المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مَرْوِياتْ الإِمَامْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرْ بَينْ التَدْليّس والإِرسَالِ الخَفيّ



أهــل الحـديث
16-06-2013, 10:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




المُقَدِمةَ

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِالله من شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَما بَعد.
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ محَمَّدٍ صَلى الله عليه وسلم ، وَشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ .
إِن ما كَان مِنْ أهميةِ هذا العلمِ وعظيمِ شأنهِ وكونهُ السَد ُّ المَنيع والحصينُ الحَصين وإعلم أن أصعب العُلومِ هُو عِلمُ العِللّ لِما فيه مِنْ الغُموضْ فكَانَ لِزاماً عَلى أهل العلمِ أن يحفظوا هذا الدين ويَرفعوا لِواءهُ عالياً في عَنان السَماء وذلك من خَلالِ جَمْعِ مَا تَنَاثَرَ من تَعْلِيلاتٍ ، وَدِرَاسَتِهَا دِرَاسَةً عِلْمِيَّةً ، تُبَيِّنُ الرَّاجح من المَرْجُوحِ، وَتُبَيِّنُ مَنَاهِجَ العُلَمَاءِ السَّابِقِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِيهِ .
وأما ما قد بلغ مِنْ الصُعوبة والمشقةِ في إدراكِ الإنسانِ خَبايا أسرارها ولَمْ يَطَلِع على خَفاياهُ وتِلكَّ الأسرار تُمكِنُكَ مِنْ الحُكمِ على الأحاديثِ والبَحثِ فيها والتَعليل ومَعرفةِ سَقيمِ الأخبار وصحيحها والتميز بَين الاختلاف وعدمهِ بين الرُواةِ في الحَديث ولا يكون هذا الأمر إلا مِنْ خلال جمع الرواياتِ وتحقيقها مِنْ أحاديث مَنْ تَدور عليهم الأسانيد مِنْ الرُواةِ المَشهورينِ بين الأمصارِ ومَعروفينَّ بالإمامةِ والوثاقةِ بَين الأئمةِ الأعلام ! وليس عَددهم بالقليل إلا أنا لابد مِنْ الوقوفِ على شيءٍ مِنْ مَروياتِ الأعلام المَشهورين والأثباتِ المُوثقين مِنْ الأئمةِ سابقاً ولاحقاً ومَعروفاً بالدين والأمانةِ في الرواياتِ ! .
قَال الإِمام ابن المَديني في العِلل (ص36) : (( نظرت في الأصول من الحديث ، فإذا هي عند ستَّة ممن مضى :-
فلأهل المدينة : ابن شهاب ، ولأهل مكة : عمرو بن دينار ، ولأهل البصرة : قَتادة ويحيى بن أبي كثير ، ولأهل الكوفة : أبو إسحاق عمرو بن عبد الله وسليمان بن مهران )) .
فبجمع الأحاديث المعلَّة لهؤلاء الأئمة ، يمكن للمرء أن يحيط بأكثر الأحاديث المعلَّة التي ذكرها العلماء في كتبهم ، وتناثرت فيها .
وقد اخترت أحد الأئمةِ الأعلام والشُهبِ العالياتْ الثقة الثبت الإمام يحيى بن أبي كثير ليكون مبحثنا ودِراسةً لهُ ولتَدليسهِ مَعْ المَرويات ، وقد رأيت الشيخ عادل الزرقي في كتابه مَرويات قتادة ويحيى بن أبي كثير المعلة في علل الدارقطني ، وقد أجاد – سدده الله – في دِراسةِ تِلك المَرويات وأحسن وبينَّ فجزاه الله تعالى كُل خيرٍ ونفع بهِ ، وإنا رأينا أن نسير على خُطةٍ مُتناسقةٍ في دِراسةِ حَال الإمام يَحيى بن أبي كَثير على النَحو التَالي :
· الباب الأول : تَرجمةٌ مُوسعةٌ للإمامِ يحيى بن أبي كثير وهذا على عدةِ فُصولٍ – بإذن الله – وهي على النَحو التَالي :
1. إسمه ونسبه .
2. شُيوخه .
3. تَلاميذه .
4. ثَناءُ العُلماء عليه .
5. مَنْ وصفهُ بالتدليس .
6. وفاتهُ .
· البَاب الثاني : دِراسةُ حَديثيةُ للتَدليس والإرسال الخَفي وبَيان مُصطلحات الأئمةِ في التَدليس وإطلاقهم إياهُ على الإرسال الخَفيّ .
· البَاب الثَالث : دِراسةُ تَدليس يحيى بن أبي كثير وطَبقتهُ فيهِ وتَرجيحُ ما إن كان مِنْ المُدلسين أم أنهُ بريءٌ مِنْ التَدليس وفيه :
1. دِراسةُ أقوال الأئمةِ الذين قَالوا بتَدليس يَحيى بن أبي كثير .
2. دِراسةُ أحاديثهِ عَنْ الصحابي الجَليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – وفيه تَرجيحٌ لسماعه مِنْهُ مِنْ عدمهِ إن شاء الله تبارك وتعالى .
3. شيوخ الإمام يحيى بن أبي كثير المتكلم في سماعه مِنهُم
4. الكَلام على مَرتبة تَدليس يحيى بن أبي كثيرٍ – رحمه الله – عند أهل العلمِ والمُحدثين وستكونُ خلاصة ما خرجتُ بهِ مِنْ الفصول الثلاثة الأولى .
5. مُرسلات الإمام يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – ودرجتها
الباب الأول : تَرجمةٌ مُوسعةٌ للإمامِ يحيى بن أبي كثير وهذا على عدةِ فُصولٍ – بإذن الله – وهي على النَحو التَالي :
1. اسمه ونَسَبه :
قَال الأصبهاني في رجال مُسلم (2/348) : (( يحيى بن أبي كثير اليمامي الطَّائِي كنيته أَبُو نصر وَاسم أبي كثير صَالح بن المتَوَكل وَيُقَال يسير وَيُقَال يسَار وَيُقَال نشيط من أهل الْبَصْرَة سكن الْيَمَامَة وَيُقَال اسْم أبي كثير دِينَار وَهُوَ مولى لطي كَانَ بصريا وانتقل إِلَى اليمامة )).
وفي كِنيته أخرج ابن سعد في الطَبقات الكُبرى (6/78) : (( قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْيَمَامِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ عَمِّي نَصْرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَبِهِ كَانَ يُكْنَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْيَمَامِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ يكنى أبا أيوب )) أهـ .
2. شُيوخه الذين حَدث عَنْهُمْ:
قال الإمام ابن حبان في الثقات (7/591) : (( أبي سَلمَة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ وَعبد اللَّه بن أَبى قَتَادَة )) وقال أبي بكر الأصبهاني في رجال مُسلم (2/348) : (( روى عَن أبي قلَابَة عبد الله بن زيد فِي الْإِيمَان وَالْحُدُود .. و غَيرهمَا وهلال بن أبي مَيْمُونَة وَأبي نَضرة وعبيد الله بن مقسم فِي الْجَنَائِز وَمُحَمّد بن عبد الرحمن مولى بني مهرَة فِي الصَّوْم وَعمر بن الحكم بن ثَوْبَان فِي الصَّوْم وَأبي سعيد مولى الْمهرِي فِي الْحَج ويعلى بن حَكِيم فِي الطَّلَاق وَيزِيد بن نعيم فِي الْبيُوع وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله بن قارظ فِي الْبيُوع وَيحيى بن أبي إِسْحَاق فِي الْبيُوع وَعقبَة بن عبد الغافر فِي الْبيُوع وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث فِي الْبيُوع واللباس وَالْأَوْزَاعِيّ فِي الْهِبَة وبعجة الْجُهَنِيّ فِي الضَّحَايَا وَأبي كثير يزِيد بن عبد الرحمن فِي الْأَشْرِبَة وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة فِي الْأَدَب )) أهـ .
قَال المَزي في تَهذيب الكَمال (31/504) : ((رَوَى عَن: إِبْرَاهِيم بن عَبد الله بن قارظ (م د ت) . ويُقال: عَبد الله بْن إِبْرَاهِيم بْن قارظ، وعن إِسْحَاق بْن عَبد اللَّهِ بْن أَبي طلحة. (خ م س) ، وأنس بْن مَالِك (س) وقد رآه، وباب بْن عُمَير الحنفي (د) ، وبعجة بْن عَبد الله بن بدر الجهني (خ م مد ت س) ، وثابت ابن أَبي قتادة الأَنْصارِيّ، وثمامة بْن كلاب (س) ، ويُقال: كلاب ابن علي (س) ، وجابر بْن عَبد اللَّهِ (مد) مرسل، والحضرمي بْن لاحق (د س) ، وحفص بْن عُبَيد الله بْن أنس بْن مَالِك (خ) ، والحكم بْن مينا (ق) ولم يسمع منه، وحية بْن حابس التَّمِيمِيّ (بخ ت) ، والربيع بْن مُحَمَّد (د) ، وزيد بْن سلام بْن أَبي سلام الحبشي (بخ م ت س) ، والسائب بْن يَزِيد، وسُلَيْمان بْن يسار، وضمضم بْن جوس الهفاني (ع) ، وعامر العقيلي (ت) ، وعَبد الله بْن أَبي قتادة (ع) ، وعَبْد اللَّهِ بْن معانق الأشعري (ق) ، وعبد الله بْن يزيد (د) مولى الأسود بن سفيان، وعبد الحميد بن سنان (دس) ، وعبد الرحمن بْن عَمْرو الأَوزاعِيّ (م) ، وهُوَ أصغر منه، وعُبَيد اللَّه بْن مقسم (خ م د س) ، وعروة بْن الزبير (ت ق) ولم يسمع منه، وعطاءابن أَبي رباح (س ق) ، وعقبة بْن عبد الغافر (خ م س) ، وعكرمة. مولى ابْن عباس (خ 4) ، وعياض بْن هِلال (4) ، ويُقال: هلال ابن عياض (د س) ، وقيس ن طهفة (ق) على خلاف فيه، ومحمد ابن إبراهيم بن الحارث التَّيْمِيّ (خ م س) ، ومُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم (س) ، ويُقال: يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم (س) ، ومُحَمَّد بْن الزبير الحنظلي (س) ، ومحمد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بن ثوبان (خ 4) ، ومحمد ابن عَبْد الرحمن بْن سعد بْن زرارة الأَنْصارِيّ (خ د سي ق) ، ومحمد ابن عبد الرحمن مولى بني زهرة (م) ، ومحمود بْن عَمْرو الأَنْصارِيّ (د س) ، ونافع مولى ابْن عُمَر (س) ، وهلال بْن أَبي ميمونة (خ م د س) ، ويحيى بن إسحاق بن أخي رافع بْن خديج (ت سي) ، ويحيى بْن أَبي إِسْحَاق الحضرمي (م) ومات قبله، ويزيد بْن نُعَيْم بْن هزال الأَسلميّ (م د س) ، ويَعْلَى بْن حكيم (خ م س ق) ويعيش بْن الوليد بْن هشام (ت س) ، وأبي إِبْرَاهِيم الأشهلي (ت س) ، وأَبِي أُمَامَة الباهلي (م) مرسل، وأبي جَعْفَر الأَنْصارِيّ المؤذن (بخ د ت سي ق) ، وأبي حفصة مولى عَائِشَة. (س) ، وأبي سَعِيد مولى المهري (م ت س) ، وأبي سلمة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف (ع) ، وأبي سلام الحبشي (بخ ت س ق) ، وقيل لم يسمع منه، وأبي شيخ الهنائي (س) ، وأبي طعمة (س) ، وأبي قلابة الجرمي (ع) وأبي كَثِير السحيمي (م د س) ، وأبي مزاحم المدني (ت) ، وأبي النجاشي (س) مولى رافع بْن خديج، وأبي نضرة العبدي (م) )) .
3. تَلاميذهِ ومَنْ حدثوا عَنهُ :
قَال المَزي في تَهذيب الكَمال (31/504) : ((رَوَى عَنه: أبان بْن بشير المعلم، وأبان بْن يَزِيد العطار (خت م د ت س) ، وأيوب بْن عتبة قاضي اليمامة (ق) ، وأيوب بْن النجار (خ م س) ، وأيوب السختياني (م) وهو من أقرانه، وبشير بْن رافع أَبُو الأسباط (بخ د ت) ، وجرير بْن حازم، وجهضم بْن عَبد اللَّهِ بْن أَبي الطفيل اليمامي (ت) ، وحجاج بْن أَبي عثمان الصواف (م 4) ، وحرب بْن شداد (خ م د ت س) ، وحسين المعلم (خ م د ت س) ، وسَعِيد بْن يُوسُف الرحبي (مد) ، وسُلَيْمان بْن أرقم (د ت س) ، وشيبان بْن عَبْد الرَّحْمَنِ النحوي (خ م س) ، وصالح بْن رستم أَبُو عامر الخزاز (س) ، وعباد بْن كَثِير الثقفي (ق) ، وعبد اللَّه بْن بِشْر الرَّقِّيّ (س) ، وعبد الله بْن محرر، وابنه عَبد اللَّهِ بن يحيى ابن أَبي كثير (خ م مد) ، وعبد الأعلى بْن أعين (ق) ، وعبد الرحمن ابن عَمْرو الأَوزاعِيّ (ع) ، وعبيس بْن ميمون، وعكرمة بن عمار اليمامي (خت م د ق) ، وعلي بْن الْمُبَارَك (ع) ، وعُمَر بْن راشد اليمامي (ت ق) ، وعُمَر بن عَبد اللَّهِ بن أَبي خثعم (ت ق) ، وعِمْران القطان (خت ت) ، ومبارك بْن سَعْد اليمامي (س) ، ومسمع بْن عربي، ومعاوية بن سلام بن أَبي سلام (ع) ، ومَعْمَر بْن راشِد، (خ م د ت س) ، وموسى بْن خلف العمي (بخ) ، وهشام بْن حسان(ق) ، وهشام الدستوائي (خ م س) ، وهمام بْن يَحْيَى (خ م) ، ويحيى بْن سَعِيد الأَنْصارِيّ وهُوَ من أقرانه، ويحيى بْن عَبْد الْعَزِيزِ الأردني (بخ) وكَانَ من علية اصحابه، وأَبُو إِسْمَاعِيل القناد (ت س) وهُوَ آخر من روى عنه )) أهـ .
4. مَنْ وثقهُ مِنْ الأئمةِ والأعلامْ وثناؤهم عليه .
قَال أيوب السَّختياني التَاريخ الكَبير (8/ت3087) : (( مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل ، عن وهيب بن خالد: سمعت أيوب يَقُول: مَا بقي على وجه الأرض مثل يَحْيَى بْن أَبي كثير )) .
