المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معترك الأقران في مسائل رؤية الله والاستواء والقرآن (1)



أهــل الحـديث
01-07-2013, 09:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



معترك الأقران في مسائل رؤية الله والاستواء والقرآن (1)



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آل بيته الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين وتابعيهم وجمهور السلف الصالحين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فهذا بيان معترك الأقران، الذين هم في البدعة توأمان، أعني المعتزلة وأتباعهم من الأشاعرة إلى هذا الزمان، لإيضاح بيان ما ضلوا فيه من القول بخلق القرآن، وأن الرؤية في الآخرة بلا جهة ومقابلة، وأن الاستواء هو الاستيلاء، قول على الله بغير برهان، وغير ذلك – كما سيأتي في ثنايا هذه المسائل الثلاث الكبار- من مسائل الصفات والإيمان، لنبين كيف أن الأشاعرة - الذين تسموا بأهل السنة زوراً، وأهل الحق غروراً - قد أظهروا للناس تلبيساً بأنهم خرجوا على المعتزلة والجهمية هادمين مذهبهم، رادين مسلكهم، مغيرين على طريقتهم، والحق أنهم بهذا اللغو فضحوا أنفسهم، وأضحكوا الناس على مسلكهم، فلا للسنة نصروا، ولا للبدعة قمعوا ..
وبيان مفردات هذا الأمر يطول، غير أننا نشير إلى إشارات تفضح دعاواهم، وتظهر خباياهم، كي لا يتعالوا على أتباع السلف، موهمين المسلمين أن عقيدتهم بناءها على تعظيم القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة.
وقد اخترت ثلاث مسائل من الأهمية بمكان، وفي عرضها تضمين لباقي أصول المسائل التابعة لها، فهدم أصول هذه الثلاثة كفيل بهدم أصول باقياتها:
المسألة الأولى: رؤية الله في الآخرة ومنهج الفرقتين وحقيقة الخلاف بينهما.
المسألة الثانية: في تأويل الاستواء بالاستيلاء وإنكار علو الله عزوجل.
المسألة الثالثة: كلام الله مخلوق عند المعتزلة تصريحاً، وعند الأشاعرة تحقيقاً.
وقبل ذلك تمهيد مطول بعنوان : حكم الإمام أبي الحسن الأشعري في متأخري الأشاعرة .
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل،

تمهيد: بين الإمام أبي الحسن الأشعري ومتأخري الأشاعرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فلا يزال الحديث عن الإمام أبي الحسن الأشعري وأتباعه من متأخري الأشاعرة مثار جدل طويل، غير أنه لا ينقضي عجبنا من أناس يرون حكم شيخهم عليهم بالبدعة والخروج من زمرة أهل السنة، ولا يزالون يدعون الانتساب إليه.
ولذلك تجدهم متخبطون خبط عشواء، فينكر بعضهم كتب الشيخ، مع صحة نسبتها إليه وشهرتها، بل وإثبات كبار الأشاعرة هذه الكتب إليه بالتصريح الواضح الذي ليس فيه أدنى شك كما فعل ابن عساكر والبيهقي وغيرهما .
وبين الادعاء أنه مات على ما هم عليه من معتقدات، وبين الادعاء أنهم مع الماتريدية الممثلين الوحيدين لأهل السنة والجماعة، وبين الادعاء أن مثبتي الصفات من أهل الحديث متبعي السلف حشوية مجسمة ..
ومناقشة هذه المسائل كلها يحتاج على مجلد كبير، ولذلك سنكتفي بذكر بعضها بتوسع وبعضها بالإشارة.
فأما الادعاء أنهم والماتريدية الممثلين لأهل السنة والجماعة، فهذا الادعاء موجود من دهر، ومرت عليه قرون، وقد فضح ادعائهم تلك الاختلافات الكثيرة العقدية بين الفرقتين، والتي أوصلها شيخ زاده إلى أربعين اختلاف عقدي بعضها يكفر فيه الماتريدية الأشاعرة كمسألة خلق الإيمان [وقد رجع عنه الأشعري كما نقله ابن عساكر وابن درباس عن أبو علي المقريء] وبعضها يبدعونهم، والخلاف لم يحسم بينهم إلى اليوم.. فإذا كان ذلك كذلك: فكيف تكون الفرقتان هما الممثلتان لمنهج أهل السنة والجماعة.
ومناقشة هذه الجزئية يطول .. ونقفز إلى مسألة أن الأشعري مات على ما عليه متأخروا الأشاعرة، وادعائهم عدم نسبة بعض أهم كتبه إليه ..
والكتب مثار الجدل هي: كتاب " مقالات الإسلاميين " وكتاب " رسالة إلى أهل الثغر " وكتاب " الإبانة ".
ويكفي في صحة إثبات نسبة هذه الكتب الثلاثة إلى الشيخ الأشعري، ما صرح به المنافح عنه وعن الأشاعرة بحده وحديده، ألا وهو الإمام الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري، الذي نقل عقيدة الإمام الأشعري من كتاب الإبانة، وأيد ما فيها من معتقد، وصرح أنه على هذه العقيدة الواضحة.
وإذا كان الأمر كذلك، فلننظر إلى الأشاعرة من بعد أبي الحسن الأشعري، ولنقرأ عقيدتهم التي سطروها في كتبهم ناسبين جلها إلى الشيخ المفترى عليه ..
فمن قرأ هذه الكتب التي أشرنا إليها للشيخ الأشعري يجد أمران في غاية الوضوح:
الأمر الأول: إثباته للصفات الخبرية على حقيقتها بلا تأويل أو تعطيل على مذهب السلف في الجملة.
الأمر الثاني: أنه أطلق على مؤولة هذه الصفات أنهم معتزلة أو جهمية خارجين عن زمرة أهل السنة والجماعة.
مناقشة حول الأطوار التي مر بها أبي الحسن الأشعري
ومع أن النقل مشهور معروف، إلى أننا سنظهر بعض ما قال، تبيانا لظهور هاتين المسألتين عنده رحمه الله.
وقبل كلٍ نقول: هناك من أثبت أطوار ثلاثة لأبي الحسن، وهناك من أثبت طورين فقط، وعلى الأخير جمهور الأشاعرة المتأخرين، وبعض السلفيين من قديم وحديث..
ولكن لا خلاف بين الجميع في أنه عاش أربعين عاماً في حضن الاعتزال متعلماً ومعلماً ومناظراً ومؤلفاً إلى أن من الله عليه بالتوبة.
وهنا بيت القصيد كما يقال: فإذا كان الأشعري قد تاب من علم الكلام جملة وتفصيلاً، كما هو ظاهر كتبه الثلاثة، أو تاب من الاعتزال قليله وكثيره كما هو متفق عليه، كيف نسمي طوره الثاني هو المحطة الأخيرة في حياته، وأنه مات على هذا المعتقد ؟
وثانياً: إذا كان رحمه الله قد نازل أهل الاعتزال نزالاً عنيفاً، ونابذهم ورماهم عن قوسٍ واحدة، فما باله يقول في طوره الأخير: أن تأويل الاستواء بالاستيلاء من قول المعتزلة والجهمية، وأن تأويل الصفات الخبرية كالوجه واليد والعين والنزول والمجيء وغيرهما هو من فعلهما كذلك، ونعى عليهم نعياً شديداً؟
هذا سؤال محير لمن لم يقل بالطور الثالث، لأنه لا يتفق ومذهب متأخري الأشاعرة.
ولكن دعونا نتناقش مع أصحاب الطورين فقط، القائلين بأنه كان معتزلياً ثم تاب وأصبح صاحب قول متأخري الأشاعرة، أي أنه كان على ما هم عليه من تأويل ورد لحقائق الصفات ..
فيقال لكم يا سادة [ وهناك بعض أهل السنة على ذلك أيضاً]:
أولاً: للسلفيين الذين ينفون طوره الثالث:
هل ما جاء في هذه الكتب الثلاثة موافق لما عليه متأخري الأشاعرة ؟ سيقولون لا تحقيقاً..
والدليل، أنه أثبت الصفات الخبرية وأثبت العلو والاستواء على العرش حقيقة، فلم يؤول ولم يفوض، ورد على المعتزلة والجهمية في ردهم هذه الصفات، وفند ما ألقوه من شبه..
فإن قال قائل: هذا عين ما عند متأخري الأشاعرة!! فقد كابر ..
