المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تلخيص مناظرة في: " الحمد والشكر " بحث جرى بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين ابن المرحل.



أهــل الحـديث
26-06-2013, 03:30 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




.


تلخيص مناظرة في " الحمد والشكر " بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل(1)



كَانَ الْكَلَامُ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَأَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَالْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ.

فَقَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: قَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ - وَسَمَّاهُ -: أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاعْتِقَادِ.
وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ: أَنَّهُ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَبَنَوْا عَلَى هَذَا: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْأَعْمَالَ يَكُونُ كَافِرًا.
لِأَنَّ الْكُفْرَ نَقِيضُ الشُّكْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَاكِرًا كَانَ كَافِرًا.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا الْمَذْهَبُ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ وَالنَّقْلُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ. فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} {وَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا} .

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي الدَّلِيلِ وَأُسَلِّمُ ضَعْفَ هَذَا الْقَوْلِ؛ لَكِنْ أَنَا أَنْقُلُ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: نِسْبَةُ هَذَا إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ إذَا ثَبَتَ ضَعْفُهُ كَيْفَ يُنْسَبُ إلَى أَهْلِ الْحَقِّ؟ ثُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

قُلْت: وَبَابُ سُجُودِ الشُّكْرِ فِي الْفِقْهِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَجْدَةِ سُورَةِ ص سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا} . ثُمَّ مَنْ الَّذِي قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: إنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاعْتِقَادِ؟ .

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - هَذَا قَدْ نُقِلَ وَالنَّقْلُ لَا يُمْنَعُ لَكِنْ يُسْتَشْكَلُ. وَيُقَالُ: هَذَا مَذْهَبٌ مُشْكِلٌ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: النَّقْلُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَ مَا سَمِعَ أَوْ رَأَى. وَالثَّانِي: مَا يُنْقَلُ بِاجْتِهَادِ وَاسْتِنْبَاطٍ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا أَوْ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَا قَدْ يَكُونُ نَسَبُهُ إلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى أُصُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَالَ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا يَدْخُلُهُ الْخَطَأُ كَثِيرًا. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ يَقُولُونَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ كَذَا وَيَكُونُ مَنْصُوصُهُ بِخِلَافِهِ؟ وَعُذْرُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ أُصُولَهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْقَوْلَ فَنَسَبُوهُ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ لَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ؟ . وَكَذَلِكَ هَذَا لَمَّا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي وَالْخَوَارِجُ يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي. ثُمَّ رَأَى الْمُصَنِّفُ الْكَفْرَ ضِدَّ الشُّكْرِ -: أَعْتَقِدُ أَنَا إذَا جَعَلْنَا الْأَعْمَالَ شُكْرًا لَزِمَ انْتِفَاءُ الشُّكْرِ بِانْتِفَائِهَا وَمَتَى انْتَفَى الشُّكْرُ خَلَفَهُ الْكُفْرُ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى ذَلِكَ: التَّكْفِيرُ بِالذُّنُوبِ. فَلِهَذَا عُزِيَ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إخْرَاجُ الْأَعْمَالِ عَنْ الشُّكْرِ.

قُلْت: كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ عَنْ الْإِيمَانِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.

قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرُ النِّعْمَةِ. وَالثَّانِي: الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. وَالْكُفْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ: إنَّمَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. فَإِذَا زَالَ الشُّكْرُ خَلَفَهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ.

قُلْت: عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ضِدَّ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ فَمَنْ تَرَكَ الْأَعْمَالَ شَاكِرًا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَقَدْ أَتَى بِبَعْضِ الشُّكْرِ وَأَصْلِهِ. وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا عُدِمَ الشُّكْرُ بِالْكُلِّيَّةِ. كَمَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ مَنْ تَرَكَ فُرُوعَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ كَافِرًا حَتَّى يَتْرُكَ أَصْلَ الْإِيمَانِ. وَهُوَ الِاعْتِقَادُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ - الَّتِي هِيَ ذَاتُ شُعَبٍ وَأَجْزَاءٍ - زَوَالُ اسْمِهَا كَالْإِنْسَانِ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ الشَّجَرَةِ إذَا قُطِعَ بَعْضُ فُرُوعِهَا.

