المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رأي محمد رشيد رضا في أحاديث الطب الغيبية :عماد بن حسن المصري



أهــل الحـديث
30-06-2013, 10:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


رأي محمد رشيد رضا في أحاديث الطب الغيبية :
قال رشيد رضا في المجلة ( 29 : 37 ) :
الجمع بين حديثي الذباب والفأرة :
وهل الأول رأي أو تشريع ؟
الفقهاء يفرقون بين الحديثين ؛ بأن الفأرة مما له دم سائل ، فلا يعفى عن تنجيسه لما ينجسه إذا كان ميتاً والذبابة ليست كذلك ، فيعفى عن تنجيسها لما تقع فيه أو يقال : إنها لا تنجسه . وأما الحكم الطبي فيهما فواحد فكلاهما ضار في الطعام والشراب باتفاق الأطباء ، فإن كان ضرر الذبابة الواحدة لا يبلغ ضرر الفأرة الواحدة ، فللكبر والصغر دخل في ذلك ، ويجوز أن يكون مقدار ثقل الفأرة من الذباب أضر منها ، والمعول في مثل هذا على خبرة الأطباء .
وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعاً ، أما التشريع في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعاً فهو محرم قطعاً ، وكل ضار ظناً فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل إن كان الظن ضعيفاً ، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة تحريم الضار ، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة . وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار والآخر ترياق واق من ذلك السم فإن صح الحديث بلفظه ، ولم يكن فيه غلط من الرواة ، ولم يكن معناه معروفاً مسلماً في ذلك الزمان ، فالمعقول فيه أن يكون عن وحي من الله تعالى ، وحينئذ يمكن أن يعرف ببحث الأطباء المبني على القواعد الحديثة ؛ كالتحليل الكيميائي والفحص الميكروسكوبي ، بأن يجمع كثير من أجنحة الذباب اليمنى واليسرى كل على حدته ، وينظر في أكبر منظار مكبر ، ثم يحلل فينظر هل يختلف تركيبه ثم تأثيره في بعض الأحياء كشأنهم في هذه النظائر ، فإن ثبت بالتجربة القطعية أن الجناحين سواء في الضرر كما هو الغالب في النظر ، ثبتت معارضة الواقع القطعي لمتنه وهو ظني ؛ لأنه خبر واحد ، فيحكم بعدم صحته إن لم يكن تأويله كما هو الظاهر ، ولا خلاف في ترجيح القطعي على الظني من منقول ومعقول ومختلف ، كما بينه شيخ الإسلام في كتاب النقل والعقل .
هذا ، وإننا لم نر أحداً من المسلمين ، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا الحديث ، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية ، وقد تكلم علماؤنا في معناه ، وذكروا اعتراضاً عليه لبعض الناس جهلوه به ، وهو قوله كيف يجمع جناحاه بين الداء والشفاء ؟
وردوا عليه بأن كثيراً من المخلوقات تجتمع فيها المتضادات ؛ كالحية فيها السم ولحمها يجعل في الترياق منه ، والنحلة يخرج من فمها العسل النافع ومن أسفلها القذر الضار . ونقلوا عن بعض الأطباء أن في الذبابة سماً ، فإذا وقعت في طعام أو شراب أو غيرهما تلقى بسمها على ما تخشى أن يضرها : أي كما تفعل كل الحشرات السامة ، وذكروا أن من المجربات شفاء لسعة الزنبور بدلكها بالذباب أو بالزنبور نفسه . وفي الطب الحديث أن نَسَم الجِنَّةِ الخفية التي يسمونها الميكروبات منها الضار والنافع ، وإنهما يتدافعان ويتقاتلان في دم الإنسان حتى يغلب أحدهما الآخر ، فعلى هذا لا يمكن القطع بأن متن الحديث مخالف للواقع ونفس الأمر ، وأن كل ذباب يغمس في الطعام أو الشراب فهو ضار إلا بتجارب خاصة بهذا الأمر .
