المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معنى قيام الحجة عن الشيخن ابن تيمية وابن عبدالوهاب



أهــل الحـديث
04-06-2013, 03:10 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





قال ابن تيمية في الجواب الصحيح:
فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيُؤْخَذَ كَلَامُهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَتُعْرَفَ مَا عَادَتُهُ يَعْنِيهِ وَيُرِيدُهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَتُعْرَفَ الْمَعَانِي الَّتِي عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَا عُرِفَ عُرْفُهُ وَعَادَتُهُ فِي مَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ، كَانَ هَذَا مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِ.
وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُهُ فِي مَعْنًى لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَتُرِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَحُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى خِلَافِ الْمَعْنَى الَّذِي قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ يُرِيدُهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ بِجَعْلِ كَلَامِهِ مُتَنَاقِضًا، وَتَرْكِ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ سَائِرَ كَلَامِهِ، كَانَ ذَلِكَ تَحْرِيفًا لِكَلَامِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَتَبْدِيلًا لِمَقَاصِدِهِ وَكَذِبًا عَلَيْهِ.

وقال:
وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ جَعَلُوا لَفْظَ التَّأْوِيلِ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يَجِدُونَهُ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمُتَشَابِهِ مِثْلَ قَوْلِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَعْنَى ظَنُّوا أَنَّ مُرَادَهُ. أَنَّا لَا نَعْرِفُ مَعْنَاهَا. وَكَلَامُ أَحْمَد صَرِيحٌ بِخِلَافِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْكِرُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَصَنَّفَ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " فِيمَا أَنْكَرَتْهُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ إذَا تَأَوَّلُوهُ يَقُولُونَ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا وَالْمُكَيِّفُونَ يُثْبِتُونَ كَيْفِيَّةً. يَقُولُونَ: إنَّهُمْ عَلِمُوا كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ. فَنَفَى أَحْمَد قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ هَؤُلَاءِ: قَوْلَ الْمُكَيِّفَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْكَيْفِيَّةَ وَقَوْلَ الْمُحَرِّفَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا.




قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية:
والعذر أن يُعذر المعذور فلا يذم ولا يلام على ما فعل قال من أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين فأحب أن يكون معذورًا على عقوبة من عصاه لأنه أقام حجته عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل.


وقال ابن تيمية - مجموع الفتاوى :
وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَسْمَاءَ وَأَحْكَامٍ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَسْمَاءَ وَأَحْكَامٍ وَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ: عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَ فِيهَا حَسَنٌ وَقَبِيحٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ وَطَاغِينَ وَمُفْسِدِينَ؛ لِقَوْلِهِ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ ظَالِمٌ وَطَاغٍ وَمُفْسِدٌ هُوَ وَقَوْمُهُ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ ذَمِّ الْأَفْعَالِ؛ وَالذَّمُّ إنَّمَا. يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْقَبِيحَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ تَكُونُ قَبِيحَةً مَذْمُومَةً قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ إلَّا بَعْدَ إتْيَانِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ هُودَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ} فَجَعَلَهُمْ مُفْتَرِينَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ يُخَالِفُونَهُ؛ لِكَوْنِهِمْ جَعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَاسْمُ الْمُشْرِكِ ثَبَتَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ وَيَعْدِلُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَجْعَلُ لَهُ أَنْدَادًا قَبْلَ الرَّسُولِ وَيُثْبِتُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَهْلِ وَالْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ: جَاهِلِيَّةً وَجَاهِلًا قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ وَأَمَّا التَّعْذِيبُ فَلَا. وَالتَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. {فَكَذَّبَ وَعَصَى} كَانَ هَذَا بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} {فَكَذَّبَ وَعَصَى} وَقَالَ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}


وقال محمد بن عبدالوهاب كما في الدرر السنية والرسائل الشخصية:
الرسالة السادسة والثلاثون بسم الله الرحمن الرحيم إلى الأخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب؛ كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً؟
فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفّر حتى يعرَّف; وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة. ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة؛ فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله: صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " ، وقوله: " شر قتلى تحت أديم السماء " ، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها. وكذلك " قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار "، مع كونهم تلاميذ الصحابة مع مبادئهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا.
إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر. الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين؛ وأظهر مما تقدم الذين حرقهم علي فإنه يشابه هذا.


