المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عمليات استئناف الفقه!! فالأمر أُنُف!!



أهــل الحـديث
25-06-2013, 06:10 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


عمليات استئناف الفقه!! فالأمر أُنُف!!

كذا!!

استئناف الفقه!!

نعم، وإن لم ينطقوا به حرفا فقد فعلوه عملاً، فالعملية أصحت واقعاً، وقد صار أوسع علوم الشريعة مختزلاً في إجراء عملية بناء مؤقتة، كلما عنَّت مسألة، ثم لا تلبث أن تتهاوى أمام أي عملية بناء جديدة، ولو كانت من المفتي نفسه، لأنه اليوم هو رجل، كما كان بالأمس رجلا، وليست رجولته اليوم بدون رجولته بالأمس، على وزن "هم رجال ونحن رجال".

أما المدارس الفقهية المعمورة، والمأهولة بالفقهاء والمصنفات، فقد غدت بيوتات قديمة،

أوراق صفراء بالية، عفى عليها الزمن، لا حاجة إلى السكنى فيها، فهي في سن الإياس، وقد انقطع عنها حبل الرجاء

هكذا، يسير جيل عريض اليوم من الدخلاء على هذا الفن، وليسوا من أهله، ولم يتكلفوا يوماً معالجة مسائله.

فالفقه مشواره طويل، وفروعه متشعبة، وخلافاته كثيرة، وكم قد انقطع الطلاب في مفاوز كتاب الطهارة، وقد انقطعت أنفاسهم دون بلوغ نهايته، حتى ظنوا أنه بساط ملفوف على كرة كلما انتهوا رجعوا وعادوا.

فكيف وقد استجدت الوقائع، وتعقدت الحوادث، فزادت الطين بلة، فلا الفقه القديم درسوا، ولا معقَّدات العصر عرفوا.

إذن فلنستأنف الفقه من جديد، وخلاص! ولِمَ التعب؟ فالمسألة فيها ثلاثة أقوال: الجواز أو التحريم أو التوسط، والراجح أحدها!.

الكلام على مسائل الفقه يضطر إليه كثير من الناس حتى من غير المتخصصين؛ لأنه مما تعظم حاجة الناس إليه، وتكثر في مسائله أسئلتهم، فيضطر المنتسب إلى علوم الشريعة إلى الخوض فيه، لكن دون ذلك مشواران طويلان معقدان:

الأول: دراسة كلام الفقهاء.

الثاني: دراسة ما استجد من مسائل العصر.

وكل مشوار منهما دون بلوغه انقطاع الأنفاس، فقد قصرت الهمم، وماتت العزائم، والله المستعان.

فما كان من جماعات عريضة من المتكلمين في شؤون الفقه ومسائله إلا الخوض فيه على طريقة الاستئناف، فالأمر أنف:

o فهذه المسألة المعقدة المركبة من عدة عقود، جائزة لأن الأصل في العقود الحل من غير تكلف النظر في تحليل العقد ومعرفة مكوناته، وما يرد عليه من الأوصاف المانعة من صحة العقود.

o والراجح في تلك المسألة القول الأول؛ لأن ما سواه من الأقوال لا دليل عليه.

o والصحيح في حكم هذه المنشأة أنها جارية على الأصول الشرعية لأنها تتفق ومقاصده.
وإذا استدلوا بكلام بعض الفقهاء أخذك العجب، فهذا يقول: هذا كلام الشافعي، وينقل كلامه مع أنه مذهب الأئمة الأربعة!.

والمتأمل في هذا التيار العريض المستأنف لعمليات الفقه من جديد من غير نظر إلى الأصول القديمة أو البناء على التراكم العلمي المدون في مصنفات المدارس الفقهية يجد ما يلي:

1- اتفاقهم في عدم المبالاة بالشذوذ والخروج عن الإجماعات القديمة المتوالية، وأن الإجماع هو فقط في المعلوم من الدين من الضرورة كوجوب الصلاة وتحريم الخمر، وما سوى ذلك فهو مسرح متغير!.
2- أن أنه لا يجد إلا الحكم الأخير للمسألة، الراجح، أو الصحيح، أو الباطل، أو التغليط أو الردود، ولا يجد لديهم عمقاً في النظر إلى المآخذ أو البحث عن الحلول أو البدائل، ومحاولة الإضافة، والترقي في مدارج الإصلاح.

3- أن أصحابه على طريقتين متباينتين إلى حدود واسعة إلى ما يشبه الأطراف البعيدة:
فالطريقة الأولى لعلميات استئناف:

هي استنباط الحكم الفقهي من خلال النظر المباشر إلى النصوص، من غير أي اعتبار لمجموع الاستنباطات أو الاطلاع على استنباطات الفقهاء والجواب عن إشكلات تعارض الاستنباطات.

