المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : @@@@@ ... حكاية الأمس ... @@@@@



المرأة الحديدية
25-09-2006, 03:36 PM
حكاية الأمــس

جسد يتلظى، لهيب بين الحنايا يتقد، في غمرة نعاس وإغفاءة تتهَدهَد، تتقلب فوق فراشها، تحتضن الوسادة حين، تتوسد يمناها يسراها ما بين وبين..تغمغم تتململ ، ترفع الغطاء بتوتر نائم غير قاصد، تزيحه بقدميها، تُبعده عن جسدها المُبعثر، تنفرج عينيها بصعوبةٍ ناعسةٍ، أرق يهد كيانها، تطوف ذكرى الدراسة بخاطرها، تصحو من غير استيقاظ، تداعبها الأماني في التأخير لبعض الوقت…!

أشياء مبهمة، حلم مستمر .. متقطع .. متلاحق الأحداث ، كأنه نسج من خيال، تُتمتم، نور يتسرب إلى الحجرة، تشُدُها قوت النعاس، تغط للحظات في نوم عميق…!
تهب فجأة مغالبة تلك الإغفاءة المريحة، باغتتها بقوة لا تقاوم بعد ليل سُهد وتعب…

يحاصرها صوت المعلمة صباح الأمس:
ـ ما هذا البكور في الحضور يا سالي .. لقد انتهينا من شرح الدرس…أرجو ألا يتكرر ذلك وإلا ستنقص درجاتك…!

في صباح الأمس تعطلت السيارة، ليصبح بكور سالي ضحًى، بعد نشاط يوم جديد وحيوية، تَلجُ المدرسة مُتهيبة، الساحة خالية هادئة إلا من زقزقة العصافير المتقافزة فوق الأشجار، ترنو إلى بعضها البعض.. وكأني بها تبث الحب والانسجام…!

تتسلل صعوداُ حيث صفها، خوف يُرجف أوصالها، تدعوا الله..أن لا يراها أحدٌ..! فذاك وقت تِجوال المديرة والمراقبة بين الصفوف تفقداً..!

تقترب من صفها، بالكاد تصل.. برد الراحة يسري إليها، ابتسام فرح وخوف يمتزجان.. تقترب وتقترب…… صوت جاد من الخلف أفزعها ..
- توقفي !

تتعثر قدماها.. تسقط الحقيبة من بين يدها ارتجافاً، تلتفت ترتبك الكلمات على شفتيها، إنها المديرة لا تكف التوبيخ بنبرات حادة.. باتت صراخ آلمها؛ ولا تكاد تسمع عذراً...! .

يزداد النور تسرباً، تشرق الحجرة بعد عتمة دامسة، تتعثر ترتدي ثيابها لائمة ذاك الحلم المبهم ، سلبها النوم والراحة طيلة الليل، لا تَذْكُرْ منه شيئاً.

- يا إلهي يكاد الوقت يدركني، حتماً سأتأخر كالأمس.

ساعة الحائط تدق الرابعة فجراً، تتنبه تعلوها الدهشةً.. تُمازُج فرحاً.
- تباً إنه الأرق والتعب .

تلقي بنفسها على السرير، الوقت يمهلها حينٌ للاسترخاء، تجذبها طراوة الفراش ودفؤه، تغمض عينها مُتهالكة، تتنعّم على الوثير، وابتسامة شفافة مريحة ترتسم على شفتيها صفاء..تزهو بانتصار على الوقت .. فهي لن تتأخر ثانية عن المدرسة ولن تُمَكِنْ المديرة والمعلمة لتوبيخها ..

- الله ما أحلى النوم في هذه اللحظة، ليت اليوم هو يوم عطلة ... !

ومن بين طرفة عين والتفاتة..شيء ما يوقظها.. تتنبه ..وتتساءل:
عن ذاك النور المتسرب من النافذة، تنهض.. ترفع طرف من ستارة مسدلة، رجال يملأون الحديقة، تشرئب عنقها تتطلع إلى ما وراء البعيد رؤىً.. تتقاذفها الحيرة والتساؤلات تملأ رأسها...!

- ماذا يا ترى.. ذاك أخي إبراهيم متجهم الوجه شاردٌ، وهذا أبي يعصبُ رأسه بغترته ويجلس القرفصاء، تُرى ما بال أخي عمروا يبدوا عليه الحزن والألم.. كأنه يبكي، والرجال من حوله عن اليمن وعن الشمال عزين، إنهم كُثر، يلجُون ويغدون في عجل .
كلٌ يتحرك في صمت كآلة، سكون يغلف المكان رغم الجمع الغفير من الناس.
تبزغ الأعماق بفزع موجع..
- يا إلهي الجدة لم تغادر المشفى حتى الأمس..تباً لذاك الحدس في داخلي.. ليته يكون خاطئاً.