وإن قال: هو مخالفهم لا شك في ذلك، فيقال: ولم جعلتموه على هذه الطريقة ولم تثبتوا رجوعه إلى مذهب السلف في الجملة؟
سيقال: لأنا وجدنا أشياء في الإبانة وغيرها مخالف فيها لمذهب السلف في الإيمان بالصفات وإمرارها كما جاءت.
فيقال لهم: فهو إذاً أقرب لأهل السنة من المعتزلة والجهمية، وكذلك أقرب من أتباعه من المنتسبين إليه.
فالنتيجة: أنه بهذا التصريح في كتبه الثلاثة: يصبح قد رجع لأهل السنة يقيناً، ونستطيع أن نقول كذلك: أنه قد بقيت عنده بقايا من الاعتزال، إلا أنها لا تضر تصريحه بطريقة السلف في الجملة، وأنهم يمرون الصفات كما جاءت من غير تأويل أو تعطيل أو تمثيل أو تشبيه ..
ومالنا نذهب بعيداً ونحن نجد بعض أهل الحديث المتبعين للسلف في الجملة، كأبي يعلى وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم، يخالفون مذهب أهل السنة في بعض الأمور، وهذا مما لا يبارى فيه.
ويقول المنافحون عن الأشاعرة: نعم هو مات على ما كان عليه متأخري الأشاعرة !! فليس إلا طورين اثنين لا ثالث لهما، الأول ما كان عليه من الاعتزال، والثاني بعد أن تاب الله عليه ورجع إلى مذهب السلف!!
كذا زعموا .. ولن أقول لهم أين هو مذهب السلف في عقيدتكم ؟ وإنما أقول: إذا قرر وصرح أبو الحسن الأشعري في ثلاثة من كتبه معلومة النسبة إليه، أنه على مذهب أهل الحديث أتباع السلف الصالح الذين يؤمنون بالنصوص الواردة في الصفات، ويحملونها على الحقيقة ولم يقولوا بالمجاز، ليخرجوا حقيقتها الظاهرة إلى ضلال من القول.
وهذا أولاً..
وثانياً: إذا كنتم يا أشاعرة من بعد وفاة الأشعري إمامكم! كما زعمتم! إلى اليوم، تقولون بتأويل الصفات الخبرية، وتنفون العلو والاستواء الذي قرره إمامكم بلا تأويل أو تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وتقولون برؤية بلا مقابلة إمساكاً للعصا من الوسط، كما يقال، فأين هذا في كلام أبي الحسن الأشعري؟.
هذا وقد وصف إمامكم في كتبه الثلاثة المتأولين بآرائهم لآيات الصفات أنهم معتزلة أو جهمية؟
فكيف يكون هو على طريقتكم المتأخرة ؟ وكيف تكونون أتباعه ؟ هذا تخرص واضح، وادعاء ليس عليه دليل.
فإن كنتم على حق في دعواكم، فأثبتوا ما تقولون من كتبه، فإن احتججتم بضياعها، فلا خير في أتباع يضيعون كتب شيخهم ويفترون عليه الكذب.
وابن تيمية لما ناظر الأشاعرة في العقيدة الوسطية، حج القوم بكتب الأشعري وكتب تلاميذه وقدماء المذهب، فلم ينبس أحد من متأخري الأشاعرة في عهد ابن تيمية ببنت شفة.
ثالثاً: الكتب الأخرى التي تدعون أنها هي طريقته وعقيدته، كلها محشوة بعلم الكلام وتعقيداته، ومنهجه الكلامي فيها واضح، وهو عين منهج المعتزلة حذو القذة بالقذة، سوى ما خالفهم فيها من مسائل معدودة لا تجرح المنهج الكلامي كأصل في الاستدلال وحجة في الجدال..
وإذا كان ذلك كذلك: فيقال عن هذه الكتب يقيناً أنها على طريقة المعتزلة في الجملة، وذلك بعد خروجه من الاعتزال مع تمسكه بمنهجهم وطريقتهم في الاستدلال.
وبالتالي فحق لنا أن نقول عن كتبه الثلاثة " مقالات الإسلاميين، ورسالة أهل الثغر، والإبانة " أنها كتبت على وفق المنهج السلفي، منابذا فيها طريقة الاستدلال بعلم الكلام، راداً فيها بالتصريح على مخالفتهم لطريقة السلف، مقتدياً هو في هذه الكتب بطريقة الإمام المبجل أحمد بن حنبل مرتضيا لنفسه طريقة أهل الحديث ..
ومن أدلة ذلك: أن هذه الكتب ولابد خرجت منه في بغداد التي كان آخر مطافه إليها وبها توفي، وفيها جمهور متبعي السلف وأهل الحديث، وبالتالي فهذه الكتب هي من آخر مؤلفاته لأنه نبذ فيها علم الكلام إلا ما لابد منه، واتبع الغالب من عقيدة السلف حسبما حصل وقتئذٍ.
أما أنه كتب هذه الكتب تقية ونفاقاً، كما يقوله بعض أئمتكم، فنحن لا نرضاه لإمام في حجم أبي الحسن الأشعري، ولو رضيه له أتباعه فهو عقوق ظاهر.
وقد ذكر رحمه الله، في رسالته إلى أهل ثغر باب الأبواب [ من ص 201 وما بعدها] بعد ذكر إتمام الدين بالقرآن والسنة، وأن فيهما الحجة الغالبة، وما عداه من طرق الاستدلال الكلامي والفلسفي ما هو إلا من حدث أهل البدع، ثم ذكر ما أجمع عليه السلف الصالح إجماعاً تلو إجماع، وذكر فيها الإجماع على أن قول الله وأمره ليس بمخلوق خلافاً لمن يدعي تبعته ويقولون بالكلام النفسي، وأثبت اليدين لله حقيقة بلا تأويل، وذكر الإجماع على أن الله يجيء يوم القيامة، وأن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، فلم يؤول المجيء ولا النزول، وأثبت أن الله " فوق سماواته على عرشه دون أرضه " واستدل لذلك وقال: " وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر ".
وذكر مجمل ذلك في الإجماع العاشر بقوله: وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه، ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب وترك التكييف له لازم ".
ومع أن هذا مجمل اعتقاد السلف في الصفات إلا أنه كما ذكرنا بقيت عنده بقايا لم يستطع أن يخلعها لطول مكثه في الاعتزال، فعندما يثبت المجيء والنزول يقول بلا حركة ولا انتقال، وهذا مخالف لمنهج السلف إذ إنه نفي لكيفية، والنفي والإثبات في الكيفية ضرب من الباطل، وقول على الله بغير برهان.
كما تذبذب رأيه في صفات الغضب والرضا والمحبة، فأثبتها في الإبانة كصفة من الصفات، وأرجعها إلى الإرادة في الإجماع التاسع من رسالته إلى أهل الثغر، وهذا مخالف لعموم المنهج الذي ارتضاه وصرح أنه متبع له، وعذره عندي أنه عاش أربعين عاماً معتزلياً، ثم عاش فترة أخرى بين بين، محاولاً التوفيق بين أهل السنة والمعتزلة، محتجا بحجج أسلافه من أهل الاعتزال، مقتديا بمنهجهم العقلي، مفوضاً أمره إلى علم الكلام، ثم لما دخل إلى بغداد وعاشر أهل السنة السلفيين أخذ منهم ما يستطيع أخذه، ولو عاش فترة أطول لنافح عن عقيدة السلف بحده وحديده، ولكن هكذا قدر الله.
وعلى ما مر أستطيع أن أقول: أن الطور الثاني الذي انتهجه أبو الحسن عند رجوعه من الاعتزال، كان طور الإثبات للصفات الخبرية في الجملة، متبعا فيه ابن كلاب والمحاسبي وغيرهما من المثبتة، غير أنه شابته بعض الأمور التي لم تستحكم، لأن إقراره بالاستواء والعلو واليدين والوجه والعين وغيرها من الصفات ثابت في جميع كتبه لم يتراجع عن ذلك، وله قول واحد فيها، ووجد متذبذباً في صفتي الغضب والرضا، والقول بالكلام النفسي والكسب وغير ذلك، غير أن المرحلة الأخيرة لم يذكر هذا بنفس النفس الذي كان عليه قبل ذلك، وطالما أنه صرح أنه على عقيدة أهل الحديث، فلا مناص إلى رجوعه الكامل، وما وجد من خلافات يسيرة لعدم استحكامها عنده أو جهل مذهب السلف فيها، غفر الله له.
