المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسائل أصولية [1]: المصالح المرسلة حجيتها، أقسامها، شروط العمل بها



أهــل الحـديث
26-05-2013, 12:40 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه سلسلة مقالات أسأل الله أن ينفع بها، موضوعها علم أصول الفقه، وددت أن أسهم في مدارسة هذا العلم السلفي رجاء ثواب الله.
*************

مسائل أصولية [1]: المصالح المرسلة حجيتها، أقسامها، شروط العمل بها

× أولا: عناية الشريعة الإسلامية برعاية مصالح العباد:
أنزل الله شريعته الخالدة على نبيه محمد ﷺ، وجعلها عامة للناس جميعا، وجعلها مبنية على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة، فالشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة. وهذا الأصل شامل لجميع الشريعة لا يشذ عنه شيء من أحكامها. فما أهملت هذه الشريعة مصلحة قط، إذ كل خير دلنا عليه النبي ﷺ، وكل شر حذرنا منه، ومن هذا نخلص إلى استحالة تعارض الشرع والمصلحة)[1](.
يقول العلامة الشاطبي في موافقاته: «والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد»)[2](.

× ثانيا: تعريف المصلحة:
أ****- تعريف المصلحة في اللغة:
يقول ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: «والمصلحة: الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح، والاستصلاح: نقيض الاستفساد»)[3](، «والصلاح ضد الفساد»)[4](.
ب****- تعريف المصلحة في الاصطلاح:
المصلحة هي:«وصف للفعل يحصل به النفع الملائم للفطرة: جلبا أو دفعا، دائما او غالبا، للجمهور أو للآحاد»)[5](.
× ثالثا: أقسام المصلحة:
يمكن تقسيم مطلق المصلحة لعدة أقسام، بحسب الاعتبار المنظور به إليها، ومن ذلك تقسيمها باعتبار شهادة الشرع الحنيف لها بالاعتبار او الإلغاء أو السكوت:
أ****- المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار:
وهي المصلحة الشرعية التي جاءت الأدلة الشرعية بطلبها، ولا إشكال في صحتها وحجيتها، وقبولها والاعتداد بها، ولا خلاف في إعمالها، كحكم القصاص، إنما شرعه الشارع لمصلحة حفظ النفوس، وكذلك تحريم الخمر لمصلحة حفظ العقل)[6](.
ب****- المصلحة التي شهد الشرع بإلغائها وإبطالها وعدم الاعتداد بها:
وهي المصلحة التي يراها العبد بنظره القاصر مصلحة ولكن الشرع ألغاها وأهدرها، ومثلوا لذلك بما « لو ظاهر الملك من امرأته, فالمصلحة في تكفيره بالصوم لأنه هو الذي يردعه لخفة العتق ونحوه عليه، لكن الشرع ألغى هذه المصلحة، وأوجب الكفارة بالعتق من غير نظر إلى وصف المكفِّر بكونه فقيراً أو مَلِكاً»)[7](، ومثل لهذا القسم القرافي بالمنع من زراعة العنب؛ لأنه مصلحة لإفضائه لعدم الخمر)[8](.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: «واعلم أن الشرع الكريم لا يلغي اعتبار مصلحة ويحكم بإهدارها، إلا لتحصيل مصلحة أخرى أهم منها في نظر الشرع منها، لأن عتق الرقبة وإخراجها من الرق أهم في نظر الشرع من التضييق على الملك بالصوم لينزجر بالتكفير بذلك»)[9](.

ت****- المصالح التي لم يشهد الشرع لها بالاعتبار ولا بالإلغاء:
فهي مصالح مسكوت عنها، لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، لكنها لم تخل عن دليل عام يدل عليها، فهي إذن لا تستند إلى دليل خاص معين، بل تستند إلى مقاصد الشريعة وعموماتها، وهذه هي المصلحة المرسلة، أو الاستصلاح، وتعرف بالمرسل، وسميت مرسلة لعدم التنصيص على اعتبارها ولا على إلغائها )[10](.

