
من قبلِ أن نلقاكَ كُنا أجسُماً
و بنا سَرَت - بلقائكَ - الأرواحُ
جئنا إليكَ مُلَفلَفين بجهلِنا
لا نَدْرِ ما علمٌ و لا ألواحُ
رُمنا حِماكَ من الجَهالَةِ هُرَّباً
و لِسانُ حال نفوسِنا صَيَّاحُ:
(قمرَ المعارفِ والعلومِ أبِنْ لَنا
سَنَنَ الرَّواءِ فَكلنا مِلْواحُ
أَمطِرْ عَلَينا من علومِكَ و اسقِنا
و اروِ الظِّما فقلوبنا تَمتاحُ
أنتَ الجوادُ بعلمِه متواضِعاً
لو عندَ غيرِكَ عُشرُه لأشاحوا
مُتَكبرين على الزمان و أهلِه
و على التَّلامِذِ إن يُلِحُّوا صاحوا)
ففتحتَ فينا مُغلَقاتِ عقولِنا
جازاكَ خيراً ربُّنا الفتَّاحُ
و أرَيتنا سبلَ العلومِ مُرَبياً
لا خيرَ في علمٍ خَلاهُ صَلاَحُ
و صَبرتَ في تأديبنا مُتَلَطِّفاً
نِعمَ الأبُ المتحنِّنُ النصَّاحُ
(صُبحي) فَدَيتُك بالنفيس فإنَّما
في ليلِ جهل الناس أنت صباحُ
عُذراً لإفصاحي بإسمِكَ هكذا
إنَّ الحلاوةَ في الثنا الإفصاحُ
بغدادُ جَذْلَى إذ سَكَنتَ بأرضِها
و لسُرَّمَرَّا رنّةٌ و نُواحُ
يا ناشراً سُنن الرسول المُصطفى!
صبراً عليها ! فالجِنانُ مَراحُ
سافَرتَ فيها جاهِداً في جَمعها
إن كان قومٌ بالقياسِ أراحوا
زَعَموا -اعتذاراً- عجزَهم عن جمعِها
لكنَّهم للمالِ جمعاً ساحوا
فَجزاكُما الربُّ الخبيرُ مكانةً
كلٌّ إلى ما قد نَوى ينزاحُ
إن يُذكَروا تلقَ المَذمَّةَ أُطْلِقَت
من كلِّ صَوبٍ سَمعَنا تَجتاحُ
أو يُبْصَروا تلقَ المَذلَّةَ قد عَلَت
سَحناتِهم و بالابْتداعِ جُلاَحُ
في حين أنت إذا ذُكِرتَ بمَجلِسٍ
فسيولُ حَمدٍ يَفجُرُ المُدَّاحُ
ما إن يَراكَ المُسلِمون فألسُنٌ
قد سَبَّحَت و تَرائبٌ ترتاحُ
تمشي وفي الأنظار منك مهابةٌ
و عليكَ من تقوى العليمِ لِمَاح
و عليكَ من نور اتباعِ المصطفى
بُرُدٌ ومن نَسَبٍ إليه وِشاحُ
فمَعَزَّةُ العُلماء فيك جَليَّةٌ
و على جبينِكَ ( بدرُها ) وضَّاحُ
للطالبين الحقَّ أنتَ منارةٌ
و لقَمعِ أهلِ الغيِّ أنتَ سلاحُ
أبقاكَ ربي للدُّعاةِ مَثابةً
حِصناً لهم في ظِلِّه يرتاحوا
هذا جَنايَ و في يَديكَ خَيارُه
لي إن أنا قَصَّرتُ منكَ سَماحُ
فَلِمَدح مثلكَ يُسْتَفَزُّ عَباقِرٌ
أضعِفْ بمثلي أن تَضُمَّ الساحُ
ما قُلتُه إلاَّ رَجاءَ مَثوبَةٍ
و اللهُ نِعمَ الرازِقُ المَنَّاحُ

