المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفوائد الماسية من الرحلة المقدسية الحلقة الرابعة (2)



أهــل الحـديث
18-05-2013, 05:01 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




توقفنا معكم على دوار (حوارة) حتى تقرأوا ما كتبناه لكم عن رحلتنا من ضواحي القدس ورام الله إلى مشارف نابلس في الحلقة الرابعة (1) من «الفوائد الماسية من الرحلة المقدسية» في يوم الاثنين 29 ربيع الثاني لسنة 1434هـ، الموافق 11 آذار (مارس) لسنة 2013م، ونستميحكم عذرا إن أطلنا انتظاركم على ذاك الدوار الذي سيكون لنا توقف قسري عليه بعد العشاء من هذا اليوم أثناء عودتنا من طولكرم إن شاء الله.
دخلنا مدينة جبل النار (نابلس)، والذي وقف فيها جبل (جرزيم) على يسارنا ونحن داخلون شامخا كما كان عبر التاريخ كأنه يقول لنا: تفضلوا بالدخول أعزاء آمنين سالمين، وسأبقى مستعصيا على غزاتي حتى يدكني الرحمن دكا فيجعلني قاعا صفصفا، لا ترى فِيَّ عِوَجَاً ولا أَمْتَا، وها هو أخي (عيبال) على يمينكم بعد خطوات لا يقل ترحيبه بكم عن ترحيبي أنا، لأنه بالأشواق إليكم تماما كما أنتم تحترقون إليه بالأشواق، ولا تكترثوا ولا تهتموا كثيرا لهذه القواعد العسكرية الصهيونية الاحتلالية التي استقرت على رأسي ولا على رأسه، فهم من خوفهم وجبنهم يبقون فوقنا حتى لا يندكوا تحتنا يوما من الأيام، لأنهم لا زالوا يذكرون يوم رفع الله على رؤوسهم الطور، وهو أصغر منا حجما، وأقل منا شموخا.
دخلنا مدينة أئمة الحنابلة من سلفنا الصالحين السابقين ونحن نستذكر أبناء (قدامة)، و(النابلسي)، و(الكرمي) المتتابعين عبر القرون يخطون ويؤصلون ويقعدون قواعد وأصول وفروع مذهب إمام أهل السنة والجماعة بإطلاق؛ الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، الذي صارت أقوال (الجماعيليين) من أبناء (قدامة)، و(النابلسي)، و(الكرمي) من هذه المحافظة أقوالا معتمدة عند أتباعه ومنتحلي مذهبه.
دخلنا مدينة جبل النار ـ كما اعتدنا على تسميتها صغارا، وكما كانت على المحتلين دوماً ـ لنرى مطحنتها القديمة التي طالما طحنت من قمح هذه البلاد المباركة ما سدت به رمق هؤلاء المرابطين المنزرعين في مساكنهم ومدينتهم وقراهم وبلداتهم المحيطة بها.
واخترقنا الشارع الرئيسي فيها والذي انتصب فيه مبنى (اليونروا) يمينا، والمدرسة الفاطمية شمالا، لنصل بعد ذلك إلى شارع النجاح العريق، بمبنى جامعته القديمة العريقة، حيث كانت مدرسة ثانوية قبل أن تطور إلى كلية وطنية وقبل أن تصبح بعد جامعة عليا، وحيث محلات ومكاتب كهان السمرة اليهود العلنية حيث لا زالوا يمارسون السحر والشعوذة، ويعبدون الجبت والطاغوت جهرا وعلانية، لا سرا ولا خفيا.
مررنا بفندق القصر ونحن في طريقنا إلى (رفيديا) التي كانت قرية من قرى نابلس، قبل أن تصبح حيا رئيسيا من أحيائها الحديثة، حيث مستشفى (رفيديا) القديم من العهد الأردني، ومسجد (رفيديا) القديم، وكذلك كنائسها القديمة، حتى وصلنا (جنيد) وهو أشهر من أن يُعرف بسبب مركز الاحتجاز سيء السمعة الذي أقامه الصهاينة فيه.
