المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [تفريغ] شرح كتاب المحصول في أصول الفقه لابن العربي المالكي للشيخ الشثري [5]



أهــل الحـديث
24-05-2013, 03:21 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


تنبيه:
من أراد مساعدتي في تنسيق باقي التفريغ ليجمع في ملف واحد فيراسلني على الخاص، فقد طال انتظار بعض الإخوة الأفاضل الذي وعد بتنسيقه، أسأل الله أن يوفقه للمسارعة بإخراجه.


رابط تحميل تفريغ المجلس الخامس
http://ar.salafishare.com/i11



شرح
كتاب المحصول
في
أصول الفقه

للعلامة القاضي
أبي بكر بن العربي المعافري المالكي





شرح معالي الشيخ الدكتور :
سعد بن ناصر الشثري


فرغه :
أبو عبد الأعلى حاتم بن محمد المغربي


)المجلس الخامس(



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
في صفحة تسعة وثلاثين نبهني بعض الإخوان قال: أمهات الحروف المقطوعة خمسة حروف، وأما الحروف الموصولة فهي خمسة عشر.
طيب، نواصل ما كنا ابتدأنا به:
*************

المتن:

أما القول في المعنى، وهو المقصود الأكبر من غرضنا وعليه ينبغي الكتاب كله.
فنقول: إن الكلام في اللغة على ضربين مهمل ومستعمل؛ فالمهمل كل قول نظم من حروف المعجم نظما لا يفيد في لغة العرب شيئاً، والمستعمل على ضربين منه ما يفيد في غير ما وضع له كالألقاب، ومنه ما يفيد فيما وضع له.
وهو على ضربين مجاز وحقيقة وقد تقدم بيانهما.
وكل كلام يفيد ما وضع له بين المتخاطبين لا بد له من شروط كثير عددها، منها أصلان كبيران:
* أحدهما: إنه لا بد من إرادة المخاطب إفادة المخاطب معنى ما، فإن لم يرد ذلك كان القول عبثا إلا على وجه بيناه في موضعه.
* الثاني: أن يريد إفادته مقصور الخطاب والمراد به بما يصح فهمه له، وذلك هو البيان وله حقيقة ومراتب تجمعهما مسائل خمس.
**************
الشرح:

إذن ذكر المؤلف هنا ما يتعلق بمعاني الألفاظ، وذكر أن الألفاظ على قسمين:
1- منها ما هو غير مستعمل وهو المهمل، والنحاة يمثلون له بكلمة (ديز) عكس كلمة (زيد)، فإنها مهملة غير مستعملة لا معنى لها.
2- وأما المستعمل فهو على ضربين:
* ضرب يستعمل في غير ما وُضِع له، من أمثلة ذلك: يزيد كلمة موضوعة للزيادة، لكنها استعملت اسما لشخص فدَلَّت على معنى آخر غير ما وُضِع له في الأصل.
* و النوع الثاني من المستعمل ما تكون إفادته فيما وُضِع له، ومن أمثلة ذلك قولك: ذهب، فهذا لفظ مستعمل ويستعمل فيما وُضِع له. وذكر أن المستعمل فيما وُضِع له على ضربين مجاز وحقيقة، وتقدم معنا بيان كلٍ منهما.

ومن شروط الإفادة أو للإفادة شروط متعددة منها:
- أن يكون المتكلم مريدا للمعنى الذي يدل عليه اللفظ، فإذا تكلم الإنسان بكلام وهو لا يريد معناه فإنه يكون لغوا وعبثا لا قيمة له.
- الشرط الثاني: أن يكون المراد بالكلام واضحا عند المُخَاطَبِ، سواء كانت هذه المعرفة بمعرفة سابقة أو ببيان وتوضيح من قِبَل المتكلم، ومن أمثلته مثلا في الأنظمة تجدون أن من المواد الأولى مواد تعريفية بالمصطلحات الواردة في هذا النظام، في كتب أهل العلم في أول الكتاب يقول: ومرادي بقولي: رواه الشيخان كذا، فهذا بيان. هذا البيان أيضا قد يكون في أحكام الشرع؛ -(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)- [البقرة/68] هذا جاء بيانا لقوله: -(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)- [البقرة/67].

