تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مختصر رسالة «الرد على من اتبع غير المذاهب الاربعة» للإمام ابن رجب



أهــل الحـديث
19-06-2013, 03:30 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


عبدالله بن عيسى الفيفي

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛
فهذا اختصارٌ وتهذيب لرسالة الإمام ابن رجب الحنبلي الموسومة بـ (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) وقد صحّح نسبتها إليه المحدثُ يوسف ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب، وأهدفُ من خلالها إلى إثراء البحث في هذا الموضوع الذي اشتدّ الخلاف فيه منذ عقود، لا سيما وأني لم أرَ -حسب علمي- كبير عناية بها خصوصا من الخائضين في هذا الخلاف، بل كثيرٌ من الناس لا يعلم بأنّ للإمام رسالة بهذا العنوان، والرسالة تشتمل على مباحث لطيفة، وإجابات مهمة، وقد اجتهدت في استخراج لُبّها مع تصرّف يسير جدا لا يحيل المعنى.


يقول الإمام:
لا ريب أن الله تعالى حفظ لهذه الأمة دينها حفظاً لم بحفظ مثله ديناً غير دين هذه الأمة؛ وذلك أن هذه الأمة ليس بعدها نبي يجدد ما دثر من دينها كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده، فتكفل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، قال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ أمّته القرآن في زمانه على أحرفٍ متعددة؛ تيسيراً على الأمة لحفظه وتعليمه، حيث كان فيهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط؛ فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يُقرئهم سبعة أحرف؛ كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب وغيره.

ثم لما انتشرت كلمة الإسلام في الأقطار، وتفرق المسلمون في البلدان المتباعدة؛ صار كل فريق منهم يقرأ القرآن على الحرف الذي وصل إليه؛ فاختلفوا حينئذ في حروف القرآن اختلافاً كثيراً، فأجمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد عثمان على جمع الأُمة على حرفٍ واحد، خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلفت الأمم قبلهم في كتبهم، ورأوا أن المصلحة تقتضي ذلك، وحرقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف، وكان هذا من محاسن أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - التي حمده عليها علي وحذيفة وأعيان الصحابة.


وقد أنكر عمر على هشام بن حكيم بن حزام على عهد النبي - صلى الله عليه سلم - في آيه أشد الإنكار، وحصل لأبي ابن كعب بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشك، وبعض من كان يكتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يرسخ الأيمان في قلبه ارتد بسبب ذلك حتى مات مرتداً؛ هذا كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف الظن بالأمة بعده لو بقي الاختلاف في ألفاظ القرآن بينهم!

فلهذا ترك جمهور علماء الأمة بما عدا هذا الحرف الذي جمع عثمان عليه المسلمين، ونهوا عن ذلك، ورخص فيه نفر منهم، وحُكي رواية عن أحمد ومالك مع اختلاف عنهما على ذلك به في الصلاة وغيرها أم خارج الصلاة فقط؟

ثم حدث بعد عصر الصحابة قوم من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه وتعمدوا الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقام الله تعالى لحفظ السنة أقواماً ميّزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط وحفظوه أشد الحفظ، ثم صنّف العلماء التصانيف في ذلك، وانتشرت الكتب المؤلفة في الحديث وعلومه، وصار اعتماد الناس في الحديث الصحيح على كتابي الإمامين أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري - رضي الله عنها -، واعتمادهم بعد كتابيها على بقية الكتب الستة خصوصاً سنن أبي داود وجامع أبي عيسى وكتاب النسائي ثم كتاب ابن ماجه، ولم يقبل من أحد بعد ذلك الصحيح والضعيف إلا عمن اشتهر حذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعه عليه، وهم قليل جداً.