وصلنا مقر جامعة النجاح الوطنية الجديدة، والتي تحوي على كافة الكليات العلمية، بما فيها كلية الطب الشرعي، وبمساهمة سخية ومشكورة من رجالات نابلس الأثرياء، ثم استدرنا من (بيت وزن) ومن مفرق الطريق المؤدي إلى منطقة قلقيلية القريبة لنعبر شارع (سما) نابلس، حيث يظهر جرزيمها وعيبالها الشامخان، وأثناء مرورنا لفت انتباهي مكاتب الكهنة السمرة اليهود العلنية، وما يعلنوه من فك المربوط والسحر وغير ذلك ولما سألت عن رواد هذه المكاتب التي يقول فيها عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِى دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم».
رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه ـ ثلاثتهم وغيرهم ـ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وصححه شيخنا.
وهو بلا شك كفر عملي قبيح، فأخبروني أن أكثر روادهم من النساء ومن أهل فلسطين خلف الخط الأخضر بما يعرفون بعرب الثمانية وأربعين، فاستعذت بالله من شر هؤلاء الكهنة السحرة، ودعوت لمن يأتيهم بالهداية.
دخلنا مدينة نابلس القديمة على الأقدام، حيث صلينا الظهر في مسجد البيك، وكان يسمى سابقا مسجد العين، وهو مسجد قديم جداً تعود أصوله إلى ما بعد سنة 600هـ، وأعيد بناءه سنة 1185هـ، وهو من العقود ذات السواري العريضة، ومنبره حجري طويل يقطع الصفوف الأولى، بل لا تكاد تجد فيه صفا متصلا، وحين دخلناه بعيد الأذان كان يتصدر محرابه رجل كبير السن، خَلِيٌّ من سمت أهل العلم، وهيبة وهيئة أهل الصلاح، وكان يدرس بين الأذان والإقامة عن مناسك الحج، التي لا أدري ما هي مناسبتها في شهر ربيع الثاني، مما يحرم المصلين من الخشوع في صلاة السنة القبلية، وقد سمعته وأنا في أماكن الوضوء أستعد للصلاة يهرف بما لا يعرف، ويخبط في الأحكام والكلام خبط عشواء، وبعد الصلاة توقف معه بعض إخواننا داخل المسجد ينصحه، في حين انشغلت أنا بجمع صلاة العصر إلى الظهر بسبب سفري، وانتهيت من صلاة العصر وهو يجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقبل أن أخرج من المسجد استرعى انتباهي بعض ما هو مكتوب على منبره من أصل التأسيس والتجديد الذي ذكرته سابقا، وبعض صور وضعها بعضهم على لوحة داخل المسجد من العهد الأردني، وقد أخبرني بعض أهل المسجد أن هذا المسجد كان في انتفاضة الأقصى الأخيرة يشكل مستشفى ميدانيا إبان الغزو الصهيوني الاحتلالي التدميري الأخير لمدينة نابلس.
خرجت من المسجد إلى منتصف السوق، حيث ذكرني سوق نابلس القديم بأسواق ما قبل الاحتلال، وبباقي الأسواق المسقوفة في فلسطين؛ في القدس والخليل وغيرها، وعلى باب المسجد تقريبا حمام الشفاء الذي أراد إخواني المرافقون أن أغتسل فيه، ولولا ضيق الوقت لفعلت، حيث يعبق الحمام بعبق التاريخ الإسلامي العريق، حيث تنئك اللوحة الحجرية للتعريف به عن تاريخ بنائه سنة 622هـ، الموافق لسنة 1225م، وهي نفس الفترة التي بنيت فيها الكثير من معالم فلسطين إثر الحروب الصليبية، وقب الغزو التتري المغولي الذي تحطم هو الآخر على أرض عين جالوت غير بعيد عن المكان الذي نحن فيه الآن.
خرجنا من نابلس القديمة، والتي يلفت نظرك فيها صور الكثير من شباب فلسطين الذين قضوا نحبهم ـ رحمهم الله ـ في مصارعة الصهيوني المحتل، والذين نرجو لهم إن شاء الله الشهادة، وبعضهم ممن تحرر جثمانه مؤخرا بعد أن قضى عشرات السنوات في سجون المحتلين بعد وفاته.