وقال أيضاً في المَعرفة والتاريخ (1/621) : (( قَال علي ابْن الْمَدِينِيّ، عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة: قال أيوب مَا أعلم أحدا بعد الزُّهْرِيّ أعلم بحديث أهل المدينة من يحيى ابن أَبي كَثِير )) .
ونَقل المَزي في التَهذيب (31/504) : ((قَال المنذر بْن شاذان المقرئ، عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل: قال أيوب السختياني: مَا أعلم أحدا بالمدينة بعد الزُّهْرِيّ أعلم من يَحْيَى بْن أَبي كَثِير )) .
وقَال شُعبة في التَهذيب (31/504) : (( قَال أَبُو بَكْر بْن أَبي الأسود ، عن يَحْيَى بْن سَعِيد القطان: سمعت شُعْبَة يَقُول: يَحْيَى بْن أَبي كَثِير أحسن حديثا من الزُّهْرِيّ )).
وأخرج أيضاً في البَاب نفسه (( قَال مُحَمَّد بْن سَعِيد المقرئ ، عَنْ عَبْد الرحمن بْن الحكم بْن بشير بْن سلمان، كَانَ شُعْبَة يقدم يَحْيَى بْن أَبي كَثِير على الزُّهْرِيّ )) .
ونقل المَزي في تهذيبه (31/504) : (( قَال عَبد الله بْن أحمد بْن حنبل ، عَن أبيه: يحيى بْن أَبي كثير من أثبت الناس، إنما يعد مع الزُّهْرِيّ ويحيى بْن سَعِيد، فإذا خالفه الزُّهْرِيّ فالقول قول يَحْيَى بْن أَبي كَثِير )) ، وقال العجلي في الثِقات كما نقل المَزي في تَهذيبهِ (31/504) : (( ثقةٌ كان يُعد مِنْ أصحاب الحَديث )) أهـ . قُلت : صدق والله فهو مِنْ المُكثرين .
قَال أبو حاتِمْ الرَازي في الجرح (9/ت599) : (( إمامٌ لا يحدثُ إلا عَنْ ثقةٍ )) .
وقال ابن حبان في الثقات (7/591) : (( كَانَ من العباد، إذا حضر جنازة لم يتعش تلك الليلة ولا يقدر أحد من أهله يكلمه )) .
قال الإمام الحافظ الذهبي في ميزانه (4/402) : (( قلت هو في نفسه عدل حافظ، من نظراء الزهري، وروايته عن زيد بن سلام منقطعة؛ لأنها من كتاب وقع له" )) .
وفي شرح العلل لابن رجب (1/444) : ((كان أحد الأئمة الربانيين، والحفاظ المتقنين )).
وقال الحافظ في التهذيب (11/268) : (( متفق على توثيقه، أخرج له الجماعة )) .
وقال الذهبي في السير (6/27) : (( كَان طَلابةً للعلم حُجة )) .
سؤالات الإمام أبو داود للإمام أحمد (1/324) : (( سَمِعت أَحْمد يَقُول يحيى بن أبي كثير ثِقَة مَأْمُون ، وَسمعت أَحْمد ذكر [هـ] مرّة أُخْرَى فَقَالَ بخ بخ نقي الحَدِيث جدا ، وَجعل يطريه قَالَ أَحْمد لَا نكاد نجد فِي حَدِيثه شَيْئا )) .
وقال الزركلي في الأعلام (8/150) : (( وكان من ثقات أهل الحديث، رجحه بعضهم على الزهري )) ، قُلت : ليت شعري أمثلهُ وقد رجح على الزهري لا يقبل منه إلا ما قد صرح به بالسماع في الرواية ، وإنا لنبرأ مِنْ ذلك فمثله محتملٌ لأنه بريءٌ مِنْ التدليس كما سيأتي .
هذهِ هي ثلةٌ مِنْ الأقوال التي ثبت لدينا فيها الثناء والتوثيق للإمام يحيى بن أبي كثير دُون التطرق لمسألة التَدليس أو أن وصفهُ أحدٌ بذلك ، وإن قال قائلٌ قُلتم سابقاً أن التَوثيق لا ينافي أبداً التدليس وهذا ليس بمحلٍ للخلاف ولا أنكرُ ذلك أبداً وإنما نحنُ هُنا لنثبت أن المرتبة التي هُو فيها ليست مرتبةً تُوجب إسقاط الرواية بالمُطلق ! أو أنه لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع ممَّنْ فوقهُ ، كحال الوليد بن مُسلم الدمشقي انَّ ما نخلص إليه هو أن رجلاً بمثل سعة روايته وكثرة مروياته وإطلاعهِ لا يمكنُ أن يكون في المرتبة الثالثة مِنْ المُدلسين بل بريءٌ من وصمة التدليس القبيح والذي لا يقبل فيه إلا ما قد صرح بالسماع ، بل بالجملة لا يكون مُدلساً بل مُكثراً مِنْ الإرسال الخفي ، وهذا هو المُرجح لدينا لما سنرى في الأبواب القادمة إن شااء الله ، وهذا إن دل فعلى إمامته وسعة روايتهِ وأنه مِنْ أقران الإمام محمد بن شهاب الزهري ، والقولُ إذا وقع الإختلاف بينهُ وبين يحيى فالقول قول يحيى بن أبي كثير – رحمهم الله – فمثلهم قال بإمامته وروايته ووثاقته وسعة اطلاعه .
فالقدح في رواية المدلس لا يكون إلا في روايته وليس قادحاً في عدالتهِ مُطلقاً وإن الصريح في أنه قادحٌ في مروياته التي ثبت فيها أنه قد دلس ! وإن لم يقع هذا فإمامٌ ثبتٌ مشهورٌ ومعروف الرواية لا يضرهُ ان يضع في المرتبة الثالثة لأن تدليسه لا يعد شيئاً في سعة ما روى مِن الأحاديث وإمامته التي وقع عليها الإتفاق ، وكما أسلفنا فقد قال بعضهم مُتفقٌ على وثاقتهِ ، وقال الإمام أحمد أن قوله مقدمٌ على قول الإمام الزهري ! ، وهذا يدل على سعة ما روى الإمام يحيى بن أبي كثير اليمامي – رحمهم الله – ولو وقع التدليس منه فقد قال ابو حاتم : (( لا يروي إلا عَنْ ثقة )) وهو بريءٌ مِنْ وصمة التدليس الذي لا يقبل منهم إلا ما صرح به بالسماع ، وهو مِنْ الذين احتمل الأئمة مروياتهم إما لإمامتهم أو قلة تدليسهم أو أنهم لا يدلسون إلا عن ثقة ، وله في الصحيح قرابة 136 روايةً قد أخرجها له أرباب الصحيحين وصنيعهم يدل على أنهم لا يبحثون في سماعات يحيى بن أبي كثير وهذا إن دل على شيء فعلى براءة يحيى بن أبي كثير مِنْ التدليس المذموم خصوصاً وبالأدق فيما يرويه عَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه وقد رأيت الحافظ ابن حجر العسقلاني يذكره في المرتبة الثانية مِنْ المُدلسين ، فقال في كتابه المعروف تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس (ص29/ت63) : (( حافظٌ مشهور ، كثير الارسال ، ويقال لم يصح له سماعا من صحابي ، ووصفه النسائي بالتدليس )) ، إلا أنه جعله في المرتبة الثالثة مِنْ المدلسين في كتابه النكت على ابن الصلاح (2/643) .
وهذا لا نسلم به للحافظ ابن حجر في النُكت إن الصحيح في هذا أن الإمام يحيى بن أبي كثير بريءٌ مِنْ وصمة التدليس وأن أول مَنْ قال بهِ مُدلساً هو الإمام النسائي ولذلك فأن احتجاج الإمامين الشيخين الحافظين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ومُسلم في الصحيح بيحيى بن أبي كثير - رضي الله عنهما - بأحاديث كثيرةٍ قد عنعن فيها ! لو كان يحيى في المرتبة الثالثة كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ! ومَنْ احتج بقولهِ فحريٌ به ردُّ كثيرٍ مِنْ الأخبار التي لم يصرح بها يحيى بن أبي كثير – رحمه الله - في الصحيحن بالسماع بل عنعن فيها ! ويتضحُ مِنْ فعل الشيخين - رضي الله عنهما - ومنهجهما هو أصح المناهج في نقد السنة أنهم احتجا بيحيى بن أبي كثير مع أنه قد عنعن في الصحيحن ! وقد احتج به ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما ! ممن لهم شرطٌ قويٌ في رواية المدلس وقد عنعن في روايته في الصحيح ! فإن كان ممن لا يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع فما قول مَنْ سار على قول ابن حجر - رضي الله عنه - بما رواهُ مُعنعناً في الصحيحن واحتج به أربابه فكيف يُتهم بالتدليس وهذه التُهمة براءٌ مِنْها الإمام يحيى بن أبي كثير وليس في المرتبة التي تقتضي أن يصرح بالسماع فيما يحدث بهِ وقد رأينا الأئمة وصنيعهم في مرويات يحيى أنهم يحملونها على الاتصال ، وهذا إن دل على شيء فعلى أمنهم وإطمئنان القلب لروايات يحيى بن أبي كثير وأنه بريء مِنْ وصمة التدليس ، والصحيح أنه كان يكثر مِنْ المرسل الخفي لا التدليس الذي يقصد به الرواة ايهام السماع ، لأن روايته معلومٌ عند أهل الصنعة أنها عمَّن لقيه مالم يسمعهُ ، وأكثر عبارات الأئمة على أن التدليس قد يراد به الإرسال الخفي وكان كثيرٌ مِنْهُمْ يطلق هذا اللفظ على الإرسال الخفي كالبخاري وابن حبان وأبو داود وغير واحدٍ مِنْ الأئمة كما سيأتيك البيان .
وقال الإمام ابن معين في تاريخه رواية الدوري (4/180) : ((قَالَ يحيى لَيْسَ أحد فِي يحيى بن أبي كثير مثل هِشَام الدستوَائي وَالْأَوْزَاعِيّ وَعلي بن الْمُبَارك بعد هَؤُلَاءِ )).
وقال الإمام أحمد في الكامل (1/173) : (( أَخْبَرنا زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، حَدَّثني أَحْمَدُ بْنُ مُحَمد، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَذَكَرَ أَصْحَابُ يَحْيى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، فَقَالَ: هِشَامٌ يَرْجِعُ إِلَى كِتَابٍ، وَالأَوْزَاعِيُّ حَافِظٌ، وَذَكَرَ غَيْرَهُمَا )) ، وأيضاً عند ابن عدي : (( سَمِعْتُ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيَّ يَقُولُ: سَمعتُ أَبَا زُرْعَة الدِّمَشْقِيَّ يقولُ: سَألتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ أَصْحَابِ يَحْيى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ؟ فَقَالَ: هِشَامٌ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال، ثُمَّ أَبَان، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ فَذَكَرَ آخَرٌ، قَالَ لَنَا عَبْدَانُ: نَسِيتُهُ أَنَا، قالَ: قُلتُ لَهُ: فَالأَوْزَاعِيُّ؟ قَال: الأَوْزاعِيّ إمام )) .
5. مَنْ وصفه بالتَدليس مِنْ الأئمة .
قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (378) : (( ثقة ثبت لكنه يرسل ويدلس )) .
قال ابن حبان في الثقات (7/591) : ((وَكَانَ يُدَلس فَكلما روى عَنْ أنس فقد دلّس عَنْهُ وَلم يسمع من أنس وَلَا من صَحَابِيّ شَيْئا )) .
مشاهر علماء الأمصار (1/304) : ((لا يصح له عن أنس بن مالك ولا غيره من الصحابة سماع وتلك كلها أخبار مدلسة )) .
قال المزي في التهذيب (31/504) عن أبي جعفر العقيلي : (( كان يذكر بالتدليس )).
وعَنْ أبو حاتم في الجرح والتعديل كما نقل المزي (31/504) : ((روى عن أَنَس مُرْسلاً وقد رأى أنسا يصلي فِي المسجد الحرام رؤية ولم يسمع منه )) .
وقال المزي في الباب ذاته : ((قلنا ليحيى بْن أَبي كَثِير: هذه المُرْسلاًت عَنْ من هي؟ قال: أترى رجلا أخذ مدادا وصحيفة فكتب على رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الكذب. قال: قلت: فإذا جاء مثل هذا فأخبرنا. قال: إذا قلت: بلغني، فإنه من كتاب )) .
وقال أيضاً (31/504) : (( قَال أَبُو بَكْر بْن أَبي الأسود: قال يَحْيَى بْن سَعِيد: مُرْسلاًت يَحْيَى بْن أَبي كثير شبه الريح )) قُلت : وسيأتي الكلام في الباب الأخير عَنْ مُرسلاتهِ .
وقال في ذات الباب عن عمرو بن علي : ((مَا حَدَّثَنَا يحيى بن قتادة بشيءٍ مرسل ولا عَنْ يَحْيَى بْن أَبي كَثِير بشيءٍ مرسل إلا حديث واحد، فحَدَّثَنَا عن الأَوزاعِيّ عن يحيى بن أَبي كَثِير أن ابْن عَبَّاس كَانَ لا يرى طلاق المكرة شيئا. قال: وكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ يحَدَّثَنَا عنهما جميعا بمرسله )) . قُلت : وإليك ما جاء في جامع التحصيل للإمام العلائي .
قال الحافظ العلائي في جامع التحصيل (1/111) : ((معروف بالتدليس ذكره النسائي وغيره )) قُلت : وقد ضرب أمثلةً للمرسل الخفي مِنْ مرويات يحيى بن أبي كثير وهذا يعني أن الحافظ العلائي يرى الإمام يحيى بن أبي كثير مُكثرٌ مِنْ المرسل الخفي ، وهذا ما يرجح لدينا براءة الإمام مِنْ وصمة التدليس القبيح أو أنه في المرتبة الثالثة وهو الأصح عندنا .