قَالَ الصَّدْرُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: فَإِنَّ أَصْحَابَك قَدْ خَالَفُوا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فِي تَسْمِيَةِ الْفَاسِقِ كَافِرَ النِّعْمَةِ كَمَا خَالَفُوا الْخَوَارِجَ فِي جَعْلِهِ كَافِرًا بِاَللَّهِ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَصْحَابِي لَمْ يُخَالِفُوا الْحَسَنَ فِي هَذَا فَعَمَّنْ تَنْقُلُ مِنْ أَصْحَابِي هَذَا؟ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسَمَّى الْفَاسِقُ كَافِرَ النِّعْمَةِ حَيْثُ أَطْلَقَتْهُ الشَّرِيعَةُ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: إنِّي أَنَا ظَنَنْت أَنَّ أَصْحَابَك قَدْ قَالُوا هَذَا لَكِنَّ أَصْحَابِي قَدْ خَالَفُوا الْحَسَنَ فِي هَذَا.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - وَلَا أَصْحَابُك خَالَفُوهُ. فَإِنَّ أَصْحَابَك قَدْ تَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَطْلَقَ فِيهَا الْكُفْرَ عَلَى بَعْضِ الْفُسُوقِ - مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ. وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَى الْمَعَاصِي فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهَا كُفْرُ النِّعْمَةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُوَافِقُو الْحَسَنِ لَا مُخَالِفُوهُ.

ثُمَّ عَادَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ فَقَالَ: أَنَا أَنْقُلُ هَذَا عَنْ الْمُصَنَّفِ. وَالنَّقْلُ مَا يُمْنَعُ لَكِنْ يُسْتَشْكَلُ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ أَوْ يُنْسَبُ النَّاقِلُ عَنْهُمْ إلَى تَصَرُّفِهِ فِي النَّقْلِ كَانَ نِسْبَةُ النَّاقِلِ إلَى التَّصَرُّفِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْبَاطِلِ إلَى طَائِفَةِ أَهْلِ الْحَقِّ مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ. وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْحَقِّ: إخْرَاجُ الْأَعْمَالِ أَنْ تَكُونَ شُكْرًا لِلَّهِ. بَلْ قَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ شُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ. وَشَوَاهِدُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى نَقْلٍ. وَتَفْسِيرُ الشُّكْرِ بِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُتَكَلَّمُ فِيهَا عَلَى لَفْظِ " الْحَمْدِ " " وَالشُّكْرِ " مِثْلُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ يَعْرِفُهُ آحَادُ النَّاسِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ.

فَخَرَجَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ هَذَا فَقَالَ: - الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُسَمَّى الْفَاسِقُ مُنَافِقًا وَأَصْحَابُك لَا يُسَمُّونَهُ مُنَافِقًا.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لَهُ: بَلْ يُسَمَّى مُنَافِقًا النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ لَا النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ. وَالنِّفَاقُ يُطْلَقُ عَلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ إضْمَارُ الْكُفْرِ وَعَلَى النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْوَاجِبَاتِ.

قَالَ لَهُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - وَمِنْ أَيْنَ قُلْت: إنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا؟ .

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - هَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَبِذَلِكَ فَسَّرُوا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَحَكَوْهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ " كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَنِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ وَشِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ ". وَإِذَا كَانَ النِّفَاقُ جِنْسًا تَحْتَهُ نَوْعَانِ فَالْفَاسِقُ دَاخِلٌ فِي أَحَدِ نَوْعَيْهِ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: كَيْفَ تَجْعَلُ النِّفَاقَ اسْمَ جِنْسٍ وَقَدْ جَعَلْته لَفْظًا مُشْتَرَكًا وَإِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ كَانَ مُتَوَاطِئًا وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ غَيْرُ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَيْفَ تَجْعَلُهُ مُشْتَرَكًا مُتَوَاطِئًا ".

