المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في الطريق إلى العَلمانية



أهــل الحـديث
23-05-2013, 02:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


"الأحكام الشرعية لا يصلح فيها الإلزام أو المنع؛ مَن أحب أنْ يُصلي أو يُزكي أو يترك الحرام فهو إنسان يعرف مصلحة نفسه، ومَن لم يفعل فلا يصلح أنْ نُلزمه أو نمنعه لأنَّ هذا شأنٌ بينه وبين ربه".

هذا فحوى ما سمعته في سياق حديثنا الوِدِّي مع سائق الأُجرة الذي تكرَّم بإيصالنا ذات يوم، ودَّعتُه ثُم فارقته، وقد آذتني هذه الجملة كثيراً، ليس لأني أسمعها للمرة الأولى، فمؤدَّاها متكدِّس في المقروء والمسموع، لكن المؤذي فيها أنها تصدُر مِن رجل الشارع العادي، وتترجم معنى حاضراً بقوة في الثقافة الشعبية لعالمنا العربي والإسلامي.

إذا كانت الأوامر الشرعية غير مُلزِمة والنواهي غير ممنوعة، فإنَّ السَّيْر على هذا الطريق يوصلك إلى بوابة العَلمانية وإنْ لعنتَها وبصقتَ عليها. فالعَلمانية تعني فصْل الدِّين عن الدولة، بمعنى عزل الأحكام الاشرعية أنْ تكون مؤثِّرة في نظام عام مُلزِم للناس، وحين تكون الأحكام الشرعية شأناً خاصاً يُحمَد فاعله ولا يُتَعرَّض لتاركه وليس لها تعلُّق بنظامٍ أو سُلطة، فنحن بهذا في وسط باحة العَلمانية.
إنَّ إسقاط الإلزام والمنع مِن الأحكام الشرعية هو مِن مفاصل النزاع مع الفِكر العَلماني؛ فالفلسفة العَلمانية لا تمانِع مِن حضور الطاعات وترك المنهيات لاعتبارات دينية لدى الناس، بل إنها قد تحمي ذلك وتحرسه ما دام شأناً خاصاً لا يؤثِّر على الآخرين ولا يترتب عليه منع أو فرض لهذه الأحكام وإعلاء لها إلى مقام التقنين والإلزام، ومثل هذا سيؤدي إلى تعطيل الأحكام الشرعية عن القيادة والحُكم وإنْ كانت حاضرة في الوجود لمَن أحب.

إنَّ الأوامر والنواهي الشرعية في كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم مُتَّجِهة إلى الفرد والمجتمع، ومُتعلِّقة بخاصة المسلم وبنظامه الذي يحكمه؛ فالمسلم حين يقرأ قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [سورة البقرة - الآية 43]، وقوله سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [سورة النِّساء - الآية 11]، وقوله سبحانه: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [سورة النِّساء - الآية 22]، فإنَّ هذا الخطاب مُتَّجِه للفرد بأنْ يمتثل أوامر ربه ويتجنب نواهيه، ومُتَّجِه أيضاً للمجتمع ليحكم بما يريد رب العالمين منه، ولم يكن أحد مِن السابقين يظُن أنَّ هذا الخطاب مُتَّجِه للفرد، وأما الجماعة فشيء آخَر، فالتفكير بهذه الطريقة إنما هو مِن رواسب التأثير العَلماني المُكَثَّف في عقول الناس؛ حيث أحدث لكثيرٍ منهم حمل أوامر الشريعة ونواهيها على الشأن الخاص للفرد فقط دون النظام والمجتمع.
لا أدري كيف يتعامل هذا التفكير مع العقوبات الشرعية المُحدَّدة في كتاب الله، في قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف، فالحُكم هنا تجاوز مجرد الإلزام أو المنع الذي يستكثرونه على الشريعة إلى العقوبة المُحدَّدة، وحتى الأحكام التي لم تَرِد الشريعة بعقوبات مُحدَّدة لها هي مِن الجرائم التي تستحق التعزير بحسب حال الذنب وصاحبه والعوارض المُحتفَّة به [والتعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهو محل اتفاق بين العلماء. انظر: مجموع الفتاوى (ج30/ص39) و(ج35/ص402)، الطرق الحكمية (ص134)]. فالأموامر والنواهي لا تقف فقط حد الإلزام والمنع، بل تصل إلى حد العقوبة، وهو أمر أعلى مِن مجرد الإلزام.
وأعلى مِن هذا كله أنَّ الله تعالى قد أَمَرَ بالتحاكم إلى ما أَنْزَل، ووصف المستنكفين عنه بالأوصاف العظيمة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [سورة المائدة - الآية 44]، ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، بما يَفهم منه كل مسلم أنَّ أحكامَ الشريعة أحكامٌ قضائية عُليا مُلزِمة، وأنَّ الحُكم بها والفصل بين الناس بِناءً عليها مِن قطعيات الشريعة، ومَن ينفي الإلزام والمنع كيف يستقيم على فهمه وجود حُكم بغير ما أنزل الله؟ وما دامت الأوامر والنواهي شأناً خاصاً فما معنى الحُكم إذن؟