قال الإمام العلائي في جامع التحصيل (1/299) : (( اليمامي أحد الأعلام تقدم أنه كثير التدليس وهو مكثر من الإرسال أيضا روى عن جماعة من الصحابة منهم جابر وأنس وأبو أمامة وحديثه عنه في صحيح مسلم وقال أبو حاتم وأبو زرعة والبخاري وغيرهم لم يدرك أحدا من الصحابة إلا أنس بن مالك فإنه رآه رؤية ولم يسمع منه وهذا لفظ أبي حاتم قال أبو زرعة وحديثه عنه مرسل يعني عن أنس قيل لأبي حاتم فالسائب بن يزيد قال لم يسمع منه وروى يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها حديث فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالبقيع قال الترمذي سألت محمدا يعني البخاري عن هذا فقال يحيى لم يسمع من عروة قلت وكذلك قال أبو زرعة وأبو حاتم وقال لأنه يدخل بينه وبينه رجلا ورجلين ولا يذكر سماعا ولا رؤية ولا سؤاله عن مسألة وذكر إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه أثبت له بالسماع من عروة وقال بن معين لم يسمع بن أبي كثير من أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا من عبد الرحمن الأعرج ولا من زيد بن سلام قلت أثبت له أبو حاتم السماع من زيد وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله يحيى بن أبي كثير سمع من زيد بن سلام قال ما أشبهه وأما من جده أبي سلام فقد قال حسين المعلم أخرج إلينا يحيى بن أبي كثير صحيفة لأبي سلام فقلنا له سمعت من أبي سلام قال لا قلت من رجل سمعه من أبي سلام قال لا وكذلك روى حرب بن شداد عن بن كثير إنه قال كل شيء عن أبي سلام فإنما هو كتاب وقال أبو حاتم لم يسمع من نوف البكالي وذكر بعضهم إنه لم يسمع من أبي قلابة وأنكر هذا أحمد بن حنبل وقال بأي شيء يدفع سماعه فقيل له زعموا أن كتب أبي قلابة وقعت إليه قال لا والله أعلم )) .
قُلت : ومرجع الأئمة الأوائل في وصمه بالتدليس يرجع للإمام النسائي ، ولا نعلمُ أحداً قبل الإمام النسائي ذكرهُ بالتدليس ، وإنما ذكره به الحافظ ابن حجر ، والعقيلي مرجعهم في ذلك هو الإمام النسائي ، وأما عبارة ابن حبان فهي قرينة على أن التدليس الذي أرادهُ به هو المُرسل الخفي وسيأتي مُناقشة قوله في معرض الدراسة النقدية لأقوال الأئمة الجبال الأثبات في وسمهم لابن أبي كثير بالتدليس ، وكلام العلائي عنه إن كان مدلولهُ على شيءٍ فعلى أنه الإرسال الخفي لا التدليس ! ووصمة التدليس فهو بريءٌ منها لإمامته وسعة روايته ووثاقته وحفظه أمام تدليسه ولا ترى تدليسه إلا قليلاً جداً بل نادراً في رواياته وهذا ما جعلنا نُرجح الإرسال الخفي على التدليس لأنا ما رأيناهُ يدلس في 5 أحاديث أو ما يزيد عنها ، والحق الذي لابد للقارئ أن يسلم به أنه وإن وصف بالتدليس فعباراة الأئمة مرادهم بها التدليس المعروف بالإرسال الخفي وسنذكر الأمثلة على مرادهم به الإرسال الخفي في دِراسة الإرسال الخفي والتدليس والفرق بينهما وقد سبق وأن فعلنا ذلك في تحقيق روايات قتادة .
قال الإمام أبو زُرعة العراقي في تحفة الحصيل في ذكر الرواة المراسيل (1/346) : (( يحيى بن أبي كثير قَالَ حُسَيْن الْمعلم لما قدم علينا يحيى بن أبي كثير أخرج الينا صحيفَة أبي سَلام فَقُلْنَا لَهُ سَمِعت من أبي سَلام فَقَالَ لَاقلت فَمن رجل سَمعه من أبي سَلام قَالَ لَا .
وَقيل لِأَحْمَد بن حَنْبَل يحيى بن أبي كثير سمع من انس قَالَ قد رَآهُ قَالَ رَأَيْت انسا فَلَا ادري سمع مِنْهُ ام لَا ، قيل لَهُ سمع من أبي قلَابَة فَقَالَ مَا أَدْرِي أَي شَيْء يدْفع اَوْ نَحْو هَذَا قيل لَهُ زَعَمُوا ان كتب أبي قلَابَة وَقعت اليه فَقَالَ لَا ، وَقيل ليحيى بن معِين يحيى بن أبي كثير سمع من الْأَعْرَج فَقَالَ لَا ، لم يسمع مِنْهُ قيل لَهُ هَل سمع من انس فَقَالَ رَآهُ قيل لَهُ سمع من عُرْوَة ابْن الزبير قَالَ نعم قيل لَهُ سمع من أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام فَقَالَ لَا لم يسمع مِنْهُ ، قيل لَهُ سمع من نوف فَقَالَ لَا لم يسمع مِنْه ، وَقَالَ مُعَاوِيَة بن سَلام وَيحيى بن معِين لم يسمع من زيد بن سَلام وَقَالَ أَبُو حَاتِم سمع مِنْهُ ، قَالَ يحيى بن أبي كثير كَانَ يجيئنا فنسمع مِنْهُ وَقَالَ ابو حَاتِم لم يدْرك أَبَا هُرَيْرَة وَمَا رأه سمع من عُرْوَة بن الزبير يدْخل بيه وَبَين رجلَيْنِ وَلَا يذكر سَماع وَلَا رُؤْيَة وَلَا سُؤَاله عَن مَسْأَلَة وَلَا أرَاهُ سمع من الْأَعْرَج ، وَرَأى انس بن مَالك وَلم يسمع من السَّائِب بن يزِيد وَلم يسمع من نوف الْبكالِي شَيْئا وَلم يدْرك أحدا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الا أنسا فَإِنَّهُ رَآهُ رُؤْيَة وَلم يسمع مِنْهُ .
وَقَالَ أَبُو زرْعَة لم يسمع من عُرْوَة قيل لَهُ يحيى بن أبي كثير عَن انس بن مَالك أفطر عنْدكُمْ الصائمون هُوَ مُتَّصِل ، قَالَ رَوَاهُ خَالِد بن الْحَارِث عَن هِشَام عَن يحيى قَالَ بَلغنِي عَن انس وَقد راى يحيى انسا وَلم يسمع مِنْهُ وَحَدِيثه مُرْسلا أصح وَهَذَا وهم يَعْنِي الْمَرْفُوع .
قَالَ العلائي روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم جَابر وَأنس وَأَبُو امامة وَحَدِيثه عَنهُ فِي صَحِيح مُسلم ، وَذكر البُخَارِيّ وَغَيره انه لم يدْرك احدا من الصَّحَابَة الا انس بن مَالك فَإِنَّهُ رَآهُ رُؤْيَة وَلم يسمع مِنْهُ .
وروى يحيى بن أبي كثير عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة حَدِيث فقدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا هُوَ بِالبَقِيعِ ، قَالَ التِّرْمِذِيّ سَأَلت مُحَمَّد يَعْنِي البُخَارِيّ عَن هَذَا فَقَالَ يحيى لم يسمع من عُرْوَة وروى حَرْب بن شَدَّاد عَن يحيى بن أبي كثيرأنه قَالَ كل شَيْء عَن أبي سَلام فَإِنَّمَا هُوَ كتاب انْتهى، قلت وَلما ذكر التِّرْمِذِيّ رِوَايَته عَن جَابر قَالَ وَلم يسمع مِنْهُ وَرِوَايَته عَن الحكم بن مينا فِي سنَن ابْن ماجة ، وَقَالَ الْمزي قيل لم يسمع مِنْهُ وَرِوَايَته عَن عَليّ بن أبي طَالب فِي سنَن النَّسَائِيّ وَهُوَ مُرْسل )) ، وقد ذكره سبط ابن العجمي في التبيين (1/61) ، ومستنده ما قاله الإمام النسائي – رحمهم الله – في الإمام يحيى بن أبي كثير .
قُلت : وهم الأثبات الثقات الذين تدور عليهم الروايات وهم الجبال المُتحرون لما يرونه مِنْ الأخبار والروايات ، فلا وربك يا ابن أبي كثير ما أنت بالموسومين بالتدليس ولا أنت في الطبقة الثالثة مِنْهُمْ وإني لأبرأ مِنْ ذلك فإنك مِنْ المُكثرين الحُفاظ الأعلام المُحدثين وأنتَ مَنْ قال فيك : (( بخ بخ نقي الحديث جداً )) فليس مَنْ قيل في مثله هذا الكلام أن يدلس بصيغة تُوهم السماع أو أن يحدث بحديث عمَّن لقيه ما لم يسمعه منهُ ، وإن ثبت ذلك عليك فوالله إنك لمن الذين احتمل الأئمة تدليسهم احتمالا كاملاً و أخرج لك أرباب الصحيح ممن كان له الشرط الرزين القوي في روايات المدلسين ، ومثلكم مَنْ في هذه الطبقة التي ذكرها الحافظ ابن حجر محتملون العنعنة فإن عنعنت فمحمولٌ على الاتصال لإمامتك وسعة مروياتك وعظيم ما لك مِنْ التوثيق والفضل فإنت عندهم مقدمٌ على الإمام العلم الثبت المُجتهد حامل لواء السنة الإمام مُحمد بن شهاب الزهري ، فثبتٌ قليل التدليس لا يدلس إلا عن ثقةٍ ثبتٍ معروفٍ قال في مثله تقي الدين السبكي في طبقاته (5/218) :
والثبت يحيى بن ابي كثير ... والاعمش الناقل بالتحرير
أولست أنت من قال فيك الإمام أحمد في بحر الدم (1/174) : (( إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد، فإذا خالفه الزهري فالقول قول يحيى بن أبي كثير )) ، وقد ذكره غيره في المشهورين بالتدليس انظر أسماء المدلسين (1/106) وليت شعري هل الشهرة تقتضي الإكثار وسيأتي البيانُ بإذن الرحمن وسنثبت أن الإمام يحيى بن أبي كثير بريءٌ تمام البراءة مِنْ التدليس في المرتبة الثالثة وأن أصح الأمثال فيه والأقوال أن تدليسه هُنا مُرادهم به هو الإرسال الخفي وسيأتي البيان على أقوال الأئمة مِنْ تدليسه بإذن الواحد الديان .
6. وفاته – أسكنه الله الجنة – كما في كُتب الرجال .
في خُلاصة تهذيب الكمال (1/427) : (( قال الفلاس توفي سنة تسعٍ وعشرين ومائة )) .
قُلت : وهو على الأرجح في كُتب الرجال فرحم الله هذا الإمام الثبت رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وأسأل الله تعالى أن يجازيه خيراً لما قدم لنا مِنْ الروايات الصحاح الثابتات في الكُتب الجليل كالصحيحن والسنن وأخرج له مِنْ المرويات وإن قال قائلٌ لنا مُدلسٌ لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع قُلنا : بخ بخ ما بك لا تدري ما يخرج مِنْ رأسك ! فترمي بمثله بالتدليس وأنه لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع ، ليت شعري أظهر لك ما خفي على مَنْ أخرج له في الصحيح ! وثبتت إمامته وسعة روايته أمام القول بأنه مِنْ المدلسين ، أما وما وقع فيه من الإرسال الخفي فمحتملٌ لأن هذا ليس بعلةٍ تقدحُ في عدالة الراوي ولا في إمامته وإن كان مطعنا في مروياته التي أرسلها إرسالا خفياً فشتان بين التدليس والإرسال .





















البَاب الثاني : دِراسةُ حَديثيةُ للتَدليس والإرسال الخَفي وبَيان مُصطلحات الأئمةِ في التَدليس وإطلاقهم إياهُ على الإرسال الخَفيّ وفيهِ :
1. تَعريف المُرسل الخَفي اصطلاحاً .
2. عَلاقة مَنْ روى عمَّن عاصره ولم يلقه بالإرسال الخفي والتدليس .
3. تَطبيقٌ على العلاقة بين الإرسال والتدليس مِنْ أقوال الأئمة .
4. حُكم عنعنة الراوي المعروف بالارسال الخفي .



















§ تَعريف المُرسل الخَفي اصطلاحاً .
تَعريف المُرسل الخفي مِنْ المسائل المُهمة جداً إذ أنك لا تجدُ فيه اتفاقا على التعريف وكونه علمٌ مِنْ عُلوم الحديث إلا أن الاختلاف في التعريف عندهم قد ورد ، وعليه فإنه مِنْ الصعب اعطاء تعريفاً دقيقاً للمرسل الخفي عند أهل العلم ، ولذلك أردت أن يميز القارئ بين المُرسل " المُطلق " و " المنقطع " وقد اعتمدت على ذكر بعض الفوائد المُنتقاة في الباب الثاني مِنْ كِتاب المرسل الخفي لفضيلة شيخنا المُحدث " حاتم بن عارف الشريف العوني " الموسوم بالمرسل الخفي ، فأسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على الظفر بتعريفٍ ماتعٍ مانعٍ للمُرسل الخفي وعلاقته بالتدليس ، واعلم أيها القارئ الكريم أنك ستصل إلي ما تروم بالبحث والتنقيب في الكُتب والدراسات ، ولذلك كانت دراستنا عَنْ الإمام يحيى بن أبي كثير وعلاقة تدليسه بما تعرفهُ بإصطلاح " المرسل الخفي " وهو مبحثٌ دقيقٌ كون هذا الإصطلاح لم يكن دارجاً عِنْدَ المُتقدمين مِنْ أهل الحديثِ ، بل جاء الإنقطاع عند أهل العلم مِنْ المُتأخرين على تعريفه بالإرسال الخفي ، المنقطع عندهم على ضربين وهو " الظاهر ، الخفي " ويأتي في الخفي مُبينين أن هُناك تدليساً وإرسالاً خفياً ، فأعرنا شيئاً مِنْ وقتك حتى تعرف التفريق بين التدليس والإرسال وتعرف ما هو الحال بالنسبة لمرويات الإمام يحيى بن أبي كثير ، ولذلك فإن مبحث المرسل الخفي مِنْ المسائل التي وقع فيها الاختلاف على التعريف والتحديد ، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد فمَنْ فهم ما رام وحصلَّ الفائدة مما جمع مِنْ الفرائد الخفية في هذا العلم وتبحر نال مُبتغاهُ وحصد الفائدة الكثيرة .
§ الْمُرْسل: هو الحديث الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يذكر له إسناداً بذلك.
وعلمياً هُو ما يُسمى المُرسل الظاهر حيث أنه مخصوصٌ برواية التابعي مُطلقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول مَنْ هُو مثل " سعيد بن المسيب – قيس بن أبي حازم – أبي عثمان النهدي – " ومعناهُ أن يقع لمَنْ رآى صحابياً أو كانت لهُ معاصرةٌ لهُ أو لقيه أن يرسل عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو المُرسل ظَاهراً أو المُطلق .
قال أبي عبد الله الحاكم في المدخل إلي كتاب الإكليل (43) : (( هو قول الإمام التابعي أو تابع التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن أو قرنان، ولا يذكر سماعه فيه من الذي سمعه )) .