فالتطيب بطيب النساء مثلاً يجوز ولو اجتمعت فيه جملة من أوصاف التحريم الحادثة، استدلالا برواية التطيب بيوم الجمعة ولو بطيب نسائه، وعدم قبول أي مناقشة أو اعتراض، لأن المسألة بحسب هؤلاء محسومة، ولا يمكن أن تتغير أو يحدث وصفاً جديداً إلى قيام الساعة، ولو انطبقت السموات والأرض فعادتا رتقا!.فالصورة التي وقع عليها النص واجبة الثبوت والاستمرار.

والمستفاد من الحديث إنما يكون بما يفيده النص بطريق مباشر من غير الخوض في تعقيدات الفقهاء وتراتيب الأصوليين.

وهؤلاء فيهم قرب شديد لأهل الظاهر في اعتبار أن النصوص بألفاظها قد استوعبت الوقائع والأحداث الماضية والمستقبلة.

كما أنك تجد عند هؤلاء تعظيم شديد لبعض المسائل التي اتصلت بالنص بسببٍ؛ كأن يكون داخلاً في عمومه، ولو كان من جنس النادر الذي يناقش الأصوليون حكمه بالنظر إلى عدم قصده، أو كان تعلقه بالنص عن طريق استنباط، مع أن المسألة قد تكون محتملة ولها موجبات أخرى أقوى مستفادة من معاني النصوص وإن لم يصرح فيها.

ثم تجد عند هؤلاء في المقابل سعة فيما لم يرد فيه نص صريح، أو كانت واقعة حادثة، مع أن دلائل النصوص عليها قد تكون في أقوى ما يكون من مراتب الدلالة.

لكن ضعفت المسألة عندهم لأن النص لم يصرح بحكمها في عين صورتها.

وهذا اتجاه ظاهري بجلاء، ولك أن تقول: نزعة ظاهرية متجذرة، ولكن غالب أصحابه لا ينتسبون إلى المدرسة الظاهرية وربما عابوا على ابن حزم جموده، وتندروا عليه في بعض أقواله.

وينتسبون بحسب الظاهر إلى المدرسة القياسية المقاصدية.

هذا من جهة الانتساب لكن عند التأمل في التطبيقات الفقهية تجد أن ما يثبتونه من القياس أو المقاصد إنما يكون من جنس ما صرح النص بمعناه، وهو ما أثبته بعض أهل الظاهر كالنهرواني والقاساني.

وأنهم في الغالب الكثير يقفون عند ظاهر النص مقتطعاً عن معناه، ومقتطعاً عن مجموع ما أفادته النصوص.

يؤكد ذلك طريقة تكوينهم العلمي عن طريقة دراسة العلم من الإفادة المباشرة من النص، وربما استغرقوا في دراسة الإسناد بما يكون معه الكلام في المتن حشواً بإزائه.

ومن الجدير بالذكر هنا أن أهل الظاهر القدامى كانوا في مقدم من اعتبر التراكم الفقهي، ولذا فقد تخرجوا كلهم عن طريق مدرسة الشافعي، وقصة داود مع إسحاق بن راهويه معروفة إذ دخل داود على شيخه إسحاق وهو يحتجم قال: فجلست، فرأيت كتب الشافعي، فأخذت أنظر، فصاح بي إسحاق: أيش تنظر ؟ فقلت: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) [ يوسف: 75 ]. قال: فجعل يضحك، أو يتبسم .([1])

كما أنك تجد أن أهل الظاهر القدامى كانوا يذكرون الأقوال ويتخيرون منها، أو يرجحون غيرها بحسب منهجهم لكنهم على أية حال لم يكونوا يغفلون كلام الفقهاء بل ذكروه ودرسوه، ونقلوا تفاريعهم وحججهم ثم بنوا على ذلك ما انتهوا إليه من أقوالهم.

أما ظاهرية اليوم فإنهم يجرون علميات استئناف جديدة من غير تكلف النظر في تفاريع الفقهاء، وإذا كان عامة أهل العلم أنكروا على أهل الظاهر شذوذاتهم، مع أنهم كانوا ينظرون في أقوال الفقهاء فكيف بمن لا يتكلف أصلا الاطلاع على كتب الفقهاء، وحظه منها الاستظراف بنوادرها.

وإنما هم في مرتبة "المجتهد المستقل" كأبي حنيفة والشافعي وأضرابهما:

"وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع!"

أما الطريقة الثانية لعمليات استئناف الفقه:

فهي استخراج الحكم عن طريق النظر إلى ملاءمته مع ما يفيده العقل الصحيح وما جاء عن مقاصد الشريعة الضرورية.

وهذه الطريقة:

تشبه طريقة المعتزلة في اعتبار العقل ومحاكمة النص على وفقه، وقد وقع الإجماع المنضبط على ذم هذه الطريقة وأصحابها.