البيان إذن هو توضيح المتكلم للمراد بكلامه الذي تكلم به أو سيتكلم به، هذا البيان له مسائل أصولية يبحث في أحكامه وحقيقته، على ما سيأتي، نعم.


****

المتن:
المسألة الأولى في حقيقة البيان:
قال الصيرفي - وكان من علماء الأصول - : وهو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي،
وهذا ضعيف فإن الحيز والتجلي لفظان مشكلان فكيف يتبين بهما .
وقال آخرون: البيان هو العلم، وهذا ضعيف؛ لأنه لو اطرد لانعكس ولا يصح أن يقال العلم هو البيان، فإنه لا يصح ذلك فيه إذ البيان والتبيين يقتضي سبق استبهام فيخرج عنه علم الله تعالى.
وقال قائلون البيان هو الظهور يقال بان لي أمر كذا وبانت المرأة من زوجها والصديق من صديقه، وهو ظهور على وجه ما فرقت بين ذلك كله المصادر، وهذا الحد وإن كان يحوم على الحقيقة، لكنه مشترك بين الأجسام والمعاني.
والصحيح ما حد به أبو الباقلاني رحمه الله - لسان الأمة – قال: البيان هو الدليل، وهذا صحيح لفظا ومعنى طردا وعكسا.
المسألة الثانية في مراتبه :
أول من رتبها الشافعي رضي الله عنه، قال: هو على خمس مراتب:
- أولها: ما يدركه العوام الجفلى كقوله تعالى:-( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)- [البقرة/196]
- الثاني: ما يدركه الخواص من أولي الحجى، كآية الوضوء فإنها تحتاج إلى معارف كثيرة منها الواو والفاء وغير ذلك.
- الثالث: ما تولى الله تعالى تنزيله ووقعت الإحالة على النبي في بيانه كقوله تعالى -(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)- [البقرة/43]، وكقوله سبحانه -(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)- [البقرة/275] في أحد القولين.
- الرابع: ما تولى النبي بيان أصله ووصفه كحديث عبادة لا تبيعوا الذهب إلى آخره.
- الخامس: القياس، وقد رد عليه جماعة من العلماء هذا الترتيب بتركه للإجماع وهو من أعظم الأصول، وذكروا ترتيبها على وجه يطول.
والذي يفتقرون إليه الآن في هذه العجالة أنا قدمنا أن البيان هو الدليل فمراتب البيان كمراتب الأدلة وأصل الأدلة في غرضنا هذا كتاب الله تعالى ثم بعد ذلك تتنوع إلى ما تنشأ عنه فمرتبته بحسب قربه منه كقوله النبي فإنه يليه ، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم فإنه يليه وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم فإنه تالية وكلام الله تعالى المنزل علينا باللسان العربي يختلف بحسب اختلاف اللسان الذي نزل به فالنص أعلاه والظاهر تلوه وهكذا كلما تباعدت في الأمرين جميعا تفاوتت ومدركها لا يتبين إلا بمباشرتها.
المسألة الثالثة في تأخير البيان عن وقت الحاجة :
وقد اتفق الجفلى على أن ذلك لا يجوز لأنه تكليف مالا يطاق ولما تكرر ذكر ذلك في الكتب اتفق عليه العلماء قديما وحديثا ولم يعرف فيه نزاع من موالف ولا مخالف لاحظته مرة فظهر لي إن ذلك جائز ولا يكون من باب تكليف ما لا يطاق بل يكون رفعا للحكم واسقاطا له.
المسألة الرابعة تأخير البيان إلى وقت الحاجة :
زعمت طائفة أنه لا يجوز معظمهم من المعتزلة وباقيهم من سائر المبتدعة والدليل على جوازه أنه لا استحالة في أن يقول السيد لعبده خط لي هذا الثوب غدا فإذا من الغد يبين له الكيفية وتعسا للمعتزلة فإنهم قالوا إن النسخ بيان لانقضاء مدة العبادة فكيف أنكروا ما جوزوا.
وأما الدليل على وقوعه فكثير نذكر منها ثلاثة أمور:
- الأول إن الله تبارك وتعالى أمر بني إسرائيل بذبح البقرة في وقت ثم بين لهم صفتها في آخر.
- الثاني إن الله عز وجل فرض الصلاة على رسول الله ليلاً في السماء وبينها في صلاة الظهرة على التواني عند الحاجة إليه.
- الثالث إن النبي سأله سائل عن وقت الصلاة فقال صل معنا هذين اليومين.
وهذه الثلاثة الأدلة يعتمد فيها على الأوسط لأن الأول والثاني منهما معترضان.
المسألة الخامسة في جواز تأخير التخصيص:
وهو مثل ما تقدم وأبين منه والقول فيه كالقول فيه.