توجهنا نحو بلاطة، ومخيمها شرق نابلس، وقد أعجبني منظر أطفالنا الصغار الذين لا يتجاوزون سن العاشرة في نابلس وهم يغادرون مدرستهم، فتقف بعض الفتيات الصغار لتنظيم مرور السيارات، وتنظيم مرور زملائهن وزميلاتهن الصغار لقطع الطريق من رصيف إلى رصيف، والسائقون يتوقفون باحترام لهؤلاء الصغار حتى يمرون.
توقفنا أمام هذه المدرسة، والتزمنا إشارة الصغيرات بالتوقف باحترام وإكبار، وشعرت أن كل هؤلاء الصغار ذكورا وإناثا هم أبنائي، تمام شعوري نحو صَغِيرَيَّ؛ (فداء) و(محمد لؤي) وتملكتني رغبة صادقة بأن أعانق كل واحد منهم عناق الأب لأبنائه، ودعوت الله من قلب الأب لأبنائه أيضا أن يبارك الله فيهم، وأن يجعلهم ذخيرة التحرير والانعتاق من هذا الاحتلال الغاشم المقيت عاجلا غير آجل.
في الطريق إلى بلاطة أراني الأخ (أبو نضال) موقع مصنع كبريت نابلس الشهير بكبريت (الثلاث نجوم)، والذي له في النفس ذكريات الطفولة البريئة حيث كنا نستخدم هذا الكبريت ـ وهو من الكبريت الجيد نسبيا ـ لعدة وظائف منها الاستخدام المنزلي، واستخدام المدخنين، وكان بمثابة خلال (نكاشات) للأسنان بسبب طبيعة علبه الخشبية الرقيقة، وكنا نحن الصغار حينها نستعمله كرتبة نقيب عسكرية، حيث كانت ملابسنا المدرسية (الكاكي) شبيهة بالملابس العسكرية من حيث التفصيل واللون، وكان لقمصانها على الكتفين (شيالات) بأزرار كشيالات رتب الضباط العسكرية، فكنا ندخل في كل واحدة منها علبة كبريت فارغة، ونغلق زرها عليها، فيصبح أحدنا بين لحظة وأخرى ضابطا برتبة نقيب، وبلقب (بيك).
دخلنا مخيم بلاطة من جهته الشمالية الشرقية، ولفت انتباهي عبارات الترحيب بالأسرى المحررين حديثا في صفقة (شاليط)، وكانت أجمل وأصدق هذه العبارات في نظري:
«احنا قهرنا الزنزانة وقيد السجان».
سرنا غير بعيد في شوارع المخيم الذي لا يختلف أبدا عن المخيم الذي وُلدت فيه، ولا المخيم الذي نشأت فيه، حتى وصلنا بيت مضيفنا الشيخ يوسف الأردنية، والذي تُظهر نسبته واسم عائلته هذا الترابط الوثيق بين أبناء الوطن الواحد في ضفتي الأردن..
يوسف الأردنية ابن مخيم بلاطة.. ابن نابلس.. فلسطيني المولد والنشأة والحياة.. أردني الأصول الراسخة في (مأدبا) شرقي النهر.
استقبلنا مُضَيِّفُونا أجمل استقبال، ورحبوا بنا أجمل ترحيب، وأكرمونا غاية الإكرام.. طعاما لم أذقه قبل هذه المرة في حياتي.. وخاصة (موزات الحبش المحشية)، والتي كانت من إبداعات الأخ (أبو نضال)، وغيرها من أصناف الطعام التي لم تخرج إلا من أيدي أصحاب نفوس طيبة طابت بإعدادها نفوسهم وقلوبهم فكانت انعكاس لما في نفوسهم وقلوبهم الطيبة تجاهنا.
ختموا مأدبتهم المباركة بكنافة نابلسية في عقر دارها.. كنافة نابلسية من التي تُعَدُّ خصيصا لأهل نابلس البلد، لا من التي تُعَدُّ للفلاحين من أهل القرى كما سارت وشاعت بها طرفة أهل نابلس حين كانوا يصنعون كنافة صباحية للفلاحين والواردين إلى نابلس من النواحي والمدن والأرياف، فإذا كسدت في الصباح حفظوها لليوم التالي وقالوا لغير أهل نابلس بلهجتهم النابلسية الخاصة المعروفة المميزة:
«هِنِّ ليكن.. هِنِّ ليكن».
