المناهج الدراسية ومعركة بقاء الأمم (1 من 3)
--------------------------------------------------------
د. عبد الرحمن سليمان الطريري - كلية التربية ـ جامعة الملك سعود 09/10/1427هـ
[email protected]
تهتم الكثير من الأمم بالمناهج الدراسية اهتماماً بالغاً، وتعنى بها عناية كبيرة نظراً لتأثيرها في الناشئة والأجيال في مجالات عدة ولارتباط المناهج في كافة مجالات التنمية
المادي والبشري فيها. وبداية يحسن أن أشير إلى أن المناهج تقسم إلى قسمين أولهما المناهج المباشرة أو المحددة في إطار واضح سواء كان كتاباً، أو مذكرة، أو
أشرطة، أو أفلاماً، وفي الغالب تتولى الجهات الرسمية كالمدارس، والمعاهد، والجامعات تدريساً لمناهج المباشرة، ويكون لهذه المناهج أهداف واضحة، ومواضيع محددة
يلتزم الأساتذة، والمدارس بتقديم هذه المواضيع سعياً للوصول إلى الأهداف المحددة.
أما النوع الثاني للمناهج فهو المناهج غير المباشرة، أو الخفية، وهذه في الغالب تأتي تبعاً ومصاحبة مواضيع أخرى، ولا تكون مقصودة بعينها لكنها تحدث أثراً في المتلقي،
أو المستهدف، فمثلاً قد تدرس قصة لطلاب السنة الخامسة الابتدائية، وقد يكون من أهداف هذه القصة إثراء حصيلة الطلاب بالمصطلحات والألفاظ، كما قد تتضمن القصة
مواقف تزيد من ثقة الطالب بنفسه ما يشجعه على الحديث أمام زملائه ومناقشته الأساتذة دون وجل أو خجل، ومثل هذا يعتبر منهجاً خفياً لأنه حقق هدفاً لم يستهدف ولم
يؤخذ في الاعتبار سواء عند نسج القصة، أو عند إقرارها ضمن المنهج.
ولعله من المناسب الإشارة إلى أن المناهج الدراسية تستهدف تحقيق أهدافها في ثلاثة مجالات يعتبرها التربويون مجالاً خصباً يعملون داخله وهذه المجالات هي المجال
العقلي، والمجال الوجداني، والمجال النفسي، حركي أو المهاري، إشارة إلى المهارات الحركية التي يكتسبها الأفراد نتيجة للتمرين والتدريب الذي يتعرضون له. وتجدر
الإشارة إلى أن لعلماء التربية وعلم النفس جهوداً حيث قسمت هذه المجالات إلى مستويات ويتضمن المجال العقلي ستة مستويات تختلف من حيث البساطة والتعقيد ومستوى
التفكير المطلوب، وكذا الجهود المطلوبة، فالمستوى المعرفي والذي هو المستوى الأول داخل المجال العقلي يعتمد في الأساس على الذاكرة والاسترجاع، بينما المستوى
السادس والذي هو أعلى مستوى يحتاج إلى عمليات عقلية عليا كالتقويم وإصدار الأحكام العقلية الموضوعية الدقيقة.
وما ينطبق على المجال العقلي ينطبق على المجال الوجداني والمجال المهاري من حيث التقسيم بناءً على قاعدة التدرج من الأسهل والأيسر إلى الأصعب والأعقد من حيث
نوع العمليات المطلوبة لكل مستوى من المستويات، ولسنا بصدد عرض التفاصيل حول هذه المجالات، إلا أن من المناسب الإشارة إلى أن اهتمام المؤسسات الرسمية من
مدارس ومعاهد وجامعات يركز في الغالب على المجال العقلي، وفي مستوياته الثلاثة الأولى ويهمل المجالين الآخرين الوجداني والمهاري، والسبب في ذلك ربما يعود إلى
الفلسفة التربوية السائدة التي ترى أن التربية هي تربية العقل فقط وتهمل الجوانب الأخرى، إلا أن هذه الفلسفة لم تستمر وتغيرت وظهر في الميدان التربوي فلسفات
أخرى ترى ضرورة العناية بجوانب النفس البشرية الأخرى، إذ إن المجال الوجداني والمهاري لا يقلان أهمية عن المجال العقلي في حياة الأفراد والمجتمعات، فالمجال
الوجداني يعنى بالقيم، والميول، والاتجاهات، والعقائد، والمشاعر، وهذه الجوانب يمكن تنميتها من خلال المواد الإنسانية كالتاريخ، والأدب، والشعر، والقصة، والمواد
الدينية، والاجتماع، وغيرها من المعارف، والمواقف، والممارسات، والأنشطة. أما المجال المهاري فيعنى باكتساب المهارات الحركية كالتآزر بين حركة اليد والعين أو
حركة اليد والرجل أو الأصابع، وهذه تتم من خلال التدريب والرياضة وغيرها. إن التكامل بين المجالات الثلاثة في الناشئة أمر ضروري إذا أردنا إيجاد أفراد
متزنين، قادرين على الإنتاج والعطاء منتمين انتماء صادقاً إلى مجتمعهم.