وهذا ما لم يعرف عَنْ الحاكم إنما عَنْ بعض فقهاء الكُوفة كما قال الدكتور الجديع في كتابه تحرير عُلوم الحديث وإنما نعرف أن المُرسل عند الإمام الحاكم كما في عُلوم الحديث (25) : ((الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي، فيقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) وقد سماهُ بعض أهل الحديث بالمنقطع فيندرجُ في تعريف المرسل المنقطع وهذا قول الخطيب البغدادي في الكفاية (ص58) : (( ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم )) وقد أدخله الخطيب البغدادي في الإنقطاع ، قال الشيخ الدكتور عبد الله الجديع في الكتاب النفيس تحرير علوم الحديث (2/923) : ((وعلى حصر (المرسل) فيما يرويه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء تعريف ابن عبد البر عن أهل العلم، وهو الأدق والموافق لما اخترناه، قال: " هذا الاسم أوقعوه لإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم "، ومثَّل بجماعة، ثم قال: " وكذلك من دون هؤلاء " ومثَّل بآخرين، ثم قال: " ومن كان مثلهم من سائر التابعين الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم، فهذا المرسل عند أهل العلم " )) أهـ .
قُلت : وهو ما اخترته كذلك لتعريف المرسل وهي رواية التابعي أو مَنْ كان مُخضرماً وعرفت له رؤيا أو عدمه كأن يكون مرسله عن صحابي كبير كأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو أبي هريرة – رضي الله عن الجميع – فبحسب طبقة المُرسل وكبر سنهِ وقدم موتهِ وتأخرهِ فيكون أدرك جُملةً مِنْ الصحابة وحدث عنهم فيسقط الصحابي وإسقاط الصحابي عند المُحدثين لا يقدح في الرواية لأنه أسقط عدلاً ، ولذلك فإنهم صححوا مراسيل سعيد بن المسيب – رحمه الله – وقيس بن أبي حازم – رحمه الله - ، وأبي عثمان النهدي – رحمه الله – وهؤلاء التابعين قد أدركوا جملةً مِنْ الصحابة بل قد قال أهل العلم أن قيساً أدرك كثيراً مِنْ الصحابة بل أدرك العشرة إلا نفراً واحداً مِنْهُمْ ، والذي اخترناهُ مِنْ تعريف ابن عبد البر الإمام الحافظ هو المُعتمد في دراستنا هذه إذ أن ما يرسه مَنْ دون طبقة التابعين الكبار فإنه في درجة المُنقطع ، وأما ما دُونهم مثل قتادة والزهري الإمام يحيى بن أبي كثير وهو عنوان دراستنا فإن أرسل أمثال هؤلاء وهم الطبقة الوسطى مِنْ التابعين فمرسلهم " معضلٌ " أما الطبقة الصغيرة فمرسلهم " مُنقطعٌ " وسيأتيك الإنقطاع إلي قسمين " الظاهر ، الخفي " وفيه أن الخفي إلي قسمين " تدليسٌ ، مرسل " وهاك البيان أيها القارئ الكريم .
§ المُنقطع : وهو ما سقط مِنْ إسناده واحدٌ أو أكثر شرط أن لا يكون على التوالي عند أهل الحديث ، والسقط عندهم على قسمان :
1. الإرسال الظاهر وهو أن يروي عمن لم يعاصره بحيث لا يشتبه ارساله باتصاله عند أهل الحديث . المرسل الخفي (ص39) .
2. والإرسال الخفي وهو عند أهل العلم مِنْ المعاصرين كالحافظ ابن حجر العسقلاني ومَنْ هم في طبقتهِ ثُم الذين يلونهم إلي عصرنا هذا فينقسمُ هذا النوع مِنْ الإنقطاع إلي قسمان وهُما :
· التدليس : أن يروي عمَّن عاصره وسمع منهُ – لقيه – ما لم يسمع منه بصيغة تُوهم السماع كأن يقول ( عن ، قال ، نبئت .. إلخ ) .
· الإرسال الخفي : وهو أن يروي عمَّن عاصره ولم يُعرف لهُ لقاءٌ بهِ حديثاً لم يسمعه منهُ ، أو أن يروي عمَّن عاصره ولم يلقهُ مالم يسمع منه .
هذا ما وجب التنبيه عليهِ في تعريف المرسل الخفي والتدليس ، وإعلم أيها القارئ الكريم أن مَنْ جعل المُرسل الخفي يحدث بصيغةٍ تُوهم السماع ! فهذا قد وهم لأن مِنْ ذلك يلزمه أن يكون تدليساً ، فالفرقُ بين التدليس والإرسال الخفي في طريقة الأداء ، فالمُدلس يؤديه بصيغةٍ تُوهم السماع ، والمرسل الخفي لا يقع منه ما قد يوهم بالسماع في روايته لأن احتمال مُعاصرته لهُ قويةٌ جداً وهُناك قرائنٌ تدل على أن المُعاصرة قد وقعت ، إلا أن اللقاء لم يتحقق وهذا قد يكون بينه وبين مَنْ حدث عنهُ واسطةٌ ، كمُعاصرة قيس بن أبي حازم لأم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – ولو لزم أن يكون حديثه عنها بصيغةٍ توهم السماع ، فلزم القائل بمثل هذا القول أن يصف الإمام المُخضرم والثبت المُحدث الجليل قيساً بالتدليس ! وهذا لا يستقيم عندنا لأننا عندها يستلزم علينا أن نصف أبي عثمان النهدي وغيرهُ به ! .
وقد سمى المرسل الخفي الإمام ابن الصلاح في مُقدمتهِ بتدليس الإسناد (1/157) : ((أحدُهُما: تدليسُ الإسنادِ: وهوَ أنْ يرويَ عَمَّنْ لَقِيَهُ ما لَمْ يَسْمَعْهُ منهُ، مُوهِماً أنَّهُ سَمِعَهُ منهُ ، أو عَمَّنْ عاصَرَهُ ولَمْ يَلْقَهُ، مُوهِماً أنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَهُ منهُ )) .
وهذا ليس مِنْ التدليس في شيء وقد قال الحافظ ابن حجر وغيرهُ مِنْ الأئمةِ أنهُ عينُ المرسل الخفي عندهم ومما يجب التنبه لهُ إلي كَون التَدليس أخصُّ في الروايةِ عمّن سَمع منه ما لم يسمع على خِلاف الإرسال الخفي فإنه الرواية عمّن عاصرهُ ولم يلقهُ ما لم يسمع منه ، وقد تتبع الحافظ ابن حجر العسقلاني قول العراقي بأن تعريف ابن الصلاح للتدليس في المقدمة هو المشهور عند المُحدثين وفرق بينهما مُبيناً أن التَدليس أخصُّ مِنْ المُرسل الخفيِّ كَون الأول سمعَ مِنْ الثاني وروى عنه ما لم يسمعهُ ! أما الثاني فيروي ما لم يسمعه عمَّنْ لم يلقهُ ولكنهُ عاصرهُ ولا يعرفُ لهُ لقاءٌ بهِ ولا سماعٌ مِنْهُ واحتج الحافظ ابن حجر العسقلاني بقول الخطيب البغدادي في تعريف المرسل الخفي : (( أن من روى عمن لم يثبت لقيه ولو عاصره أن ذلك مرسل لا مدلس )) وقد يتكلم أحدهم في لفظة المُعاصرة في تعريف التدليس والإرسال ، ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر العسقلاني في نزهة النظر (1/104) : ((طباقُ أَهلِ العلمِ بالحديثِ على أَنَّ روايةَ المُخَضْرَمين، كأَبي عُثمانَ النَّهْدِي ، وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ مِن قَبِيلِ الإِرسالِ، لا مِن قَبيلِ التدليس، ولو كان مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى بهِ في التَّدليسِ لكانَ هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعرَف: هل لَقُوهُ أم لا )) أهـ . قُلت : ومِنْ هُنا يتضح لنا أن الحافظ ابن حجر ينكر أن القول بأن المُعاصرة مُتحققةٌ في كُلٍ مِنْ التدليس والإرسال الخفي ! ، وهذا على الصحيح عندي أنه متحقق وإليك أيها القارئ البيان في هذا القول عندنا :
· فلو أن الراوي عاصر مَنْ حدث عنه وسمع مِنْهُ ثُم حدث عَنهُ بما لم يسمع مِنْهُ وذلك بالقرائن والدلائل البينات والنكارة التي قد تكونُ واضحةٌ فيما دلسهُ ، أو أنه خالف الرواة أو أصحاب مَنْ حدث عنهُ بتلك اللفظة ! وحدث عنهُ بصيغةٍ توهم السماع كأن يقول ( عن ) فهذا يكونُ ذلك تدليساً .
· ولو أن الراوي عاصر مَنْ حدث عنه ولم يثبت لهُ لقاءٌ – سماعٌ – عند أهل الحديثِ فهذا يسمى على قول ابن حجر و المُتأخرين مِنْ اهل الحديث إرسالاً خفياً .
فالأول تحقق لهُ اللقاء والسماع ثم حدث عنه بما لم يثبت سماعهُ منهُ فكان مُدلساً مع العلم أن المُعاصرة مُتحققةٌ ، والثاني ثبتت له المُعاصرة ولم يثبت له السماع مِنْ شيخه الذي حدث عنه فكان ذلك مُرسلاً خفياً وهذا بينٌ صريحٌ في الأمر ، فلو أن المُعاصرة تحققت ! فلا بأس في ذلك إذ أن الأول ثبت لهُ السماع وحدث فدلس ، والثاني لم يثبت له السماع مع ثبوت المعاصرة لكلا الطرفين ! وحدث عنهُ ما لم يسمع منهُ فكان مِنْ قبيل المرسل الخفي .
§ عَلاقة مَنْ روى عمَّن عاصره ولم يلقه بالإرسال الخفي والتدليس .
واعلم أن الحُفاظ قد يطلقون على مَنْ روى عمّن عاصره ولم يسمع منهُ ( تدليساً ) وهو ما نعرفهُ انا وأنت وقاله الحافظ ابن حجر العسقلاني بأنهُ ( المرسل الخفي ) ، وهذا ما يدفعنا لذكر أن مَنْ ذكرهم العلائي في كتابه جامع التحصيل هم ثلةٌ مِنْ الرواة الذين وصمهم العلائي بالتدليس وأطلق هذه اللفظة عليهم وهم معروفون بالارسال وقرروا قاعدةً على عدم قول روايات هؤلاء المُعنعنة وقد قال العلائي ومِنْ بعده الحافظ ابن حجر العسقلاني أن مَنْ ذكر في الجامع أو قال يذكر بالتدليس أو ذكره النسائي بالتدليس فإنه محمولٌ على رواية مَنْ سمع مِمَنْ لقيَّ وحدثَّ عنهُ مالم يسمع ! وقد كانوا يطلقون كذلك التدليس على رواية مَن عاصر ولم يثبت له اللقاء ولا السماع وحدث بما لم يثبت سماعهُ مِنْهُ ، فالأئمة المتقدمين كابن معين وابن حبان كانوا يتجوزون في مثل عبارات التدليس فلا مشاحة فيها عندهم ، وهاك بعضاً مِنْ بيان العلاقة بين التدليس والإرسال الخفي مِنْ أقوال الأئمة استفدتهُ مِنْ كتاب المرسل الخفي لفضيلة الشيخ حاتم بن عارف الشريف العوني وإليك بعضاً مِنْها .
1. قال الشيخ العوني في كتابه المرسل الخفي (ص94) بعد أن ذكر قول الحاكم في التفريق بين التدليس والإرسال الخفي : (( وتبعه بذلك أبو نعيم في مُستخرجه الذي عمله على كتاب معرفة علوم الحديث للحاكم ، وظاهر متابعة أبي نعيم للحاكم في تقسيمه للتدليس يدل على موافقة أبي نعيم للحاكم في جميع ما قال ، ومما قال الحاكم : ( رواية المُعاصر عمن لم يلقه ) : ( تدليساً ) فأبو نعيم الأصبهاني على ذلك والذي نص على متابعة أبي نعيم للحاكم في تقسيمه المذكور للتدليس ، هو الحافظ ابن حجر في النكت على مقدمة ابن الصلاح (ص622) )) .

§ تَطبيقٌ على العلاقة بين الإرسال والتدليس مِنْ أقوال الأئمة .
وقد أطلق الأئمة لفظ التدليس على الإرسال الخفي وسبق وأن ذكرنا لك قول الشيخ العوني في كتابه المرسل الخفي ، وفي هذا الشأن وهو ما يكمل الفصل الثاني مِنْ الباب الثاني وهو الفصل الثاني مِنْ هذا الباب وسترى كيف كان الأئمة يطلقون لفظة التدليس على الإرسال الخفي وسيكونُ هذا تطبقياً نظرياً على كلامهم – رحمهم الله – في إطلاق هذا اللفظ على الإرسال ! ألا وهو التدليس حتى يتبين للقارئ أن المُتقدمين لم يكن لديهم مشاحةٌ في هذه الألفاظ فكانوا يطلقونها ويريدون المرسل الخفي وقد يريدون بها التدليس ! ولذلك فإن قُلنا في بادئ الأمر أنك أمام إرسالٍ ظاهرٍ وإرسالٍ خفيٍ وينقسمُ إلي التدليس والإرسال الخفي ، ويشهدُ لقولنا صريح أقوال الأئمةِ الذين ستقرأ لهم الآن وتتأمل عباراتهم تأمل الناقد المُحقق إن شاء الله كما أريدكم أن تروا فيما سيأتي براءة يحيى بن أبي كثير مِنْ وصمة التدليس القبيح أو أنه لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع ، وإن قُلنا في بادئ الأمر على أنهُ في المرتبة الثانية وهم الذين تقبل عنعنتهم إذا عنعنوا في أحاديثهم لأن ما قيل فيه هو المرسل الخفي وهو صنفٌ بعيدٌ عَنْ التدليس وبذلك ستشهد براءة يحيى بن أبي كثير مِن أن يكون دلس عمَّن سمع مالم يسمع ! واعلم أني ما جعلته بريئاً مِنْ وصمة التدليس الذي يوجب التصريح بالسماع إلا لكون ما وقع فيه هو الإرسال الخفي وشتان بين الأمرين وإليك البيان والتطبيق .
قال الإمام يحيى بن معين في تاريخه برواية الدوري (4/407) : ((سمعت يحيى يقول لم يلق يحيى بن أبي كثير زيدَ بن سلام وقدم معاوية بن سلام عليهم فلم يسمع يحيى بن أبي كثير أخذ كتابه عن أخيه ولم يسمعه فدلسه عنه )) .