وسيقول بعض متفزلكة الكلام:
للأشعري مذهبين معلومين: وهما التأويل والتفويض، وأتباع الأشاعرة على هاتين الطريقتين، منهم من يؤول ومنهم من يفوض، فلم يخالفا شيخهما في الحقيقة! فالنتيجة: أن الأشاعرة لم يخالفوا شيخهم، بل اقتفوا طريقته واتبعوا منهجه. كذا قالوا ..
تأرجح واختلاف الأشاعرة بين التأويل والتفويض
فيقال لهم أولاً: المنهجين – منهج التأويل ومنهج التفويض أو كما يسميه علماء أهل السنة مذهب التجهيل – لا يلتقيان أبدا .. ولا يصح صدورهما من عالم عاقل في موضوع واحد.
وبيان ذلك: أن التأويل عند الأشاعرة والمعتزلة هو: « صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله لدليل يقترن به ».
ثم يقولون: ولا نقطع به بل نقول هو محتمل. مما يؤكد أن هذا التعريف للتأويل يحمل معه الاحتمال.
إذاً فالتأويل محتمل، فيكون ظنياً لا قطعياً .. فكيف تقطعون في صفات الله - وهي غيب – وتتقولون فيها بالظن وما تهواه أنفسكم؟
ويقال ثانياً: من الحجج الظاهرة على الأشاعرة في إبطال التأويل ما جاء عن كبار أئمتهم وعلمائهم في باب التأويل.
ومنه ما نقله مرتضى الزبيدي [ إتحاف السادة المتقين 2/12و79 و110] عن القشيري اعترافه أن من السلف: الشافعي ومالك وأحمد والمحاسبي والقلانسي اختاروا عدم التأويل للمتشابهات، وأن أحمد سد باب التأويل على الإطلاق، كما نقل عن والد الجويني أن طريقة كثير من السلف كابن عباس وعامة الصحابة الإعراض عن الخوض في التأويل.
وقال القشيري في [ التحبير في التذكير ص 73 ] : الله تعالى نهى العبد في وصفه ما لم يعلمه وإن كان صادقاً في قوله، قال تعالى { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . اهـ
وقال إمام الحرمين الجويني في الرسالة النظامية [ ص21-24 ] :
اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة إتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لا شك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع .
ونقله الحافظ ابن حجر في الفتح (16/179) ونقله الذهبي في العلو للعلي الغفار (1/257) ومذهب الجويني في هذه الرسالة النظامية هو التفويض! كما هو ظاهر.
وقال القرطبي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر: إنما السلف لم يخوضوا في صفات الله لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تُعلَم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده. اهـ
وقال الحافظ نفسه في فتح الباري (10/324) : واختلف في المراد بالقدم فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله. اهـ
وحكى الشهرستانى في الملل والنحل (1/91) أن السلف لم يتعرضوا للتأويل فقال: وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم: مالك بن أنس رضي الله عنهما إذ قال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم... اهـ
وقال الشعراني في اليواقيت والجواهر (1/106) : إن الله تعالى ما أمرنا أن نؤمن إلا بعين اللفظ الذي أنزله، لا بما أوَّلناه بعقولنا، فقد لا يكون التأويل الذي أوَّلناه يرضاه الله تعالى. اهـ
ونختم هنا بقول الإمام الطحاوي: وكل ما جاء من الحديث الصحيح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال وعلى معنى ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، وأن التأويل المعتبر ترك التأويل ولزوم التسليم فإنه ما سَلِم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا تثبُت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام عِلْمَ ما حُظِرَ عنه عِلمُه، ولم يقنع فهمُه بالتسليم، حجبه مُرامُه عن خالص التوحيد فيتذبذب بين الإيمان والكفر. اهـ
ابن حجر يعارض التأويل
ويعارض الحافظ ابن حجر التأويل جملة في فتح الباري (16/179) وينقل مقرا قول الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئا منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا من أقر بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة.
ثم نقل قول إمام الحرمين في الرسالة النظامية، وقد نقلناه أعلاه، ثم عقب ابن حجر قائلا:
وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة. اهـ
كما أنه ينفي وجوب التأويل الذي نقله الأشعرية وغيرهم، وبين أن الدليل ثابت على انكفاء السلف عن التأويل واحتج بتوبة الجويني ورجوعه عن التأويل.
قول الغزالي في التأويل
وقال الغزالي ضمن وصاياه في قانون التأويل:
والوصية الثالثة: أن يكفَّ عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات، فإن الحكم على مراد الله سبحانه ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالظن والتخمين خطر، فإنما تعلم مراد المتكلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر فمن أين تعلم مراده، إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات، ويبطل الجميع إلا واحداً، فيتعين الواحد بالبرهان. ولكن وجوه الاحتمالات في كلام العرب وطرق التوسع فيها كثير، فمتى ينحصر ذلك، فالتوقف في التأويل أسلم. اهـ
وكلامه السابق لهذا في تقديم العقل على النقل.
وقال في كتاب " إلجام العوام عن علم الكلام" :
اعلم أن الحقالصريح الذي لا مرية فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف -أعنى الصحابة والتابعين –.
وبنى على ذلك أربعة أصول: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهمودنياهم. الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بلغ كما أوحى إليه ولم يكتم شيئا. الثالث: أن الصحابة هم أعرفالناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره وهم الذين لازمواالنبي صلى الله عليه وسلم وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل. الرابع: أن الصحابة في طول عصرهم إلى آخرأعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل ولو كان التأويل من الدين لأقبلوا عليه ليلاونهارا أو دعوا إليه أولادهم وأهليهم.
ثم قال –رحمه الله- : وبهذه الأصول الأربعة نعلمبالقطع أن الحق هو ما قالوه والصواب هو ما رأوه. اهـ
رحمه الله وغفر له.
وقد رد البيهقي على الرازي وغيره في وجوب التأويل
فقد قرر الرازي (في أساس التقديس ص182-183) أن مذهب جمهور المتكلمين وجوب الخوض في تأويل المتشابهات.
ويرد البيهقي هذا الإيجاب حيث يرى كما نقله ابن حجر في فتح الباري (4/190) قوله:
وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم. اهـ
وهو صريح في تفضيل البيهقي لمذهب التفويض على التأويل.
في حين أن الرازي يقطع بترك تعيين التأويل كما نقل السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (2/13) قوله: اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال- ترك الخوض في تعيين التأويل. اهـ فناقض نفسه في قوله الأول بالوجوب .
فهؤلاء يقولون أن تعيين التأويل ضرب من الاحتمال وقول على القائل بلا علم.. فهذا حكم التأويل عندهم.
حقيقة التفويض
أما التفويض فهو في حقيقته تجهيل للسلف، بل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصحابته الكرام الذي نزل جبرائيل بالوحي والنبي بين ظهرانيهم.
وهذا ابن فورك حاكي مذهب الأشعري يقول عن التفويض في آخر فصل من فصول مشكل الحديث له [ ص496] بعد تقرير الحجة العقلية على أن معاني الصفات معلومة:
" إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ تعرف مَعَانِيهَا مُمكنا والتوصل إِلَى المُرَاد بِهِ غير مُتَعَذر فَعلم أَنه مِمَّا لَا يمْتَنع الْوُقُوف على مَعْنَاهُ ومغزاه وَأَن لَا معنى لقَوْل من قَالَ إِن ذَلِك مِمَّا لَا يفهم مَعْنَاهُ إذ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ خطابه خلوا من الْفَائِدَة وَكَلَامه معنى عَن مُرَاد صَحِيح وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ". اهـ
ومثل قوله وأشد قاله القشيري في التذكرة الشرقية كما نقلها الزبيدي عنه في إتحاف السادة المتقين [2/110].
وأبو حيان النحوي أعل مذهب التفويض وقدم عليه التأويل ..
وجاء بدر الدين ابن جماعة فقرر في إيضاح الدليل [ص92] أن مذهب أهل الحق هو التأويل أو التفويض، ثم قدم التأويل وضعف التفويض مع اعترافه بأنه مذهب السلف زعم.
ومن قبله ضعف الإمام النووي مذهب التفويض، فنقل في شرحه على مسلم (16/218) عن الغزالي مختاراً قوله: " يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد. والله أعلم. اهـ
وألزم الرازي المفوضة بأحد أمرين فقال في تفسيره [10/353]: " واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين: الأول أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الاستواء الجلوس وهذا هو التأويل، وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه فهو جاهل بالله تعالى ".اهـ
ومن تناقض المفوضة أنهم يقولون: نؤمن بظاهرها مع القطع بأن ظاهرها غير مراد!! وهو عجيب.