أي: هذه الكنافة مصنوعة لكم سواء أكلتموها اليوم أو غدا.. فهي لكم.. هي لكم.. محفوظة حتى تعودوا إليها.
خرجنا من بيت الأخ يوسف الأردنية بمثل ما استُقبلنا به من حفاوة وتكريم وربما بزيادة أيضا متوجهين إلى طولكرم وُجهتنا الأساسية في هذا اليوم.
اتصلنا أثناء تواجدنا في بيت الأخ يوسف ـ وعلى سماعة الجوال الخارجية ـ بإخواننا المشايخ الأفاضل.. فضيلة الشيخ علي الحلبي وكان في الرياض حينها، وبادرني حين سمع صوتي باقتراح مباشر لتسمية ما سأكتبه عن رحلتي تحت عنوان:
«والكشف والتبيين لرحلة فلسطين».
مما دفع فضيلة الشيخ علي أبو هنية ـ حفظه الله تعالى ـ وكان حاضرا ليقترح تسميتها بـ
«إجمام الفؤاد الحزين بالعودة إلى بلاد فلسطين»
ووعد بأن يكتب لي على هذا النسق البديعي السجعي عناوين لكل أيام رحلة فلسطين.. وقد وفى بوعده جزاه الله خيرا، وكتب لي عناوين منسقة ومزوقة بالأزرق والأحمر لا زلت ـ وسأبقى إن شاء الله ـ احتفظ بها كوثيقة من وثائق رحلتي هذه الماسية الموثقة.
ثم اتصلنا بفضيلة الشيخ مشهور بن حسن، الذي أوصاني ـ جزاه الله خيرا ـ بالتواصل مع جميع إخواننا وزيارة ما أمكنني منهم، متمنيا أن تكون له زيارة كزيارتي هذه لأرض فلسطين.
ثم اتصلنا بفضيلة الشيخ محمد موسى نصر.. ابن مخيم بلاطة.. حيث كان مسقط رأسه.. ومهد نشأته.. وموطئ قدمه.. وملعب صباه.. وخيمة نكبته.. وتمنى هو الآخر لو انه معي في ظرف غير ظرف احتلال.
بعد خروجنا أوقفني الأخ (أبو نضال) حفظه الله على مصنع سمن الغزال الشهير أيضا، والتي تربى عليها ـ كما في دعايتها ـ أجيال..
«سمن الغزال ربيت عليها أجيال!!».
وأخبرني الأخ (أبو نضال) أن هذا المصنع توقف عن العمل كمصنع الكبريت بسبب ارتفاع تكاليف الانتاج، وأن منتجات الفرع الذي شرقي النهر في الأردن هي التي تصل الآن إلى فلسطين المحتلة.
سرنا من شرق نابلس في اتجاه غربها مرورا ببئر يعقوب.. ثم مدرسة الفاروق الخاصة القديمة الشهيرة.. ثم مسجد معزوز المصري، وهو أحد رجالات المال والأعمال في نابلس ـ بل وفي فلسطين كلها ـ ولكنه للأسف ـ وكما أخبرني أخواني المرافقين ـ جَعَلَ أو أَوْصَى ـ لا أدري ـ بأن يُجْعَلَ قَبْرُهُ في هذا المسجد ـ وكذلك جُعِلَ قبر ظافر المصري أيضا في هذا المسجد ـ خلافا لسنة نبينا صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، الذي لقي الله سبحانه وتعالى وهو يوصي أمته بأن لا يتخذوا قبره وقبور غيره مساجد، وقد كتب وطبع شيخنا الإمام الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ سَنَةَ مولدي.. أواخر سنة 1377هـ، رائعته التوحيدية السُنِّيَّةَ السَنِيَّةَ:
«تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد»
وأورد في أولها أربعة عشر حديثا صحيحا في التحذير من اتخاذ القبور مساجد، ثم ساق أقوال أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من أئمة العلم قبلهم وبعدهم على تحريم اتخاذ القبور مساجد.