× رابعا: تعريف المصلحة المرسلة:
يقول القاضي ابن العربي رحمه الله في تعريف المصلحة المرسلة: «المصلحة وهو كل معنى قام به قانون الشريعة، وحصلت به المنفعة العامة في الخليقة»)[11](.
«ويمكن الخلوص مما سبق ذكره في أقسام المصلحة، ومن تعريف القاضي ابن العربي، إلى استخراج أهم المرتكزات التي بني عليها مفهوم المصالح المرسلة، وهي:
- الأول: خلو المصلحة من أصل معين شاهد لها بالاعتبار.
- الثاني: جريان المصلحة على وفق قانون الشرع، واندراجها في سلك العمومات المعنوية الثابتة باستقراء جزئيات الشريعة، وبهذا القيد تسقط كثير من الاعتراضات على المالكية في قولهم بالمصالح المرسلة، فغالب من اعترض عليهم حسب أن المصالح المرسلة مما يوكل أمرها إلى إدراك العقول وحسب، من غير أن يكون للشرع صلة بها، وهذا مردود فالمالكية لا يقولون بهذا اللون من المصالح؛ بل يشترطون جريان المصلحة على سنن مصالح الشريعة.
قال الأبياري ردا على الجويني: «إن أحدا لا يجوز اتباع المصلحة المجردة، بل المصالح التي فُهِمَ من الشريعة ملاحظتها، وقد قدمنا أن مقصد الشرع أن يحفظ على الخلق خمسة أمور وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب، فحفظ هذه الأمور مصلحة، وتفويتها مفسدة، فإذا لَحِظَ العلماء هذه الأصولَ لم يتباعد اختلافهم أصلا»، وقال أيضا: «إنا قلنا: لسنا نريد بالمصلحة في هذا المكان مجرد جلب المنفعة ودفع المضرة؛ وإنما نريد بها المحافظة على رعاية مقصود الشرع، وهذا إنما يعرفه العلماء دون العوام، ولا يتصور لذي عقل أن يُمَكَّن العامي من الفتوى في الشريعة».
- الثالث: كون المصلحة مما تصطبغ بون المناسبات المعقولة المقبولة للعقول والألباب.
- الرابع: لحظ وصف الكلية في المصلحة المرسلة؛ أي أن شاهد الاعتبار لهذه المصلحة هو المصلحة الكلية، وبعبارة ابن العربي: هو قانون الشرع.
- الخامس: تعلق المصلحة بعموم الخلق، لا بآحادهم»)[12](.
وبعد ذكر هذه المرتكزات، استحسنت ذكر تعريف للدكتور حاتم الباي، حاول فيه - وفقه الله- صياغة تعريف جامع يكون أقرب إلى ماهية المصلحة المرسلة، إذ يقول: «فالمصلحة المرسلة هي: الوصف المناسب غير المستند لأصل معين في الشرع، شهد له بالاعتبار أصل شرعي كلي»)[13](.

× شروط العمل بالمصلحة المرسلة)[14](:
ذكر العلماء القائلون بحجية المصالح المرسلة شروطا لابد من مراعاتها لصحة العمل بها:
- عدم مصادمة ومخالفة المصلحة للنص أو الإجماع.

- ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير، والأحكام المنصوص عليها والمجمع عليها، وما لا يجوز الاجتهاد فيه)[15](
- أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة.
- ألا تعارضها مصلحة أرجح منها أو مساوية لها، وألا يستلزم من العمل بها مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، بل لابد أن تكون المصلحة أكبر)[16](.
- أن تكون المصلحة عامة لا خاصة، بحيث ينسحب نفعها على عامة الناس، ولا تكون خاصة بالأفراد )[17](، ويمكن لحظ هذا الشرط في قول القاضي ابن العربي: «المصلحة وهو كل معنى قام به قانون الشريعة، وحصلت به المنفعة العامة في الخليقة».
-
× أدلة حجية المصالح المرسلة)[18](:
يذهب العلامة ابن العربي إلى إثبات حجية المصالح المرسلة كغيره من علماء المالكية)[19](، وهم في ذلك قد استندوا لأدلة الشرع، ولا يخالف في أصل اعتبارها منصف بعدما يمر على تصاريف الشريعة، وفهم أساطين حملتها، كما يقول العلامة ابن عاشور)[20](.
ولهذا تجد العلامة ابن العربي يشتد في الإنكار على من لم يعتبر المصالح المرسلة والاستحسان، وعدَّ المنكر إنما أتي من عدم فهم الشريعة، إذ يقول: «ولم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة، ولا رأى تخصيص العلة»)[21](.
والمتصفح لسياسات الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدين، ليعجب من هذا التوسع في الأخذ بالمصالح والاستناد إليها دون تهيب ولا تلكؤ، مع المحافظة على قصد الشارع في الأحكام، بل إن الصحابة قد أخذوا بمصالح وسلكوا سياسات لم يكن ليأخذ بها الفقهاء بعدهم.
قال الأبياري محتجا للمصالح المرسلة: «إذا نظر المُنصف في أقضية الصحابة ╚ ، تبين له أنهم كانوا يعلقون بالمصالح في وجوه الرأي، ما لم يدل الدليل على إلغاء تلك المصلحة... وهو أمر مقطوع به عن الصحابة»)[22](.
يقول الشيخ الشنقيطي: «واحتج مالك للعمل بالمصالح المرسلة بأن الصحابة كانوا يعملون بها من غير أن يخالف منهم أحد»)[23](.
ومن أمثلة أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة ما ذكره العلامة الشنقطي في "مدارج الصعود إلى مراقي الصعود")[24](:
- «الأول: نقط المصحف لأجل حفظه من التصحيف.
- الثاني: كتابته لأجل حفظه من الذهاب والنسيان.
- الثالث: تولية أبي بكر ؓ لعمر بن الخطاب ؓ رعاية لمصلحة المسلمين لأنه أحق بها من غيره.
- والرابع: هدم ما جاور المسجد من الدور لتوسيع المسجد، كما فعله عثمان وعمر.
- الخامص: عمل سِكَّة يتعامل بها المسلمون لتسهل على الناس المعاملة كما فعل عمر.
- السادس: تجديد الأذان يوم الجمعة كما فعله عثمان ؓ لكثرة الناس.
- السابع: اتخاذ السِّجن - بالكسر – للمعاقبة فيه بالسَّجن - بالفتح -، فعله عمر بن الخطاب ؓ ، فإنه استرى من صفوان بن أمية دارا في مكة واتخذها سجنا. وسجن عمر ؓ الحطيئة في الهجو، وسجن صبيغا لسؤاله عن المتشابه، وسجن عثمان ؓ ضابئ البَرجمِيَّ وهو من لصوص تميم حتى مات في السجن، وسجن علي بعض المجرمين بالكوفة.
- الثامن: تدوين الدواوين أو كتابة الجنود في ديوان.
فإن هذه المسائل كلها لم يفعل النبي ﷺ منها شيئا، ولم يرد نص خاص من كتاب ولا سنة، وغنما فعلها الصحابة من غير منكر ولا مخالف لأجل رعاية المصالح المرسلة فقط، لأن المصالح المرسلة تشهد لها أصول الشرع من اعتباره لجلب المصالح ودرء المفاسد».
وقد جمع صاحب "المراقي" هذه الأمور الثمانية في قوله:
نقبله لعمل الصحابه****كالنقط للمصحف والكتابه