وأما سائر الناس: فإنهم يعملون على هذه الكتب المشار إليها، ويكتفون بالعزو إليها، وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام؛ فلا ريب أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اختلفوا في كثير من هذه المسائل اختلافاً كثيراً، وكان في الأعصار المتقدمة كل من اشتهر بالعلم والدين يفتي بما ظهر له أنه الحق في هذه المسائل، مع أنه لم يخلُ من كان يشذّ منهم عن الجمهور عن إنكار العلماء عليه، ثم قل الدين والورع، وكثر من يتكلم في الدين بغير علم ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل! فلو استمر الحال في هذه الأزمان المتأخرة على ما كان عليه في الصدر الأول بحيث أن كل أحدٍ يفتي بما يدعي أنه يظهر له أنه الحق؛ لاختلّ به نظام الدين لا محالة، ولصار الحلال حراماً والحرام حلالاً، وقال كل من شاء ما يشاء، ولصار ديننا بسبب ذلك مثل دين أهل الكتابين من قبلنا؛ فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث.

فصار الناس كلهم يعوّلون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرّر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله، حتى تُردّ إلى ذلك الأحكام ويُضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام، وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين، ولولا ذلك لرأى الناس العجاب، من كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثّاب.

فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه والتعويل دون الخلق عليه، ولكن بحمد الله ومنته انسد هذا الباب الذي خطره عظيم وأمره جسيم، وانحسرت هذه المفاسد العظيمة، وكان ذلك من لطف الله تعالى لعبادة وجميل عوائده وعواطفه الحميمة، ومع هذا فلم يزل يظهر من يدعي بلوغ درجة الاجتهاد، ويتكلم في العلم من غير تقليدٍ لأحد من هؤلاء الأئمة ولا انقياد، فمنهم من يسوغ له ذلك لظهور صدقه فيما ادّعاه، ومنهم من رُدّ عليه قوله وكُذّب في دعواه، وأما سائر الناس ممن لم يصل إلى هذه الدرجة فلا يسعه إلا تقليد أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائر الأمة.

فإن قال أحمق متكلف: كيف يحصر الناس في أقوال علماء متعينين، ويمنع من الاجتهاد أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين؟

قيل له: كما جمع الصحابة - رضي الله عنهم – الناس من القراءة بغيره في سائر البلدان؛ لما رأوا أن المصلحة لا تتم إلا بذلك، وأن الناس إذا تُرِكوا يقرؤون على حروف شتى وقعوا في أعظم المهالك؛ فكذلك مسائل الأحكام وفتاوى الحلال والحرام، لو لم تضبط الناس فيها بأقوال أئمة معدودين؛ لأدى ذلك إلى فساد الدين، وأن يعد كل أحمق متكلف طلبت الرياسة نفسُه من زمرة المجتهدين، وأن يبتدع مقالة ينسبها إلى بعض من سلف من المتقدمين؛ فربما كان بتحريف يُحرّفه عليهم كما وقع ذلك كثيراً من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالة زلة من بعض من سلف قد اجتمع على تركها جماعة من المسلمين؛ فلا تقتضي المصلحة غير ما قدره الله وقضاه من جمع الناس على مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين رضي الله عنهم أجمعين.


فإن قيل: الفرق بين جمع الناس على حرفٍ واحد من الحروف السبعة من أحرف القرآن وبين جمعهم على أقوال فقهاء أربعة، أن تلك الحروف السبعة كان معناها واحد أو متقارب والمعنى حاصل بهذا الحرف، وهذا بخلاف قول الفقهاء الأربعة؛ فإنه يجوز أن يتفقوا على شئ ويكون الحق خارجاً عنهم.

قيل: هذا قد منعه طائفة من العلماء، وقالوا إن الله لم يكن ليجمع هذه الأمة على ضلالة، وفي ذلك أحاديث تعضد ذلك، وعلى تقدير تسليمه؛ فهذا إنما يقع نادراً ولا يطلع عليه إلا مجتهد وصل إلى أكثر مما وصلوا إليه، وهذا أيضاً مفقود أو نادر، وذلك المجتهد على تقدير وجوده؛ فرضه اتباع ما ظهر له من الحق، وأما غيره ففرضه التقليد، وتقليد هؤلاء الأئمة سائغ بلا ريب.