ثم مررنا على مسجد (النمر) نمر النابلسي أحد رجالات نابلس أيضا.. ثم مسجد الأنبياء، وقد أخبرني إخواني المرافقين أنه من المساجد (القبورية) أيضا.. ثم المستشفى الوطني.. فدوار الساعة الشهير في نابلس.. وصولا إلى شارع حيفا.. فوادي التفاح الزراعي.. مرورا بمخيم عين بيت الماء.. فالمعاجين.. فبيت إيبا.. فدير شرف.. إلى أن وصلنا مفرق جنين وسبسطية يمينا.. فمفرق طولكرم وقلقيلية وقرى الحنابلة.. فبيت ليد يسارا حتى وصلنا حاجز عنباب على طريق طولكرم.. ثم وصلنا إلى منطقة عنبتا حيث شاهدنا بواقي آثار الفيضان الأخير قبل شهرين من تاريخ الزيارة تقريبا، والذي ذهب ضحيته بعض الأفراد فضلا عن خسائر جسيمة في الممتلكات والأموال حتى وصلنا مفرق بلعا حيث غبت عن الوعي نوما..
بعد غداء دسم.. وهواء فلسطين العليل.. وتعب وإرهاق يوم من قبل الفجر.. وثقل وفعل السنين.. وسيارة فارهة مريحة.. تسلل النعاس والنوم إلى عيني رغم محاولاتي المتعددة لصرف النوم عن عيني حتى دخلنا طولكرم، ونزل الأخوة المرافقون لأداء صلاة العصر في أحد مساجدها في حين ذهبت أنا في سبات عميق حتى رجعوا من الصلاة لأنني كنت جمعت العصر مع الظهر
قبل في مسجد العين بنابلس.
رَجَعَ الأخوة من صلاة العصر فاستيقظت على تنبيهاتهم إلى مخيمي (نور شمس)، وطولكرم الذي اشتهر من خلال رائعة وليد سيف، وحاتم علي:
«التغريبة الفلسطينية».
ومرررنا بدوار (شويكة) على يميننا حتى وصلنا المسجد الجديد.. مسجد عثمان بن عفان وسط مدينة طولكرم حيث ركنا سياراتنا أمامه، وترجلنا صعودا مرهقا بطيئا على درجات مكتبة الأوقاف في طولكرم في الدور الثالث ـ أو الرابع ـ بعد معدة متخمة.. ونوم قصير.. وإرهاق شديد.. وتنفس ثقيل بسبب الكلام والرد على الترحيبات وإجابة الأسئلة خلت معها أن مكتبة الأوقاف ليست في الدور الثالث بل في كوكب المريخ.
دخلنا المكتبة وأنا ألهث وأتصبب عرقا من المجهود الكبير الذي بذلته في صعود الدرج.. ففوجئت بالعدد الغفير، وبمصوري ومذيعي قناتين أو ثلاثة فضائيات أو محليات ـ لا أدري ـ حيث سألني أحد المذيعين بأكثر من لاقط صوت لقناتين أو أكثر وبتصوير من أكثر من (كاميرا) تلفزيونية عن سبب زيارتي لفلسطين؟
فأجبت في نحو خمس دقائق أو أكثر عن سؤاله بما ملخصه شوقي وحنيني الكبيرين لأرضي.. أرض فلسطين التاريخية من أقصى جنوبها في خليج العقبة (أم الرشراش)، إلى أقصى شمالها في الناقورة، ومن نهرها إلى بحرها.. مرورا بكل مدينة وقرية وخربة وبادية فيها.. وعن أمنياتي بقيام دولتنا العتيدة المُترقب والمُؤَيَّدُ قيامها قريبا إن شاء الله من معظم سكان ودول وحكومات وشعوب العالم.. وعن موضوع محاضرتي المقبلة في المكتبة وهو عنوان يتمحور حول حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
«لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ».
رواه البخاري وغيره عن عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وغيره.