الشرح:

[المسألة الأولى في حقيقة البيان:]
ذكر المؤلف هنا ما يتعلق بالبيان، والبيان للعلماء فيه مناهج مختلفة:
* فالابتداء ببيان الأحكام هل يسمى بيانا أو لا يسمى بيانا؟ هذا موطن خلاف.
* الحكم الجديد الذي لا يقع توظيفا لحكم سابق، هل يعد بينا أو لا؟ هذا موطن خلاف، وجمهور الأصوليين على أنه لا يعد بيانا؛ البيان يكون توضيحا لنص سابق، وبيان المراد من دليل سابق.

عرَّف الصيرفي البيان بأنه إخراج الشيء من حيِّز الإشكال إلى حيِّز التجلي، لكن هناك أشياء من البيان ليس فيها إخراج من الإشكال، من مثل تخصيص العام فإنه نوع من أنواع البيان، والعام قبل ورود المُخَصِّص واضح وليس مشكلا، وبالتالي هذا التعريف فيه ما فيه، وقد انتقده المؤلف لأن كلمة الإشكال والتجلي ألفاظ غامضة ولا يصح أن يكون في التعريف ألفاظ غامضة.

وعرف آخرون البيان بأنه العلم، لكن هناك أشياء من العلم كثيرة ليست بيانا، فالبيان جزء من أجزاء العلم لكن ليس جميع العلم. قال: إذ البيان والتبيين يقتضي سبق استفهام.

وقال قائلون: البيان هو الظهور، وهذا تعريف لهذه الكلمة بحسب اللغة.

وقال آخرون: البيان هو الدليل، لكن الدليل هو المُبَيِّن وليس هو البيان، الدليل هو المُبَيِّن والموضح، ولذلك في هذا شيء. ثم إن هناك أدلة ليست بيانا لغيرها، فالتعريف ليس مانعا؛ لأن هناك أدلة ليست بيانا.
وقيل في البيان هو: توضيح مراد المُتكلم.

[المسألة الثانية في مراتبه:]
قَسَّم الشافعي مراتب البيان إلى:
* ما يعرفه جميع الناس بحسب مقتضى اللغة، الجهلة يعني عموم الناس.
* ومنها ما لا يدركه إلا العلماء.
* ومنها ما يكون بيانه في الأدلة الشرعية: كتابا وسنة أو قياسا، وقيل: الشافعي لم يذكر الإجماع.
قال المؤلف: سبق أن بيَّـنَّا البيان بأنه الدليل، ومن ثَمَّ تكون أقسام الدليل هي أقسام البيان.
[المسألة الثالثة في تأخير البيان عن وقت الحاجة:]
هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟ إذا كان هناك حاجة لحكم شرعي، فهل يصح هل يمكن أن يؤخر الشرع بيان الحكم مع وجود حاجة لبيانه أو لا؟
من أمثلة ذلك: إذا فعل أحد الصحابة أمام النبي صلى الله عليه وسلم فعلا غير جائز، هل يصح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأخر البيان هنا؟ الإنكار على هذا الفعل؟ نقول: هذا تأخير للبيان عن وقت الحاجة فلا يجوز.
قال المؤلف: اتفق الجَفَلَى يعني عموم العلماء على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز، وبناه على قال: لأنه تكليف ما لا يطاق، مع أنه في المقدمات هناك يقول بأن تكليف ما لا يطاق جائز، فيلزمه هنا أن يقول: تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز، ويلزمه أن يلزم أصحابه بذلك.
قال المؤلف: يمكن أن يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز، ويكون رفعا للحكم، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأنه إذا كان البيان المتأخر رفعا للحكم فيكون نسخا وليس بيانا، والخلاف في أي شيء؟ في تأخير البيان، أو الكلام هنا في تأخير البيان عن وقت الحاجة، لذلك إذا ورد بيانٌ بعد وقت الحاجة فإننا نعده ناسخا ورافعا للحكم و لا نعُدُه بيانا، ففرق بين النسخ والبيان.