فكيف إذا تؤمنون بظواهرها وتدعون أنكم تمرونها كما جاءت كما هو مذهب السلف، ثم تقولون ظاهرها غير مراد؟
بل قولهم ظاهرها غير مراد هو عين التأويل، لأنه افتئات على أن معنى الآية خلاف ظاهرها، أي له معنى آخر، ولكنهم لم يجسروا على تعيينه، وعينه إخوانهم المؤولة، فكيف يتخير الأشعري أيهما أقرب أريحية له مع وضوح الخلاف بين الطريقتين؟.
فالأشعرية والماتريدية كذلك، ليسوا على طريق واحدة في التأويل والتفويض، فبعض الأشاعرة يوجب التفويض وينعى على المؤولة، وبعضهم يوجب التأويل وينعى على أهل التفويض.
وكذلك الماتريدية خالف كثير منهم طريقة شيخهم في وجوب التأويل، فقال بعضهم بل جائز، وقال آخر بل حرام والوجوب إنما هو للتفويض !!
فأي الطريقين أهدى سبيلاً؟ ولماذا تتركون هذه المسألة العويصة للتخيير كما يقول متأخريكم: وكل نص أوهم التشبيها* أوله أو فوض ورم تنزيها. وكأنه لا فرق بين التأويل والتفويض.
ولماذا أوهمت هذه النصوص عندكم التشبيه؟ أأنتم أعلم أم الله ؟
والكلام على التأويل والتفويض له مقال مفرد والمؤلفات فيه كثيرة وحسبنا هذه الإشارة.
ولنقرأ الآن كتب أبي الحسن الأشعري لنرى ماذا قال في أتباعه الذين هجروا عقيدته واتبعوا إخوانهم من المعتزلة والجهمية:
فقد صرح -رحمه الله- في كتبه الثلاثة بالإثبات الحقيقي للصفات، وأنه على مذهب السلف الصالح وأهل الحديث، من الإيمان بها وإمرارها كما جاءت مع إثبات معانيها الحقة في حق الباري، ونعى على أهل التأويل الذي يحكمون آراءهم في نصوص القرآن والسنة الظاهرة في حق الله تعالى.
وهذا التصريح لمذهب واحد، صرح به ودافع عنه جهده، فأين التأويل أو التفويض في مذهبه ؟
فلو كان التأويل أو مذهب التجهيل حقاً، لذكره ضمن ما يعتقده هنا في كتبه الثلاثة، وهذا من أوضح ما يكون.
ثانياً: إن ثبتت له طريقة السكوت تلك، وهي في حقيقتها التجهيل، فلا مناص من أن يذكر معها الطريقة الأخرى التي ادعيتهم أنهما مذهبان له .. فأين بحق الله عليكم ذكر الطريقتين في كتاب واحد من كتبه تلك ؟
هل إذا رأى الطالب لشيخه فتوتين مكتوبتين، كل منهما في كتاب، أحدهما في تحريم أكل الحشيشة، والأخرى في حل أكلها .. فهل من حق الطالب أن يقول هما مذهبان له، ويعمل بهما جميعاً، من غير أن يبحث عن أيهما بعد الأخرى، أو أيهما التي تتوافق ومذهب السلف الصالح، أو أيهما أصرح من الأخرى واستدل عليها بالقرآن والسنة ؟
لا شك أن هذا الطالب إما جاهلاً، وإما غبياً ، وإما أنه يتبع هواه وينبذ علم شيخه وراء ظهره ..
والحقيقة الصارخة: في كون أبا الحسن الأشعري مات على العقيدة السلفية في الإثبات بلا تأويل ولا تعطيل، وبلا تفويض أو تجهيل، ما ذكره ابن الجوزي وهو حنبلي مؤول، يتهم المثبتة من أهل السنة بأنهم مجسمة ومشبهة، فقال في تلبيس إبليس (ص: 118):
وكان أبو الحسن الأشعري على مذهب الجبائي، ثم انفرد عنه إلى مثبتي الصفات، ثم أخذ [عن] بعض مثبتي الصفات في اعتقاد التشبيه وإثبات الانتقال في النزول والله الهادي لما يشاء. اهـ
فيقر كونه كان معتزلياً أولاً، ثم تحول إلى مثبتي الصفات- ويقصد مذهب ابن كلاب والقلانسي والمحاسبي- ثانياً، ثم أثبت ثالثاً وأخيراً أنه اعتقد التشبيه لإثباته النزول الذي وصفه بهتانا أنه انتقال .. غفر الله له.
ولنترك اللجاج فيما لا يحتاج كثير فكر ..
فها هي أقوال الرجل، سطرها بأنامله لتكون حجة عليه وعلى من ينتسبون إليه إلى يوم القيامة ..
أولاً: تصريحه أن تأويل الصفات الخبرية هو قول المعتزلة والجهمية:
قال في "مقالات الإسلاميين" 1/265: [ باب قول المعتزلة في "وجه الله" ]:
واختلفوا، هل يقال لله وجه أم لا ؟ وهم ثلاث فرق: فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن لله وجهاً هو هو، والقائل بهذا القول أبو الهذيل. والفرقة الثانية منهم يزعمون أنا نقول وجه توسعاً ونرجع إلى إثبات الله لأنا نثبت وجهاً هو هو، والفرقة الثالثة منهم ينكرون ذكر الوجه أن يقولوا لله وجه. اهـ.
ثم ذكر قولهم في العين واليد، فقال: وأجمعت المعتزلة بأسرها على إنكار العين واليد، وافترقوا في ذلك على مقالتين: فمنهم من أنكر أن يقال: لله يدان وأنكر أن يقال أنه ذو عين وأن له عينين، ومنهم من زعم أن لله يداً وأن له يدين، وذهب في معنى ذلك إلى أن اليد نعمة، وذهب في معنى العين إلى أنه أراد العلم وأنه عالم، وتأول قول الله عز وجل: { ولتصنع على عيني } أي بعلمي. اهـ. مقالات الإسلاميين (1/265).
وقال أيضاً: الاختلاف في العين والوجه واليد ونحوها: واختلفوا في العين واليد والوجه على أربع مقالات: فقالت المجسمة: له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب يذهبون إلى الجوارح والأعضاء.
وقال أصحاب الحديث: لسنا نقول في ذلك إلا ما قاله الله عز وجل أو جاءت به الرواية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف .... وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه، وتأولت اليد بمعنى النعمة، وقوله: {تجري بأعيننا} أي بعلمنا. اهـ. مقالات الإسلاميين (1/ 265).
وقال في سياق أقوال المعتزلة: وكان غيره من المعتزلة يقول أن وجه الله سبحانه هو الله، ويقول أن نفس الله سبحانه هي الله، وأن الله غير لا كالأغيار، وأن له يدين وأيدياً بمعنى نعم، وقوله تعالى أعين وأن الأشياء بعين الله أي بعلمه، ومعنى ذلك أنه يعلمها، ويتأولون قولهم أن الأشياء في قبضة الله سبحانه أي في ملكه، ويتأولون قول الله عز وجل: { لأخذنا منه باليمين} أي بالقدرة. وكان سليمان بن جرير يقول أن وجه الله هو الله. اهـ. مقالات الإسلاميين (1/265).
فهو ينعي على مؤولة اليد والوجه والنفس والعين والقبضة .. وغير ذلك من الصفات، وأن كلام المعتزلة في ذلك باطل، وهو عين ما قرره متأخري الأشاعرة، وافتروا على شيخ مذهبهم أنه يرد على نفسه!!
وقال في الإبانة ص 41:
الباب الأول: في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة .. ثم ساق كثيراً من أقوالهم إلى أن قال: ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله عز وجل: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأنكروا أن له يدان مع قوله سبحانه: { لما خلقت بيدي } وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله سبحانه: { تجري بأعيننا } وقوله: { ولتصنع على عيني }. اهـ.
وقال: ونفى الجهمية أن يكون لله تعالى وجه كما قال، وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين. اهـ.
وقطعاً جميع المعتزلة يثبتون الوجه المضاف إلى الله تعالى في كتابه ولا ينكرونه، إذاً لكفروا إجماعاً، وإنما ينفون أن يكون وجهاً حقيقياً لائقا بالله عزوجل ولا نعلم كيفيته، وإلا لم يكن خلاف بين أهل الحديث والمعتزلة إذا كان الجميع يثبتون وجهاً مضافاً إلى الله، وليس وجهاً حقيقة، بل مجازاً، فبين أبو الحسن عليه الرحمة، أنهم مخالفون لأهل السنة في إثبات وجه حقيقي لله عزوجل ، فنثبته ولا نتأوله، لأننا لم نعرف كيفيته .
