المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [تفريغ] شرح كتاب المحصول في أصول الفقه لابن العربي المالكي للشيخ الشثري [6]



أهــل الحـديث
26-05-2013, 12:40 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لتحميل التفريغ وورد من هنا
(http://ar.salafishare.com/Bdj)
شرح
كتاب المحصول
في
أصول الفقه

للعلامة القاضي
أبي بكر بن العربي المعافري المالكي





شرح معالي الشيخ الدكتور :
سعد بن ناصر الشثري


فرغه :
أبو عبد الأعلى حاتم بن محمد المغربي



)المجلس السادس(

.. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:

نواصل ما كنا ابتدانا به من قراءة مباحث الأمر في كتاب المحصول لابن العربي رحمه الله تعالى:

**********

المتن:

المسألة الثالثة في مطلق لفظة افعل:
قال بعض الناس هي محمولة على الإباحة لأنه متيقن وغير ذلك مشكوك. وقال آخرون محملها الوجوب لأنه هو الظاهر منه. وقال أهل الحق يتوقف فيه أو لا يصح دعوى بشيء فيه لأن من تعلق بالإباحة فهو من فرع الاستصحاب الفقهي هو من أصعب الأدلة ولأنه ادعى الأقل ولا أقل في مسألتنا بل كل معنى منها مستقل.
و أما من تعلق بالوجوب فلا يخلو أن يدعي ذلك نظرا أو خبرا والنظر لا طريقة له في مسألتنا لأن النظر العقلي لا مجال له فيه والنظر الشرعي وهو القياس لا يسوغ إثباته.
وأما الخبر فلا يخلو أن يدعو ذلك أو شرعا أو آحاداً أو تواتراً وشيء من القسمين لم يوجد في واحد من القسمين ولو وجد فيه الآحاد لم تستقل بإثباتها فوجب التوقف وآل الأمر إلى العقد الذي عقدنا في المسألة التي قبلها والمختار فيها.

*********
الشرح:

قوله هنا: في مطلق لفظة افعل، يعني إذا كانت افعل لا توجد معها قرينة، قوله: في مطلق يعني إذا لم يكن مع صيغة افعل قرينة، على أي شيء تحمل؟
حملها المؤلف على التوقف، قال: يُتَوقف فيها، بناء على قول الأشاعرة بأن الألفاظ لا تدل على المعاني بنفسها، وإنما بحسب القرائن المحتفة بها.
والصواب أن صيغة افعل تدل على الوجوب بذاتها، فهذا هو الذي تفهمه العرب، وهذا هو الذي تدل عليه العقول، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص الشرعية قال تعالى: -(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)- [الأحزاب/36] فبين أن المؤمن ليس له خِيَرَةٌ عند ورود الأمر، وأن مخالف الأمر يعد عاصيا.
و يدل على هذا قوله تعالى: -(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)- [النور/63] توعد تارك الأمر بالمصيبة والعذاب الأليم، ولا يكون هذا إلا عند كون الأمر دالا على الوجوب بنفسه.
و يدل عليه قوله تعالى:-(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)- [آل عمران/32] توعد على ترك الطاعة...
و لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جَرِيرَة ليشفع لها في الإبقاء على زوجيتها من مغيث، قالت: أتأمرني؟ قال: {لا إنما أنا شافع}) (، فدل ذا على أنهم يفهمون أن الأمر بمجرده يكون للوجوب.
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية بأن يحلقوا رؤوسهم ويذبحوا هديهم، وتأخروا عتب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
و يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة}) ( والسواك مندوب، ومع ذلك نفى الأمر به مما يدل على أن الأمر للوجوب. والنصوص في هذا كثيرة هذه نماذج منها.
والقول بأن الألفاظ لا تدل على المعاني بنفسها الذي يتبناه الأشاعرة قول يَعْجَبُ المرء منه، إذا لم تدل الألفاظ على المعاني بنفسها فلا حاجة للألفاظ، لنقتصر على القرائن وتكفينا القرائن تدل على هذه المعاني.