[المسألة الرابعة تأخير البيان إلى وقت الحاجة:]
أما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فهذا جائز، ولذلك قال تعالى: -(وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)- [الأنعام/141] نزلت بمكة ولم تبين إلا بالمدينة عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر}) (، واستدل المؤلف على ذلك بعدم استحالته، واستدل عليه أيضا بوقوعه فإن الله جل وعلا أمر بني إسرائيل بذبح البقرة في وقت، ثم بعد ذلك بَيَّنَ لهم صفتها، لكن هذا الدليل لم يرتضه المؤلف وقال: هذا دليل مُعْتَرَضٌ، يعني قد توجه إليه الاعتراض ولم يحصل جواب على هذا الاعتراض.
ومثله أيضا أن الله عزوجل فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ولم يأت بيانها وتوضيحها إلا من الغد.
ولما سأله سائل عن وقت الصلاة لم يجاوبه في الحال، إنما قال: {صل معنا}) (، فأخر البيان عن وقت الخطاب إلى أو قبل وقت الحاجة.
كذلك يجوز تأخير تخصيص العموم؛ التخصيص كما تقدم نوع من أنواع البيان، ولذلك نجد أن عددا من النصوص نزل، ثم نزل مُخَصِّصه بعد ذلك، قال تعالى: -(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)- [البقرة/228] ثم نزل بعد ذلك: -(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)- [الطلاق/4] فأخر تنزيل المُخَصِّص عن اللفظ العام، نعم.

************************



المتن:
كتاب الأقسام:
لما سلف من القول في مقدمات أصوله الفقه ما يغني فيما يستأنف، وجب الأخذ في بيان أصول الفقه المختصة به المضافة له، وذلك القول في الأوامر النواهي، والبيان للعموم والخصوص، والنظر في المحكم والمتشابه، و اتباع ذلك بالمفهوم وفصله عن المنطوق في الخطاب خاصة، و اتباع ذلك بالأفعال وبيان الأخبار وإيضاح منازل التنزيل للتأويل، والكلام على الإجماع وكيفية وجوهه، وإتباع ذلك بالقول في القياس وأقسامه وبيان وجوه الاعتراض عليه، وإتمام الكتاب بالقول في القياس وأقسامه وبيان وجوه الاعتراض عليه، وإتمام الكتاب بالقول في الناسخ والمنسوخ، وإيضاح ذلك ببيان الترجيح الذي هو معضلة الأصول وخاتمة الفصول، ولا بد من ذكر مراتب الاجتهاد، وكيفية مراتب الفتوى وبذلك يتم العرض المصمود، وتحصيل الفائدة والمقصود.
القول في الأوامر
وفيها خمس عشرة مسألة:
المسألة الأولى في حقيقة الأمر
وقد جرت عادة علمائنا رضي الله عنهم بتصدير هذا الباب بالقول في أقسام الكلام وأنواعه، وقد طال بينهم في ذلك القراع وكثر النزاع، وذهب المحققون إلى أن أقسامه خمسة، والصحيح إنها قسمان حسب ما كشفه التمحيص في كتابنا وهما الطلب والخبر.
فأما الكلام فقد جهله أكثر الناس، وهو عندنا المعنى القائم بالنفس، فأما العبارات فاختلف علماؤنا فيها؛ فقال شيخنا أبو الحسن رحمه الله إنها كلام حقيقة، وجعل حقيقة الكلام جنسين.
وسائر الأصحاب رحمهم الله يقولون: إن العبارة تسمى كلاماً مجازاً وبه أقول.
وقالت المعتزلة وجماعة من المبتدعة إن الكلام فعل من الأفعال كالحركة والسكون، وأنه ضرب من اصطكاك الأجسام. وقد دللنا على فساده في كتاب المقسط والمتوسط، والذي يهدم قاعدتهم إنه يعلم المتكلم متكلما من لا يدري كونه فاعلا للكلام، ولو كان حقيقة المتكلم من فعل الكلام ما علمه متكلما إلا من علمه فاعلا ولا جواب لهم عنه.
إذا ثبت هذا وفهمتم أن الكلام معنى قائم بالنفس يجده المرء ويحس به العاقل، فينبني على هذا:
المسألة الثانية: وهي أن الأمر لا صيغة له
وقد اختلف في ذلك أهل الأصول؛ فصار الفقهاء ممن تكلم فيها إلى أن له صيغة، وإلى ذلك مالت المعتزلة بأسرها لاعتقادهم الفاسد.
فأما الفقهاء فإنما قالوا ذلك جهلا بحقيقة الأمر لا عن اقتحام البدعة، وأما المعتزلة فإنما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم الفاسد أن الكلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، وقد بينا فساده من قبل.