هذا الإمام القدوة ابن معين – رحمه الله – يقول في رواية مَنْ عاصر ولم يثبت لهُ اللقاء ولا السماع أنهُ تدليساً ومِنْ هذا القول تستطيع أن تعرف أن أئمتنا المُتقدمين كانوا يطلقون لفظة ( التدليس ) على المُرسل الخفي ، وها قد أطلقها الإمام القدوة ابن حبان في سليمان بن موسى الأسدي فيقول في مشاهير علماء الأمصار (ص75) : ((وقد قيل إنه سمع جابراً وليس ذاك بشيء تلك كلها أخبار مدلسة )) وهذا ابن حبان يشكك في سماعه مِنْ جابر رضي الله تعالى عنهُ مع تحقق المُعاصرة وثباتها ! وقد وصفه ابن حبان أي – سليمان بن موسى الأسد – بالتدليس ولو رآه أحداً مِنْ هذا الوقت لقال بتضعيف حديثه تماماً ، في حين أن الإمام البخاري أنه لم يسمع مِنْ جابر ولا مِنْ غيره مِنْ الصحابة في حين لم يثبت أن قد وصفه أحدٌ مِنْهُمْ بالتدليس مِنْ الأئمةِ ! فكان ما كان لديك فوجب التحري في أمرهم ومعرفة ما هم فيهِ فمن تدور عليه الروايات ويكونُ عليه القول والأخبار فلابد مِنْ ان يكون للمُحقق نظرةً بعيدةً ووعياً مُطلقاً في تحري مروياته ومعرفة طبقته مِنْ التدليس وإلا وقع في الخطأ وأتى بما لا يقبله العاقل ولا يرتضيه المُحدث ولا العالمُ في هذا الشأن .
وهاكِ قول ابن حبان مشاهير عُلماء الأمصار (ص163) : ((والي الكوفة لا يصح له صحبة لصحابي وتلك كلها أخبار مدلسة لا أعتمد على شيء منها )) .
فإنظر ما صنع الإمام ابن حبان – رحمه الله – في مرويات إِسْمَاعِيل بْن أوسط البجلي حيث قال فيما رواه عَنْ الصحابة أنه قد دلس فيها وركز على كلمة (( أخبارٌ مدلسة )) ولا أراه أراد بذلك التدليس القادح في رواية الرواة ، إنما هذا منْ قبيل الإرسال الخفي ، فمثل هذا لا يطلب له السماع ، بل يطلب في كُتب المراسيل ويحبثُ في روايته عندهم ! .
ومِنْ ذلك لا يصح أن نطلق لفظ مُدلسٍ على كُل مَنْ وصفه الأئمةُ بالتدليس عندنا ، بل يجب على المُحقق أن يدقق في أمر الراوي ، وإعلم أيها القارئ الكريم أن مَنْ وصف الإمام يحيى بن أبي كثير بالتدليس أتى بعد ذلك على ما قاله النسائي – رحمه الله – ولدينا ما يثبت هذا في معرض الحديث ، ودليلنا على أن الإمام النسائي إذا ذكر واحداً في كِتابه المدلسين فليس ذلك (( رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمع )) ! فهذا قد يريد به التدليس الخفي وقد يريد به رواية الراوي عمَّن لم تثبت لهُ المُعاصرة أصلا وهو عينُ قولنا المرسل الظاهر .
قال سبط ابن العجمي في التبيين (ص36) الحسن البصري : (( مِنْ المشهورين بالتدليس )).
إلا أن الحافظ ابن حجر قد تعقب سبط ابن العجمي في ذلك فقال في النكت على مقدمة ابن الصلاح وذكر مثالاً على الإرسال الخفي رواية الحسن البصري (2/210) : ((المرسل الخفي: ولا يعرفه إلا المدقق في هذه الصناعة، ومن أمثلته أنهم اختلفوا في سماع الحسن من أبي هريرة وورد في بعض الروايات: عن الحسن حدثنا أبو هريرة " فقيل أراد حدث أهل بلدنا وهذا إذا لم يقم دليل قاطع على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة لم يجز أن يضاف إليه )).
والصحيح أن الحسن البصري ممن عرف بالإرسال الخفي لا بالتدليس ، ومِنْ ذلك لا يمكن أن يطلب مِنْ الحسن البصري السماع فيما روى وإلا صار حديثهُ مِنْ الكذب وحاشاه رحمه الله تعالى ، بل الصحيح على أنه مِمَنْ كان يرسل عمَّن عاصرهُ ولم يثبت لهُ سماعٌ مِنْهُ ، وقد تعجبنا مِنْ قول الحافظ ابن حجر في النُكت ما يثبت أن الذي وقع فيه هو الإرسال الخفي إلا أنه وصفهُ بالتدليس في التقريب ! وهذا لا يستقيم مع ما قاله في النكت وللإشارة ففي كتاب شيخنا المحدث العوني المرسل الخفي باباً في مرويات الحسن البصري وعلاقتها بالإرسال وهو بحثٌ نفيسٌ يريحنا مِنْ البحث فيما رواه البصري – رحمه الله – في كُتب السُنن وإثبات ما أثبته الشيخ المحدث فقد كفانا ذلك فعليك بكتابه المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس .
وهذا الأمر فيه تأصيلٌ وتفصيلٌ ولذلك في النكت على مقدمة ابن الصلاح (2/2) : (( أن من ذكر التدليس أو الإرسال إذا ذكر بالصيغة الموهمة عمن لقيه فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي، أو عمن لم يدركه فهو مطلق الإرسال )).
واعلم أن مَنْ عرف بأنه كان مُرسلاً أو ورد فيه وصفٌ بالتدليس ! والتحقيق أن روايته عمَّن عاصره ولم يلقَ فإن هذا لا يبحث في عنعناتهم كما سيأتيك البيان بل يبحث في أصل السماع هل ثبت لهم السماع أم لم يثبت ، ومثل مَنْ تدور عليهم مدارات الأخبار وفيهم القول الأول في الحديث وما ثبت عن نبينا العدنان فهؤلاء لابد للمرء أن يتحرى مروياتهم وأن عنعناتهم مقبولةٌ ولا يمكن تحري السماع فيها ! لأن أمثال يحيى بن أبي كثير اليمامي قد أخرج له الشيخان في الصحيح دُون تحري سماعاته ودُون الرجوع إلي ما قد يصرح بها بالسماع وحالهُ لا يخفى على أن وقع في الإرسال الخفي لا التدليس كما سترى .
إن أغلب مَنْ وصفه بالتدليس إنما أراد المرسل الخفي ودليلهُ ما ذكرناهُ وهو أن أكثر عبارات الأئمةِ كأحمد وابن معين إطلاق التدليس على الإرسال الخفي كذا الإمام البخاري كان يطلق التدليس على الإرسال الخفي قال الشيخ في المرسل الخفي (ص49) : (( فقد ذكر الترمذي في العلل الكبر أنه سمع البخاري يقول ولا أعرف لابن أبي عروبة سماعا من الأعمش ، وهو يدلسه ويروي عنه )) أهـ ، وقال أن الإمام أحمد قد نفى سماع ابن أبي عروبة مِنْ الأعمش ، وقال مُعلقاً على قول الإمام البخاري : (( فإن كان سعيد بن أبي عروبة لم يسمع من الأعمش فهل ينضبط وصف البخاري لذلك بالتدليس على مقتضى نظر المتأخرين في التفريق بين التدليس والإرسال الخفي )) وذكر أيضاً أن ممن أطلق التدليس على الإرسال الخفي خلف بن سالم السندي البغدادي إنظر المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (ص50) والذي تراهُ بيناً جلياً في أقوال الأئمة المُتقدمين أن التدليس يراد به الإرسال الخفي في أكثر عباراتهم ، وقد ذكرنا لك شيئاً مِنْ أقوال الإمام يحيى بن معين ، والإمام ابن حبان ، كذلك أوردنا عَنْ الإمام البخاري ما نقله الشيخ العوني في كتابه المرسل الخفي .
قال ابن حبان في المجروحين (1/80) : (( ومنهم المدلس عمن لم يره ، كالحجاج بن أرطأة وذويه كانوا يحدثون عمن لم يروه ويدلسون حتى لا يعلم ذلك منهم )) .
قاله الشيخ حاتم العوني في كتاب المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس ص55 وذكر رواية الحجاج عَنْ الزهري ولم يسمع الحجاج من الزهري ، وهذا مِنْ قبيل الإرسال الخفي ، وأورد فضيلة الشيخ أقوال لعدد مِنْ الأئمةِ مثل (( الفسوي – العجلي – النحاس – والرازيين – ابن عدي – الخليلي – وأبي داود – عباس العنبري )) وهؤلاء كانت لهم عباراتٌ في وصف رواية مَن عاصر – أردك – وروي مالم يثبت أنه سمعه مِنْهُ سموها تدليساً والصحيح عندنا أنها على الإرسال الخفي ، وهذا كما ترى جملةٌ مِنْ أقوال الأئمة في وصف الإرسال الخفي بالتدليس ومرادهم به أنه مِنْ قبيل رواية الراوي المُعاصرة لمَنْ عاصر دُون أن يعرف له اللقاء والسماع مُباشرةً وهذا مرسلٌ خفيٌ لا تدليس ! فوجب التنبه لمثل هذا الباب . والله أعلم .
§ حُكم عنعنة الراوي المعروف بالارسال الخفي .
وحكم العنعنة عند أهل العلمِ على ( ثلاثة أقوال ) وإليك البيان فيها أخي القارئ :
1. القبول مُطلقاً ، وحملها على الإتصال وهذه في مَنْ لم يعرف عنه التدليس ولم يوصف بهِ ولم يقل فيه أحدٌ مِنْ الأئمةِ أنه قد دلس أو وقع بتدليس الإسناد .
2. الرد المطلق ، وهي مُختصةٌ فيمن روى عمَّن لقيهُ وثبتت مُعاصرتهُ وسماعهُ منهُ مالم يسمع منهُ ، وهذا لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع لأكثاره منه .
3. عدم قبول عنعنة المعاصر عمّن عاصر حتى يثبت لهُ لقاءٌ بمن عاصره أو يثبت أنه قد لقيه ولو في حديثٍ واحدٍ ، فإذا ثبت اللقاء أو صرح بالسماع مِنْ هذا المعاصر قبلت العنعنة وحملت على الإتصال عند أهل العلم . انظر الإرسال الخفي .
فيكون التوقف في صحة ما رواهُ عمَّن عاصره وعلم أنه قد عاصرهُ ولا يحكم بصحةٍ أو ب ضعفٍ للحديث حتى يثبت الإنقطاع ، فلا تقبل العنعنة حينها حتى يثبت لنا اللقاء بذلك المعاصر جُملة ولو كان بحديث واحدٍ كما هو في النقطة الثالثة ، وقد يقبل الأئمة عنعنة المعاصر لمسوغات خاصةً بالمسائل وهذا هو مجمل حكم عنعنة رواية المعاصر عمَّن عاصرهُ ولم يعرف لهُ لقاءٌ بهِ حتى يثبت اللقاء بهِ والله تعالى أعلى وأعلم بالصواب .























البَاب الثَالث : دِراسةُ تَدليس يحيى بن أبي كثير وطَبقتهُ فيهِ وتَرجيحُ ما إن كان مِنْ المُدلسين أم أنهُ بريءٌ مِنْ التَدليس وفيه :
1. دِراسةُ أقوال الأئمةِ الذين قَالوا بتَدليس يَحيى بن أبي كثير .
2. دِراسةُ أحاديثهِ عَنْ الصحابي الجَليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – وفيه تَرجيحٌ لسماعه مِنْهُ مِنْ عدمهِ إن شاء الله تبارك وتعالى .
3. شيوخ الإمام يحيى بن أبي كثير المتكلم في سماعه مِنهُم وهُم : (( زيد بن سلام – أبو قِلابة الجرمي – عبد الرحمن بن هرمز الأعرج – عروة بن الزبير – السائب بن يزيد – أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام – نوف البكالي – أبا هريرة رضي الله عنه - )) وهؤلاء كُلهم في عدةِ فُصولٍ .
4. الكَلام على مَرتبة تَدليس يحيى بن أبي كثيرٍ – رحمه الله – عند أهل العلمِ والمُحدثين وستكونُ خلاصة ما خرجتُ بهِ مِنْ الفصول الثلاثة الأولى .
5. مُرسلات الإمام يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – ودرجتها












وفي هذا الباب سنتدارس أنا وأنتم تدليس الإمام يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – وهل هو بريءٌ مِنْ تُهمة التدليس القبيح ! المذموم الذي لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع كما أسلفنا أم أنه لا يخرج عَنْ كون تدليسهِ هو الإرسال الخفي ! وهو على ذكرهم لهُ فهو لا يخرج عَنْ كونه في المرتبة الثانية ! وأن التدليس المعنون فيهِ هُنا هو ما رواه عمَّن عاصره ولم يثبت لهُ لقاءٌ بهِ ولا سماعٌ مِنْهُ لما لم يسمع ! وأردتك أخي القارئ أن تُمعن النظر وتدقق في ما سمي بتدليس يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – ومما لا شك فيه على إمامة يحيى بن أبي كثير وسعة روايتهِ واطلاعهِ ووثاقتهِ ففي سؤالات الإمام أبو داود للإمام أحمد (1/324) : (( سَمِعت أَحْمد يَقُول يحيى بن أبي كثير ثِقَة مَأْمُون ، وَسمعت أَحْمد ذكر [هـ] مرّة أُخْرَى فَقَالَ بخ بخ نقي الحَدِيث جدا ، وَجعل يطريه قَالَ أَحْمد لَا نكاد نجد فِي حَدِيثه شَيْئا )) .
هذا هو الإمام يحي بن أبي كثير الثقة المعروف بين الأئمةِ حيث أن لم يصفهُ بذلك مَنْ ترجم لهُ كالإمام أبي زرعة الرازي إنما قال بأنهُ كان يرسل فقال في مراسيل ابن أبي حاتم (ص444) : ((قال أبو زرعة يحيى بن أبي كثير بلغه عن أنس وحديثه عنه مرسل أصح)) ، وها هو الإمام أحمد يقولُ في سؤالات أبي داود لهٍ (( لا نكاد نجد في حديثهِ شيء )) ! ، ألا والله صدق – رحمه الله – فإن رواية يحيى بن أبي كثير محمولةٌ على الإتصال ولم نجد أحداً مِنْ الشيخين يتحرى سماعه في الصحيح ، وإن كان وقع منهُ ذلك فما أقلهُ وما أندره في روايته للحديث كما هو ثابتٌ عندنا ، وها هو فضيلة الشيخ حماد الأنصاري في كتابه التدليس والمدلسون (1/272) : ((من صغار التابعين حافظ مشهور كثير الإرسال ويقال لم يصح له سماع من صحابي وصفه النسائي بالتدليس من الثانية )) وهذا الحق الذي لا مريةَ فيه أبداً وهو أن الإمام يحيى بن أبي كثير ليس مِنْ المكثرين مِنْ التدليس لسعة ما روى ! .