تفتح باب حجرتها المقفل بهدوء، ضوء يشق المسافة أمامها، ينبثق من حجرة أشقائها الصغار. الدادا بجوارهم تقاوم النعاس، تُرضع الصغير غالي بيمناها، وعامر يستلقي على رجليها الممتدتين، يئن ويبكي ، عيناه مغمضتان ، يغالبه النعاس يحاول النهوض، بينما تهز الدادا وسادته بقدميها، ويُسراها تربت على ظهر تارا التي لم تلبث حتى غاصت في نوم عميق .
أما حجرة أختيها هند وهنادي فبابها موارب، ليس ثمة أحد فيها، وكأن أحداً لم ينم ليلة البارحة..!
تدلف إلى حجرة أبويها، تضيء الأنوار، يشد انتباهها صورة لكم أحبتها، تلتقطها..رضًى يملؤها.. متحدثة النفس باسمة:
- آه جدتي ما أجملك وأمي ، كم أنا محظوظة لأني أشبهكما، كما تقولين لي دائماً، وما يقوله الناس عني..تأخذها الصور المتناثرة فوق المنضدة.. أشقائها..الجدة وأبويها.. تسترسل وذكرى المكان والأزمان تجذبها..!
-
ما في الأعماق ينتزع حلو الذكرى، تطرح مابين يديها من صور، تقرر الهبوط واستطلاع الأمر، حديث مبهم، صوت همهمة هامسة تصل إلى سمعها،.. تقترب من المصعد، أصوات الهمس يزداد علواً.. يملأ سمعها، وكأنه طنين النحل في خليته، حركة غريبة في فناء الدار، يعتريها الخوف، تتضاعف دقات قلبها، هاجس يلهو بها، صورٌ باهتة تتراءى أمام عينيها، تتحجر في الأحداق ( أبوها وأخواها، شبح الجدة يباغتها وهي ترقد في المشفى متألمة تناديها لتدلك لها يُسراها ) تتفجع، تخطو خطوة إلى الأمام..تتراجع خطوات مترددة ..!

تتجرأ على الخوف بداخلها، تقترب نُزولاً، ينكشف البهو لناظريها شيئاً فشيئاً، نساء كثيرات، يجلسن ثُباتاً، شقيقتها هند تجلس في أحد الزوايا مطأطئة الرأس سارحة.

تتقوقع عند آخر درجة في المصعد، تجلس القرفصاء، تجول بعينين باحثة شاردة، لم يشعر بوجودها أحدٌ، فهي الصغرى من بين أشقائها الكبار..
يخترق سمعها صوت شقيقها الأوسط عمرو.. وهما يتجادلان ..

- كم من مرة حذرتك، ما زلت طفلة، لا تحشرين أنفك في كل صغيرة وكبيرة .
- لم أعد طفلة فأنا أصغر منك بسنتين وقد بلغت الرابعة عشرة.

يتوقف بصرها على ملاءة بيضاء في طرف البهو، تغطي جسداََ ممددا، تركن هنادي إلى جانبه، غارقة في يمِّ من الحزن والألم ، دموعها كالديمة الوطفاء، في ليل شاتٍ مخيف.
قشعريرة تعتريها، تحتضن ذاتها، شيء في داخلها يصرخ، نداء يملأ النفس، فزع ورعب يعتمر ما بين جنبيها، يزداد قلبها خفقاً، بات طرقاً مؤلماً بالكاد يقتل كل ذرة شك تطمئنها، ترتعد أوصالها، ترتعش فرائصها خوفاً.

تقف.. تتراجع ببطيء، يكاد اللب أن ينفجر، السؤال المرعب يكبر وتتجاهله، تسكته، تنبّهت الحاضرات لوجودها، يقتربن والجدة تدنوا منها، وهي لا تزال في غمرة الجزع والخوف والرهبة، تحتضنها لكنها تقاوم أي لمسة تزيدها ناراً.. لا تفتأ تشب وتستعر..
السؤال المُلح بالكاد يشطر مابين عينيها لقسمين، ترمق الجمع بذهول باحثة، لفتات عابرة تطوف كالبرق على كل من حولها، وكأنها لا تريد تصديق الحدس، تستجدي رحمة وأملاً.
إنه الشك صار يقيناً، ولن تجدي كل تلك الأحاسيس الجياشة بالحب والحنان أن تهدئ روع جوارح تتقد، ولا تزال عيناها تتوه في سراب..لا ترى شيئاً ولا تسمع أيُ شيء.

جَمعٌ أصم لا تمييز بينهن، فقط هي صورة واحدةٌ ملأت كل الأمكنة وفي كل اتجاه ،صوت جدتها لأبيها يخرس كل الأصوات من حولها، وهي تحكي حكاية الأمس ..