وتشبه الاستحسان القديم المذموم، الذي أحياه هؤلاء اليوم بعد أن تحول الاستحسان القديم أثرا بعد عين إذ تبرأ منه أصحابه الذين نسبوا إليه من أهل الرأي وغيرهم.

وفات هؤلاء أن الشريعة تكليف من الله سبحانه: أوامر ونواهي، وأن البشر مأمورون بالانضباط فيها.

وفات هؤلاء أن للشريعة مقاصد خاصة في كل باب ينبغي مراعاتها، وأن للشريعة مقاصد خاصة في بعض أعيان المسائل.

وفات هؤلاء حرص الشارع وتشوفه إلى ضبط الناس.

وفات هؤلاء فقه أعيان المسائل التي صرحت النصوص بحكمها، ومحاولة فقه مأخذ الشريعة.

وفات هؤلاء أن الفقهاء قد اشتغلوا ببناء بعض الفنون الخاصة لضبط قانون الشريعة وبيان ما يظن أنه خرج عن مساره ككتب القواعد وكتب الوجوه والنظائر، وأن المسألة أكبر من الانحصار في معرفة مبادئ الشريعة العامة، فالكلام في تفاصيل الشريعة حسب حكم الشارع المفصل مصدره.

وأخيراً فإن عملية استئناف الفقه بنظري عملية خطيرة، وإن انجر في مساراتها المتعددة جماعات من أهل الفضل، ووجه خطورتها أمور، منها:

1- أنها تقتضي الخروج عن الإجماعات المستيقنة التي دونها فقهاء المسلمين في مصنفاتهم، وإن هذه الأمة قد حفظها الله أن يعزب الحق عن مجموعها أو أن تجمتع على باطل، ولا تزال هذه الأمة ظاهرة على الحق بحججها وبيناتها.

2- أنها مستلزمة إسقاط "علم الفقه المدون" بكافة أصنافه: المتون والشروح والتفريعات وكتب القواعد والوجوه والنظائر والاستثناء والفروق.
3- أنها تقتضي الخروج بنتائج سقيمة بسبب استقلالها الإنتاجي، بخلاف من اعتبر خلاف الفقهاء المدون، فإنه يمشي على رواسي وأعلام، والخلاصة التي يذكرها يمرِّرها على عقول وأذهان سبقته في تمحيصها، وقد يقوى بحثه فيصل إلى درجات متقدمة في الاستقراء والتتبع.
4- أنها تفقد الفقه مرونته وثراءه؛ إذ يصير نتاج رجل بعد أن كان نتاج أمة.
وأخيراً فأرجع عمليات استئناف الفقه المعاصرة إلى ثلاثة أسباب:

السبب الأول: قصور في العلم؛ فليس لديهم من الوقت ولا من الهمة ما يكفي للنظر في فقه القدامى المدون، ولا في تكييف المسائل المعاصرة، ولا مناص لهم من تجشَّم الكلام فيها.
السبب الثاني: خطأ في المنهج، وانحراف في مسلك التلقي.

السبب الثالث، وهو خاص بأهل الأهواء؛ إذ لهم النصيب الأوفى من عمليات استئناف الفقه، فهي توافق مشربهم وتلتقي ورؤيتهم: ما أشربته قلوبهم من الهوى، فضاقت ذرعاً بمحكمات النصوص، فأرادوا الانسلاخ منها ومن تقييدات أهل العلم، ليركبوا ما تشابه منها مما كان حمَّالاً ذا وجوه، والعود على محكمات النصوص بتعريتها من مضامينها عبر السياقات التاريخية والظروف الاجتماعية، والأحوال العينية، والإملاءات المرحلية، ليستوحوا للعصر نصه الخاص اللائق به في معزل عن النص القديم الذي انقضى بأهله.

وأخيراً: فهذا موضوع يعالج نطاقاً واسعاً من النتاج الفقهي المعاصر، وهو لا يبرر بحال عمليات التقليد المتجددة في قوالب معاصرة، فقد فرغ الأئمة من التحذير من الإفتاء بالمدون في الكتب، وأن كل فتوى فهي عملية اجتهاد جديدة مستأنفة في إنزال الحكم الشرعي على الوصف المعين.

فلا للتقليد الذي يدفع إلى تجميد الحركة الفقهية، ولا إلى إسقاط علم الفقه المدوَّن وإلغائه من قاموس "المسألة الفقهية"، وما أجمل أن نسير في قواعد الفقهاء ولا نجمد، وأن نعي المستجد المعاصر فنعد للأمر عدته.


([1]) سير أعلام النبلاء (13 / 98، 99). طبقات الشافعية الكبرى (2 / 285).
المرجع/
http://www.feqhweb.com/articles.php?do=view&ID=6&cat=29