فإن قيل: فهذا يُفضي إلى اتباع الأئمة على الخطأ.

قيل: لم تتفق الأمة على الخطأ، وأكثر ما يقع هذا - إن كان واقعاً - فيما قلّ وقوعه، وأما المسائل التي يحتاج المسلمون إليها عموماً؛ فلا يجوز أن يُعتقد أن الأئمة المقتدى بهم في الإسلام في هذه الأعصار المستطالة اجتمعوا فيها على الخطأ؛ فإن هذا قدح في هذه الأمة قد أعاذها الله منه.

فإن قيل: نحن نسلم منع عموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يفضي ذلك لأعظم الفساد، لكن لا نسلم منع تقليد إمام متبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين.

قيل: قد نبهنا على علة المنع من ذلك وهو أن مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نسب إليهم ما لم يقولوه أو فهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها وينبّه على ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة.

فإن قيل: فما تقولون في مذهب إمام غيرهم قد دون مذهبه وضبط وحفظ كما حفظ مذاهب هؤلاء؟

قيل: أولا: هذا لا يعلم وجوده الآن! وإن فُرض وقوعه الآن وسُلّم جواز اتباعه والانتساب إليه، فإنه لا يجوز ذلك إلا لمن أظهر الانتساب إليه والفتيا بقوله والذب عن مذهبه، فأما من أظهر الانتساب إلى بعض الأئمة المشهورين، وهو في الباطن منتسب إلى غيرهم معتقد لمذهب سواه؛ فهذا لا يسوغ له ذلك البتة، وهو من نوع النفاق والتقية.

فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم؟ وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلم كما تعلمنا، وهذا كثير موجود في كلامهم؟

قيل: لا ريب أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظاً وفهماً وكتابة ودراسة، وبكتاب آثار الصحابة والتابعين، دون كلام من بعدهم ومعرفة صحة ذلك من سقمه والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره، فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته كما أشار إليه الإمام أحمد، فقد صار علمه قريباً من علم أحمد؛ فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية ولا ارتقى إلى هذه النهاية ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير! كما هو حال أهل هذا الزمان، بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات، وإذا أردت معرفة ذلك وتحقيقه؛ فانظر إلى علم الإمام أحمد - رضي الله عنه – بالكتاب والسنة.

فإن أنت قبلت هذه النصيحة وسلكت الطريقة الصحيحة، فلتكن همتك: حفظ ألفاظ الكتاب والسنة، ثم الوقوف على معانيها بما قال سلف الأمة وأئمتها، ثم حفظ كلام الصحابة والتابعين وفتاويهم وكلامهم أئمة الأمصار، فإن حدثتك نفسك بعد ذلك أنك قد انتهيت أو وصلت إلى ما وصل إليه السلف فبئس ما رأيت، وإياك ثم إياك أن تترك حفظ هذه العلوم المشار إليها وضبط النصوص والآثار المعول عليها، تم تشتغل بكثير الخصام والجدال وكثرة القيل والقال، وترجيح بعض الأقوال على بعض الأقوال مما استحسنه عقلك، ولا تعرف في الحقيقة من القائل لتلك الأقوال. وهل هو من السلف المعتبر بأقوالهم أو من غير أهل الاعتدال.

وإياك أن تتكلم في كتاب الله أو في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بغير ما قاله السلف كما أشار إليه إمامك، فيفوتك العلم النافع وتضيع أيامك، فإن العلم النافع: إنما هو ما ضبط في الصدور، وهو عن الرسول أو عن السلف الصالح مأثور، وليس العلم النافع: أرأيت وأريت؛ نهى عن ذلك الصحابة ومن بعدهم ممن إذا اقتديت بهم فقد اهتديت، وكيف يصح لك دعوى الانتساب إلى الإمام، وأنت على مخالفته مصر ومن علومه وأعماله وطريقته تفر.

المصدر
http://sunnahway.net/node/2087