فهو هنا أثبت أن عدم إثبات الوجه كصفة لله جحد للصفة، وأن تأويل اليد بالنعمة أو القدرة، وتأويل العين بالعلم هو قول المعتزلة .. وكلامه صريح في ذلك .. فإذا كان متأخرو الأشاعرة يقولون بقول المعتزلة فينفون حقيقة الوجه ويتأولون اليد والعين، فحكمهم عند الأشعري حكم المعتزلة والجهمية سواء بسواء.
وقال في الإبانة (ص97-103) فصل: " ذكر الاستواء على العرش " .
وقال بعد ذكر الآيات الدالة على علو الله تعالى على جميع خلقه:
وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قول الله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } أنه استولى وملك وقهر، وأن الله تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل مستوياً على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة.
ثم ساق الأدلة وأجاب عن شبهات المعتزلة وغيرهم ثم قال:
دليل آخر: قال الله تعالى: { يخافون ربهم من فوقهم } وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه } وقال تعالى: { ثم استوى إلى السماء وهي دخان} وقال تعالى: { ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } وقال تعالى: { ثم استوى على العرش ما لكم من ولي ولا شفيع } فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته، مستو على عرشه استواء منزهاً عن الحلول والاتحاد.
وقال: وأجمعت الأمة على أن الله سبحانه رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء، ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون جميعاً: يا ساكن السماء، ومن حلفهم جميعاً: لا والذي احتجب بسبع سماوات. اهـ.
فقد صرح لنا بأمرين: أولهما علو على خلقه وأنه في السماء كما قال الله تعالى، واستدل عليه عقلاً ونقلاً وأثبت حقيقته كما هو مذهب السلف.
والثاني: أن مؤولة الاستواء بالاستيلاء، ونفاة العلو الحقيقي لله، هم المعتزلة والجهمية والحرورية، وهذا من أوضح ما يكون بياناً، وفيه من الاستدلال عليه ما يكفي المعاند.
وقرر العلو والاستواء في "مقالات الإسلاميين" فذكر من ضل في علو الله تعالى، وذكر منهم من نفى العلو، وأول الاستواء بالاستيلاء، ومن قال أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ومن قال في الاستواء بالتشبيه والتمثيل، ونحو ذلك، ثم بين ما كان عليه السلف وأصحاب الحديث الذين عد نفسه منهم وانتسب تصريحاً لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل ..
فقال في المقالات: وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عزوجل ( الرحمن على العرش استوى ) ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف. وأنه نور كما قال تعالى ( الله نور السموات والأرض ) وأن له وجها كما قال الله ( ويبقى وجه ربك ) وأن له يدين كما قال ( خلقت بيدي ) وأن له عينين كما قال ( تجرى بأعيننا ) وأنه يجيء يوم القيامة وملائكته كما قال ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله. وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى، وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن. اهـ
وفي رسالته إلى أهل الثغر.. ذكر الإجماع التاسع عشر إثبات علو الله تعالى، وأنه لا ينافي معيته لخلقه بالعلم، فقال:
وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } وقال: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال: { الرحمن على العرش استوى } وليس استواءه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر، لأنه عز وجل لم يزل مستولياً على كل شيء.
وأنه يعلم السر وأخفى من السر، ولا يغيب عنه شيء في السماوات والأرض حتى كأنه حاضر مع كل شيء، وقد دل الله عز وجل على ذلك بقوله: { وهو معكم أينما كنتم } وفسر ذلك أهل العلم بالتأويل أن علمه محيط بهم حيث كانوا، وأنه له عز وجل كرسياً دون العرش، وقد دل الله سبحانه على ذلك بقوله: { وسع كرسيه السموات والأرض } وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده. اهـ من رسالة إلى أهل الثغر (ص232-236).
وهذا النقل السابق من كتبه الثلاثة صرح فيه بالإثبات ونعى أهل التأويل وقال أنهم معتزلة وجهمية وحرورية وقدرية، وأثبت الصفات على ظاهرها ولم يقل بالسكوت عن المعنى، وإنما السكوت المراد هو ما صرح به السلف الصالح وهو السكوت عن الكيفية.
واستدل أبو الحسن في الإبانة [ص 103] على أن الله في السماء بحديث الجارية فقال: باب ذكر الاستواء على العرش: ... دليل آخر: ... وروت العلماء أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة. وهذا يدل على أن الله تعالى على عرشه فوق السماء .. اهـ
وستأتي النقول بتمامها عند ذكر مسألة الاستواء .. إن شاء الله تعالى..
ثانياً: إثبات الأشعري الصفات بلا تكييف:
فالطريقة الأولى أثبت الأشعري فيها أن مؤولة الصفات هم في الحقيقة الجهمية والمعتزلة والحرورية على حد قوله.
وأما الطريق الثانية ففيا الإثبات الواضح على مخالفة الأشاعرة لإمامهم الأشعري، وذلك لأنه أثبت الصفات بلا تشبيه أو تكييف، وأتباعه أولوا الصفات فعطلوها، وبعضهم يسكتون من باب التجهيل المسمى عندهم زوراً بالتفويض، مع إثبات تناقضهم وجهلهم بقولهم أن "الظاهر غير مراد" كما زعموا..
قال الذهبي في السير [15/86]: " رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات، وقال فيها: تمر كما جاءت، ثم قال: وبذلك أقول وبه أدين ولا تؤول". اهـ
قال الأشعري في الإبانة : الباب السادس، الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين:
مسألة: قد سئلنا أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك بلا كيف، وقد دل عليه قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} وقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته) فثبتت اليد بلا كيف. اهـ
فلاحظ قوله " نقول ذلك بلا كيف " وقوله " فثبتت اليد بلا تكييف " وبعد استدلاله بالقرآن والسنة، حاججهم باللغة والعقل فقال:
وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها، ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى: {بيدي} النعمة، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل: لي عليه يدي، بمعنى لي عليه نعمتي، ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها، وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها؛ لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى: {بيدي} نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: بيدي يعني نعمتي، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه، ولن يجد له سبيلا.
ويقال لأهل البدع: ولِم زعمتم أن معنى قوله: {بيدي} نعمتي؟ أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة؟
فلا يجدون ذلك إجماعاً ولا في اللغة. وإن قالوا: قلنا ذلك من القياس.
قيل لهم: ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى: {بيدي} لا يكون معناه إلا نعمتي؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز، الناطق على لسان نبيه الصادق: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله} ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره، ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه، فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه، وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه؛ لأنه بلسانهم نزل، وليس في لسانهم ما ادعوه.) .اهـ.
وقال أيضاً: ويقال لهم لم أنكرتم أن يكون الله تعالى عنى بقوله: {بيدي} يدين ليستا نعمتين؟
فإن قالوا: لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة.
قيل لهم: ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا، أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا: اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة.
قيل لهم: إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله تعالى فكذلك لم نجد حياً من الخلق إلا جسماً لحماً ودماً، فاقضوا بذلك على الله - تعالى عن ذلك - وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقضين.
وإن أثبتم حياً لا كالأحياء منا، فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين، ولا كالأيدي؟ وكذلك يقال لهم: لم تجدوا مدبراً حكيماً إلا إنساناً، ثم أثبتم أن للدنيا مدبراً حكيماً ليس كالإنسان، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد. اهـ من الإبانة (ص110).
وقال في مقالات الإسلاميين (1/248):
وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف. وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض}.
وأن له وجهاً كما قال الله: {ويبقى وجه ربك} وأن له يدين كما قال: {خلقت بيدي} وأن له عينين كما قال: {تجري بأعيينا} وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث.
ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال: ولا يجب إذا أثبتنا هذه الصفات له عز وجل على ما دلت العقول واللغة والقرآن والإجماع عليها أن تكون محدثة .. فلذلك لا يجوز على صفاته ما يجوز على صفاتنا. اهـ. رسالة إلى أهل الثغر (ص218).
قوله في القرآن:
قال في الإبانة في الباب الرابع "الكلام في أن القرآن كلام الله غير مخلوق":
دليل آخر: وقد قال الله عز وجل: (وكلم الله موسى تكليما) والتكليم هو المشافهة بالكلام.اهـ.