فعند المنتصف من الليل، خرج أبواها في سكون البشر يتسابقان، لتنشيط الدورة الدموية، وعند منعطف ضيق، كان السبق لأبيها الذي استمر بالجري والهرولة دون الالتفات إلى الوراء..
دقائق معدودة.. يبتسم يشعر بالانتصار..لكن السكون يخرس البسمة على شفتيه وانتظار السبق يطول، لتتحدث النفس بما لا يرضيها، يلتفت إلى الوراء يرجع حيث المنعطف..
شاحنة كبيرة تقف عند الزاوية، أُناس كثر يلتفون حولها، رنين سيارة الإسعاف يشرخ سكون الليل وفي اقترابه يزداد صخباً.. يملأ المكان..

يستلطف الله.. ألا يكون أحدٌ قد تأذى....!!؟؟

عند آخر كلمة ارتعدت سالي فزعة، العالم موحش مخيف من حولها، خيوط اليأس تلتف حول عنقها، تحس بالاختناق، تهرول إلى الطابق الأعلى حيث حجرتها، تتقوقع على فراشها، يضيق بها المكان، تنهض تروم تطوف بين الحجرات..صمتٌ صارخ قي الأعماق مروعٌ مهيب يشملها، جفت دموع انسكبت بفيض غزارة شلالٍ أرهقها..!
إنه العالم هوة من فراغ.. هباء.. هواء.. رياح عاصفة قاصفة، إعصار رعدي متمرد..إنها الحقيقة وليست من ثمة فارق بينها وحكاية الأمس ...!

فهمتها بكل وجع وألم ومرارة، تعني الوداع الأخير،
وبل إنه الفراق الأبدي ..أبدي.. أبدي........................!

تهرول تنتقل بين الحجرات، تود الهروب منها إليها..
وهيهات من وجود كان وصار بيد الرحمن..!

غمامة سوداء وكآبة صيف رطب حار يظللها، تختنق، يتهدج صدرها لهفة ولهثاً حبٌ كبيرٌ والشوق يدججه، لتدوي صرخة في الأرجاء تمزق المكان
ماما..ماما ..ماما ..
أمي ضميني إليك فليس بغيرك حنان أرتوي
أمي ضميني إليك فليس لغيرك ملاذ احتمي
أمي ضميني إليك فشوقي يفيض من بين حدقت عيني فيدمي الفؤاد ولحنينك انتمي
أمي ضميني إليك واهمسي هتافاً لتسكن النفسي مني وتنجلي..
آآآآآآآآآآآه أمي أبكي وليت بكائي يشفي علة قلب منذوي
آآآآآآآآآآآآه أمي ضمُّييييني إليك والثمي جبهتي ولأحضانك ارتمي
تدلك موضع في صدرها يؤلمها..

آآآآآآآآآآآآآآآآآآه أمي .. آه أمي .. آآآآآآه ياحسرتي ...
تلك هي أمي .............!

ثم سقوط جسد صغير على أرض حجرة سالي .
وكان هذا اليوم الثاني، ولا فرق بينه وبين الأمس في تأخر سالي عن الحضور في المدرسة، أما وليلة الأمس كانت اشد الأزمان على قلب سالي جبروت وقسوة.



نشر قبلاً في عدة صحف ومجلات.. ثم في عدة مواقع
أ/ سلوى عبد العزيز دمنهوري



المرأة الحديدية وقلبها العصفور

النجلاء
28-09-2006, 09:33 AM
الكاتبه الرائعه


المرأه الحديديه


قصه رائعه عشتها بكل جوارحي من اول حرف حتى نهايتها


اسلوبك جميل ويشد القاريء ليصل الى الختام


دعواتي لك بالتوفيق

الخياليه
29-09-2006, 11:04 PM
الله يعطيك العافيه على الاسلوب
الرائع لطرحك للقصه وتقبلي تحياتي

المرأة الحديدية
30-09-2006, 01:33 PM
الكاتبه الرائعه
المرأه الحديديه
قصه رائعه عشتها بكل جوارحي من اول حرف حتى نهايتها
اسلوبك جميل ويشد القاريء ليصل الى الختام
دعواتي لك بالتوفيق

مرورو عاطر شدني امتنانا وشكر .. لك يالنجلاء

حضور أسعدني..

لك ودي يالغالية

الحديدية

المرأة الحديدية
30-09-2006, 01:36 PM
الله يعطيك العافيه على الاسلوب
الرائع لطرحك للقصه وتقبلي تحياتي

والروعة مرورك العاطر يالغالية
لا حرمني الله تواصل

لك ودي

المرأة الحديدية

اخر الفرسان
07-10-2006, 12:37 AM
قصة رائعة ايتها الاديبة كتبتها بحروف من ذهب
ولك تحياتي ،،،
اخر الفرسان

المرأة الحديدية
07-10-2006, 04:47 AM
قصة رائعة ايتها الاديبة كتبتها بحروف من ذهب
ولك تحياتي ،،،
اخر الفرسان

والروعة مرورك باحلى الكلام

أشكرك يالغالي

لك ودي
الحديدية