هذا ، وإن إخراج البخاري لهذا الحديث في جامعه لا يعصمه من التماس علة في رجاله تمس مناعة صحته ، فإن مداره عنده على عبيد بن حنين مولى بني زريق ، انفرد به وليس له غيره ، فهو ليس من أئمة الرواة المشهورين الذين تخضع الرقاب لعدالتهم وعلمهم وضبطهم كمالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً ، ومن الغريب أنه لم يذكر في تهذيب التهذيب أن له رواية عن أبي هريرة ، فإن كان بينهما واسطة يكون منقطعاً . ولكن لم يذكر الحافظ ذلك على تحريه لمثل هذه العلل . وفيه أن أبا حاتم قال فيه : كان صالح الحديث ، وهي من أدنى مراتب التوثيق ، حتى قدم الحافظ الذهبي وغيره عليها كلمة ( لا بأس به ) فإذا غلب على قلب مسلم أن رواية ابن حنين هذا غير صحيحة وارتاب بغرابة موضوع حديث الذباب لا يكون قد ضيع من دينه شيئاً ، ولا يقتضي ارتيابه هذا أو جزمه بعدم صدق ابن حنين فيه الطعن في البخاري ؛ لأنه قبل روايته لأنه لم يعلم جارحاً يجرحه فيه إلا هذا الشذوذ الذي يجبره حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجة بمعناه وإن كان على غير شرط البخاري في الصحيح . ولكن يرد على المرتاب تصحيح لابن حبان لحديث أبي سعيد ، وقد يقول : إذا وجدت علة في رواية البخاري تمنعني من القول بصحة الحديث مع كونه أشد الحفاظ تحرياً فيما يخرجه في صحيحه مسنداً ، فهل يمنعني منه تصحيح ابن حبان المعروف بالتساهل في التصحيح ؟ وكل من ظهر له علة في رواية حديث ، فلم يصدق رفعه لأجلها فهو معذور شرعاً ، ولا يصح أن يقال في حقه : إنه مكذب لحديث كذا ، كما أن من اعتقد أن حديث كذا صحيح ، وكذبه يصدق عليه أنه مكذب ، ويترتب عليه حكم التكذيب .
( تنبيه ) إن ابن حنين راوي حديث الذباب من مسلمة الأعاجم ، والظاهر أنه من النصارى . وراوي حديث الشياطين المتقدم وهو ابن شنظير منهم أيضاً ، وكل منهما غير مشهور بالعلم والرواية ، فالظاهر أن البخاري اكتفى بعدم الطعن فيهما .
قلت عماد :وقد دافع الإمام العلامة أبو الأشبال أحمد محمد شاكر عن هذا الحديث فقال:دفاعه عن السنة :
عُرف من العلامة أحمد شاكر حبه للسنّة ودفاعه عنها أمام المستشرقين والمستعربين ، وإني أنقل في هذه البابة ما علقه على حديث أبي هريرة حديث الذباب ودفاعه عن حديث رسول الله فقد علق على المسند حديث رقم ( 7141 ) :
حدثنا بشر بن مفضل عن بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم ، فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر شفاء ، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله )) .
قال أحمد شاكر : إسناده صحيح ، بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي ، شيخ أحمد : سبق توثيقه ( 908 ) ، ونزيد هنا أنه ترجمه البخاري في الكبير ( 1 : 2 : 84 ) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 1 : 1 : 366 ) . ابن عجلان : هو محمد ، سبقت ترجمته ( 6518 ) . سعيد المقبري : هو سعيد بن أبي سعيد ، سبقت ترجمته ( 6225 ) . وهو تابعي معروف ، يروي عن أبي هريرة وقد سمع منه ، ويروي أيضاً عن أبيه عن أبي هريرة . والحديث سيأتي في المسند مراراً ، بنحوه ، من هذا الوجه ومن غيره : ( 7353 ، 7562 ، 8466 ، 8642 ، 9024 ، 9157 ، 9719 ) . ورواه أبو داود ( 3844 : 3 : 430 عون المعبود ) عن أحمد بن حنبل ، بهذا الإسناد . ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( 1 : 252 ) ، من طريق الحسن بن عرفة عن بشر بن المفضل ، به . وأشار الحافظ في الفتح ( 10 : 213 ) إلى هذه الرواية ، رواية سعيد المقبري ، التي فيها زيادة (( وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء )) ، وإلى أنها صححها ابن حبان . ورواه بغير هذه الزيادة : البخاري ( 6 : 256 ، و 10 : 213 - 214 ) ، وابن ماجة ( 2 : 185 ) ، من طريق عتبة بن مسلم عن عبيد بن حُنين عن أبي هريرة . ورواه البيهقي أيضاً من هذه الطريق . وسيأتي في المسند ( 9157 ) . وقد وهم الحافظ ابن القيم رحمه الله ، فنسب في زاد المعاد ( 3 : 209 ، 347 ) هذا الحديث للصحيحين . واليقين أن مسلماً لم يروه في صحيحه ، بعد طول التتبع . وقد صرح الحافظ بذلك في الفتح ( 6 : 257 ) ، في خاتمة كتاب بدء الخلق . وإن سها أن ينص عليه في خاتمة كتاب الطب ( 10 : 215 ) . وهذا الحديث مما لعب به بعض معاصرينا ، ممن علم وأخطأ ، ومن علم وعمد إلى عداء السنة ، ومن جهل وتجرأ : فمنهم من حمل على أبي هريرة ، وطعن في رواياته وحفظه . بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي ! ، حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة ، إن لم يزعم أنها لا أصل لها ! ، بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما ، فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين ، الذين أرادوا بنقدهم أن بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة ، التي التزمها الشيخان ، لم يريدوا أنها أحاديث ضعيفة قط . ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه - حديث الذباب - لم يكن مما استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري . بل هو عندهم جميعاً مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة . ومن الغريب أيضاً أن هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة ، على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم ، رحمهم الله - غفلوا أو تغافلوا عن أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد بروايته . بل رواه أبو سعيد الخدري أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عند أحمد في المسند ( 11207 ، 11666 ) ، والنسائي ( 2 : 193 ) ، وابن ماجة ( 2 : 185 ) ، والبيهقي ( 1 : 253 ) ، بأسانيد صحاح . ورواه أنس بن مالك أيضاً ، كما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ( 5 : 38 ) ، وقال : ( رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح ، ورواه الطبراني في الأوسط ) ، وذكره الحافظ في الفتح ( 10 : 213 ) ، وقال : ( أخرجه البزار ، ورجاله ثقات ) . فأبو هريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم ، بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة . والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث ، لما وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة ، من المكروبات ونحوها . وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى ، فاستضعفوا أبا هريرة . والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ، ولكنهم لا يصرحون ! ، ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة : أن يقدموها على كل سيء ، وان يؤولوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي ، إذا ما خالف ما يسمونه ( الحقائق العلمية ) ! ، وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه ! ، افتراء على الله ، وحباً في التجديد ! ، بل إن منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها . فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح ، وينكر وجود الملائكة الجن بالتأول العصري الحديث . ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى ( القديسين والقديسات ) ! ، ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين ، يخرجونها عن معنى الإعجاز كله !! ، وهكذا وهكذا ... وفي عصرنا هذا صديق لنا ، كاتب قدير ، أديب جيد الأداء ، واسع الاطلاع ، كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه . ثم بدت منه هنات وهنات ، على صفحات الجرائد والمجلات ، في الطعن على السنة ، والإزراء برواتها ، من الصحابة فمن بعدهم . يستمسك بكلمات للمتقدمين في أسانيد معينة ، يجعلها - كما يصنع المستشرقون - قواعد عامة ، يوسع من مداها ، ويخرج بها عن حدها الذي أراده قائلوها . وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية ، ومكاتبات خاصة ، حرصاً مني على دينه وعلى عقيدته . ثم كتب في إحدى المجلات - منذ أكثر من عامين - كلمة على طريقته التي ازداد فهيا إمعاناً وغلواً . فكتبت له كتاباً طويلاً ، في شهر جمادى الأولى سنة ( 1370 ) ، كان مما قلت له فيه ، قلت له : ( وقد قرأت لك ، منذ أسبوعين تقريباً ، كلمة في مجلة ... لم تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة . ولست أزعم أني أستطيع إقناعك ، أو أرضى إحراجك بالإقلاع عما أنت فيه . ( وليتك - يا أخي - درست علوم الحديث وطرق روايته دراسة وافية ، غير متأثر بسخافات ( فلان ) رحمه الله ، وأمثاله ممن قلدهم وممن قلدوه . فأنت تبحث وتنقب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل ، لا بحثاً حراً خالياً من الهوى . ( وثق أني لك ناصح مخلص أمين . لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء . فقد قرأت من مثل كلامك أضعاف ما قرأت . ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض . ( وثق - يا أخي - أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنة فقلت مثل قولهم وأعجبك رأيهم ، إذ صادف منك هوىً . ولكنك نسيت أنّهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه . فما ضار القرآن ولا السنة شيء مما فعلوا . ( وقبلهم قام المعتزلة وكثير من أهل الرأي والأهواء ، ففعلوا بعض هذا أو كله ، فما زادت السنة إلا ثبوتاً كثبوت الجبال ، وأتعب هؤلاء رؤوسهم وحدها وأوهموها ! ، بل لم نر فيمن تقدّمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذي يطويه كلامك ، فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع ! ، هذا كلام المستشرقين . ( غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها ، لا بادّعاء وضعها والعياذ بالله ، ولا بادّعاء ضعفها . إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنّها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما . ( وهذا مما أخطاء فيه كثير من الناس . ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا رحمه الله ، على علمه بالسنة وفقهه ، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى . وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها ، ولكنه كان متأثراً أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده ، وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً . بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدماً ، وأثبت رأياً ، لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه . والله يغفر لنا وله . ( وما أفضت لك في هذا إلا خشيةً عليك من حساب الله . أما الناس في هذا العصر فلا حساب لهم ، ولا يقدّمون في ذلك ولا يؤخرون . فإن التربية الإفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض ، فمنهم من يصرح ، ومنهم من يتأول القرآن والسنة ، ليرضي عقله الملتوي ، لا ليحفظهما من طعن الطاعنين . فهم على الحقيقة لا يؤمنون ، ويخشون أن يصرحوا فيلتوون . وهكذا هم حتى يأتي الله بأمره . ( فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة . وقد نصحتك وما آلوت . والحمد لله ) . وأما الجاهلون الأجرياء فإنّهم كثر في هذا العصر . ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب ، في إحدى المجلات الطبية ، فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه ، وأنه ينافي علمه ! ، وأنه رواه مؤلف اسمه ( البخاري ) ! ، فلا يجد مجالاً إلا الطعن في هذا ( البخاري ) ، ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ، وهو لا يعرف عن ( البخاري ) هذا شيئاً ، بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه ! ، إلا أنه روى شيئاً يراه هو - بعلمه الواسع - غير صحيح ! ، فافترى عليه ما شاء ، مما سيحاسب عليه بين يدي الله حساباً عسيراً . ولم يكن هؤلاء المعترضون المجترئون أول من تكلم في هذا ، بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون . ولكن أولئك كانوا أكثر أدباً من هؤلاء ! ، فقال الخطابي في معالم السنن رقم ( 3695 من تهذيب السنن ) : ( وقد تكلم في هذا الحديث بعض من لا خلاق له ، وقال : كيف يكون هذا ؟ ، وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة ؟ ، وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء ، وتؤخر جناح الشفاء ؟ ، وما أربها في ذلك ؟! ، ( قلت : ( القائل الخطابي ) : وهذا سؤال جاهل أو متجاهل ، وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، وهي أشياء متضادة ، إذا تلاقت تفاسدت ، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألّف بينها ، وقهرها على الاجتماع ، وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها - : لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد ، وأن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة ، وأن تعسل فيه ، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه - : هو الذي خلق الذبابة ، وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراد الله من الابتلاء ، الذي هو مدرجة التعبد ، والامتحان الذي هو مضمار التكليف . وفي كل شيء عبرة وحكمة . وما يذّكر إلا أولوا الألباب ) . وأما المعنى الطبي ، فقال ابن القيم - في شأن الطب القديم - في زاد المعاد ( 3 : 210 - 211 ) : ( واعلم أن في الذباب قوة سمية ، يدل عليها الورم والحكة العارضة من لسعه ، وهى بمنْزلة السلاح ، فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله في جناحه الآخر من الشفاء ، فيغمس كله في الماء والطعام ، فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة ، فيزول ضررها . وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم ، بل هو خارج من مشكاة النبوة . ومع هذا ، فالطبيب العالم العارف الموفق ، يخضع لهذا العلاج ، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق ، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية ) . وأقول - في شأن الطب الحديث - إن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب ، وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب ، ولا يكادون يرضون قربانه ، وفي هذا من الإسراف - إذا غلا الناس فيه - شيء كثير . ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم ، وفي نومهم ويقظتهم ، وفي شأنهم كله . وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة ، وغلو غلواً شديداً في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة ، حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفيّة تامة . وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب وتشرب ، فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر . ومن كابر في هذا فإنما يخدع الناس ويخدع نفسه . وإنا لنرى أيضاً أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام . لا يماري في ذلك أحد . فهناك إذن حالان ظاهرتان ، بينهما فروق كبيرة . أما حال الوباء ، فمما لا شك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب أشد التحرز . وأما إذا عدم الوباء ، وكانت الحياة تجري على سننها ، فلا معنى لهذا التحرز . والمشاهدة تنفي ما غلا فيه الغلاة من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب . ومن كابر في هذا فإنما يجادل بالقول لا بالعمل ، ويطيع داعي الترف والتأنّق ، وما أظنه يطبّق ما يدعو إليه تطبيقًا دقيقًا ، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون .
كتبه:أبو عبد الرحمن عماد بن حسن المصري الفلسطيني الأردني عفى الله عنه