فإثباته المشافهة رد على من يقول بالكلام النفسي وأن كلام الله بلا حرف وصوت.. إذ يقول أهل اللغة وعلى رأسهم الجوهري في الصحاح (1/362): والمُشافَهَةُ: المخاطبةُ من فيك إلى فيه، والحروف الشَفَهِيَّةُ: الباء والفاءُ والميمُ، ولا تَقُلْ شَفَوِيَّةٌ. اهـ
وهذا ظاهر في أن أبا الحسن الأشعري يثبت أن الله تعالى شافه موسى عليه السلام، فخاطبه تعالى من ذاته، وأن موسى سمع كلام الله تعالى حينئذ، ولا يكون هذا إلا حرفاً وصوتاً مسموعاً.
إثباته لصفتي النزول والمجيء الحقيقي لله
قال في سياق معتقده الموافق لأهل الحديث: ونصدق جميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل، هل من مستغفر) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل. اهـ الإبانة للأشعري (ص51).
وأهل الزيغ هم المؤولة والمعطلة، من الجهمية والمعتزلة، ويدخل فيهم لزاماً أكثر متأخري الأشاعرة .
ثم قال رحمه الله مستدلاً بنزوله تعالى على إثبات علوه:
ومما يؤكد أن الله عز وجل مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم ذكر أحاديث النزول. الإبانة للأشعري (ص51).
وقال في سياق معتقد أهل الحديث: وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث. اهـ مقالات الإسلاميين (1/285).
هذا هو مذهب الأشعري الذي ينعي على متأخري الأشاعرة الذين يؤولون الصفات فيعطلونها، وبعضهم يموه تجهيلا بالتفويض هروبا من القول على الله بلا علم..
ويلاحظ أن متأخري الأشاعرة ليسوا سواء، فكلهم يرد بعضهم على بعض في أمور، كما أن بعض أجلتهم رجع إلى الحق، وثبت على طريق أهل السنة، غير أنه يشوب الإثبات بنوع من التفويض الذي هو التجهيل، لكن رجوعه يثبت يقينا خطأ المؤولة الذين اتبعوا الجهمية والمعتزلة شبرا بشبر وذراعاً بذراع..
ورد القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني على المؤولة فقال في كتابه "الإبانة":
فان قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له: قوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وقوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً.
فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إن كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟.
قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حياً عالماً قادراً إلا جسماً أن نقضى نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائماً بذاته أن يكون جوهراً، لأنا وإياكم لم نجد قائماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم أن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضاً واعتلوا بالوجود. اهـ. نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/98) وفي بيان تلبيس الجهمية (2/ 64) وأورده الذهبي في العلو (ص237).
الأشعري في كتاب العمد يثبت الوجه واليدين والاستواء وكل الصفات:
وليس هذا الأمر موجود في كتبه الثلاثة فقط، وقد حكى شيخ الإسلام أن كتبه كلها شاهدة على إثبات الصفات الخبرية بلا تعطيل أو تمثيل، وقد صدق ابن تيمية في هذا شيخان كبيران منهما ..
فقال الإمام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري [ص: 129] نقلا عن ابن فورك:
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب العمد: " وألفنا كتابا في خلق الأعمال نقضنا فيه اعتلالات المعتزلة والقدرية في خلق الأعمال وكشفنا عن تمويههم في ذلك. قال وألفنا كتابا كبيرا في الاستطاعة على المعتزلة نقضنا فيه استدلالاتهم على أنها قبل الفعل ومسائلهم وجواباتهم. قال وألفنا كتابا كبيرا في الصفات تكلمنا على أصناف المعتزلة والجهمية والمخالفين لنا فيها في نفيهم علم الله وقدرته وسائر صفاته وعلى أبي الهذيل ومعمر والنظام والفوطي وعلى من قال بقدم العالم وفي فنون كثيرة من فنون الصفات في إثبات الوجه لله واليدين وفي استوائه على العرش وعلى الناشي ومذهبه في الأسماء والصفات. قال وألفنا كتابا في جواز رؤية الله بالأبصار نقضنا فيه جميع اعتلالات المعتزلة في نفيها وإنكارها وإبطالها. قال وألفنا كتابا كبيرا ذكرنا فيه اختلاف الناس في الأسماء والأحكام والخاص والعام.. اهـ
وهذا المنقول أعلاه يثبت دون شك أنه رحمه الله، رجع إلى مذهب السلف في الجملة، ومن ثم فإن اعتماد متأخري الأشاعرة على كتبه القديمة ككتاب اللمع الذي لم يذكر فيه الإثبات بالطريقة التي أثبتها في كتبه الثلاثة، فتراه في كتاب اللمع متكلما يعتمد اشد الاعتماد على علم الكلام كأصل في تقرير ما كتبه في الكتاب، وذكر التنزيه إجمالا على طريقة نفي الجسمية عن الله، وتكلم عن الكسب، ومسائل كثيرة كلها من باب علم الكلام، ويلاحظ أنه لم يذكر الإمام أحمد وأهل الحديث كما ذكرهم في كتبه الثلاثة، والتي صرح أنه على مذهبه ومذهبهم، بخلاف اللمع الذي يرد على الحنابلة كثيراً..
وبما أنه رجع أخيرا إلى بغداد ومات بها وأخذ علم السلف عن جمهور السلفيين فيها، فإن كتاب اللمع وما شابهه من كتب قد كتبت قبل هذه الكتب الثلاثة يقيناً، وهي في فترة الطور الثاني كما شرحناه من قبل.
ونقول آخراً: إن ما يقرره متأخروا الأشاعرة على شيخهم، ما هو إلا من كتب كتبها ورجع عنها إلى مذهب السلف، وختم حياته على منهج أهل الحديث وإمامهم أحمد بن حنبل رحمه الله، ورحم الأشعري.
نقل أبو إسحاق بن درباس الشافعي في رسالته في الذب عن الأشعري وكتابه الإبانة عن الإمام الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي قوله في بيان مسألة الاستواء من تأليفه: " رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادَّعوه وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه المرسوم بـ (الإبانة عن أصول الديانة) أدلة من جملة ما ذكرته في إثبات الاستواء. اهـ
نقد متأخري الأشاعرة لإمامهم الأشعري ووصفه بصفات غير لائقة:
والغريب أن متأخري الأشاعرة ينتقدون شيخهم في مسائل عقدية قرروها بأدلتهم العقلية، فتخبطوا معه، بين مخالف وموافق، غير أن المخالفين جهلوا شيخهم ووصفوه بأوصاف لا تليق بمتبع يبجل شيخه ويقدره.
ومن جملة انتقاداتهم لشيخهم أنهم تحيروا في موضوع الكسب، الذي نسب لأبي الحسن أو قاله يقينا عند قوم منهم، وحقيقته فيما نقلوه عنه أنه جبر محض، وأن الإنسان مجبور في صورة مختار على الحقيقة، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق ظاهر، وعليه بنوا أن الفعل في الحقيقة فعل الرب لا فعل العبد، فيكون الكسب اسم بلا مسمى.
على أننا نقول أن هذا القول قاله في المرحلة البرزخية بين أهل السنة والاعتزال، عندما كان متمسكا بأصولهم الكلامية، فحاول أن يهرب من شيء فدخل فيما هو شر منه أو هو من محصلته، وقولنا ذلك نستدل عليه بأمرين:
الأول: أن القول بالكسب على طريقة الأشعري بدعة أحدثت في الدين، والرجل قد رجع في غالب مسائل العقيدة، فتكون هذه من جملة ما رجع عنه، ولعله لم يستحكم تقريرها على مذهب أهل الحديث.
والثاني: أنه عندما ذكر الكسب في كتبه المتأخرة، فسره بما لا يتوافق ومذهب أهل السنة، فقال في المقالات[2/393]: معنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب وهذا قول أهل الحق.
وقال: والحق عندي أن معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة فيكون كسباً لمن وقع بقدرته.اهـ
فنظرية الكسب أراد الأشعري أن يخرج بها عن مذهب المعتزلة، وأراد أن ينبذ الجبرية فوقع في سفسطة حكموا عليه بالجهل من أجلها.
قال الرازي في محصل أفكار المتقدمين [ص199] عن كسب الأشعري أنه: " اسم بلا مسمى ".
وصرح في [معالم أصول الدين 107] في حقيقة الكسب " بأن الإنسان مجبور في صورة مختار".