واتفق أهل الحق من أرباب الكلام على أن الأمر لا صيغة له، وذلك لأنه الكلام معنى الشبهات قائم بالنفس من الإرادة والعلم، والمعاني النفسية لا صيغة لها وهذا أبين من الشبهات فيه.
ومع هذا فنقول إن وراء هذا تحقيقا لا بد من شرحه، وهو أن الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام الذي هو معنى قائم بالنفس، هل وضعت له العرب صيغة تدل عليه على اختصاص أم لا؟ فالفقهاء يرون أن له صيغة دالة عليه على الاختصاص وهو قولك افعل.
وأما أهل الحق من المتكلمين فصاروا إلى أن لفظة افعل محتملة للأمر وضده وهو النهي، ولخلافه ،وقد وردت في الشريعة على نحو من خمسة عشر وجها، فإذا جاءت مطلقة وجب التوقف فيها حتى يقوم الدليل على تعيين معنى من معانيها.
واحتج الفقهاء بأن الله تعالى أمر أبليس بالسجود فلما توقف واعترض استحق الذم وقال تعالى: -(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)- [النور/63].
وأجاب عن ذلك أصحابنا بأن هذا وأمثاله لا يصح الاحتجاج به؛ أما قصة إبليس فإن الله تعالى قرن أمره بالسجود لآدم بقرينة فهمتها جميع الملائكة ولذلك سجدت، وهي فضل العلم على المتعلم،واعترض فيها إبليس لا من الوجه المختلف فيه، ولكن من جهة تسفيه الأمر وذلك كفر.
و أما قوله تعالى"-(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)- فلم يختلف أحد في أن مخالفة الأمر لا يحل وإنما اختلفوا في أمرين:
* أحدهما: إن الأمر يحتمل أن يكون بمعنى الفعل، ويحتمل أن يكون بمعنى القول خاصا أو عاما.
* الثاني: أنهم إنما اختلفوا في الصيغة التي تنبئ عن الأمر، وليس في ذلك ظاهر ولا نص لما يحاولون فيها.
والمختار أن الأعلى إذا قال للأدنى افعل فالمفهوم منه طلب جازم لا مثنوية فيه ولا تردد، فإن قيل فالأمر من المثل للمثل هل يتصور؟ قلنا: يتصور بوجهين إما ببقاء المساوي فيكون على المكافأة وإما بالحاجة فيكون طلبا فتذهب المماثلة.