**********



المتن:

المسألة الرابعة:
في اشتراط العلم بالتمكن من الأمر قبل الفعل قال أبو هاشم من المعتزلة لا يجوز وقال القاضي رحمه الله يجوز والمسألة مترددة من عبارتهم وعلى كل حال هي راجعة إلى الأصل السابق وهو تكليف ما لا يطاق.
والقاضي رحمه إنما صار عدم اشتراطه خوفا من التكاسل والتواني في تحصيل العلم له فيؤول ذلك إلى اخترام المنية للمكلف قبل الفعل فإذا قدرنا بذل المجهود في تحصيل العلم وتوقي الأسباب المعرضة للذهول عنه فيكاد يرتفع هذا الخلاف ويبقى الخلاف في المسألة الخامسة: وهي أن التمكن من الفعل هل هو شرط في إلزم الأمر أم لا؟
فذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المأمور به يثبت في ذمة المكلف قبل التمكن من الفعل وقد فاوضت في ذلك علماءه فقال لي الشيخ من أهل مذهبه في وقتنا أبو الوفاء بن عقيل وأبو سعد الفرذاني إن هذه المسألة صحيحة من مذهبنا ولكنها غير مذكورة الدليل لأنها لا تجري عندنا في سنن تكليف ما لا يطاق وإنما هي من باب إلزام المغمى عليه قضاء ما فاته م الصلوات في حال إغمائه فما لم يدرك شيئا من وقته فترجع المسألة فقهية وهي في مسائل الخلاف مذكورة.

*********

الشرح:

قبل هذا المسألة الرابعة المراد بها: هل يشترط في الأمر أن يعلم بأن المأمور يتمكن من فعل ما أُمر به أو لا؟ فأنا عندما آمرك بأمر، هل يشترط أن أكون عالما بقدرتك على هذا فعل المأمور به أو لا يشترط ذلك؟
وهذه المسألة مبنية على مسألة القضاء والقدر؛ الأشاعرة يقولون: نحن مَجْبُورُونَ في أفعالنا، بل يقولون: ليس لنا فعل إنما هي كسب مجرد صفة نتصف بها وإلا فهي من فعل الله.
إذن الآمر جل وعلا إذا أمرنا بأمر هل يشترط أن يكون سبحانه عالما بأننا نقدر على فعل الأمر أو لا؟
قال الأشاعرة: يجوز أن يأمر الآمر بأمر يعلم أن المكلف لا يقدر عليه، بل أوامر الله كلها من هذا الصنف، لأننا ليس لنا أفعال على مذهبهم، وليس لنا قدرة، وبالتالي فكل أفعالنا في غير قدرتنا، ليست أفعالا لنا هي أفعال لله، ومن هنا فقد يأمرنا الله بما لا نقدر عليه، وبما يعلم سبحانه أننا غير قادرين على امتثاله.
من يقول هذا؟ الأشاعرة، تقدم معنا كلامهم في مسألة تكليف ما لا يطاق.

المعتزلة يقولون: لا يأمر الله بشيء إلا وهو يعلم أن المكلف سيفعله أو يتمكن من فعله.
فاعترض عليهم المعترض وقال: الله أمر بالصلاة لكن بعض الناس لا يصلي.
قالوا: لأن الله لم يعلم أنهم سيتركون الصلاة - والعياذ بالله -، بناء على قولهم يشترط في الآمر أن يكون عالما بتمكن المأمور من امتثال الأمر.

و الصواب في هذا أن نقول: أنه لا يتوجه الأمر إلا لمن كان قادرا على فعل المأمور به والقدرة ليست القدرة المقارنة، بل القدرة التي هي السابقة التي هي وجود الآلات.
لا يأمر الله عزوجل المُقْعَدَ بالقيام لأداء الصلاة لعدم وجود آلة القيام، لكن من علم الله أنه لا يصلي يتوجه إليه الأمر بوجوب الصلاة، فإذا لم يمتثل عُدَّ عاصيا ومخالفا، كيف يأمره بالصلاة وهو يعلم أنه لا يتمكن من أداء الصلاة لسبق القضاء بأنه لا يصلي؟
نقول: عدم صلاته ليس لعدم آلته، الآلة موجودة عنده، وأما سبق العلم فلا يقال بأنه ينفي القدرة، فأنت تقدر على أشياء وإن كان الله جل وعلا لم يُقَّدِر أنك تفعلها، ففرق بين ما يقدره الله وبين ما يكون في القدرة والاستطاعة.