ألقيت محاضرتي في مكتبة الأوقاف حول الحديث السابق بعد أن عَرَّفَ بي الأخوة، وَعَرَّفْتُ بنفسي، مبتدئاً ببيت من الشعر حفظناه ورددناه صغارا وعشقناه وأحببناه صغارا وكبارا:
كلما لاح من فلسطين برق*** خفق القلب له في القصيد وذابا
سألت الحاضرين ـ وهم جمع غفير ـ عن قائل هذا البيت، وهو الشاعر الفلسطيني الكرمي الشهير.. ابن مدينة طولكرم التي نتفيأ في هذه اللحظات ظلالها: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، والذي كانت قصيدته:
لا تسلني فلن أطيق جوابا*** كيف أبكي الديار والأحبابا
كلما لاح من فلسطين برق*** خفق القلب له في القصيد وذابا
قسمآ بالإله إنّا حملنا***يا فلسطين في هواك العذابا



إذا ما سألت عناانتسبنا***وأبينا إلاّ إليك انتسابا
ما بعدنا عن طيب أرضك إلاّ***زادنا البعد منثراك اقترابا
من مقرراتنا الابتدائية قبل (كامب ديفيد1)، و(أوسلوا)، و(وادي عربة)، و (واي ريفر)، و(كامب ديفيد 2).. و(شرم الشيخ)..ووو



هذا الشعر الذي ـ حذفت منه قَسَمَاً شركيا واستبدلته بقَسَمٍ شرعي ـ كنا ولا زلنا كلما كان البرق غربيا نتوق بترداده شوقا إلى ذرى فلسطين التي سكنتنا أكثر مما سكناها كما رددت أكثر من مرة.
ألقيت محاضرتي، وأثناء المحاضرة نَشِطَ طفل صغير في الصف الأول في البكاء والحركة وشوش عليَّ كثيرا مما اضطرني آسفا للطلب من والده الجلوس به في مؤخرة الصفوف.
بعد المحاضرة أجبت على بعض الأسئلة وانطلقنا لزيارة بيت أحد مضيفينا في شرق المدينة تقريبا وهو شاب من (بلدياتي) فالوجي من آل رصرص الكرام، من سكان طولكرم، ومن طلاب العلم النشطين في فلسطين، ومن خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، ومكثنا عنده إلى أذان المغرب تقريبا، حيث انطلقنا إلى مسجد مصعب بن عمير القريب من سكن أخينا المذكور، وهو مسجد جديد فسيح فخم، والذي تبرع ببنائه ـ مشكورا مأجورا إن شاء الله ـ أحد المحسنين الكرام من دول الخليج العربي، وقد توفي رحمه الله تعالى ليلة افتتاح المسجد الذي تبرع ببنائه، والذي صلى بنا المغرب فيه ـ بصوت رائع، وقراءة متقنة، بلدياتي (رصرص) المذكور، مما دفعني بعد الصلاة لتذكير الناس بعد الصلاة ببعض ما ترشد إليه وتدل عليه بعض الآيات التي تلاها إمام صلاتنا.
انطلقنا بعد صلاة المغرب وبعد مجلس التذكير في مسجد مصعب عبر شوارع طولكرم ـ المدينة التي كانت تنام مع غروب الشمس كما أخبرني أحد مرافقي ـ إلى مطعم القلعة لتناول طعام العشاء الذي لم يكن لي به أدنى رغبة، ولا أقل حاجة بسبب غداء الأخ (أبو نضال)، والأخ يوسف في مخيم بلاطة كما أسلفت، وجلستُ مجامَلَةً للأخوة بغير مشاركة في الأكل على طيبته ولذته، لسخاء وكرم مضيفينا.



انطلقنا مع أذان العشاء إلى المسجد الجديد.. مسجد عثمان بن عفان لصلاة العشاء، حيث قرأ الإمام آيات وبآيات بينات من سورة التوبة، فيها صفاتالمؤمنين وخاتمتها:
{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}



مما دفعني للجلوس مجلس التذكير، ولبيان صفات المؤمنين في الآية السابقة، وركزت على وجوب حفظ حدود الله.
انطلقنا بعد ذلك إلى مخيم (نور شمس) لزيارة أخ حبيب أصر على أن نزوره، وقد كلف نفسه وأهله ـ جزاهم الله خيرا ـ بصنع بعض الحلويات وتقديم بعض الفواكه، والعصائر ـ وخاصة عصير الجزر ـ مما أرهق أمعاءنا المرهقة أصلا.