فأما التعرض للعقاب عند الترك فليس للأمر فيه حظ، سواء كان المعنى القائم بالنفس، أو العبارة الدالة عليه، وإنما يوجد العقاب على الترك من دليل آخر.
فإن قيل: اقتحمتم عظيما؛ فإنكم جعلتم الأمر في اللغة عريا عن عبارة تدل عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
- أحدهما أننا نقول إن فعلنا ذلك فإن لها لأخوات.
- الثاني إن العبارة المختصة به أوجبت وألزمت وفرضت ونحو ذلك، إن صح أيضا ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

***************************


الشرح:

[المسألة الأولى في حقيقة الأمر]
ذكر المؤلف هنا ما يتعلق بالأوامر، تقدم معنا أن الأشاعرة يرون أن الأمر هو المعاني النفسية، لأن الأمر جزء من الكلام، والكلام عندهم هو المعاني النفسية، وسبق أن بينَّا أن هذا ليس بصحيح، وأنه على مقتضى مذهب الأشاعرة أشد تناقضا؛ لو كانت في نفسك معاني، تطلب شيئا من الأمور ولم تتلفظ به، هل يقال أنت آمرٌ؟ وهل يعد هذا أمرا؟ وهل يعد مخالفه عاصيا؟
فدلنا هذا على أن مجرد المعنى النفسي ليس من الأمر في شيء، وإنما هذا أمر سابق للأمر، وأن الأمر إنما هو الأصوات والحروف.
والمؤلف حاول أن ينصر مذهب أصحابه في القول بأن الأمر والكلام هو المعاني النفسية، وأن الأصوات والحروف عبارة عنه، وهذا يتضاد مع مذهب الأشاعرة فيما يتعلق بالله تعالى؛ الأشاعرة يقولون: إن صفة الكلام لله صفة أزلية، فهو تكلم في الأزل ثم لا يتكلم بعد ذلك، فعلى قولهم هذا أن الكلام يكون كله معنى واحدا، فإذا كان المعنى واحدا، فإذا كان المعنى واحدا كيف يقولون: هناك فرق بين الأمر والنهي؟ فعلى مقتضى مذهبهم يكون قوله: -(أَقِمِ الصَّلَاةَ)- عَيْنَ قوله: -(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)- [الإسراء/32].
ثم إذا لاحظت مذهبهم فيما يتعلق بأفعال المخلوقين ظهر لك تناقض آخر من تناقضاتهم، فإنهم يقولون: ليس للمخلوق فعل وإنما هو فعل الله، ومن ذلك كلام المخلوق وهذا ليس فعلا للمخلوق بل هو كلام لله وفعل لله جل وعلا. فهذا يجعل كلامهم متناقضا، ويكون هناك عدم تفريق بين الأوامر والنواهي و العمومات و الخصوصات.

طيب، العبارات هذه طريقة للأشاعرة في التعبير أو في الكلام وفي بيان الألفاظ والأصوات، لأنه عندهم أن الحروف والأصوات هذه عبارة عن الكلام ليست كلاما، لذلك يسمون الجُمل عبارات، هذه التسمية ليست تسمية صحيحة.

قال أبو الحسن: الألفاظ كلام حقيقة، فدل هذا على أن أصحابه لم يسيروا على طريقته.
بعض أهل السنة قال: الكلام حقيقة في اللفظ والمعنى، ولا يريد به المعنى القائم في نفس المتكلم، وإنما يريد به المعنى الذي يدل عليه اللفظ، فليس هناك توافق بينهما.
بعض الناس لما يجي بعض أهل السنة يقولون: الكلام حقيقة مشتركة بين الألفاظ والمعاني، يقولون: إن المراد به المعاني النفسية القائمة في نفس المتكلم، وهذا ليس مرادا لهم، وإنما مرادهم المعاني التي يدل عليها اللفظ المتكلم به.

حاول المؤلف أن يتكلم عن المخالفين بكلام قد تنفر منه النفوس، فقال: إن المعتزلة جعلوا الكلام فعلا من الأفعال وليست معنى، وجعلوا الكلام هو اصطكاك الأجسام. و هذا على مذهب المعتزلة يمكن أنه يرونه ولذلك ينفون صفة الكلام عن الله عز وجل، كلمة اصطكاك الأجسام لا يصح أن نصف الله بها، وهذا الكلام في تفسير الكلام بأنه اصطكاك الأجسام ليس من حقيقة الكلام في شيء.