[المسألة الخامسة]
أما المسألة الخامسة فهي: هل التمكن من الفعل شرط في إلزام الأمر به؟
التمكن من الفعل له عوارض من مثل الإغماء والنوم ونحو ذلك، فهل يمكن أن يتوجه الأمر بالشيء مع عدم التمكن من الفعل أو لا؟
شنَّع المؤلف على مذهب أحمد في هذه المسألة، مذهب أحمد وهو مذهب أهل السنة أن التمكن من الفعل ليس شرطا في الأمر، ولذلك النائم يُأْمَرُ بالصلاة ولا يتمكن من الفعل، لكنه يطالب بقضائها.
فعندما شَنَّعَ في مسألة المغمى عليه مسألة النائم أوضح وفيها دليل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :{من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك}) (، بل هناك مسألة أوضح من هذا وإن كان فيها موطن خلاف، وهي مسألة المرأة الحائض بالنسبة للصوم، تصوم أو لا تصوم؟ لا تصوم، وبعد رمضان تقضي، إذن الأمر بالصوم توجه للمرأة الحائض وهي لا تتمكن من الفعل، بدلالة أنها تُأْمَرُ بالقضاء بعد ذلك.
فإن قال قائل: المرأة الحائض لا تُأْمَر بالصوم في رمضان إنما تأمر بالقضاء بعد رمضان.
فنقول حينئذ: لو قُدِّر أن امرأة أسلمت يوم تسعة وعشرين رمضان، على مقتضى كلامكم السابق يجب عليها قضاء أيام عدتها حال كفرها، أيام العدة التي مرت عليها حال الكفر يجب عليها أن تقضي هذه الأيام، فدلنا هذا على بطلان مذهبهم لأنهم لا يقولون بذلك.
واضح هذا ولا أعيد شرحه؟ أعيد الشرح، المرأة الحائض في رمضان هل تُأْمَر بالصوم في رمضان؟ هي تأمر بالصوم ويتعلق بذمتها لكنها تُمْنَعُ منه لوجود المانع، بدلالة أنها بعد رمضان تُأْمَرُ بقضائه.
اعترض علينا معترض وقال: الحائض لا تأمر بالصوم في رمضان إنما أمرت بالصوم[بعد]) ( يوم العيد، فيكون صيامها بعد رمضان أداء وليس قضاء.
و الجواب عن هذا أن نقول: هذا الكلام ليس بصحيح، بدلالة المرأة التي لم تسلم إلا في آخر يوم من رمضان، لو كان الأمر.. بصيام هذه الأيام ما جاء للحائض إلا يوم العيد، لكانت هذه المرأة التي أسلمت قبل يوم العيد بيوم تطالب بقضاء أيام عدتها أيام حيضها حال كفرها، ونقول لها أنت خمسة أيام حيضك، خمسة أيام في رمضان اقضها. قالت: أنا ما أسلمت إلا قبل غروب الشمس ليلة الثلاثين بلحظة، كيف تأمروني بالقضاء؟
نقول: هذا بالإجماع أنها لا تأمر بالقضاء، فدل ذلك على أن المرأة المسلمة الحائض في رمضان تأمر بالقضاء أو يتعلق الصوم بذمتها برمضان، ولا يتعلق الوجوب بذمتها بعد رمضان، وبالتالي تشنيع المؤلف على مذهب أحمد في قوله: إن المأمور به يثبت في ذمة المكلف قبل التمكن من الفعل ليس في محله، وله نظائر كثيرة في الشريعة بالاتفاق في مسألة النائم، ومسألة الناسي، وكذلك في مسألة الحائض على الصحيح، نعم.

