تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : العجلة أُمُّ الندامة!!



أهــل الحـديث
17-06-2013, 07:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.


العجلة أُمُّ الندامة!!

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن من علامات أهل الفضل والصلاح والنجاح أيها الأحبة الكرام، المسارعة إلى الطاعات والحرص على الخيرات والمسابقة في القربات، وهذا كله من أجل رفع من الدرجات ودخول الجنات بإذن رب الأرض والسموات،ولهذا أثنى عليهم رب البريات،فقال سبحانه:(أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) [المؤمنون :61]
قال أبو بكر الجصاص –رحمه الله- :"الخيرات هنا الطاعات يسارع إليها أهل الإيمان بالله، ويجتهدون في السبق إليها رغبة فيها، وعلما بما لهم بها من حسن الجزاء".أحكام القرآن للجصاص ( 5/93 )
ولكننا اليوم أيها الأفاضل بدل أن نقتدي بهؤلاء الأتقياء ونسير على طريق من سبقنا من الأصفياء، فنتعجل ونبادر في فعل الخيرات ونتحلى بالحلم و الصبر والأناة!،أصبح الكثير منا -إلا من رحم الله- يتعجل فيما يفضي إلى نشر العداوات وقطع الصلات وتفريق الأسر والجماعات وذلك بنشر الأخبار وإصدار الأحكام بلا تثبت واستعلام! وغير ذلك من أنواع وصور العجلة المذمومة.
يقول الصنعاني –رحمه الله- :"العجلة هي السرعة في الشيء، وهي مذمومة فيما كان المطلوب فيه الأناة محمودة فيما يطلب تعجيله من المسارعة إلى الخيرات ونحوها، وقد يقال لا منافاة بين الأناة والمسارعة فإن سارع بتؤده وتأن فيتم له الأمران، والضابط أن خيار الأمور أوسطها".سبل السلام(4/201)
مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا من هذا الداء العضال و المرض القتال وأخبرنا أنه منافي للإيمان وبين لنا أنه من تزيين وزخرفة الشيطان،فقال صلى الله عليه وسلم :" التأني من الله والعجلة من الشيطان". رواه أبو يعلى في مسنده (4256) من حديث أنس -رضي الله عنه- ، وحسنه الشيخ الألباني –رحمه الله- في صحيح الترغيب (1572)
قال المناوي –رحمه الله-:" التأني(من الله تعالى) أي: مما يرضاه ويثيب عليه (والعجلة من الشيطان ) أي:هو الحامل عليها بوسوسته، لأن العجلة تمنع من التثبت والنظر في العواقب".فيض القدير(3/184)
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"ولهذا كانت العجلة من الشيطان، فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعا من الشرور، وتمنعه أنواعا من الخير، وهي قرين الندامة، فقل من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة ".الروح (ص 25)
أيها الأحبة الكرام قد تنوعت -وللأسف- صور العجلة في أمور المسلمين اليوم، فمنهم من يتعجل في نقل الأخبار التي يسمعها دون أن يتأكد من صحتها! فترجع عواقب هذا الصنيع عليه مع الأيام ويصبح عرضة للطعن فيه والاتهام! ، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا،أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سمع".رواه مسلم (5)
قال ابن الجوزي –رحمه الله-:"(كذبا) أي: تكذيبا،وذلك لأن من حدث بكل ما سمع من غير أن يميز بين ما تقبله العقول مما لا تقبله،أو من يَصلح أن يسمع ما يحدث به ممن لا، نُسب إلى الكذب ".كشف المشكل الصحيحين ( 3/550)
يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- :"يعني أن الإنسان إذا صار يحدث بكل ما سمع من غير تثبت وتأن، فإنه يكون عرضة للكذب، وهذا هو الواقع ولهذا يجيء إليك بعض الناس يقولون: صار كذا وكذا، ثم إذا بحثت وجدت أنه لم يكن، أو يأتي إليك ويقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا بحثت وجدت لم يقل". شرح رياض الصالحين (6/185)
ومنهم! من يسرع في إلقاء الأحكام على الآخرين بعد كل خبر سمعه! دون أن يتريث ويتمهل! مع أن الباري جل جلاله أمر بالتأني والتثبت قبل الحكم على الناس، فقال سبحانه:(يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) [الحجرات:6]
قال الشيخ السعدي –رحمه الله- :"وهذا أيضا من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها،وهو أنه إذا أخبرهم فاسق (بنبأ)،أي:خبر أن يتثبتوا في خبره،ولا يأخذوه مجردا، فإن في ذلك خطرا كبيرا، ووقوعا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل،حكم بموجب ذلك ومقتضاه،فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببا للندامة،بل الواجب عند سماع خبر الفاسق، التثبت والتبين،فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق،وإن دلت على كذبه،كذب ولم يعمل به".تفسير السعدي (ص 800)
ومن الأحكام التي أصبحت تطلق عند بعض الرجال!ولا يلقون عند النطق بها بال ولا يتفكرون في عاقبة ذلك والمآل،هي لفظة "الطلاق" التي أصبحت وللأسف ألعوبة تجري على الألسنة!،بل أدت العجلة والاستهتار بها إلى تعليق بعض الأمور الدنيوية عليها،كأن يقول الرجل لنفسه أو لغيره امرأتي طالق إن حصل منك كذا أو إن فعلت أنا كذا! أو يقول لزوجته أنت طالق إن قمت بكذا! أو عملت كذا!مع أن الطلاق شأنه عظيم عند الله جل جلاله، لهذا يستوي في حكمه القاصد و الهازل،فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ والرجعة". رواه أبو داود (2149)،وحسنه الشيخ الألباني-رحمه الله-.
قال الإمام الخطابي –رحمه الله-:"اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل، فإنه مؤاخذ به،ولا ينفعه أن يقول كنت لاعباً أو هازلاً أولم أنو به طلاقاً،أو ما أشبه ذلك من الأمور". معالم السنن(3/243)