إن صياغة شخصيات الأفراد وربطهم بأوطانهم ومكوناتهم الثقافية من عقيدة وعادات وتقاليد وقيم، وتشكيل شخصياتهم، لا تسهم فيه مادة واحدة بل مجموعة مواد ومواقف
متنوعة، وذلك ضماناً لسلامة الانتماء وصفائه، ولا يمكن تصور إهمال دولة أو أمة من الأمم، لعملية تشكيل الأجيال وتنشئتهم، سواء من خلال المناهج المباشرة والموجهة
والتي تقوم بها المؤسسات الرسمية من مدارس وجامعات ووسائل إعلام، أو المناهج غير المباشرة وغير الموجهة. وتتضح أثار المناهج في أفراد كل مجتمع بناءً على ما
يتلقاه في المدرسة أو من خلال وسائل الإعلام أو أي طرق أخرى وذلك في سلوكهم، وتصرفاتهم، وعلاقتهم بالآخرين، واتجاهاتهم نحوهم، فالياباني يعتد بيبانيته ويفتخر بها
ويتكلم بلغته ويأكل بطريقته الخاصة مستخدماً الأعواد، ولا يجد حرجاً في ذلك، أو يشعر بالخجل، والفرنسي فخور بفرنسيته وإرثه الفرنسي من لغة وقيم فرنسية يدافع
عنها ويحافظ عليها ويرى أنها الأفضل، بل إنه جعل من الأجبان الفرنسية المعتقة مثالاً على الضيافة الفرنسية، أما الإسبان ومصارعة الثيران فأصبحت معلماً بارزاً
مرتبطاً في ذلك المجتمع ولم تحل دون تمسك الإسبان بها اعتراضات حقوق الحيوان وجمعياته، ولا الأضرار المترتبة عليها سواء على الإنسان أو الحيوان، ولم تعد الأسهم
التي تغرز في أجسام الثيران مقززة أو منفرة. وما يقال عن هذه المجتمعات يقال عن الأمريكي حيث الافتخار بانتمائه لأمريكا وتمسكه بإرثه الوطني، رغم ما فيه من
المصائب والويلات عبر التاريخ في حق البشر والبيئة، الأمريكي يرى أنه الأفضل، ويرى أنه الأقوى، ويرى أنه الأحق في كل شيء، يعتقد أنه ينتمي إلى أمة عظيمة، لا
يضاهيها أي أمة أخرى. وهكذا مع سائر الأمم الأخرى من بريطانيين، وألمان، وصينيين، وفرس، وأفارقه، وعرب. ويحق لنا في هذا السياق أن نتساءل عن سر
انتقال الإرث والمكونات الاجتماعية عبر الأجيال في كافة المجتمعات لنجد أن المناهج بنوعيها الموجه وغير الموجه والمباشر وغير المباشر هي القناة والآلية التي تتم من
خلالها عملية الانتقال وعملية التطبيع الاجتماعي Socialization كما يسميها علماء التربية، وهذه من أهم أهداف التربية في أي مجتمع حفاظاً على وحدة
المجتمع وضماناً لعدم انفراط عقده، لأن عملية التطبيع الاجتماعي توجد قواسم مشتركة، وثوابت يراعيها كافة أفراد المجتمع، بل ويدافعون عنها لأنها تمثل مقومات المجتمع
الأساسية، ومن دونها يضيع المجتمع، ويتشتت، ويتفرق شمله، لكن بعض من يكتبون عن المناهج لا يدركون هذه الحقيقة، ويتجاهلونها، أو يدركونها لكنهم لا يعبهون
بالنتائج المترتبة عليها. وفي مثل هذه التصرفات مخاطر كبيرة قد تحيق بالمجتمع وتعرضه للكثير من الإشكالات التي ليس بحاجة لها، ولا يحتملها. ويبقى السؤال
قائماً لماذا يتصدى الكثير من الناس للحديث عن المناهج وانتقادها، وهم يفتقدون آليات العلم التخصصية في هذا المجال؟ ليس لدي إجابة عن هذا السؤال لأن الإجابة لدى
الأشخاص الذين يتصرفون هذه التصرفات.
وأختم هذا المقال بالقول، إن أعظم مصيبة قد تصاب بها أمة من الأمم، حين تكون مناهجها خاصة ذات العلاقة بالمواد الإنسانية ليس لها طعم ورائحة المجتمع الذي تدرس
فيه، ومثل هذا الوضع يحدث عندما لا يكون للمناهج إطار أو فلسفة واضحة ومحددة ونابعة من المجتمع ملتصقة بثقافته، وقيمه خادمة لقضاياه، حالة لمشاكله، ومعبرة عن
هويته وأصالته، ومجتمع من دون هذه الأمور سيكون مجتمعاَ تابعاً يسير في فلك الآخرين مسلوب الإرادة والحرية، فاقداً لسلامة التوجه ووضوح الهدف.
http://www.aleqtisadiah.com/article.php?do=show&id=3670