*************

المتن:

المسألة السادسة:
إذا ثبت من مطلق الأمر الوجوب والإلزام فهل يحمل ذلك على التكرار أم تلغى منه فعلة واحدة؟
اختلف في ذلك أرباب الأصول على قولين:
- فمنهم من قال إنه يقتضي التكرار وأجلهم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله بمسلكين:
* أحدهما: أن قال إن النهي محمول على التكرار فكذلك الأمر، وعضَّد هذا بأن قال الأمر بالشيء نهي عن ضده، فوجب أن يكون حكمه حكم النهي.
* المسلك الثاني: قال إن المكلف إذا علم بالأمر توجهت عليه ثلاثة فروض:
1- الأول اعتقاد الوجوب.
2- والثاني العزم على الامتثال.
3- والثالث فعل المأمور به.
وقد ثبت وتقرر أن اعتقاد الوجوب والعزم على فعل فرضان متكرران، فكذلك يجب أن يكون وهو فعل المأمور به متكرراً أيضا.
الجواب: إن هذا ما لا يصح التمسك به في مسألتنا لأنه قياس ولا يثبت مثلها بالقياس.
وأما قوله إن الأمر بالشيء نهي عن ضده فباطل على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما المسلك الثاني فالتعلق به ضعف لأنه قياس أيضا، والقياس قدمنا فرع لا يثبت به أصل.
جواب آخر: وذلك أن اعتقاد الوجوب إنما وجب فيه الدوام، لأنه مبني على صدق الرسول الذي يجب أن نعتقد دائماً.
وأما العزم على الامتثال فلا نسلم أن التكرار فيه واجب بدليل أنه لو ذهل لم يأثم، والمختار أن مطلق الأمر يقتضي فعله يقينا في الوجوب، وبها تحصيل الامتثال وسائر الأفعال محتمل شأنها موقوف على الدليل بيانها.
**************

الشرح:

قول المؤلف هنا: مطلق الأمر ما معناها؟ الأمر المجرد عن القرائن، مطلق الأمر تعني الأمر المجرد عن القرائن.
إذا جاءنا أمر معه قرينة تدل على التكرار أو عدم التكرار فلا إشكال فيه يحمل على ما مدلول القرينة.
مثال ذلك: -(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)- [الإسراء/78] يعني يتكرر الأمر بإقامة صلاة الظهر كلما زالت الشمس فهذا أمر مفيد للتكرار بوجود القرينة.
قال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: {لو قلت نعم لوجبت، الحج في العمر مرة}) ( هذا فيه قرينة على عدم وجوب التكرار.
إذن الخلاف في أي شيء؟ الأمر المجرد على القرائن هل يحمل على المرة، أو يحمل على التكرار؟
اختار المؤلف بأنه يدل على مرة واحدة، وهو الصواب، لأن الأمر مطلق والمطلق يتحقق بفعل فرد من أفراده، كما يقول: صلِّ، هنا متَعلَّق الأمر نكرة في سياق الإثبات فتكون مطلقة، كأنه قال: صلِّ صلاة، والنكرة في سياق الإثبات تكون مطلقة.

قال المؤلف: بعض الأصوليين يقول: إنها تقتضي التكرار، واستدلوا عليه بقياس الأمر على النهي، النهي يحمل على التكرار فكذلك الأمر. لكن هذا استدلال مع الفارق، المؤلف رد هذا فقال: هذا قياس في اللغة ونحن لا نعمل به، لكن هنا قياس مع الفارق، لأن النهي لا يحصل الامتثال به إلا بتركه على الدوام بخلاف الأمر، فإنه يحصل امتثاله بفعله مرة واحدة.

الدليل الثاني لهم قالوا: الأمر يستفاد منه ثلاثة أشياء: اعتقاد وجوب المأمور به، والعزم على امتثاله، وفعل المأمور به، واعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال تجب على التكرار فكذلك فعل المأمور به.
و أجيب عن هذا بأن اعتقاد الوجوب هذا مرة واحدة، وإنما يستمر معه، فرق بين استمرار الشيء وبين تكرر إيجاده مرة أخرى، ومثله العزم على الامتثال لا يجب على التكرار وإنما يجب مرة واحدة، هذا خلاصة هذا المبحث، نعم.