وتجد في كتاب الله ثناءً عظيماً على هذه الأُمَّة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [سورة آل عِمران - الآية 110]، وأعطاها الله أماناً مِن الهلاك ما دامت ممتثلة له ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [سورة هود - الآية 117]، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلَّم في جوابه عن سؤال زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نَعَم إذا كَثُرَ الخبث" [أخرجه البخاري (ح3403)، ومسلم (ح7418)].
وبقوله صلى الله عليه وسلَّم: "والَّذي نَفسي بيدِهِ، لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم" [مِن حديث حُذَيفة رضي الله عنه، أخرجه الترمذي وحسَّنه (ح2169) وحسَّنه الألباني]، فانتشار الخبث سببٌ لهلاك الناس حتى الصالحين منهم، ما دام وجودهم لم يكن سبباً للتقليل مِن الخَبَث الذي لن يتحقق دون إلزام ومنْع.
كما بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم مراتب هذه الخيرية فجَعَل الإلزام والمنع هو أول هذه المراتب وأعلاها، فقال صلى الله عليه وسلَّم: " مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإنْ لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإنْ لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ، وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ" [أخرجه مسلم (ح186)].

وإذا زال الإلزام بأوامر الله والمنع عن مناهي الله لم يكن ثَم ميزة لهذه الأُمَّة إلا مُجرد أنْ تفعل المعروف وتترك المنكر، وإذا حسُن أمرها نصحت بالكلام مِن غير نظام ولا إلزام ولا سلوك عام، وليس في هذا ميزة يُفتَخَر بها؛ لأنَّ فِعل المعروف ونُصح بعض الناس به تفعله كل الأُمم والحضارات، فأي شيء يُمَيِّز أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلَّم؟

لا شك بعد هذا أنَّ الإلزام والمنع سيكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولن يكون مَرَدُّه إلى آحاد الناس مطلقاً، ولن يُطالَب الإنسان بشيء مِن ذلك في حالة الضعف وعدم القدرة، أو في حالة ترتَّب عليه مفسدة أعظم منه، فكل ذلك مِن القواعد الشرعية المستحضرة في هذا المقام، وهي مِن مُكَمِّلات أصل الإلزام في الشريعة، ولا يجوز أنْ تُتَّخَذ أداة لتكسير هذا الأصل.

أعرف جيداً أنَّ صاحبنا حين قال هذه الجملة لم يقصد حقيقتها ولم يُدرِك لوازمها، وأجزم أنه سيتعوَّذ بالله ويستغفره مِن مثل هذا القول في مواطن أخرى، لكن هذا لا يعني التهاون مع مِثل هذه المفاهيم؛ لأنَّ استمرار حضورها مع ضعف البيان يعطيها الوقت للبقاء والتمدُّد وشق أخاديد الانحراف في عمق المجتمعات المسلمة، لتنساب بهدوء مِن حيث لا نشعر في طريقها إلى العَلمانية.


كتبه: فهد العجلان
مِن كتاب: معركة النَّص