ثُم ان الشهرة بالشيء لا تقتضي الإكثار منهُ ، سوى اللفظة التي نقلت عن الإمام النسائي رحمه الله في تدليس الإمام الثبت يحيى بن أبي كثير ولا يبعد حالهُ عَنْ حال قتادة الذي سبق وأن أثبتنا أن لا يمكن أن يكون تدليسه بذاك التدليس القبيح ، والذي ترجح لدي بعد النظر أن الإمام يحيى بن أبي كثير نادرُ التدليس بل لا يمكن أن يكون تدليسه في أحاديث تعد على الأصابع ، وهو وإن كان وصفه النسائي – رحمه الله – به فمعناهُ أن المُراد هُنا بقوله مدلسٌ هو عين الإرسال الخفي المُتعارف عليه عند الحافظ ابن حجر ومَنْ أتى مِنْ بعدهِ ، ولايلزم مِنْ الشهرة بالشيء الإكثار منه كذلك المعرفة بهِ ، وقد سبق وأن بينا أنهم قد يريدون بذلك التدليس الذي يوهم بالسماع ، والإرسال الخفي وهو أن يحدث عمَّن لم يثبت له السماع واللقاء منه مالم يسمعهُ وكلا التعريفين مُختلفين تماما ، فالاكثار مِن الشيء أخص مِنْ الاشتهار ومَنْ سبر روايته وعرفها حق المعرفة خصوصاً فيمن اتهم بالتدليس عنه وهو الصحابي الجليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – لما وجدها واقعةً أصلاً ! كونه لم يثبت له اللقاء و أن أحاديثه عَنْ أنس بواسطة في الصحيح وغيرهِ عند أهل العلم في كُتبهم ومصنفاتهم .
أما ما حدث عنهُ وكان قد عاصره أي الإمام يحيى بن أبي كثير فيدخل في الإرسال الخفي عند الحافظ ابن حجر ، ويدخل بالجُملة في المُنقطع عند السلف الصالحِ وهو ما يندرج تحته أصلا الإرسال الخفي ! ، وقد حدث عَنْ أنس بن مالك ولم يثبت أنه سمع منهُ فكيف يكون قد دلس على أنس بن مالك رغم أنه قد عاصره ولم يثبت له لقاءٌ به رغم أنه رآه .
وهبَّ أنه قد دلس ! فكيف للشيخين ومَنْ هو على طريقتهم في تحري سماعات المدلسين أن يخرج أحاديث يحيى بن أبي كثير في الصحيح معنعناً ! وقد عرفنا أن الشيخين يتحرون سماع مَنْ عرف بالتدليس ومالي لا أرى الشيخين يتحرون رواية يحيى بن أبي كثير وأكثروا مِنْ الرواية عنه في الصحيح وقد ثبت أنه حدث بـ136 حديثٍ وقد عنعن فيه عند الشيخين ، وهو على الأرجح عندنا بريءٌ مِنْ وصمة التدليس الذي لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع بل هو ممن عرف أنه في الطبقة الثانية وهذا أعدل الأقوال فيه – رحمه الله – وأن تدليسه الموصوف بهِ كما أشرنا مِنْ قبل النسائي رحمه الله ! هو الإرسال الخفي لأنه قد يطلق به هذا اللفظ ويريد به الإرسال الخفي ولذلك فإن ما يظهر لنا بعد النظر الطويل في مروياته أن تدليسه قليلٌ جداً في جنب ما روى واحتمله الأئمة مِنْ حديثهِ ، وحسبك بما قاله الإمام أحمد بن حنبل : ما وجدنا في حديثه شيئاً ! فكيف لا يكون فيه إلا ما صرح بالسماع ! .
§ دِراسةُ أقوال الأئمةِ الذين قَالوا بتَدليس يَحيى بن أبي كثير .
وفي هذا الباب سنقوم أنا وأنت بإلقاء الضوء على أقوال الأئمة الذين وصموهُ بالتدليس وليعرف القارئ أنا ما تكلمنا فيها إلا مَنْ إطالةٍ طَويلةٍ في النظر جداً في أقوالهم – رضي الله تعالى عنهم – وتحرينا أقوالهم وهذا الذي أنا في صدد الكلام فيه لستُ ألزمُ فيه بشراً ولا أقول أني أتيتُ بالحق كاملاً وإنما أنا أقول ما ظهر لنا مِنْ النظر في مرويات الإمام يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – وحريٌ بك أن تتحرى الكلام في تدليسه لا أن تأتي لنا وتقول أن لا يقبل منه السماع مُعتمداً بذلك على ظاهر أقوال الأئمة – رحمهم الله – وأنت تعلم أن الإصطلاحات التي يطلقونها لا مشاحة فيها عندهم وأنهم يجوزونها ! فكما مثلت لك سابقاً أنهم قد يطلقون التدليس ويريدون به الإرسال الخفي ، فحسبك بأن تحقق الأقوال وتنظر فيها واعلم أيها المُحدث الكريم أن لا يمكن أن نقول أن كُل مَنْ أتى فيه وصف التدليس مِنْ عند الأئمة أن نعتمد تماما على هذا القول فنقول لا يقبل منه إلا ما صرح به وهذا خطأ مُطلق إذ أن لا يمكن أن نرد عنعنة كل مَنْ عرف بمجرد التدليس ! بل يجب التحقق والتأكد مِنْ القرائن التي تُحيط برواية هذا الراوي وأقوال الأئمة – رحمهم الله – وأنا وأنت الآن أمام مدراسة أقوالهم والنظر فيها وتحقيقها علنا نصل لمرادهم في هذا الشأن .
1. قد وصفه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال : (( كان يرسل ويدلس )) .
ومما يجب الإشارة لهُ أنه قد جعله في الطبقة الثالثة مِنْ المدلسين النكت على مقدمة ابن الصلاح (2/643) ثُم أوردهُ في الطبقة الثانية مِنْ المدلسين في كتابه تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس (ص63) والصحيحُ قولهُ في المرتبة الثانية وقد ذكرنا أنهُ بريءٌ مِنْ وصمة التدليس الذي يوجب أن يصرح بالسماع فيما حدث بهِ وهذا أرجحُ عندنا .
2. قال ابن حبان في الثقات (7/591) : ((وَكَانَ يُدَلس فَكلما روى عَنْ أنس فقد دلّس عَنْهُ وَلم يسمع من أنس وَلَا من صَحَابِيّ شَيْئا )) .
مشاهر علماء الأمصار (1/304) : ((لا يصح له عن أنس بن مالك ولا غيره من الصحابة سماع وتلك كلها أخبار مدلسة )) .
انظر إلي قول الإمام ابن حبان – رحمه الله – وهذا يثبت لنا ما ذهبنا إليه وأن مراده هُنا بتدليسه إنما هو الإرسال الخفي لأنه قد ثبت أن يحيى بن أبي كثير قد رآى الصحابي أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهُ فيقول ابن أبي حاتم في مراسيله (1/240) : (( أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَثْرَمِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ سَمِعَ مِنْ أَنَسٍ قَالَ قَدْ رَآهُ قَالَ رَأَيْتُ أَنَسًا وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْهُ أَمْ لَا )) .
وها هو ينقل عن أبي زُرعة في الباب ذاته : (( قِيلَ لِأَبِي زُرْعَةَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ قَالَ هُوَ مُتَّصِلٌ قَالَ رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ نَا عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى قَالَ بَلَغَنِي عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ رَأَى يَحْيَى أَنَسًا وَلَمْ يَسْمَعْ ِمْنُه .. سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ جَمَاعَةٌ بِالْبَصْرَةَ قَدْ رَأَوْا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ )) .
وهذا كما ترى أيها القارئ الكريم يثبت لنا أنه لم يثبت سماعه مِنْ الصحابي الجليل أنس بن مالك إلا أنه قد ثبت لقياهُ لهُ ورآهُ ، والعلائي في جامع التحصيل (ت880) : (( قال أبو حاتم وأبو زرعة والبخاري وغيرهم لم يدرك أحدا من الصحابة إلا أنس بن مالك فإنه رآه رؤية ولم يسمع منه وهذا لفظ أبي حاتم )) فيثبت لنا أنه لم يصح لهُ سماعٌ لهُ بل صح لهُ إدراكٌ لأنس بن مالك – رضي الله عنه – وهذا يثبت لنا أنه قد حدث عنهُ وبينه وبين أنس واسطةٌ وهذا إن دل فعلى الإرسال الخفي ! على قول الحافظ ابن حجر العسقلاني والإنقطاع كما هو معروفٌ عند السلف مِنْ ائمة الحديث وأهله فإن لم يثبت لهُ سماعٌ مِنْهُ وقد أدركهُ يترجح لديك أخي القارئ أن لم يدلس عن انس بن مالك – رضي الله عنه – بل لا يسمى ذلك بل يسمى إرسالا خفياً لأنه قد عاصره ولم يثبت له السماع !.
وسيأتيك تحقيق روايات الإمام عن أنس رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، قال ابن أبي حاتم في المراسيل (1/244) : (( سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَسًا فَإِنَّهُ رَآهُ رُؤْيَةً وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ )) فيكون قول ابن حبان هُنا إشارةً على أن روايته هُنا ليست في مقام التدليس بل في مقام الإرسال . والله أعلم .
3. قال المزي في التهذيب (31/504) عن العقيلي : (( كان يذكر بالتدليس )).
تأمل جيداً معي قولهُ (( يذكر )) وهذا إن دل على شيءٍ فلا يدل على الجزم مِنْ قبل العقيلي بتدليس الإمام يحيى بن أبي كثير إنما هو بصيغة التمريض ولعلهُ يرجع قوله إلي ما قاله الإمام النسائي في هذا الشأن وهو أن أول مَنْ ذكرهُ بذلك هو الإمام النسائي ، ورغم بحثي الحثيث عَنْ أن يكون هناك من ذكره بالتدليس مِنْ قبل الإمام النسائي ! فلم أجد !! وقد بينا المراد مِنْ قوله في الباب الثاني أعلاه ، فالذكر بالشيءِ لا يعني الإكثار منهُ او ثبتوته مُطلقاً عليه ! بل يكون هذا بصيغة التمريض وعدم الجزم بحدوثهِ مِنْهُ .
كذلك وصفهُ به العلائي والعراقي والسيوطي وابن العجمي ! وكُلهم لم يثبت عنهم أن جزموا بتدليس يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – بل قالوا أنه يذكر بالتدليس ! ويردون قولهم إلي ما نقلوه عن الإمام النسائي فيكون المرجع الأول في هذا الشأن هو الإمام النسائي – رحمه الله – وبه فإن صاحبنا لا يعدوا أن يكون في الطبقة الثانية مِنْ المدلسين ! وهو ممن احتمل حديثه لإمامته وسعة ما يروي ، وتدليسهُ هُنا مِنْ قبيل المرسل الخفي وإليك شيئاً مِنْ ما نقله الإمام ابن أبي حاتم عَنْ أبيه في كتابه المراسيل لتعرف الصواب بها .
1. قال الإمام ابن أبي حاتم في المراسيل (1/240) : (( حَدَّثَنَا عِلُّي بْنُ الْحَسَنِ الْهِسِنْجَانِيُّ نَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ نَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ نَا أَبِي عَنْ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَجَّهَ إِلَيَّ مَطَرٌ أَنِ احْمِلِ الدَوَاةَ وَالْقِرْطَاسَ وَتَعَالَ قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْرَجَ إِلَيْنَا صَحِيفَةَ أَبِي سَلَامٍ فَقُلْنَا لَهُ سَمِعْتَ مِنْ أَبِي سَلَامٍ قَالَ لَا قُلْتُ فَمِنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي سَلَامٍ قَالَ لَا )) .
هذا وقد وقعت لهُ المعاصرة مع أبي سلام فقد توفي أبي سلام في نيف ومائة ! ويحتمل أن يكون أدركهُ ورآه الإمام يحيى بن أبي كثير لأن يحيى قد توفي سنة تسع وعشرين ومائة ، فيحتمل أن يكون قد عاصرهُ وكتبه عنده ! فما رواه عنه مِنْ قبيل المرسل لا مِنْ قبيل المدلس ولا نعلمهُ وصف بمثل هذا الوصف إلا مِنْ عند النسائي وانفرد بهِ وأعني بانفرد به أنه أول مَنْ قال بمثل هذا القول ولم يكن قبله أحدٌ قد وصفه بمثل هذا الوصف . والله أعلم .
وهذا يثبت أن روايته عن أنس مرسلةً ! وقد ثبت أن رآهُ فينتفي لديك أن يكون قد دلسها عَنْ أنس فيقول (1/244) : (( سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَسًا فَإِنَّهُ رَآهُ رُؤْيَةً وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ )) .
وها هو يقول في عبد الرحمن بن هرمز الأعرج في مراسيله (1/242) : (( سَأَلْتُ أَبِي عَنْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ هَلْ سَمِعَ مِنْهُ قَالَ لَا أرَاهُ سَمِعَ مِنْهُ )) .
هذا وقد مات – رحمه الله – سنة سبع عشر ومائة ، ومات يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – سنة تسع وعشرين ومائة ! أي أنهُ قد أدركهُ وكان وعاصره إلا أن الإمام هُنا لم يثبت لهُ سماعٌ منهُ فإن وقعت روايته عنهُ فهذا مِنْ قبيل المرسل الخفي لا مِنْ قبيل التدليس .
ويقول ابن أبي حاتم (1/242) : (( قُلْتُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَسَمِعَ مِنْهُ قَالَ لَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ )) وها أنت تعلم أن الواقدي وابو مسهر قال أنه توفي سنة إحدى وتسعين ويحتمل أن يكون الإمام يحيى بن أبي كثير قد أدركه وعاصرهُ ! .
وقال ابن أبي حاتم (1/242) : ((قُلْتُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَسَمِعَ مِنْهُ قَالَ لَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قُلْتُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نَوْفٍ أَسَمِعَ مِنْهُ قَالَ لَا لْم يَسْمَعْ مَنْهُ )) أهـ . فانظر كيف نفى السماع مِنْهم وقد وقعت ليحيى بن أبي كثير مُعاصرةً لهم – رضي الله عنهم – وأدرك جُلهم ! فلا يكونُ الذي وقع فيه مِنْ قبيل التدليس عنهم إنما نقول أنه قد أرسل عنهم ومرسله هُنا عمن أدركهم مرسلٌ خفي . والله أعلم .
§ وهاك في مسألة ما تُكلم في سماعه مِنْهُمْ وثبت أنه قد سمع وهم زيد بن سلام وأبي قلابة الجرمي – رضي الله عنهم – فقد تكلم في سماعه مِنْهُمْ .
قال ابن أبي حاتم في المراسيل (1/241) : (( سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ شَيْئًا قَالَ أَبِي وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ )) .