قال: والذي يهدم قاعدتهم أنه يعلم المتكلمَ متكلما من لا يدري كونه فاعلا للكلام، وهذا متكلم ولو كنت لا أعرف أنه فاعل للكلام، وهذا الكلام مبني على تشتيت العبارة بدون أن يكون لها حقيقة، وهو كلام خاطئ؛ لا يمكن أن يكون هناك شخص يظن أن فلانا متكلم إلا إذا اعتقد أنه فاعل للكلام، ما يمكن .
فقول المؤلف: أن هناك من يعرف أن الشخص متكلم مع كونه لا يدري أنه فاعل للكلام هذا غير صحيح، المتكلم هو الفاعل للكلام، وكل عاقل إذا تصور متكلما تصور فاعلا للكلام، ومعارضة من عارض إنما هي مكابرة.
وقولهم: لا جواب لهم عن هذا، بل هذا مجرد تصوره يدل على بطلانه، مجرد التصور فإنه لا يوجد متكلم إلا إذا كان فاعلا للكلام.
- الطالب:....
الشيخ: هو متكلم أو غير متكلم الإنسي؟
- الطالب: متكلم لكن هو غير فاعل...
الشيخ: إذا كان متكلما فهو الفاعل، لا يمكن أن يكون هناك اسم فاعل يسقط على شخص إلا إذا كان الفعل قد قام بذلك الشخص، إما أن تقول المتكلم الجني، فبالتالي الفاعل للكلام الجني، وإما أن تقول المتكلم الإنسي فالفاعل للكلام هو الإنسي.
مقتضى لغة العرب: أن اسم الفاعل يدل على من قام بالفعل، فهو مقتضى لغة ومقتضى عقل، أما أن تقول فاعل لم يقم به الفعل، كيف فاعل لم يقم به الفعل؟؟ مثله متكلم لم يقم به التكلم، كيف؟؟

[المسألة الثانية: وهي أن الأمر لا صيغة له]
انتقل المؤلف إلى مسألة أخرى وهي: هل للأمر صيغة تدل عليه بمجردها؟
الأشاعرة يرون أن الكلام ليس له معاني، وان الأصوات والحروف لا تدل على معنى بذاتها حتى يكون معها قرائن، وهذا يقيد من مقصود وضع اللغة، لأنه وُضِعت اللغة لأي شيء؟ من أجل التفاهم والتخاطب، يعرف كل إنسان مراد غيره، لكنهم قالوا: هذه الألفاظ لا تدل على أي معنى بنفسها حتى يكون معها قرائن، فعطَّلوا المقصود من وضع اللغة.
ولذلك شنعوا على مع أن مذهبهم باطل وتصوره بعيد إلا أنهم بدؤوا يشنعون على المخالف لهم، فقالوا: قلنا لهم خالفكم الفقهاء، قالوا الفقهاء لم يتصوروا هذه المسألة فهم جهلة، قالوا ذلك عن جهل بحقيقة الأمر. ليس بصحيح الفقهاء علماء الشريعة لا يتكلم المُتكلم منهم أو لا يتفقون إلا على أمر واقع وحقيقة.

قال: وأما المعتزلة فإنما صاروا لذلك، - يعني أن صيغة افعل تدل على الأمر بنفسها - لاعتقادهم الفاسد ان الكلام أصوات مقطعة، هذا الاعتقاد ليس خاصا بالمعتزلة حتى الفقهاء يقولون به.