ثم صرح في المطالب العالية ومثله الإيجي في المواقف إحقاقاً لبيان أن الكسب هو الجبرية بعينها، غير أنه مغلف باسم مبهم، فقالا بأن " القول بالجبر هو القول الحق ".
ومن ثم اضطر الرازي في [الأربعين في أصول الدين 227] إلى مخالفة الأشعري وإثبات قدرة للعبد مؤثرة في الفعل.
ولم يقف الأمر عند الرازي فقد نقده الجويني [في العقيدة النظامية ص32] لما في الكسب من سفسطة فقال " ولا ينجي من هذا المتلطم ذكر اسم محض، ولقب مجرد من غير تحصيل معنى ".
كما صرح مرتضي الزبيدي [إتحاف السادة المتقين 2/169] في وصفه للكسب بأنه " من معضلات المسائل التي حارت فيها أفكار المتقدمين ولم تحصل على طائل في تحقيق المتأخرين".
وقال السعد التفتازاني في شرح العقائد: " بأن فحول أهل السنة قد عجزوا عن تحقيق معناه " وأن الأشاعرة هم مجبرة متوسطة.
ووصفه ابن عذبه [ في الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية 42] بأن الكسب " صعب دقيق ".
وهنا يقال لمتأخري الأشاعرة: أنتم ما تركتم شيئا مشتركا بينكم وبين الجهمية إلا وشاركتموهم فيه، فقد اشتهر من معتقد الجهمية أنهم نفاة للصفات، قائلون بالجبر، وخلق القرآن .. فحذوتم حذوهم وادعيتم على شيخكم البهتان.
ومن راجع رأي الإيجي والتفتازاني في الكسب خصوصاً وباقي المسائل عموماً يجدههم مقتدون بالجهمية في الحقيقة لا بشيخهم الأشعري.
غير أن هناك محاولات لتغيير موقف الأشاعرة من هذه الفضيحة، فعدله الباقلاني في التمهيد ففرق بين حركة الإنسان الاختيارية وبين حركة المرتعش مثلاً ليخرج من وصم الكسب بالجبر.
وحاول الجويني تعديل الكسب فخالف شيخه كفاحاً وخطأه عياناً وأثبت قدرة للعبد في الفعل وقال:
" أما نفي القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها فهي كنفي القدرة ". اهـ
بل اتهم شيخه بعظيم عندما قال في العقيدة النظامية [30]:
" المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله: قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون ".
وقال متهكما مشيراً إلى قول شيخه : " وقد زعم من لم يوفق لمنهج الرشاد!! أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدورها " .
وقد قام عليه متأخرو الأشاعرة المتعصبين بين متهم له بالاعتزال! وبين نافٍ أن يكون هذا كلامه، وأثبت ابن حجر ومرتضى الزبيدي والسيوطي وغيرهم صحة نسبة هذه الرسالة إليه.
وقد اعترف السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (3/246) بهذا الخلاف فقال: " وللقاضى أبى بكر مذهب يزيد على مذهب الأشعرى فلعله رأى القوم، ولإمام الحرمين والغزالي مذهب يزيد على المذهبين جميعا ويدنوا كل الدنو من الاعتزال وليس هو هو". اهـ
واعترف السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (3/247) في مسألة تكليف ما لا يطاق، مخالفة " الشيخ أبو حامد الإسفراينى شيخ العراقيين وحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام تقي الدين محمد ابن على بن دقيق العيد القوصي رحمهم الله تعالى أجمعين". أي للأشعري والأشاعرة في هذه المسألة.
وقال في (3/247) عن نسبة الصغائر للأنبياء: " قالوا وتمتنع الصغائر من نبي *** للإله وعندنا قولان - والمنع مروى عن الأستاذ والقاضي *** عياض وهو ذو رجحان - وبه أقول وكان مذهب والدي *** دفعا لرتبتهم عن النقصان - والأشعرى إمامنا لكننا *** في ذا نخالفه بكل لسان ".اهـ فمخالفة الأشعري والأشاعرة في هذه المسألة واضح جلي.
بل يثبت الخلاف الكثير بين الأشاعرة أنفسهم فيقول (3/248): " والأشعرية بينهم خلف إذا *** عدت مسائله على الإنسان - بلغت مئين وكلهم ذو سنة *** أخذت عن المبعوث من عدنان. اهـ
الأشاعرة يبدعون إمامهم سلفياً ويخطئونه متكلماَ
ذكر أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى بن درباس الشافعي [ت622هـ] في رسالته في الذب عن أبي الحسن الأشعري وكتابه الإبانة عن أصول الديانة، قصة عن كتابه فيقول:
ولقد عرضها [ أي رسالة الإبانة للأشعري] بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس، فأنكرها وجحدها، وقال: ما سمعنا بها قط، ولا هي من تصنيفه، واجتهد آخرًا في إعمال روايته ليزيل الشبهة فطنته، فقال بعد التحريك - تحريك لحيته -: لعله ألفها لما كان حشويًا، فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف مع العلماء، أو من جهله لحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها؟. اهـ
وإبراهيم بن عثمان بن عيسى بن درباس ترجم له الذهبي وغيره، ولم يذكره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، مع أن ابن درباس شافعي محدث له إجازة من السلفي وغيره، وسمع منه الحافظ المنذري، وقد ترجم السبكي لأبيه عثمان بن عيسى بن درباس في الطبقات [8/196] ولم يذكر ابنه على شهرته، ولعل ذلك يرجع إلى موقفه من أبي الحسن الأشعري في رسالته المذكورة، التي أثبت فيها مخالفة أتباع الأشعري له. فالله أعلن بحقيقة موقف السبكي.
ولذلك فالأشاعرة المتأخرون يتهمون شيخهم إن كان سلفيا، ويخطئونه إن كان متكلما، بل يتهمون بالجبرية، وأنه خرق الإجماع، وأنه منافق تزلف للحنابلة بكتابه الإبانة !!!
وأن له قولين في عقيدة المفروض أنه يلقى الله عليها، كما حكي السبكي في الطبقات (10/150) أن الأشعري له قولان في كلام الله النفسي، فذكر في ترجمة والده السبكي الكبير أنه " ذهب إلى أن الكلام النفسي يسمع وهو أحد قولي الأشعري ".
أي أن الأشعري له قولان في المسألة، وهذا أكبر دليل على الطور الثالث، إذ إنه موافق لمذهب السلف في سماع كلام الله عزوجل، والقول أنه لا يسمع كان يقينا في الطور الثاني، لأن الطور الثالث الاعتزالي معروف، لأنهم يقولون بسماعه ولكن على أساس أنه مخلوق وليس كلام الله حقيقة.
وفي صفتي الوجود والبقاء لله وهل هما زائدتان على الذات أم لا؟
قال الأشعري: أن صفة الوجود ليست زائدة على الذات فخالفه شيوخ الأشاعرة بأن الوجود زائد على الذات.
وقال الأشعري: أن البقاء زائد على الذات، فخالفه إمام الحرمين الجويني والقاضي أبو بكر الباقلاني والرازي، فاتهمهم الآمدي في إبكار الإبكار بأنهم على قول المعتزلة.
ومن انتقادات الجويني للأشعري ووصفه بأنه خرج عن حد المعقول، نقده له في مسألة أزلية كلام الله فذكر بأنه: " إذا كان كلام الله أزلياً فكيف يخاطب الله معدوماً بالأوامر والنواهي؟ ".
وهذا ما جعل الجويني يقول: " إن ظن ظان أن المعدوم مأمور فقد خرج عن حد المعقول، فلا شك أن الوجود شرط في كون المأمور مأموراً " ثم ذكر بأن مسألة " أمر بلا مأمور هي معضلة حقاً". ومن ثم انتهي إلى التوقف والحيرة.
وانتقد الجويني مذهب الأشعري في تجويزه تكليف الله عباده ما لا يطيقون ومنع ذلك مع أنه كان رجحه في الإرشاد ودافع عنه .
وانتقده في العقيدة النظامية في موقفه من أفعال العباد واعتبر مذهبه مختبطاً فقال:
" ومذهب أبي الحسن مختبط عندي في هذه المسألة" .. ثم قال: " فقد لاح سقوط مذهبه في كل تقدير ".
مع أن هذا هو رأيه قبل ذلك كما في الشامل ولمع الأدلة والإرشاد، ثم أثبت رجوعه في النظامية فأعلن أن " المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله: قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون " كما مر.