****************

المتن:
المسألة السابعة:
مطلق الأمر محمول على الفور عند جماعة من الناس، وقال آخرون إن التراخي فيها جائز، وغلط آخرون فقالوا إنه يقتضي التراخي.
ووجه الكلام في هذه المسألة أنه من قال يقتضي التراخي فوجه غلطه بين لأن معناه إن من بادر الامتثال لا يجزئه وذلك محال شرعا.
وأما من قال إنه محمول على التكرار أبدا حتى يثبت التعيين فلا يتصور معه المسألة.
وأما من قال يقتضي فعلة واحدة فها هنا يتصور الخلاف؛ فقالت طائفة إن المبادرة إلى الامتثال واجب لوجهين:
- أحدهما: إن في التأخير تهاونا بالحرمة.
- والثاني: إن في التأخير تغريراً بالعبادة لأنه ربما فاجأته المنية أمد التأخير وهو لم يمتثل فيتعرض للعقاب بترك الفعل وعضدوا ذلك بظواهر كثيرة كقوله تعالى جده -(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)- [آل عمران/133] وكقول النبي: {بادروا بالأعمال}) ( في نظائر يكثر تعدادها، والذي نعتقده أن التأخير جائز، وإن المبادرة حزم لأن الأمر ورد مطلقا بإلزام الامتثال، ونسبة الزمان إليه كنسبة المكان، والتعيين فيهما مفتقر إلى دليل.
فأما ما تعلقوا به من إن فيه تركا للحرة فيعارضه إن فيه أخذا بالرخصة وعملاً بالدليل لا سيما والحرمة إنما تثبت بالاعتقاد أولاً، فإن اعتقد الفور كان التأخير تهاونا بالحرمة، وإن اعتقد التأخير فما تهاون بهل بل امتثل الواجب.
وأما قولهم: إن فيه تعرضا للعقاب وتسيبا إلى التعصية فهو فصل حاد اختلف فيه جواب القائلين بالتراخي، فكان شيخنا أبو حامد وإمام الحرمين يقولان: إن التراخي إنما جاز بشرط سلامة العاقبة كالرامي إلى الهدف وإذا فرض رمي الجمار، وهذا مما لا نرضاه فإن إلزام المكلف الفعل مؤخراً بشرط سلامة العاقبة وهو لا يعلمها ولا يقدر عليها هدم لركن التكليف في باب الإضافة والعلم وعلى هذا الأصل يخرج ما ألزموا ونظائره.
وأما الرمي إلى الهدف فمباح ليس بتكليف وأما الرمي إلى الصف أو في الجمار فلا شيء عليه فيه والحكم به لا يفتقر إلى القصد ولا يشترط فيه العلم، وأما الظواهر التي ذكروها فلا حجة لهم فيها من وجهين:
- أحدهما إن هذه المسألة في أمثالها لا يثبت إلا بالأدلة القطعية لا بالظواهر الشرعية.
- الثاني إنها مقترنة بقرائن اقتضت حملها على البدر لأن المغفرة تحصل باجتناب المعاصي، واجتناب المعاصي يكون على الفور.
***********

الشرح:

نعم، ذكر المؤلف في هذه المسألة: هل الأوامر تقتضي الفورية أو لا تقتضي؟
فقال طائفة بأن الأمر يقتضي الفورية، ولعل هذا أظهر لأنه إذا جاز التأخير سيؤدي إلى تركه، ثم إن أهل اللغة يعيبون على المأمور عدم المبادرة في امتثال الأمر، يقول رئيسك في العمل: صلح هذا[...]) ( الأمر لا يقتضي الفور؟ نقول لا يلتفت إلى هذا، هذا يؤدي إلى إبطال الأعمال بالكلية.

قال المؤلف: قال بعضهم بأن الأمر يقتضي التأخير، وهذا قول خطأ؛ لماذا؟ لأن ظاهر هذا اللفظ أن من بادر وأدى الفعل على الفور فإنه لا يجزئ، هذا ما يقولونه.
نعم، ذكر المؤلف عددا من الاستدلالات، وأن الصواب أن الأمر يقتضي الفورية، هو يقول: استدلوا بأن في التأخير تهاونا بالحرمة وتغريرا بالعبادة، ويحتمل أن تفاجئه المنية قبل أن يفعل ما أُمر به فيكون مُتَعَرِّضا للعقاب، استدلوا عليه بقوله: -(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)- [آل عمران/133] و {بادروا بأعمال}) (.