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَنَا لَمْ أَذْكُرْ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ. وَإِنَّمَا قُلْت: يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا وَالْإِطْلَاقُ أَعَمُّ. ثُمَّ لَوْ قُلْت: إنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَكَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا. فَإِنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَبِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. فَأَطْلَقْت لَفْظَ النِّفَاقِ عَلَى إبِطَانِ الْكُفْرِ وَإِبِطَانِ الْمَعْصِيَةِ تَارَةً بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَتَارَةً بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ عِنْدَ قَوْمٍ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ وَعِنْدَ قَوْمٍ بِاعْتِبَارِ التَّوَاطُؤِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ مُشَكِّكًا.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ وَأَخَذَ فِي كَلَامٍ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ.

قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - الْمَعَانِي الدَّقِيقَةُ تَحْتَاجُ إلَى إصْغَاءٍ وَاسْتِمَاعٍ وَتَدَبُّرٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاهِيَّتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ وَاللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَا بِهِ تَمْتَازُ كُلُّ مَاهِيَّةٍ عَنْ الْأُخْرَى. فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا كَالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمَاهِيَّتَيْنِ. فَيَكُونُ لَفْظًا مُتَوَاطِئًا.

قُلْت: ثُمَّ إنَّهُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ مَوْضُوعًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ يَغْلِبُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ: فِي هَذَا تَارَةً وَفِي هَذَا تَارَةً. فَيَبْقَى دَالًّا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَالِامْتِيَازُ. وَقَدْ يَكُونُ قَرِينَةُ مِثْلِ لَامِ التَّعْرِيفِ أَوْ الْإِضَافَةِ تَكُونُ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَا بِهِ الِامْتِيَازُ مِثَالُ ذَلِكَ: " اسْمُ الْجِنْسِ " إذَا غَلَبَ فِي الْعُرْفِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ إذَا غَلَبَ عَلَى الْفَرَسِ قَدْ نُطْلِقُهُ عَلَى الْفَرَسِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الدَّوَابِّ. فَيَكُونُ مُتَوَاطِئًا. وَقَدْ نُطْلِقُهُ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ الْفَرَسِ فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ خُصُوصِ الْفُرْسِ وَعُمُومِ سَائِرِ الدَّوَابِّ وَيَصِيرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْفَرَسِ: تَارَةً بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَتَارَةً بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. وَهَكَذَا اسْمُ الْجِنْسِ إذَا غَلَبَ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ: مِثْلُ ابْنِ عَمْرٍو وَالنَّجْمُ فَقَدْ نُطْلِقُهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ النُّجُومِ وَسَائِرِ بَنِي عَمْرٍو. فَيَكُونُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ. وَقَدْ نُطْلِقُهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا بِهِ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ النُّجُومِ وَمِنْ بَنِي عَمْرٍو. فَيَكُونُ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّخْصِيِّ وَبَيْنَ الْمَعْنَى النَّوْعِيِّ. وَهَكَذَا كُلُّ اسْمٍ عَامٍّ غَلَبَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْعَامِّ فَيَكُونُ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَبِالْوَضْعِ الثَّانِي فَيَصِيرُ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ. وَلَفْظُ " النِّفَاقِ " مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّهُ فِي الشَّرْعِ إظْهَارُ الدِّينِ وَإِبْطَانُ خِلَافِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ أَخَصُّ مِنْ مُسَمَّى النِّفَاقِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ إظْهَارِ الدِّينِ. ثُمَّ إبْطَانُ مَا يُخَالِفُ الدِّينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ كُفْرًا أَوْ فِسْقًا. فَإِذَا أَظْهَرَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَأَبْطَنَ التَّكْذِيبَ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ الَّذِي أُوعِدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. وَإِنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ مُوفٍ أَوْ أَمِينٌ وَأَبْطَنَ الْكَذِبَ وَالْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَصْغَرُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فَاسِقًا. فَإِطْلَاقُ النِّفَاقِ عَلَيْهِمَا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ. وَعَلَى هَذَا؛ فَالنِّفَاقُ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مِثْلُ قَوْلِهِ {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} وَ {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وَالْمُنَافِقُ هُنَا: الْكَافِرُ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ النِّفَاقُ فِي فُرُوعِهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ} وَقَوْلُهُ {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا} وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: فِيمَنْ يَتَحَدَّثُ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ بِحَدِيثِ. ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَقُولُ بِخِلَافِهِ " كُنَّا نَعُدُّ هَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِفَاقًا " فَإِذَا أَرَدْت بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُهُ لِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مِثْلِ لَامِ الْعَهْدِ؛ وَالْإِضَافَةِ. فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاطِئًا كَمَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ: جَاءَ الْقَاضِي. وَعَنَى بِهِ قَاضِيَ بَلَدِهِ لِكَوْنِ اللَّامِ لِلْعَهْدِ. كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أَنَّ اللَّامَ هِيَ أَوْجَبَتْ قَصْرَ الرَّسُولِ عَلَى مُوسَى لَا نَفْسِ لَفْظِ " رَسُولٍ ". وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَإِنَّ تَخْصِيصَ هَذَا اللَّفْظِ بِالْكَافِرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِ اللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْعَهْدَ وَالْمُنَافِقُ الْمَعْهُودُ: هُوَ الْكَافِرُ. أَوْ تَكُونُ لِغَلَبَةِ هَذَا الِاسْمِ فِي الشَّرْعِ عَلَى نِفَاقِ الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا} يَعْنِي بِهِ مُنَافِقًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ إظْهَارُهُ مِنْ الدِّينِ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ. فَإِطْلَاقُ لَفْظِ " النِّفَاقِ " عَلَى الْكَافِرِ وَعَلَى الْفَاسِقِ إنْ أَطْلَقْته بِاعْتِبَارِ مَا يَمْتَازُ بِهِ عَنْ الْفَاسِقِ. كَانَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفَاسِقِ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ خَاصَّةً. وَيَكُونُ مُتَوَاطِئًا إذَا كَانَ الدَّالُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ غَيْرَ لَفْظِ " مُنَافِقٍ " بَلْ لَامُ التَّعْرِيفِ.