فالجويني يلزم شيخه الأشعري بأن كلامه يؤول إلى تكذيب الشريعة وما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم .
وانتقد في [في مغيث الخلق 8-9] قول الأشعري " كل مجتهد مصيب " فقال " هذا الأصل لا نقول به وهذا أصل باطل بل الحق واحد " وقال: " فإن كان كل مجتهد مصيباً فلا يتحقق الترجيح في المجتهدين ".
والنقد من متقدميهم لمتأخريهم كثير جداً، فالقاضي أبو بكر ابن العربي يخطيء الأشعري في مسائل كلامية كثيرة، فيقول في كتابه المتوسط في الاعتقاد [المخطوط في الرباط لوحة 76]: وهذا القول ساقط متناقض ويلزم شيخنا أبا الحسن من وجهين " اهـ
ونقد الأشعري والباقلاني وابن الجويني في عارضة الأحوذي 10/68 عند أول شرح أبواب الإيمان، فقال:
" وهذا باب عظيم لم يتحقق به كثير من العلماء، وأول من غفل عنه شيخنا أبو الحسن، وتابعه عليه القاضي أبو بكر وابن الجويني ". اهـ
ويذكر السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (3/245) أن القاضي أبي بكر الباقلاني خالف الأشعري في قوله ليس على الكافر نعمة لا دنيوية ولا دينية على الإطلاق وهو قول مخالف للحس والعقل والنص، ولذلك رجح القاضي قول الماتريدية وهو أن الله أعطى للكافر نعماً دنيوية لا دينية.
والرازي يضعف دليل الكمال عند الغزالي في محصل أفكار المتقدمين [ص 124] وينقض حججه.
وعندما أثبت الجويني مذهب أهل السنة والسلف في ماهية الروح، خالفه الباقلاني وابن العربي [ قانون التأويل ص291] وقالا: أن الروح عرض.
وخالف ابن العربي شيخه الغزالي في تأويله الميزان يوم القيامة، وفاكهة الجنة بأنها مجرد تخييل وليست حقائق، فرد عليه وتمسك بأدلة السمع النقلية الصحيحة الصريحة ونافح عنها بحجج عقلية.
وخالف القاضي أبو بكر بن العربي شيوخ الأشاعرة في صفة الفرح، فقال في قوله تعالى " ولا تمشي في الأرض مرحا " : والفرح والنشاط محمودان ولذلك يوصف الله بالفرح ففي الحديث: لله أفرح بتوبة العبد. اهـ
ورد القاضي أبو بكر ابن العربي على الجويني إمام الحرمين في مسألة علم الله بالجزئيات فقال في قانون التأويل [ص507] في فصل أقسام العلوم ردا على الإمام الجويني في كتابه البرهان [1/145-146] أنه يستحيل على الله علمه بالجزئيات، أو كما قال نصا " فان قالوا: إن الباري عالم بما لا يتناهى على التفصيل سفهنا عقولهم" فرد عليه ابن العربي بأنه كلام متناقض غير معقول وذلك لأن التفصيل عند الجويني يقتضي الحصر وما لا يتناهى ينفيه فتناقضت القضيتان فالجمع بينهما سفه في العقل. اهـ
ثم عقبه بكلام من ذهب هو كالقاعدة في الكلمات المحدثة المولدة من المتكلمين فقال رحمه الله :
إن هذه الألفاظ من الجملة والتفصيل والحصر ألفاظ مولدة ركبت عليها المبتدعة علومها وخاض فيها علماؤنا معهم ولكل واحد فيها اصطلاح تركيب معناه على ما اصطلح عليه فيها ويختلف الاثنان في الوجه المصطلح عليه فيتباريان ويتعارضان، ونحن إذا تكلمنا على ذلك قلنا: دعونا من العبارات المحدثة الفاسدة، الباري تعالى عالم بعلم لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم ما كان وما يكون ولا يقدر شيء إلا هو عالم به، فان قلتم على التفصيل يعلم أو على الجملة ؟ قلنا: لا ندرك ما تريدون، فان أردتم بقولكم: على التفصيل أنه لا يخفى عليه شيء فذلك صحيح، وان أردتم بالجملة أنه يعلم شيئا ويخفى عليه شيء فلا يصح لأن الدليل قد قام على انه لا يخفى عليه شيء فإنما نتكلم معكم في عموم علمه وخصوصه والجملة والتفصيل عبارات باردة لا نلتفت إليها ولا نبني عليها حكما ولا نصف الباري بشيء منها لا نفيا ولا إثباتا وإنما نصفه بما وصف به نفسه ودل الدليل عليه من سعو[كذا] العلم وتقدس ذاته وصفاته وأنه لا يخفى عليه شيء كان أو لم يكن تقدم أو تأخر فعلى هذا فعولوا ودعوا بنيات الطرق والألفاظ المحدثة وخذوا ذات اليمين وهو ما كان عليه السلف المتقدمون من الصحابة والتابعين. اهـ
وصرح بنسبة هذا القول إلى الجويني فقال في العواصم من القواصم [ص98]: " وإنما العجب كل العجب من كلمات صدرت عن أبي المعالي فادحة، تحوم أو تشف على أن علم الباري، لا يتعلق بالمعلومات على التفصيل". ثم ذكره ورد عليه.
كما ناصر هذه القضية في كتابه الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى [ لوحة 65ب] وهو يتكلم على اسم الله [ العليم ] فذكر أحكام عشرة في اسم الله العليم كان في الرابع منها: أنه يعلمه جملة وتفصيلا وعلم العبد يتعلق بالجملة دون التفصيل. وفي الخامس: أن علمه يتعلق بالتفريع والتأصيل .. الخ فراجعها فانه مهم .
وقد قال الغزالي في [المنقذ من الضلال ص: 6] : ومن ذلك قولهم: " إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات " ، فهو أيضاً كفر صريح، بل الحق أنه: " لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ " . اهـ
وقال في [الاقتصاد في الاعتقاد ص: 81] : ويجب القطع بتكفيرهم [ أي الفلاسفة ] في ثلاثة مسائل وهي: إنكارهم لحشر الأجساد والتعذيب بالنار، ... والأخرى: قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث وإنما يعلم الكليات، وإنما الجزئيات تعلمها الملائكة السماوية. اهـ
ورأي الجويني الذي نقله ابن العربي هو رأي ابن سينا الذي كفره الغزالي لأجله .
وقد قال الشافعي رحمه الله كلمته المشهورة : ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِمُوا وإن أنكروه كفروا .
وقد دافع السبكي عن إمام الحرمين الجويني وأتى بنقول يبين فيها علم الله بالجزئيات .. فالله أعلم .
والجويني أثبت حيرته في مسألة هل المعدوم مأمور؟ وقد قال: وهذا مما نستخير الله تعالى فيه.
والانتقادات والتخبطات أمرها يطول، وتحريرها يحتاج إلى مجلدات بالبسط والنقل والتقرير والنقد، غير أنك إذا واجهت أحدهم بهذه التخبطات والاتهامات يقول لك بلا حياء: أن هذا من عظمة المذهب الأشعري لأنه مذهب متجدد! ليس فيه جمود!.
كذا يصفون عقيدتهم أنها متجددة! كلما لاح لمتأخر شيئا أغار على من قبله وجهله وخطأ رأيه، فيستصوب الطلاب كل كلام متأخر، ويتركون كلام صاحب المذهب وتلاميذه الكبار..
ولا عجب أن يصرح الأشاعرة بهذا الغباء، الذي لا يتماشى معه إلا مذهب النصارى الذين لهم في كل قسيس معتقد، وإنما العجب حقاً أن يعترفوا بمخالفة شيخ مذهبهم، وينتسبون إليه.
وأنا قصدي من الإشارة إلى بعض هذه الخلافات التي أوصلها السبكي إلى مئين، أمران:
الأول: أنه ما من مسألة من مسائلهم يكون أصل الاستدلال فيها كلامي صرف إلا وبينهم فيها خلاف كثير واضطراب وتوقف وحيرة.
والثاني: أن هذه هي العقول التي ترد على نصوص الوحي، انظروا اليها كيف اضطربت، وشنعت على المخالف، فهل يعقل أن نترك الوحي قرآناً وسنةٍ ونتبع عقول هؤلاء؟ وصدق مالك رحمه الله عندما قال: " أَوَ كلَّما جاءنا رجلٌ أَجْدَلَ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء؟ "
والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبيه وسلم وبارك.