قال: واتفق أهل الحق من أرباب الكلام، من يقصد؟ الأشاعرة. على أن الأمر لا صيغة له، يعني أن الصيغة لا تدل على الطلب بنفسها حتى يكون معها قرينة، وذلك لأن الكلام عندهم هو المعاني النفسية، تقدم معنا أن الصواب أن الكلام هو الأصوات والحروف، ويدل على هذا قرابة خمسمائة دليل في الكتاب والسنة، ويدل عليه إجماع السلف وإجماع علماء الشريعة، وإجماع أهل اللغة، حتى المؤلف قبل قليل يوافق الجمهور فيقول: الكلام اسم وفعل وحرف، والأسماء والأفعال والحروف هذه ألفاظ منطوقة.

قال: لأن الكلام معنى قائم بالنفس كالإرادة والعلم هذا... والمعاني النفسية لا صيغة لها، والصواب ان الكلام هو الأصوات والحروف.
هم اعترضوا وقالوا: هناك صيغة افعل تأتي ويراد بها الأمر والطلب، ومرة يراد بها النهي، ومرة يراد بها التسوية، ومرة يراد بها التهديد، -(كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا)- [الإسراء/50] هذا أمر تكويني وليس المراد به الطلب، -(كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)- [البقرة/65]، -(فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا)- [الطور/16] ليس المراد به الطلب، قالوا فدل هذا على أن الصيغة صيغة افعل لا تدل على الطلب بنفسها، وهذا كلام خاطئ؛ لأن ما أوردوه وُجدت معه قرائن صرفته عن ظاهره، الأصل في صيغة افعل أن تدل على الأمر والطلب، ولا تصرف عن هذا إلا بقرينة، فإذن ما أوردوه خارج محل النزاع، لأن محل النزاع هو في صيغة افعل إذا لم يكن معها قرائن، وأما ما أوردوه فإن صيغة افعل ليست مجردة وإنما معها قرائن توضح المراد بها.

قال: احتج الفقهاء بأن الله أمر إبليس بالسجود، ما قال إبليس هذا الأمر ليس معه قرينه توضح المراد به، لما لم يمتثل عُدَّ عاصيا.
وقال المؤلف: بأن هناك قرينة مع هذا الأمر، تقدير قرائن مع الألفاظ الشرعية وإحالة الدلالة عليها إبطال للأدلة الشرعية، كأنه يقول: لا تعمل بالقرآن واعمل بهذه القرائن الموهومة.
جاء بقوله: -(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)- [النور/63] هنا الأمر المخالفة هل تكون للمعاني النفسية ولا تكون للأصوات والحروف؟ فحينئذ لا يصح أن يفسروا الأمر هنا بالمعاني النفسية.

قال المؤلف: والمختار أن الأعلى إذا قال للأدنى فالمفهوم منه طلب جازم لا مثنوية فيه يعني لا استثناء فيه ولا تردد. هذه مسألة في حقيقة الأمر أننا نجد صيغة افعل ويكون فيها طلب لكن لا تدل على الأمر، ومن أمثلته الدعاء: رب اغفر لي، اغفر صيغة افعل، هل هذا أمر؟ ليس أمرا.
إذن متى تكون صيغة افعل للأمر ومتى [لا] تكون؟
قال المؤلف: إذا كانت من الأعلى للأدنى فإنه يكون أمرا، و هذا فيه نظر من جهة أن الأعلى في مرات يلتمس من الأدنى وإن لم يكن أمرا، ولذلك نجد أن الأب قد يوجه هذه الصيغة صيغة افعل لابنه على جهة التودد والالتماس فلا يكون أمرا. و من هنا فإن الصواب أن يقال: إن الطلب على جهة استعلاء يكون أمرا، ما هو على جهة العلو.

بعض أهل العلم خرج من هذا بقوله: الأمر الذي يتعرض مخالفه للعقوبة أو صيغة افعل التي يكون المخالف لها متعرضا للعقوبة تكون أمرا، لكن التعرض للعقاب عند الترك ليس فيه ترابط بينه وبين الأمر، وبذلك على هذا أنه قد توجد أوامر لا عقوبة للمخالف لها كما في أوامر الندب، ثم إن إثبات العقوبة هذا يحتاج إلى دليل مستقل، هكذا قرر المؤلف، نعم.


لعلنا نقف على هذا خمس دقائق ونواص الدرس بعد خمس دقائق، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.