وقال:
عَوداً على بَدْءٍ أتَيتُكَ مُنْشِدا
مَدْحي لغَيرِكَ مستَحيلاً لي غَدَا
فلسانُ شِعري نحوَ غيرِكَ أخرَسٌ
فإذا تَوَجَّه صَوبَ دَوحِكَ غَرَّدا
حُبٌّ من الرحمن أُلْقِيَ بَيننا
فالحمدُ للهِ الكريمِ مُؤَبَّدا
حَمداً يُوازي نِعمةً بكَ أُسْبِغَت
في أن تَكونَ مُعَلِّماً لي والِدا
قَلَّدتَ في عُنُقي مَكارِمَ جَمَّةً
والحُرُّ عبدٌ للمَكارِمِ و النَّدَى
جَرَّدتَ عني كلَّ أدغالِ الهَوَى
فكَشَفتَ في قلبي هَواكَ مُجَرَّدا
سِرْنا وَراءَكَ في طريقِ ( مُحَمَّدٍ )
أنعِمْ بمثلِكَ من دَليلٍ يُقْتَدَى
أرشَدتَنا كيف السبيلُ إلى العُلَى
وسَلَكتَنا سُبُلَ العُلومِ مُمَهِّدا
ذَلَّلْتَ للطُّلاَّبِ كلَّ عَوِيصةٍ
في العلمِ حَيَّرَت العُقولِ تَعَقُّدا
و مَحضْتَنا صَفوَ المَعارِفِ خالِصاً
و سَقَيتَنا إيّاه عَذباً بارِدا
يا رائدَ القومِ العَطاشى مُخلِصاً
قُدْهُم بسَمْتِكَ صَوبَ أحواضِ الهُدَى
صَوبَ الكِتابِ و صَوبَ سُنَّةِ أحمدٍ
أبْرِدْ بها شِرْباً على حَرِّ الصَّدَى
قُدهم و لا تأبَهْ لنَبحِ مُخالِفٍ
ضلَّ الهِدايةَ و السبيلَ الأرشَدا
يَجري لِهاثاً خلفَ رأيٍ مُظلِمٍ
يودي بصاحِبه إلى قَعر الرَّدى
لا غَروَ أني قد وَقفتُ مدائحي
في حق ( صبحي ) للإلهِ تَوَدُّدا
علَمٌ به عُرِفت رُسومُ معالِمٍ
تَهدي إلى بحرِ الشريعة وُرَّدا
و مثابةٌ للطالبين معارِفاً
ثابوا إليها مُقرِنينَ و فُرَّدا
أمُعَلِّمَ الأجيالِ حُبُّكَ واجبٌ
تَفديكَ نفسي من كريمٍ يُفتَدى
مَن لم يَنل منكَ السماعَ فإنَّما
أيامُه في الوَهمِ ضَيَّعَها سُدَى
سُدتَ الرجالَ بفضلِ عِلمٍ راسِخٍ
حقٌّ لمثلكَ أن يكونَ مُسَوَّدا
شَرَفَين نِلتَ – بفضلِ ربِّكَ – منهما
في دَوحَةِ العَلياءِ كنتَ الأسْعَدا
نَسَباً إلى خَيرِ البرايا مُعْرِقاً
و عُلُوَّ كَعبٍ في العُلومِ مُؤَكَّدا
أبقاكَ ربي للكتابِ مُبَيِّناً
ولِسُنَّةِ الهادي البَشيرِ مُؤَيِّدا
تَحمي حِمَى التوحيدِ تَنشُرُ نورَه
و به تُناضِلُ مَن تَعَدَّى و اعتَدى
أمسِكْ و مَسِّكْ بالكتابِ و لا تُرِمْ
واصبِرْ فإنَّ الحَوضَ مَورِدُه غَدا
تَلقى - بإذنِ اللهِ - جَدَّكَ مُكرِماً
مَن كان في الدنيا بسُنَّتِه اهتَدى
يَسقي بيُمناه الشريفةِ كلَّ مَن
بالإتِّباعِ لِكَفِّه مَدَّ اليَدا
و يُذادُ عنه القاسِطونَ إلى لَظى
سُحقاً لِمَن بالإبتِداعِ تَمَرَّدا

• مما كتب لي الأخ الشيخ محمد البغدادي: كنا إذا انتهينا من درس الخميس في جامع برهان الدين ملا حمادي بحي الجامعة بكرخ بغداد ركبت السيارة معه واذا مررنا بجوار قصور صدام الفخمة في زمنه يتلو شيخنا قوله تعالى من سورة الدخان: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 29].

وبعد الاحتلال كان في المنطقة من خبثاء القوم فكانوا يبلغون الجيش الأمريكي أن الرئيس صدام مختبئ في بيت شيخنا، فجاؤوا البيت وفتّشوه، وشيخنا يتعجب أنّى ذلك!

ولكثرة ما أفادني به الشيخ محمد البغدادي سأفرد ما ذكره في مقال خاص إن شاء الله تعالى، فجزاه الله خير الجزاء.

• كان رحمه الله شديدًا على الرافضة، وكتب لي أحد تلاميذه أنه كان إذا أتى ذكرهم في درسه علمنا أنه الدرس انتهى، لإسهابه في التحذير منهم، وقد حدثنا شيخنا بعجائب عنهم، وإنكاره دعاويهم للنسب الشريف -وكان شيخنا من خبراء النسب وعضوًا في نقابة الأشراف- ومما حدثنا عن آيتهم محمد كاشف الغطاء أنه اعترف له ببطلان مذهبهم، وأنه صرَّح بخرافة مهديهم المنتظر، وأنه قال ما معناه: لكن عندنا دواب نركبها!

• كان شيخنا حريصًا على التراث الحديثي من باكورة عمره وإلى آخر أيامه، ويحرص على متابعة الجديد واقتناء الكتب لآخر لحظة، ولما زرته آخر مرة في لبنان أهديته بعض الكتب، ومنها رسالة اعتقاد الإمام البخاري التي أفردتها واعتنيت بها، فتهلل وجهه وقال لي: ما فرحت بشيء من مدة ما فرحت برؤية هذا الأثر عن الإمام البخاري.

وكان في كل سفرة يسافرها للإقراء في الخليج يرجع بأحمال من الكتب الجديدة.