فعلق الإمام حياة الإمام الألباني (ص125) : (( وهذا استدلال دقيق من الإمام أحمد رحمه الله على تنزيه يحيى مما رماه به بعضهم من عدم سماعه من زيد بن سلام مع تصريحه بالتحديث عنه , يشير الإمام أحمد إلى أنه لو كان كما زعم ( الناس ) لقال: " حدث زيد بن سلام كما قال في رواية عن أبي سلام – وهو جد زيد – " حدث أبو سلام )).
ونتابع أنا وأنت ما قاله الأئمة فهاك الذهبي ينقل عَنْ العقيلي أنه يذكر بالتدليس وقد تقدم مِنْا الكلام على أن هذا تبعاً لما كان عليه النسائي – رحمه الله – وهذا ليس بالجزم لا مِنْ الحافظ الذهبي كما في الميزان ، ولا من العقيلي ولا العلائي ولا الحافظ ابن حجر وإن كان الحافظ قد أورده مرة في الثالثة ومرة في الثانية وهي الأرجح عندنا ، وقد تقدم بيانُ روايته عن أنس بن مالك رضي الله عنه ! فلا يكون فيها تدليساً بل مرسلةً لأنه لم يثبت له سماعٌ مِنْ انس بن مالك بل حدث عنهُ بواسطةٍ أو واسطتين ! فلا يصح إطلاق التدليس عليها .
وفي قصة حسين المعلم : ((قلنا ليحيى بن أبى كثير: هذه المرسلات عمن هي ؟ قال: أترى رجلا أخذ مدادا وصحيفة فكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب ! قال: قلت: فإذا جاء مثل هذا فأخبرنا ؟ قال: إذا قلت بلغني فهو من الكتاب)).
وهذه القصة لا تثبت تدليس يحيى بن أبي كثير بل هي دليلٌ على انتفاء التدليس عنه – رحمه الله – وتأمل قوله ( هذه المرسلات عمن هي ) ومقصدهُ هُنا أن حسين المعلم ومن معه كانوا يعرفون أنها مرسلات لا تدليساً ! ، وأما فيما يتعلق في رواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام قد نفاها الإمام يحيى بن معين ، واثبتها الإمام أحمد وابي حاتم ! وكلاهما مقدمٌ على النافي لأن معهما زيادةَ علمٍ ! والجمعُ في هذا الشأن مقدمٌ على ما انفرد بهِ واحدٌ مِنْ الأئمةِ وعلى إمامته فإنا نثبت سماعه مِنْ زيد بن سلام – رحمهم الله - . والله أعلم .
وذكر العلائي في الجامع انكار أحمد نفيهم لسماع يحيى مِنْ أبي قلابة فقال ابن أبي حاتم في مراسيله (1/240) : ((قَالَ وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ سَمِعَ مِنْ أَبِي قِلَابَةَ فَقَالَ لَا أَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ يَدْفَعُ أَوْ نَحْوَ هَذَا قُلْتُ زَعَمُوا أَنَّ كُتُبَ أَبِي قِلَابَةَ وَقَعَتْ إِلَيْهِ قَالَ لَا )) وقال العلائي (1/299) : (( وذكر بعضهم إنه لم يسمع من أبي قلابة وأنكر هذا أحمد بن حنبل وقال بأي شيء يدفع سماعه فقيل له زعموا أن كتب أبي قلابة وقعت إليه قال لا والله أعلم )) وبهذا يدفع أن يكون الإمام يحيى بن أبي كثير لم يثبت سماعه مِنْ أبي قلابة الجرمي بل هو ثابتٌ كما أثبته له الإمام أحمد بن حنبل .
فكما ترى فإن أكثر ما أورده له العلائي والعراقي وابن ابي حاتم في كُتبهم عبارة عن مراسيل ولم يحكي أحدٌ منهم أنه قد دلس في سماعه ممن أرسل عنهم ، وقد أثبت سماعه مِنْ زيد بن سلام الإمام الألباني فيقول سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/158) : (( ثم إن فيه عنعنة يحيى بن أبي كثير؛ لكن قد تبين في تخريج الحديث الذي قبله أنه سمعه من زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي راشد )) وقد أعل الإمام الألباني أحاديثاً ليحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام بتدليسه وقد عرفت أنهُ ثبت سماعهُ مِنْ زيد بن سلام وأنه في طبقة المُدلسين الثانية وهؤلاء ممن احتمل الأئمة حديثهم إما لإمامتهم أو أنهم قليلوا التدليس جنب ما رووا أو أنهم لايدلسوا إلا عن ثقات ! وهذا متحقق في حديث الإمام يحيى بن أبي كثير .
ومِنْ هذا المُنطلق لا يمكننا القول أن مَنْ وصفه بالتدليس مِنْ بعد الإمام النسائي كان وصفهُ لهُ جزماً ! إنما كانت ألفاظهم متفاوتة في الشك لا على سبيل الجزم واليقين ! فيندفعُ هذا المعروف بالتدليس المذموم عن الإمام يحيى بن أبي كثير فلا يكون إلا في الطبقة الثانية مِنْ المدلسين ، وهاك أقوالهم ! فإنظر لها وتأملها جيداً فسترى أنهم ما وصفوهُ به إلا شكوكاً ولم يكن جزماً منهم خصوصاً عند الذهبي وغيرهُ مَن سار تبعاً لما قاله الإمام النسائي رحمه الله في وصف ابن أبي كثير بالتدليس والأرجح أن لا يكون حديثهم قرينةً على أنه في المرتبة الثالثة وأن ابن حبان ما قالها في حقه إلا وكلامه بائنٌ أنهُ الإرسال .
§ دِراسةُ أحاديثهِ عَنْ الصحابي الجَليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – وفيه تَرجيحٌ لسماعه مِنْهُ مِنْ عدمهِ إن شاء الله تبارك وتعالى .
وفي هذ الباب سنناقش أنا وأنت الأحاديث التي حدث بها يحيى بن أبي كثير عَنْ أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه ، وقد تكلم في سماع يحيى بن أبي كثير مِنْ الصحابي الجليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – وقد نفاهُ غير واحدٍ مِنْ الأئمةِ كابن معينٍ والبخاري وأبي حاتم الرازي وأثبتوا له الرؤية ! وقد سبق وأن ذكرنا أنه لم يسمع مِنْهُ وأوردنا الأدلة على ذلك وزيادةً في الخيرِ ولأننا نناقش روايته خصوصاً عَنْ أنس فهاكِ البيان مِنْ جديد .
قال ابن أبي حاتم في المراسيل (1/240) : ((خْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَثْرَمِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ سَمِعَ مِنْ أَنَسٍ قَالَ قَدْ رَآهُ قَالَ رَأَيْتُ أَنَسًا وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْهُ أَمْ لَا )) .
وقال في المراسيل (1/241) : (( ذكره أبي عَن إِسْحَق بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ قُلْتُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ سَمِعَ مِنْهُ قَالَ لَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قُلْتُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ هَلْ سَمِعَ مِنْهُ قَالَ رَآهُ )) .
وقال في المراسيل (1/243) : (( سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ جَمَاعَةٌ بِالْبَصْرَةَ قَدْ رَأَوْا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ )) وها هو يقول (1/244) : (( سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَسًا فَإِنَّهُ رَآهُ رُؤْيَةً وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ )) . قُلت : فالمقرر لديك الآن بعدما رأيت أقوال الأئمةِ أن يحيى بن أبي كثير لا يمكن أن يكون قد سمع مِنْ أنس بن مالك – رضي الله عنه – فحديثه عنه قبيل المرسل وهو الخفي كما تقرر لديَّ ولديكَّ فيما مضى ! وروايته عَنْ أنس بن مالكٍ على ضربين .
1. حَديث يحيى بن أبي كثير عَنْ أنس بن مالكٍ بواسطةِ : (( أبي قِلابة الجرمي – حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك – إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة – أنس بن سيرين – قتادة بن دعامة السدوسي )) وحديثهُ عَنْ أنس بواسطةِ أبي قِلابة ينفي قولهم بعدم سماعهِ مِنْهُ فرحم الله تعالى الجميع وجزاهم كل خيرٍ .
2. حَديث يحيى بن أبي كثير عَنْ أنس بن مالكٍ – رضي الله عنه – بدُون واسطةٍ وفيه 11 روايةٍ ليحيى بن أبي كثير ولا تصحُ إليهِ ! فانتفى تدليسهُ عَنْ أنس .
· حَديث يحيى بن أبي كثير عَنْ أنس بن مالكٍ بواسطةِ : (( أبي قِلابة الجرمي – حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك – إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة – أنس بن سيرين – قتادة بن دعامة السدوسي ))
[ أولاً ] يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " قَدِمَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ عُكْلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَفَعَلُوا فَقَتَلُوا رَاعِيَهَا وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِثْرِهِمْ قَافَةً، فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا.
[ التَخريج ] أخرجه أحمد 3/161 (12667) قال: حدَّثنا عَبْد الرَّزَّاق، أنبأنا سُفْيان، عن أَيُّوب. وفي 3/186 (12967) قال: حدَّثنا إِسْمَاعِيل، حدَّثنا الحَجَّاج بن أَبي عُثْمَان، حدَّثني أبو رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة. وفي 3/198 (13076) قال: حدَّثنا الوَلِيد بن مُسْلم، حدَّثنا الأَوْزَاعِي، قال: حدَّثني يَحيى بن أَبي كَثِير. و"البُخَارِي" 233 قال: حدَّثنا سُلَيْمان بن حَرْب، قال: حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد، عن أَيُّوب. وفي (3018) قال: حدَّثنا مُعَلَّى بن أَسَد، حدَّثنا وُهَيْب، عن أَيُّوب. وفي (4193) قال: حدَّثني مُحَمد بن عَبْد الرَّحِيم، حدَّثنا حَفْص بن عُمَر، أبو عُمَر الحَوْضِي، حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد، حدَّثنا أَيُّوب، والحَجَّاج الصَّوَّاف، قال: حدَّثني أبو رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة، وكان معه بالشَّأْم. وفي (4610) قال: حدَّثنا علي بن عَبْد الله، حدَّثنا مُحَمد بن عَبْد الله الأَنْصَارِي، حدَّثنا ابن عَوْن، قال: حدَّثني سَلْمَان، أبو رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة. وفي (6802) قال: حدَّثنا علي بن عَبْد الله، حدَّثنا الوَلِيد بن مُسْلم، حدَّثنا الأَوْزَاعِي، حدَّثني يَحيى بن أَبي كَثِير. وفي (6803) قال: حدَّثنا مُحَمد بن الصَّلْت، أبو يَعْلَى، حدَّثنا الوَلِيد، حدَّثني الأَوْزَاعِي، عن يَحيى. وفي (6804) قال: حدَّثنا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، عن وُهَيْب، عن أَيُّوب. وفي (6805) قال: حدَّثنا قُتَيْبَة بن سَعِيد، حدَّثنا حَمَّاد، عن أَيُّوب. وفي (6899) قال: حدَّثنا قُتَيْبَة بن سَعِيد، حدَّثنا أبو بِشْر، إِسْمَاعِيل بن إبراهيم الأَسَدِي، حدَّثنا الحَجَّاج بن أَبي عُثْمَان، حدَّثني أبو رَجَاء، من آل أَبي قِلاَبَة. و"مسلم" 4369 قال: حدَّثنا أبو جَعْفَر، مُحَمد بن الصَّبَّاح، وأبو بَكْر بن أَبي شَيْبَة، واللفظ لأَبي بَكْر ، قال: حدَّثنا ابن عُلَيَّة، عن حَجَّاج بن أَبي عُثْمَان، حدَّثني أبو رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة. وفي (4370) قال: وحدَّثنا هارون بن عَبْد الله، حدَّثنا سُلَيْمان بن حَرْب، حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد، عن أَيُّوب، عن أَبي رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة. وفي (4371) قال: وحدَّثنا مُحَمد بن المُثَنَّى، حدَّثنا مُعَاذ بن مُعَاذ (ح) وحدَّثنا أحمد بن عُثْمَان النَّوْفَلِي، حدَّثنا أَزْهَر السَّمَّان، قالا: حدَّثنا ابن عَوْن، حدَّثنا أبو رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة. وفي (4372) قال: وحدَّثنا الحَسَن بن أَبي شُعَيْب الحَرَّانِي، حدَّثنا مِسْكِين، وهو ابن بُكَيْر الحَرَّانِي، أخبرنا الأَوْزَاعِي (ح) وحدَّثنا عَبْد الله بن عَبْد الرَّحْمان الدَّارِمِي، أخبرنا مُحَمد بن يُوسُف، عن الأَوْزَاعِي، عن يَحيى بن أَبي كَثِير. و"أبو داود" 4364 قال: حدَّثنا سُلَيْمان بن حَرْب، حدَّثنا حَمَّاد، عن أَيُّوب. وفي (4365) قال: حدَّثنا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، حدَّثنا وُهَيْب، عن أَيُّوب بإسناده. وفي (4366) قال: حدَّثنا مُحَمد بن الصَّبَّاح بن سُفْيان، قال: أخبرنا (ح) وحدَّثنا عَمْرو بن عُثْمَان، حدَّثنا الوَلِيد، عن الأَوْزَاعِي، عن يَحيى، يَعْنِي ابن أَبي كَثِير. و"النَّسائي" 7/93 , وفي "الكبرى" 3473 قال: أخبرنا إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود , قال: حدَّثنا يَزِيد بن زُرَيْع، عن حَجَّاج الصَّوَّاف، قال: حدَّثنا أبو رَجَاء، مَوْلَى أَبي قِلاَبَة. وفي 7/94، وفي "الكبرى" 3474 و11078 قال: أخبرني عَمْرو ابن عُثْمَان بن سَعِيد بن كَثِير بن دِينَار، عن الوَلِيد، عن الأَوْزَاعِي، عن يَحيى. وفي 7/95 , وفي "الكبرى" 3475 قال: أخبرنا إِسْحَاق بن مَنْصُور , قال: حدَّثنا مُحَمد بن يُوسُف , قال: حدَّثنا الأَوْزَاعِي، قال: حدَّثني يَحيى بن أَبي كَثِير. وفي 7/95 , وفي "الكبرى" 3476 قال: أخبرنا أحمد بن سُلَيْمان , قال: حدَّثنا مُحَمد بن بِشْر، قال: حدَّثنا سُفْيان , عن أَيُّوب.
ثَلاثَتُهم ( أيوب ، أبو رجاء ، يحيى بن أبي كثير ) عَنْ أبي قلابة الجرمي عَنْ أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهُ بالحديث المُخرجِ وبذلك فإنا نَعلم أنه لم يحدث عنهُ إلا بواسطةِ أبي قِلابة في هذا الإسناد ، وهذا الحديث مما لا شك فيه صحيحٌ وذكره أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح مُعلقاً ثُم وصلهُ في عدةِ مواطنٍ في صحيحه ، وفيه شُبهةٌ وقد طعن في الحديث مِنْ قبل أهل البدع ولا تقومُ لهم قائمةٌ بها ولسنا هُنا في معرض الرد عليهم في هذه الشبهة البالية فقد سبقنا بها بعض طلبة العلم ! إنما أردنا أن نثبت أن الإمام يحيى بن أبي كثير قد حدث عَنْ أنس بن مالك بواسطةٍ وهو أبي قِلابة الجرمي .