وَهَذَا الْبَحْثُ الشَّرِيفُ جَارٍ فِي كُلِّ لَفْظٍ عَامٍّ اُسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ إمَّا لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ لِدَلَالَةِ لَفْظِيَّةٍ خَصَّتْهُ بِذَلِكَ النَّوْعِ. مِثْلُ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ أَوْ تَعْرِيفِ اللَّامِ. فَإِنْ كَانَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ. وَإِنْ كَانَ لِدَلَالَةِ لَفْظِيَّةٍ كَانَ اللَّفْظُ بَاقِيًا عَلَى مُوَاطَأَتِهِ. فَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ " النِّفَاقُ " اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ. لِكَوْنِ اللَّفْظِ فِي الْأَصْلِ عَامًّا مُتَوَاطِئًا. وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النِّفَاقِ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَبَيْنَ مُطْلَقِ النِّفَاقِ فِي الدِّينِ. لِكَوْنِهِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ غَلَبَ عَلَى نِفَاقِ الْكُفْرِ.


__________ ,,, __________



بَحْثٌ ثَانٍ
وَهُوَ أَنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.

فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِحْسَانِ. وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ مَا بِهِ يَقَعُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَالْحَمْدُ يَكُونُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ. أَوْرَدَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ ابْنُ المنجا الْحَنْبَلِيُّ: أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ لِأَنَّ كَوْنَهُ يَقَعُ عَلَى كَذَا وَيَقَعُ بِكَذَا خَارِجٌ عَنْ ذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ فَرْقًا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْحُدُودِ إنَّمَا يَتَعَرَّضُ فِيهَا لِصِفَاتِ الذَّاتِ لَا لِمَا خَرَجَ عَنْهَا.

فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: - الْمَعَانِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُفْرَدَةٍ وَمُضَافَةٍ. فَالْمَعَانِي الْمُفْرَدَةُ: حُدُودُهَا لَا تُوجَدُ فِيهَا بِتَعَلُّقَاتِهَا. وَأَمَّا الْمَعَانِي الْإِضَافِيَّةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي حُدُودِهَا تِلْكَ الْإِضَافَاتُ. فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا. وَلَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا إلَّا بِتَصَوُّرِ تِلْكَ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَتَكُونُ الْمُتَعَلِّقَاتُ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهَا فَتَعَيَّنَ ذِكْرُهَا فِي الْحُدُودِ. وَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُعَلَّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتِمُّ ذِكْرُ حَقِيقَتِهِمَا إلَّا بِذِكْرِ مُتَعَلَّقِهِمَا. فَيَكُونُ مُتَعَلَّقُهُمَا دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهِمَا.