تولية الصديق للفاروق****وهدم جار مسجدٍ للضيقِ

وعمل السكة، تجديد النِّدا****والسجن، تدوين الدواوين بدا




)[1](- انظر: الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي، د. حاتم باي، )ص:58(، ومعالم أصول الفقه، د.الجيزاني )ص:234(.
تنبيه هذا المقال مستل من بحثي لنيل درجة الإجازة في الدراسات الإسلامية، أسأل الله أن ينفعني به.
)[2](- )ج:2/ص:12(.
)[3](- )ج:2/ص:517(.
)[4](- )ج:2/ص:516(.
)[5](- الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي، د. حاتم باي، )ص:65(.
)[6](- انظر المستصفى )ص:275(، والمذكرة للشنقيطي )ص:191(، و الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:73(
)[7](- المذكرة )ص:191-192(، وانظر: المستصفى )ص:275(، والأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:73(.
)[8](- الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:77(.
)[9](- المصالح المرسلة للشنقيطي )ص:19(.
)[10](- انظر: معالم أصول الفقه )ص:235(، والمذكرة )ص:192)، والمصالح المرسلة للشنقيطي )ص:19(.
)[11](- القبس )ج:1/ص:779(.

)[12](- الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:85-87(.
)[13](- الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:88(.
)[14](- للتوسع في معرفة شروط العمل بالمصلحة المرسلة، ينظر: الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:88(، و الواضح في أصول الفقه للأشقر )ص:151(، ومعالم في أصول الفقه )ص:238(.
)[15](- معالم في أصول الفقه )ص:239( بتصرف يسير، وانظر: الواضح في أصول الفقه للأشقر )ص:151(، و الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:147(.
)[16](- انظر: معالم في أصول الفقه )ص:239(، والواضح في أصول الفقه )ص:151(.
)[17](- انظر: الواضح في أصول الفقه للأشقر )ص:151(، و الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:159(.
)[18](- للتوسع في أدلة حجية المصالح المرسلة يرجى الرجوع للمصالح المرسلة للشنقيطي، و الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:182( فما بعدها، والواضح في أصول الفقه )ص:149(فما بعدها.
)[19](- القبس )ج:1/ص:505(.
)[20](- حاشية التوضيح والتصحيح على شرح التنقيح )ج:2/ص:221( بواسطة: الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:182(.
)[21](- أحكام القرآن لابن العربي )ج:2/ص:279( نقلا عن: الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:182-183(.
)[22](- الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي )ص:184(.
)[23](- )ص:22(.
)[24](- )ص:366(.