ومن المعلوم أن من أوائل أعماله تحقيق رسالة الميانشي وهو ابن 19 سنة، وأخبرنا شيخنا الدكتور نعمان السامرائي أن قريبه شيخنا صبحي معروفٌ من قديم بعلم الحديث، وكان أوحد أهل بلده، وأنه ساعده في تخريج أحاديث رسالته العالية من أكثر من أربعين سنة.
وقال الشيخ يونس السامرائي في ما كتبه من نحو أربعين سنة في تاريخ علماء بغداد (ص288): «وقد اعتنى كثيرًا بكتب الحديث وعلومه، فجمع المطبوع منها قديمًا وحديثًا، كما أنه صوّر مجموعة كبيرة من مخطوطات الحديث في الرجال والرواية وعلوم الحديث والعلل والتاريخ، وهي اوسع مكتبة شخصية في الحديث، سيما في المصورات».

• على كل حال فالمجال واسع للاستطراد، وكتابتي هذه لا تعدو أن تكون شيئا من محاولة الوفاء بشيخ من كبار رجال الحديث في عصرنا، وممن له خدمات عامة على طلبة الحديث، وخاصة على العبد الفقير، فقد يسر الله لي قراءة وسماع كتب كثيرة عليه، منها السبعة والدارمي، فكان من أقل الواجب الكتابة عنه بهذا الجهد المتواضع، وكلّي عشمٌ أن تكثر الكتابات عنه، ولا سيما من طلابه القدامى، ومن أهل البلدان التي أقرأ فيها، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

وأعتذر عن أي تقصير، فإني كتبتُ ما كتبتُ حال همٍّ وغمٍّ، وتوالي أخبار نكبات المسلمين في بلادنا الشام وغيرها من أمصار الإسلام، كشف الله الغمة، وردَّ كيد الأعداء في نحورهم.

• رحمك الله يا شيخنا الجليل، وأخلف على المسلمين من أمثالك، وتغمدك بواسع رحمتك، ونصر السنّة وأهلها في كل مكان، آمين.

[1] انظر للاستزادة عن شيخنا: مقدمة «منّة المنّان» للشيخ الفاضل محمد غازي بن داود القرشي البغدادي، و«تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر» (ص285)، و«أعلام المدرسة الحديثية البغدادية المعاصرة»، بحث منشور على الشابكة للدكتور عبدالقادر بن مصطفى المحمدي، وهو ضمن برنامج المكتبة الشاملة.
وكنتُ كتبتُ لشيخنا رحمه الله ثَبَتًا وجيزًا باسم: «اللُّمعة في أسانيد الكتب التسعة»، وصدرتُه بترجمة مختصرة له، ولما قرأتُ الثبت المذكور عليه بعد طبعه صحح لي أشياء وأضاف، فجعلتُ ذلك أصل هذه الترجمة، وفيها استدراكات على ما هناك.
وكذلك ألّف الشيخ المكرم بدر بن علي بن طامي العتيبي ثبتًا مختصرًا لشيخنا، وطبع، وللشيخ محمد غازي البغدادي: «منظومة الإسناد بإجازة شيخ بغداد»، في 274 بيتًا.
[2] وقفتُ على صورة الإجازة بعد تخريجي للثبت المذكور، أفادني بها صاحبنا الشيخ المفيد محمد بن ناصر العجمي حفظه الله، فكان ذلك عندي أحلى من الشهد، لأن ما فيها وافق أكثر ما ذكره لي شيخُنا من ذاكرته بالتفصيلات لغالب الكتب، فدلَّ على تثبته ودقَّته وقت الإفادة، وذلك في أوائل لقاءاتي به، أنبّه على هذا؛ لأن شيخنا كان بأخرة -بحكم السن والتعب وشدَّة الغربة- ربما وهم وأثبت أشياء ومشايخ لم يكن ذكرهم قديمًا، فيطير بها بعض الطلبة دون تثبت ومراعاة للحال.
[3] أما سماحة الشيخ العقيل والعلامة الوجيه الشاويش -رحم الله الجميع- فاستجاز منهما شيخنا بأخرة، والأول أجازه على ثبته «فتح الجليل» بتاريخ 13/3/1430، وكذلك استجاز له الشيخ الفاضل بدر العتيبي من الشيخين عبدالقيوم الرحماني -رحمه الله-، والعياف، وتدبج شيخنا مع الشيخ محمد إسرائيل أمامنا.
وكان شيخنا قد أخبرني أنه استجاز أيضًا من الشيخ محمد بديع الراشدي السِّنْدي (ت1416)، وأن مخرّج ثبته فاته ذكر ذلك، ثم أرسل لي أخونا مخرِّج ثَبَته أنه سبق له سؤال شيخنا عن روايته عنه بالذات فنفى الإجازة، فرجعتُ لقول أخي المذكور لأن سماعه من شيخنا أقدم، فيُقَدَّم.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/11659/...#ixzz2XyfCvwcn (http://www.alukah.net/Culture/11659/56786/#ixzz2XyfCvwcn)