قال المؤلف: القول الآخر بأن الأمر لا يدل على الفور، مع استحباب الفورية، استدل على هذا بأن الأمر مطلق في الزمان لم يذكر زمانا فيكون حينئذ، ففي أي زمان امتثل عُدَّ الفاعل ممتثلا. والتعيين يعني تعيين أحد الوقتين يحتاج إلى دليل، وأجاب عن أدلة المعارضين له، فقولهم بأن عدم المبادرة لامتثال المأمور فيه تعرض للعقاب وتَسِبُّباً إلى التَّعْصِيَةِ، فبعض الفقهاء قال: إنما يجوز التأخير إلى آخر الوقت بشرط أن تعلم يا أيها المكلف أنك ستبقى إلى آخر الوقت، من أين جئتم بهذا الشرط؟ ثم هذا ليس بقدرة العبد، تجيه سكتة في نصف الوقت ويموت.
ورد المؤلف على الاستدلال بمثل قوله:-(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)- [آل عمران/133] قال: مسألتنا مسألة قاطعة فلابد فيها من أدلة قطعية، فلا يكفي فيها الاستدلال بالنصوص اللفظية، وهذا يخشى المرء على نفسه من عاقبته من هذا المقال، إبطال النصوص ودلالتها وزعم الإنسان بأن بعض المسائل لا يصح أن يستدل بها بالقرآن والسنة، يعني قول خطير يخشى منه، نعم.

**************


المتن:

المسألة الثامنة
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا يمتد إلى آخره.
وقال أهل العراق: تجب الصلاة في آخر الوقت، وهذه المسألة فرع من فروع التي قبلها وقد عظم الخطب بين العلماء فيها وتشعب القول في معانيها، والضابط لنشر رواية كلامهم إن العبادات المأمور بها على ثلاثة أقسام في تعلقها بالوقت:
- وقد تستغرق العبادة جميع الوقت لها وكأنه جعل حداً فيها وذلك كالصوم.
- والثاني عبادة ربطت بوقت يتقرر بامتثالها ويسع أعدادا لها وذلك كالصلاة.
- والثالث عبادة لم ترتبط بوقت ولا نيطت بمدة في مطلق الأمر كالكفارات وقضاء الصلوات والحج على اختلاف في هذين، فأما الصوم فلا كلام فيه لأن طرفيه مضبوطان بوقته، وأما الصلاة فقال أصحاب أبي حنيفة لا تجب إلا في آخر الوقت لأن جواز التأخير مع خيرة المكلف بين الفعل والترك يضاد الوجوب.
أجاب عن ذلك علماؤنا بجوابين:
- أحدهما أن قالوا إنما جاز التأخير بشرط العزم على الفعل وبهذا فارق النوافل.
- الثاني إن جواز التأخير إنما يضاد وجوب الضيق فأما الوجوب الموسع فلا، وصوروا له مسألة عقلية وهي لو قال لعبده ألزمتك خياطة هذا الثوب في هذا الشهر وهو شغل يوم فإن الوجوب ثابت في الذمة والأمد أضعاف الوظيفة وهذا الذي قال علماؤنا في الجواب فيه نظر.
أما قولهم إن ألزم بدل عنه ففيه أربعة أجوبة لهم أقواها أنهم لا يسلمون أن العزم بدل بدليل تصور الذهول ووقوع الغفلة، ولا يقال إن ذلك إخلال بفرض وأما ما صوروه من ضرب المثل بخياطة الثوب فالخلاف أيضاً فيه متصور لأنهم يقولون الوجوب لا يتحقق في الخياطة إلا في آخر المدة.
وبالجملة إن المسألة مع تباعد أكتافها عسرة علينا جدا ولا عمدة لنا فيها إلا جواز الفعل في أول الوقت ويكون ممتثلاً إجماعاً ولولا تحقق الوجوب في أول الوقت ويكون ممثلاً إجماعاً ولولا تحقق الوجوب في أول الوقت لما كان الامتثال فيه مجزيا فدارت المسألة على حرفين :
- أحدهما جواز الفعل وهو لنا و يعتضد ويتضح بامتناعه قبل الوجوب، ووجوب إعادته إن وقع حينئذ غلطا أو قصداً ولهم جواز التأخير وينقضها الحج عندهم و الكفارات إجماعاً فصارت عمدتنا معتضدة بنظائر وصارت عمدتهم بنظائر أيضاً فكان الترجيح لنا.
*****************
الشرح:

ذكر المؤلف هنا مسألة الواجب الموسع، الواجبات على ثلاثة أنواع:
* واجبات غير محددة الوقت، فهذه لا إشكال فيها مع وجوب المبادرة على ما تقدم في اقتضاء الأمر الفورية، مثال ذلك: وجب عليه فدية بتركه واجب من واجبات الحج، هل هذا محدد بوقت؟ غير محدد بوقت.
* النوع الثاني: ما يكون الوقت محدد البداية والنهاية، وهذا على نوعين:
1- النوع الأول: ما يكون الوقت كافيا لفعل العبادة أكثر من مرة، مثال ذلك صوم القضاء، صوم القضاء يبتدئ من ثالث شوال لآخر شعبان، هذا غير محدد الوقت.
2- و هناك ما هو محدد الوقت مثل صوم رمضان، الأصل أنه يجب عليك أن تصوم رمضان، صيام رمضان هذا يسمونه واجب مضيق، لأن الوقت لا يتسع إلا لصوم واحد، وصيام القضاء يسمونه واجب موسع.
الواجب الموسع هذا متى يجب الواجب فيه؟ هل هو بنهايته أو بجميع الوقت؟ الجمهور قالوا بجميع الوقت، كل الوقت من أوله إلى آخره وقت الوجوب، هذا قول جماهير أهل العلم.

قال علمائنا الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا يمتد إلى آخره، وكل لحظة من لحظات وقت الوجوب يكون فعله فعل الواجب.
بعض الحنفية يقولون: الوجوب لا يتلق إلا بآخر الوقت، وأما فعل العبادة في أول الوقت فإنه يكون مندوبا.
قال: هذه المسألة مبنية على مسألة هل الأمر يقتضي الفورية أو لا؟ وهذا القول خطأ؛ لما قال وهذه المسألة فرع من الفروع التي قبلها نقول هذه ليست من فروعها؛ لأن تلك المسألة قلنا هي متعلقة بالأمر المطلق الذي لم توجد معه قرينة، وهذه المسألة وجدت فيها قرائن، فتخرج عن الخلاف السابق.

الحنفية قالوا: لا تجب الواجبات الموسعة إلا في آخر الوقت، لماذا؟ قالوا: لأنه يجوز للعبد أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت فدل ذلك على أن الوجوب إنما يتعلق بآخر الوقت. وأجيب عن هذا بأنه لو كان الأمر كما تذكرون لما وجب عليه أن يعزم على أداء الواجب، لكن يجب عليه أن يعزم على أداء الواجب، إذا أذن الظهر لابد أن يقوم بنفسه أنه سيؤدي صلاة الظهر.
مثلوا لهذا بما لو قال السيد لعبده: ألزمتك خياطة هذا الثوب في هذا الشهر، هذا لا يقتضي منه إلا عمل يوم، والشهر كم يوم؟ ثلاثين يوم، فحينئذ الوجوب يتعلق بالذمة ويكون جميع الوقت وقتا للوجوب.
أما قولهم أن العزم بدل عن أداء الفعل في أول الوقت، ما الدليل على ليش سميتموه بدل؟ جيبونا دليل.
قال المسألة ترجع إلى شيئين:
- جواز الفعل فهو يجوز فعله في أول الوقت وقبله ويتضح لك بامتناع فعل صلاة الظهر قبل وقت الوجوب.
- الثاني أنه لو وقع فيه غلط لوجبت إعادته، يعني لو صلى الظهر في أول الوقت، فوقع في غلط في أول صلاته، وجب إعادته، لو كان الوجوب ما يتعلق إلا بآخر لما وجب عليه إعادته.

هذا شيء مما يتعلق بهذه المسائل، لعلنا نقف على هذا الموطن. أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.