فَاعْتَرَضَ الصَّدْرُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. فَلَا يَكُونُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِمَا صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. فَإِنَّ الْمُتَعَلَّقَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ. وَالنِّسَبَ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ. لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْوُجُودِ.

فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: قَوْلُك: لَيْسَ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ. بَلْ قَدْ يَكُونُ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَيْسَ لِمُتَعَلِّقِ الْقَوْلِ مِنْ الْقَوْلِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ. ثُمَّ الصِّفَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: إضَافَةٌ مَحْضَةٌ. مِثْلُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَنَحْوِهَا. فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: هِيَ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ. وَالنِّسَبُ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ. وَالثَّانِي صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ مُضَافَةٌ إلَى غَيْرِهَا كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الْحُبَّ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْبُوبِ. فَالْحُبُّ مَعْرُوضٌ لِلْإِضَافَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِضَافَةَ صِفَةٌ عَرَضَتْ لَهُ؛ لَا أَنَّ نَفْسَ الْحُبِّ هُوَ الْإِضَافَةُ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا هُوَ إضَافَةٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ صِفَةٌ مُضَافَةٌ. فَالْإِضَافَةُ يُقَالُ فِيهَا: إنَّهَا عَدَمِيَّةٌ. قَالَ: وَأَمَّا الصِّفَةُ الْمُضَافَةُ فَقَدْ تَكُونُ ثُبُوتِيَّةً كَالْحُبِّ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: الْحُبُّ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. لِأَنَّ الْحُبَّ نِسْبَةٌ وَالنِّسَبَ عَدَمِيَّةٌ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا بَاطِلٌ. بِالضَّرُورَةِ. وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إرَادَةِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ. بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ. وَأَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَخْلُوقِ وَحُبُّهُ وَبُغْضُهُ فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالَ: إنَّهُ عَدَمِيٌّ.

فَأَصَرَّ ابْنُ الْمُرَحَّلِ عَلَى أَنَّ الْحُبَّ - الَّذِي هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إلَى الْمَحْبُوبِ - أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. وَقَالَ: الْمَحَبَّةُ: أَمْرٌ وُجُودِيٌّ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - الْمَحَبَّةُ هِيَ الْحَبُّ. فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَحَبَّهُ وَحَبَّهُ حُبًّا وَمَحَبَّةً. وَلَا فَرْقَ. وَكِلَاهُمَا مَصْدَرٌ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُمَا إذَا كَانَا مَصْدَرَيْنِ فَهُمَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ.

قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْكَلَامُ إذَا انْتَهَى إلَى الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَقَدْ انْتَهَى وَتَمَّ. وَكَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ أَمْرًا وُجُودِيًّا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ إنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْحُبِّ كَانَ هَذَا الْخُلُوُّ صِفَةً عَدَمِيَّةً. فَإِذَا صَارَ مُحِبًّا فَقَدْ تَغَيَّرَ الْمَوْصُوفُ وَصَارَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْحُبُّ. وَمَنْ يُحِسُّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ يَجِدُهُ كَمَا يَجِدُ شَهْوَتَهُ وَنُفْرَتَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَلَذَّتَهُ وَأَلَمَهُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ: أَنَّك تَقُولُ: أَحَبُّ يُحِبُّ مَحَبَّةً. وَنَقِيضُ أَحَبَّ: لَمْ يُحِبَّ. وَلَمْ يُحِبَّ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَنَقِيضُ الْعَدَمِ الْإِثْبَاتُ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِمْ: امْتَنَعَ يَمْتَنِعُ؛ فَإِنَّ نَقِيضَ الِامْتِنَاعِ: لَا امْتِنَاعَ. وَامْتِنَاعُ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الِامْتِنَاعُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ عَقْلِيٌّ؛ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ خَارِجِيٌّ. حَتَّى تَقُومَ بِهِ صِفَةٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ.

وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لَهُ ثُبُوتٌ عِلْمِيٌّ وَسَلْبُ هَذَا الثُّبُوتِ الْعِلْمِيِّ: عَدَمُ هَذَا الثُّبُوتِ؛ فَلَمْ يَنْقُضْ هَذَا قَوْلَنَا: نَقِيضُ الْعَدَمِ ثُبُوتٌ وَأَمَّا الْحُبُّ فَإِنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمُحِبِّ. فَإِنَّك تُشِيرُ إلَى عَيْنٍ خَارِجَةٍ وَتَقُولُ: هَذَا الْحَيُّ صَارَ مُحِبًّا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحِبًّا. فَتُخْبِرُ عَنْ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ. فَإِذَا كَانَ نَقِيضُهَا عَدَمًا خَارِجِيًّا كَانَتْ وُجُودًا خَارِجِيًّا. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَكَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً وُجُودِيَّةً مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا يُنَاظِرُ صَاحِبَهُ إلَّا مُنَاظَرَةَ السوفسطائية.

قُلْت: وَإِذَا كَانَ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْغَيْرِ: صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ. ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ إضَافَةٌ وَنِسْبَةٌ. وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُضَافَةٌ مَنْسُوبَةٌ. فَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الْحَمْدَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الشُّكْرُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتِمُّ فَهْمُ حَقِيقَتِهِمَا إلَّا بِفَهْمِ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ لَهُمَا الَّتِي هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَيْرِ. وَتِلْكَ الصِّفَةُ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِمَا. فَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُ أَحَدِهِمَا أَكْبَرَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْآخَرِ وَذَلِكَ التَّعَلُّقُ إنَّمَا هُوَ عَارِضٌ لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ لَهُمَا. وَجَبَ ذِكْرُ تِلْكَ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ فِي ذِكْرِ حَقِيقَتِهِمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْإِحْسَانَ امْتَنَعَ أَنْ يَفْهَمَ الشُّكْرَ فَعُلِمَ أَنَّ تَصَوُّرَ مُتَعَلَّقِ الشُّكْرِ دَاخِلٌ فِي تَصَوُّرِ الشُّكْرِ.

قُلْت: وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ هَذَا إلَّا أَمْرًا عَدَمِيًّا. فَالْحَقِيقَةُ إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ وُجُودٍ وَعَدَمٍ وَجَبَ ذِكْرُهُمَا فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ. كَمَا أَنَّ مِنْ عُرْفِ الْأَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَبٌ. فَإِنَّ تَصَوُّرَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْأُبُوَّةِ الَّتِي هِيَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ أَمْرًا وُجُودِيًّا. فَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُتَعَلِّقُ عَارِضًا لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ. فَلَا يُفْهَمُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ إلَّا بِفَهْمِ هَذَا الْمُتَعَلَّقِ. كَمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْأَبِ إلَّا بِفَهْمِ مَعْنَى الْأُبُوَّةِ الَّذِي هُوَ التَّعَلُّقُ. وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ أَمْرَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّعَلُّقُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمُسَمَّى. بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةَ لَمْ يَفْهَمْ الْحَمْدَ. وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْإِحْسَانَ لَمْ يَفْهَمْ الشُّكْرَ. فَإِذَا كَانَ فَهْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَى فَهْمِ مُتَعَلِّقِهِمَا فَوُقُوفُهُ عَلَى فَهْمِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى. فَإِنَّ التَّعَلُّقَ فَرْعٌ عَلَى الْمُتَعَلَّقِ. وَتَبَعٌ لَهُ. فَإِذَا تَوَقَّفَ فَهْمُهُمَا عَلَى فَهْمِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ. فَتَوَقُّفُهُ عَلَى فَهْمِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ أَمْرًا عَدَمِيًّا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: - قَوْلُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قَدْ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَعَامَّةُ أَنْوَاعِ الرِّبَا يُسَمَّى بَيْعًا. وَالرِّبَا - وَإِنْ كَانَ اسْمًا مُجْمَلًا - فَهُوَ مَجْهُولٌ. وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى فَيَبْقَى الْمُرَادُ إحْلَالُ الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبَا. فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ لَيْسَ بِرِبَا لَمْ يَصِحَّ إدْخَالُهُ فِي الْبَيْعِ الْحَلَالِ. وَهَذَا يَمْنَعُ دَعْوَى الْعُمُومِ. وَإِنْ كَانَ الرِّبَا اسْمًا عَامًّا فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْبَيْعِ أَيْضًا. فَيَبْقَى الْبَيْعُ لَفْظًا مَخْصُوصًا. فَلَا يَصِحُّ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ. وَهُنَا عمومان تَعَارَضَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ. فَإِنَّ صِيَغَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْلُومَةٌ. وَإِذَا كَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لَمْ يَمْنَعْ ادِّعَاءَ الْعُمُومِ فِيهِ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - هَذَا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ. وَتُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ وَلِي مِنْهَا هَذَا الْبَيْتُ. فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا هَذَا الْبَيْتُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَلَا تُكْرِمْ فُلَانًا وَهُوَ مِنْهُمْ. كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا فُلَانًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ رِبًا. فَمَنْ ادَّعَى بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا فَهُوَ مُخْطِئٌ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ بَيْعٍ لَا يُسَمَّى رِبًا.

قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا كَانَ الْمَقْصُودَ. وَلَكِنْ بَطَلَ بِهَذَا دَعْوَى عُمُومِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ دَعْوَى الْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُنَافِي دَعْوَى الْعُمُومِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ دُونَ بَعْضٍ. وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ. وَادَّعَى مُدَّعٍ. أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُمُومٌ مُرَادٌ.

فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَإِنَّ دَعْوَى أَنَّهُ عُمُومٌ مُرَادٌ: بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ الْبَيْعِ حَرَامٌ.

فَاعْتَرَضَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْرَادَ حَرُمَتْ بَعْدَمَا أُحِلَّتْ. فَيَكُونُ نَسْخًا.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: - فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا نُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَلَا بِقِيَاسِ. فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: رَجَعْت عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ لَكِنْ أَقُولُ هُوَ عُمُومٌ مُرَادٌ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا فِي الشَّرْعِ. فَإِنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ إلَى كُلِّ بَيْعٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْبَيْعُ لَيْسَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ؛ فَإِنَّ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ هُوَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيُّ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ اشْتَرَطَ لِحِلِّهِ وَصِحَّتِهِ شُرُوطًا. كَمَا قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَهُمْ شُرُوطٌ أَيْضًا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهِمْ. وَهَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ الْعُقُودِ مِثْلِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالنِّكَاحِ. إذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ: هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا. وَالنَّقْلُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا أَحْدَثَ الشَّارِعُ مَعَانِيَ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا. مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّيَمُّمِ. فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إلَى النَّقْلِ. وَمَعَانِي هَذِهِ الْعُقُودِ مَا زَالَتْ مَعْرُوفَةً.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: أَصْحَابِي قَدْ قَالُوا: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَوْ كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ. أَوْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ حَلَالٌ. وَهَذَا - مَعَ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ - فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ. فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ دُخُولَ بَيْعٍ مِنْ الْبُيُوعِ فِي الْآيَةِ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ. وَمَتَى عَلِمْنَا ذَلِكَ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: - مَتَى ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ يُسَمَّى بَيْعًا فِي اللُّغَةِ.

قُلْت: هُوَ بَيْعٌ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ وَإِذَا كَانَ بَيْعًا فِي الشَّرْعِ دَخَلَ فِي الْآيَةِ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الِاسْمَ مَنْقُولٌ أَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ. لَمْ يَصِحَّ إدْخَالُ فَرْدٍ فِيهِ. حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمَنْقُولَ وَاقِعٌ عَلَيْهِ. وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ فِي اللُّغَةِ صَلَاةً وَزَكَاةً وَتَيَمُّمًا وَصَوْمًا وَبَيْعًا وَإِجَارَةً وَرَهْنًا: أَنَّهُ يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا يُقَالُ: الْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ. بَلْ مَتَى ثَبَتَ النَّقْلُ فَالْأَصْلُ عَدَمُ دُخُولِ هَذَا الْفَرْدِ فِي الِاسْمِ الْمَنْقُولِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ بَعْدَ النَّقْلِ.

المصدر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11 / 135-155)

______________
(1) هكذا كتب العنوان في الفتاوى.

.