والبعض الآخر!يستعجل الإجابة إذا دعا ربه سبحانه الكريم،فإذا تأخرت عنه!لحكمة يعلمها الباري جل جلاله، أو لوجود مانع من إجابة الدعوات كالأكل من المحرمات وترك الطاعات!، فبدل أن يتوب ويستغفر ويتيقن أن كل شيء بقضاء الله وقدره ويستمر في الدعاء إلى أن يقضي الله أمر كان مفعولا!نراه يتضجر ويتضايق ويعترض ويقول في نفسه دعوت ولم يُستجب لي ! فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ ما لم يَعْجَلْ فيقول قد دَعَوْتُ فلا أو فلم يُسْتَجَبْ لي". رواه البخاري (5981) ومسلم (2735)
قال ابن بطال –رحمه الله- :" قال بعض العلماء : قوله : (ما لم يعجل ) يعنى يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه ، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق به الإجابة ، فيصير كالمبخل لربّ كريم ، لا تعجزه الإجابة ، ولا ينقصه العطاء ، ولا تضره الذنوب". شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/100)
أيها الداعي اعلم -وفقك الله- أن الكريم الحليم الذي أمرك بالدعاء ووعدك بالإجابة لن يضيع دعوتك وستجد ثمرتها بعون الله في الدنيا أو في الآخرة إذا توفرت فيها الشروط وانتفت عنها الموانع ،فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما من مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ ليس فيها أثم وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إلا أَعْطَاهُ الله بها إِحْدَى ثَلاَثٍ، إما أَنْ تُعَجَّلَ له دَعْوَتُهُ، وإما أَنْ يَدَّخِرَهَا له في الآخِرَةِ، وإما أَن يصرف عنه مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا"، قالوا: إِذاً نُكْثِرُ قال" الله أَكْثَرُ". رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 18) وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-في صحيح الترغيب (1633)
قال ابن الجوزي –رحمه الله- :" تأملت حالة عجيبة وهي أن المؤمن تنزل به النازلة فيعدو، ويبالغ، فلا يرى أثراً للإجابة.
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه، فإن كان راضياً بالأقدار، غير قنوط من فضل الله عز وجل، فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ لأن هناك يصلح الإيمان ويهزم الشيطان، وهناك تبين مقادير الرجال.
وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى:(حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) [البقرة :214]
وكذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً وطال الأمر عليه لم ييأس من الفرج فأخذ ولده الآخر ولم ينقطع أمله من فضل ربه:(أن يأتيني بهم جميعا)[يوسف:83].وكذلك قال زكريا عليه السلام:(ولم أكن بدعائك رب شقيا)[مريم:4]
فإياك أن تستطيل مدة الإجابة،وكن ناظراً إلى أنه المالك وإلى أنه الحكيم في التدبير والعالم بالمصالح، وإلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك،وإلى أنه يريد أن يرى تضرعك،وإلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك إلى غير ذلك،وإلى أنه يبتليك بالتأخير لتحارب وسوسة إبليس،وكل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله، وتوجب الشكر له".صيد الخاطر ( ص40)
أو يستعجل من الله جل جلاله النصر والتمكين على أعداء الدين، فيلقي نفسه في المهالك! دون مراعاة المصالح! أو حتى من أن يحقق الوسائل والأسباب المعينة على ذلك، قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)[ محمد :7]
قال الشيخ ابن باز –رحمه الله-:"فالله جل وعلا جعل للنصر أسبابا وجعل للخذلان أسبابا، فالواجب على أهل الإيمان في جهادهم وفي سائر شئونهم أن يأخذوا بأسباب النصر ويستمسكوا بها في كل مكان في المسجد وفي البيت وفي الطريق وفي لقاء الأعداء وفي جميع الأحوال.
فعلى المؤمنين أن يلتزموا بأمر الله،وأن ينصحوا لله ولعباده،وأن يحذروا المعاصي التي هي من أسباب الخذلان،ومن المعاصي التفريط في أسباب النصر:الأسباب الحسية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها،كما أنه لا بد من الأسباب الدينية،فالتفريط في هذا أو هذا سبب الخذلان". مجموع الفتاوى(18/383)
فهذه بعض الصور أيها الأحبة الكرام التي نرى وللأسف أن الاستعجال يكثر فيها بين الكثير من المسلمين دون المبالاة بالنتائج والعواقب، فعلينا جميعا أن نكون من المسارعين في الخيرات وأن نتحلى بالرفق والتأني في كل الأوقات، وأن نحذر من العجلة المذمومة في شؤوننا كلها لأنها أخطارها جسيمة وعواقبها وخيمة، وعلينا أن نعلم أن الغالب من تمهل سلم ومن تعجل ندم.
يقول بعض الحكماء:" إياك والعجلة فإن العرب كانت تكنيها أمَّ الندامة ؛ لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم،ويجيب قبل أن يفهم،ويعزم قبل أن يفكر ، ويقطع قبل أن يُقدر ، ويَحمَدُ قبل أن يجرّب،ويذمّ قبل أن يَخْبُر،ولن يصحب هذه الصفَةَ أحدٌ إلا صحب الندامة،واعتزل السلامة".زهر الآداب للقيرواني(2/257)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا وإياكم حسن الأخلاق ومن ذلك التأني و الحلم في أمورنا ويُبعد عنا شرورها ومن ذلك الغضب والاستعجال فهو سبحانه الكبير المتعال.


وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


أبو عبد الله حمزة النايلي