وهذا الحديث صحيح ليس فيه مطعنٌ وقد أثبتت الدراسات العلمية أن بول الإبل يحتوي على مادة تساعد على الشفاء ، كما وأثبت العلماء أن بول الإبل طاهرٌ .
[ ثانياً ] عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.
[ التَخريج ] أخرجه أحمد 3/138 (12435) قال: حدَّثنا عَبْد الرَّزَّاق، حدَّثنا مَعْمَر. وفي 3/151 (12553) قال: حدَّثنا عَبْد الصَّمَد، حدَّثنا حَرْب، يَعْنِي ابن شَدَّاد. و"البُخَاريّ" 2/57 (1108) قال: وقال إبراهيم بن طَهْمَان: عن حُسَيْن. وفي 2/58 (1110) قال: حدَّثنا إِسْحَاق، حدَّثنا عَبْد الصَّمَد، حدَّثنا حَرْب ، ثلاثتهم (مَعْمَر، وحَرْب , وحُسَيْن المُعَلِّم) عن يَحيى بن أَبي كَثِير، قال: حدَّثني حَفْص، فذكره.
[ فائدةٌ ] وقد نقل بعض مَنْ اتهم يحيى بن أبي كثير بأنه مدلسٌ قصةً عَنْ حسين المعلم يظنون فيها أنه قد دلسها ! ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثني أبي ، عن حسين المعلم ، قال : لما قدم علينا يحيى بن أبي كثير بعث إلى مطر الوراق : احمل الصحيفة والدواة ، وتعال ، فأتيناه فأخرج إلينا كتاب أبي سلام ، فقلنا : سمعت هذا من أبي سلام ؟ قال : لا ، قلنا : فمن رجل سمعه من أبي سلام ؟ قال : لا ، فقلنا : تحدث بأحاديث مثل هذه لم تسمعها من الرجل ، ولا من رجل سمعها منه ، فقال : « أترى رجلا جاء بصحيفة ودواة كتب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه كذبا ؟ » هذا معنى الحكاية ، قال أبو بكر : كتب عني مسلم بن الحجاج هذه الحكاية .
فظن مِنْ هذه الحكاية أن المراد بابي سلام هُنا المراد به زيد بن سلام ! وهذا ليس بصحيحٍ فقد حدث حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير وهو الذي ذكر أنه يقول بتدليسه ، والصواب ليس بزيد بن سلام بل ممطور الحبشي وهو ممن اختلف على سماع يحيى بن أبي كثير منه بشكلٍ كبيرٍ بين الأئمةِ ، وإنما روايته عَنْ أبي سلام مِنْ كتابٍ وسيأتي الكلام على سماع يحيى بن أبي كثير مِنْ زيد بن سلام – رحمه الله – وإلا فإن هذا ليس دليلاً على تدليسهِ أبداً وليس فيه ما قد يشعر بأن حسين المعلم يقول بتدليس يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – أبداً .
وبهذا يكون ثبت لك أن يحيى بن أبي كثير لا يحدث عن الصحابي الجليل أنس بن مالك إلا بواسطةٍ ! ودُخول الواسطة يعني نفي السماع مُطلقاً مِنْ الراوي كما عند أهل الحديث ، وإن كان قد عاصره ، فالقرينة وقعت على عدم السماع فلم يصح لهُ سماعٌ مِنْهُ .
[ ثالثاً ] عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ, [وفي طريق آخر: من خلل (وفي رواية: فألقم عينه خصاصة الباب/1091) (1) فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم /1072] فَأَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَسَدَّدَ نحو عينيه [ليفقأ عينه] [فأخرج الرجل رأسه] ، (وفي رواية: فانقمع الْأَعْرَابِيِّ، فَذَهَبَ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكَ لو ثبتّ لفقأت عينك") . قُلت : وقد صححه الإمام الألباني في صحيح الأدب المفرد .
[ التخريج ] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/374) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/376) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/394) ، والطبراني في المعجم الكبير (1/254) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/587) ، وأبي القاسم في فوائده (1/84) ، مجموع في ثلاث فوائد حديثية (1/314) مِنْ طريق أبان بن يزيد العطار عَنْ يحيى بن أبي كثير عَنْ إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عَنْ أنس بن مالك ..... به .
[ رابعاً] حَدَّثَنَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبَانَ الْعَطَّارِ ، عَنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ : أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَنَسًا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ أَن صُلِّيَ عَلَيْهَا .
[ التَخريج ] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفهِ موقوفاً على أنس بن مالك – رضي الله عنه – وفيه صيغة بلغه عَنْ أنس بن مالك ! مما يشهد أنه لم يسمعه منه وبينهُ وبين أنس بن مالك واسطةٌ ولهذا قال (( أنه بلغه أن أنساً )) وهذا يشعر بأنه عَنْ أنسٍ بواسطةٍ .
وهذه الواسطة هو أنس بن سيرين – رحمه الله – وقد صرح بهِ عند ابن عدي (3/333) مِنْ طريق الإمام أحمد عَنْ عبد الصمد بن عبد الوارث وابن معين مِنْ طريق أبي داود الطيالسي في تاريخهِ (4/334) ، عَنْ حرب بن شداد عَنْ يحيى بن أبي كثير عَنْ أنس بن سيرين عَنْ أنس بن مالك ثُم ذكر الحديث ، وقد قال ابن عدي (3/333) : (( ثنا بن أبي عصمة ثنا أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن حرب بن شداد فقال ثقة وكان هشام وحرب بن شداد وشيبان وعلي بن المبارك هؤلاء الأربعة ثقة ثبت في يحيى بن أبي كثير )).
قال ابن معين (4/334) : (( قلت ليحيى يحيى بن أبي كثير عَن أنس بن سِيرِين قَالَ هَكَذَا قَالَ قلت روى يحيى بن أبي كثير عَن بن سِيرِين قَالَ مَا سَمِعت غير هَذَا )) .


[ خامساً ] نَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَجَ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً وَدَخَلَ مِنْهُنَّ بِإِحْدَى عشرَة وَمَات عَن تسع .
[ التخريج ] أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (7/106) (2524) مِنْ طريق عمر بن سهل عَنْ يحيى بن أبي كثير قتادة عَنْ أنس بن مالك – رضي الله عنه – وصحح إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث وقال ( إسناده صحيح ) .
وبهذا ينتهي القسم الأول مِنْ أحاديث الإمام يحيى بن أبي كثير عَنْ أنس بن مالك بواسطةِ الخمسةِ المذكورين في الأحاديث الخمس ، ومثل هذا قال فيه الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي : (( فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً – ولم يثبت لقيه له – ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه )) .
ويقول في شرحه للعلل (1/365) : (( وما قاله ابن المديني، والبخاري هو مقتضى كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ. بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع - كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه-، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة، وقالوا مع ذلك: لم يثبت لهم السماع منهم، فرواياتهم عنهم مرسلة. منهم الأعمش، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، وابن عون، وقرة بن خالد، رأوا أنسًا ولم يسمعوا منه، فرواياتهم عنه مرسلة. كذا قاله أبوحاتم: وقاله أبوزرعة أيضًا في يحيى بن أبي كثير ، ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي )) .
فلا نكتفي بمجرد معاصرة الإمام يحيى بن أبي كثير لمثل الصحابي الجليل أنس بن مالك لأن القرائن لو دارت على أنه لم يثبت له لقاءٌ انتفى له السماع منهُ وهذا ما عليه أهل الحديثِ ولا نكتفي بمجرد العنعنة مِنْ معاصرٍ حتى يثبت اللقاء ولو مرةً واحدة لمَنْ عاصر وكان بريئاً مِنْ تهمة التدليس فيقول الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر (ص64) : ((عنعنة المعاصر محمولة على السماع إلا من المدلس، وقيل: يشترط ثبوت لقائهما ولو مرة، وهو المختار )) فلو أن اللقاء ولو مرةً واحدةً تحقق وثبت بالأحاديث الصحاح ! قُلنا بأن عنعنة المعاصر محمولةً على الإتصال لثبوت اللقاء ولو مرةً واحدةً وإن لم يكن فيها أنه قد حدثهُ بحديثٍ لأننا عندها لا نأمن ما إن كان فيه إنقطاعٌ في روايته أم لا ، وقد ثبت لدينا أن الإمام مسلم رحمه الله تعالى قد راعى القرائن المُشار إليها وهو أن يكون هُناك ما قد ينفي سماع الراوي المعاصر ممن عاصره ومِنْ ذلك قولهُ في المقدمة : (( الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ثِقَةٍ رَوَى عَنْ مِثْلِهِ حَدِيثًا، وَجَائِزٌ مُمْكِنٌ لَهُ لِقَاؤُهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا وَلَا تَشَافَهَا بِكَلَامٍ فَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ، وَالْحُجَّةُ بِهَا لَازِمَةٌ، إِلَّا أَنَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِي لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَمَّا وَالْأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الْإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا، فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا )) .
فلا شك لو أن الراوي نفى السماع عَنْ نفسهِ أو أتت قرينةً على أنه لم يثبت لهُ سماعاً مِنْ الشيخ الذي حدث عنهُ إنتفى القول بالمعاصرة والسلامة مِنْ التدليس وهذا يحيى بن أبي كثير عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – فعلى إمامته وسعة مروياتهِ ولقاءه للصحابي الجليل أنس رضي الله عنه إلا أن أهل العلم كأبي حاتم وابن معين وأحمد بن حنبل قالوا بنفي سماعه مِنْ أنس وقد أعلوا لهُ أحاديثاً بالإنقطاع لمجرد أنه يكون بين وبين مَنْ يحدث عنه راوياً أو راويان فمقتضى كلامهم أنه لا يصح لهُ السماع لادخال الوسائط في روايتهِ .
وهاك ما قاله الإمام مسلم في مُقدمته يثبت لنا أنه يراعي القرائن التي تحيط برواية المعاصر وعنعنته مع سلامته مِن التدليس وثبات المعاصرة إلا أن تكون بينةً فيقول : (( إِلَّا أَنَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِي لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَمَّا وَالْأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الْإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا، فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا )) فرحم الله الإمام مسلم هُنا يثبت لديك أيها القارئ الكريم أن الإما مسلم كان يراعي هذا الشأن ويأخذ بعين الاعتبار القرائن التي تحيط برواية المعاصر وهو عين ما يقوله الإمام البخاري من ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة فالحجة برواية المعاصرِ قائمةً مالم يثبت أنهما لم يلتقيا ولم يثبت أنهما قد سمعا مِنْ بعضهما ، أو أن حصلت بينهما مكتابة أو لم يدخل بينه وبين مَنْ حدث عنه وسائطٌ فينفي الإمام مسلم رحمه الله تعالى السماع .
قال الشيخ العوني في إجماع المحدثين (1/17) : ((فتأمّل قوله: ((والأمر مبهم)) ، وما تدل عليه من أن الحكم بالاتّصال بين المتعاصرين إنما يقول به مسلم عندما لا تكون هناك مرجّحات وقرائن تميل بكفّة المسألة إلى عدم السماع، إذ لو كانت هناك مثل تلك المرجحات والقرائن لم تُوصفِ المسألةُ بأن الأمر (أي أمر الاتصال) فيها مبهمٌ )) .
ومِنْ اللطائفِ الطَيبات في إثبات أن الإمام مسلم كان قد راعى هذه القرائن التي يقول بها مَنْ انتصر لمذهب الإمام البخاري مِنْ أن رواية المعاصر لابد أن يثبت لها اللقاء ولو مرةً واحدةً ومعناهُ أن لا يكون هُناك على منهج الإمام البخاري ما ينفي السماع تماما مِنْ الراوي الذي حدث عنهُ ، فيثبت لك مِنْ قول الإمام مسلم : ((أن كل إسنادٍ لحديثٍ فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلمُ بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به )) فلو أمعنت النظر لرأيت الإمام مسلم يقول (( كانا في عصر واحد )) ثُم يضيف قائلاً (( وجائزٌ أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به )) ويكون هذا بالقرائن المُحيطة وإن رأيت راوياً قد تكلم في سماعه مِنْ آخر ! أو لم يثبت لدى الإمام مسلم أنه قد سمع منهُ مثل رواية الحسن البصري عن عمران بن حصين ! رغم المعاصرة لثلاثين عاماً في البصرة فتجنب الشيخين إخراج روايته في الصحيح رغم أن اللقاء جائزٌ للمعاصرة ولم يخرجاه .
وإن أدخلت الوسائط وبعدت البلدان فتلك مِنْ القرائن التي قد يعل لأجلها أهل الحديث مرويات الرواةِ فيمن حدثوا عنهم وعرف بالدليل أنه ما كان بينهُ وبين شيخهِ إلا واسطةً أعلت هذه الرواية بالإنقطاع ، أو بعدت البلدان أو نفى ذلك عن نفسهِ أو ثبت عَنْ أهل هذا الشأن ما قد ينفي السماع تماما فيعل عندها ، وهذه قرينةٌ قويةٌ على أن الإمام مسلم قد أخذ بالقرائن التي أشرنا إليها وإلي كون المُعاصرة إن تحققت وكان جائزاً أنهُ سمع منهُ وشافهه وهذا مِنْ قولهِ يتضح لك أنه كان يأخذ بعين الاعتبار كل قرينةٍ قد يحصل بها انتفاء السماع عمَّن حديث عَنْهُ الراوي أو أن تكون هُناك قرائنٌ تنفي احتمال السماع .
يقول الشيخ العوني في إجماع المحدثين (1/73) : (( ومن جهة أخرى: نستفيد فائدةً مهمّة تتعلّق بما كنّا قد ذكرناه في تحرير شرط مسلم، وهو أنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة، وأنه كان يراعي القرائن. فهذا الإعلال راعى فيه مسلم ذكر الراوي لواسطة بينه وبين من روى عنه، وعليها بنى الإعلال بعدم العلم بالسماع، أي الإعلال بترجيح عدم السماع )) .
وبه يتضح لك أن الإمام مسلم كان قد راعى القرائن في رواية المعاصر وقد أورد الشيخ تطبيقاً لمراعاة الإمام مسلم للقرائن التي تحيط برواية المعاصر في كتابه إجماع المحدثين ، وللشيخ خالد الدريس موقفٌ طيبٌ في كتابه موقف الإمامين وليس المحل مُناقشةً أياً مِنْهُما وإنما للبيان .