وقال ابن تيمية في الجواب الصحيح:
وَكُتُبُ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الضَّالِّ وَالْجَاحِدِ وَمَقْتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَقَتَهُمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْبَقَايَا، وَالْمَقْتُ هُوَ الْبُغْضُ بَلْ أَشَدُّ الْبُغْضِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَقَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعَذَابِهِمْ قَائِمٌ، وَلَكِنَّ شَرْطَ الْعَذَابِ هُوَ بُلُوغُ الرِّسَالَةِ وَلِهَذَا قَالَ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ». وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»

ثم قال:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. لَكِنَّ أَفْعَالَهُمْ تَكُونُ مَذْمُومَةً مَمْقُوتَةً يَذُمُّهَا اللَّهُ وَيُبْغِضُهَا وَيُوصَفُونَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذُمُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَذِّبُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا ; كَمَا قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ; كَمَا تَقَدَّمَ «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

ثم قال:
وَمَعَ مَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسِيئِينَ وَلَا مُرْتَكِبِينَ لِقَبِيحٍ حَتَّى جَاءَ السَّمْعُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَذَّبِينَ بِدُونِ السَّمْعِ إِمَّا لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْعَقْلِ ; كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَإِمَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ ; كَمَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ.
قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ قَبْلَ الرَّسُولِ كَانُوا قَدِ اكْتَسَبُوا الْأَعْمَالَ الَّتِي تُوجِبُ الْمَقْتَ وَالذَّمَّ وَهِيَ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، لَكِنْ شَرْطُ الْعَذَابِ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرِّسَالَةِ.


وقال كما في مجموع الفتاوى:
الْعُذْرَ لَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَتِهِ وَإِلَّا فَمَتَى أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فَقَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا.


وقال في الرد على المنطقيين:
ومن جواب هؤلاء أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها.
ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة.
فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً} . وقال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} . وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَوقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} . وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} .


وقال:
وَإِذَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَصِلَ أَمْرُ الْآمِرِ وَنَهْيُ النَّاهِي مِنْهَا إلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي الْعَالَمِ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا مِنْ شَرْطِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ: فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ فِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهَا؟ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ. ثُمَّ إذَا فَرَّطُوا فَلَمْ يَسْعَوْا فِي وُصُولِهِ إلَيْهِمْ مَعَ قِيَامِ فَاعِلِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ: كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُمْ لَا مِنْهُ.

وقال:
فَالْمَعْذُورُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ مَعْذُورٌ هُوَ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْفِعْلِ مَعَ إرَادَتِهِ لَهُ: كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ وَالْفَقِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ الْإِنْفَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ وَلَا مُعَاقَبِينَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ: كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ.
وَأَمَّا مَنْ جُعِلَ مُحِبًّا مُخْتَارًا رَاضِيًا بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ حَتَّى فَعَلَهَا فَلَيْسَ مَجْبُورًا عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ وَلَا مُكْرَهًا عَلَى مَا يَرْضَاهُ فَكَيْفَ يُسَمَّى هَذَا مَعْذُورًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى مَغْرُورًا

وقال:
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الصَّادِرَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلًا بَاطِلًا أَوْ عَمَلًا مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : عَدَمُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ. و (الثَّانِي) عَدَمُ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَقِّ الْمَشْرُوعِ. مِثَالُ (الْأَوَّلِ) : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَالِ مُولَهًا مَجْنُونًا قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَهَذَا إذَا قِيلَ فِيهِ: يَسْلَمُ لَهُ حَالُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُعَاقَبُ؛ لَا بِمَعْنَى تَصْوِيبِهِ فِيهِ؛ كَمَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْمَجَانِينِ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابٌ فَهَذَا خَطَأٌ.

وقال في الجواب الصحيح:
فَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ تَحْرِيفَ الْكِتَابِ لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ وَعَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَعَانَدَهُ فَهَذَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّطَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ مُشْتَغِلًا عَنْ ذَلِكَ بِدُنْيَاهُ.

وقال فيه:
وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّسَالَةِ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَقْوَالٌ أَظْهَرُهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ وَإِنْ عَصَوْهُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ.


وقال ابن القيم في مدارج السالكين:
فَإِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ قَامَتْ عَلَى الْعَبْدِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَبُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، سَوَاءً عَلِمَ أَمْ جَهِلَ، فَكُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَصَّرَ عَنْهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَاقَبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ عَاقَبَهُ بِحُجَّتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}


وقال في الصواعق المرسلة:
وقد كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس وانتدب أقوام لجمع حديث النبي وضمه وتقييده ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث وعرف الصحيح من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغها إليه وقيام الحجة بها عليه ولم يبق إلا العناد والتقليد.


وقال في هداية الحيارى:
فَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَى الْخَلْقِ بِالرُّسُلِ، وَبِهِمُ انْقَطَعَتِ الْمَعْذِرَةُ، فَلَا يُمْكِنُ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُمْ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ يُقْبَلُ مِنْهُ.


وقال في مدارج السالكين:
فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ وَأَغْنَى وَأَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُعَاقِبَ صَاحِبَ عُذْرٍ، فَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، إِزَالَةً لِأَعْذَارِ خَلْقِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَالِبَ عُذْرِهِمْ وَمُصَحِّحَهُ مُقِيمٌ لِحُجَّةٍ قَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ خَلْقِهِ - كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَالْمَعْتُوهِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَالْأَصَمِّ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ - فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ هَؤُلَاءِ بِلَا ذَنْبٍ الْبَتَّةَ، وَلَهُ فِيهِمْ حُكْمٌ آخَرُ فِي الْمَعَادِ، يَمْتَحِنُهُمْ بِأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ مِنْهُمْ، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ أَدْخَلَهُ النَّارَ،