خرجنا من مخيم (نور شمس) في طريق العودة إلى القدس، وأتينا طريقاً نحو دوار وحاجز (حوارة) غير الطريق التي ذهبنا منها، وبسبب الإرهاق والظلام الدامس لم أستطع تبين معالم الطريق إلا من خلال قراءة اللوحات الإرشادية، وسؤال الأخوة المرافقين، ومع ذلك عرفت وفهمت أننا مررنا على (مادما) يميناً، وفيها عائلة (آل زيادة) الذين لا أدري إن كان بيننا وبينهم صلة قرابة أم لا، ثم على (بورين) يساراً حيث تذكرت الأخوة البوريين الذين أعرفهم .. أبو أحمد البوريني البيريني، وعمار أبو عبد الله أحد نشطاء المنتديات، قبل الوصول إلى دوار (حوارة).
أوقفتنا قبيل الدوار دورية متنقلة، وحيث لم نستطع الاستجابة لإشارة جندي الاحتلال القذر الذي أوقفنا، والذي أرادنا أن نقف كما يريد، مما أثار حفيظته وخاطب الأخ السائق بلهجة خشنة، وعربية مكسرة ـ كسر الله رقبته ـ وطلب أوراقنا، وسلمها لقائد الدورية في السيارة، والذي تلكأ في تدقيق الأسماء وأخرنا وقتا ـ تخاله على أي حال طويلاً ـ والأخوة من رام الله لم يتوقفوا عن الاتصال والاطمئنان عن مكان وصولنا، وبعد حين ـ خلته دهرا، ودعوت الله فيه لأهل فلسطين بكامل العون والمساعدة من الله على ما هم فيه من ظلم وعدوان ـ سمحوا لنا بالمرور.
وصلنا (سلواد) بعد أن سيطر الهم والغم على نفسى بسبب ذاك الإيقاف الذي لا يذكر بالنسبة لما عاناه ويعانيه أهلنا في هذه البلاد المباركة من ظلم هذا الاحتلال الغاشم الجاثم فوق صدورهم، والمتحكم في مفاصل حياتهم.
ولما صعدنا إلى (يبرود) لننحدر بعدها منحدرا قويا جدا إلى (عين سينيا)، وحدثني الأخوة المرافقون عن الصعوبات التي واجهها ـ ولا زال يواجهها ـ أهل شمال الضفة الغربية المحتلة من هذه الطريق المنحدرة جدا للنازل، والمرتفعة جدا للصاعد، وخاصة في أيام الشتاء، وقبل أن تُرصف وتُعبد، وتصورت صعوبة ذلك وأنا الخبير بالطرق والسيارات زاد همي وغمي.
وصلنا عين سينيا، وانزلنا فضيلة الشيخ الطيبي، وواصلنا طريقنا إلى (البيرة) حيث كان في انتظارنا أحد الأخوة الأفاضل الكرام المَرِحين، الذي كان يريد أن يُعَشِيَنَا مرة أخرى، والذي لم يكتف ـ جزاه الله خيرا ـ باعتذارنا تلك الليلة، فأصر على أن يساهم المساهمة الرئيسية والكبرى في عشاء يوم الخميس في أريحا كما سأذكره في حينه إن شاء الله.
تركنا سيارة الأخ (أبو صهيب) في (البيرة) قرب الجمعية لينطلق وحده إلى بلدته، ثم واصلنا السير بسيارة الأخ (أمجد) ـ الذي كان في انتظارنا ـ نحو القدس، حيث أنزلنا فضيلة الشيخ (شاكر)، والأخ (أمير) على مدخل الرام، وواصلنا طريقنا عبر حاجز (جبع) إلى حاجز (حزما) فباب العامود.
وصلت الفندق عبر شوارع القدس القديمة التي خلت إلا من بعض جنود الاحتلال، وقد أخذ التعب مني كل مأخذ، مما اضطرني للنوم قبل الاغتسال.



وقد اقتبست من هذه الرحلة بقية هذا اليوم من الفوائد الماسية ما يلي:



1ـ كن شامخا كالجبال لا تندك إلا لخالقك سبحانه.
2ـ تذكر سلفك الصالح من أهل العلم من بلدتك، أو محافظتك، واحذ حذوهم، واقتد بهم، وتشبه بهم، فإن التشبه بالكرام فلاح.
3ـ ساهم بنشر العلم ما استطعت، فهو منقبة في الدنيا، مرفعة في الآخرة.
4ـ إياك والكهان، وحيض وأدبار النسوان، وما يغضب الرحمن.
5ـ لا تشوش على المصلين صلاتهم، واختر الوقت والموضوع المناسب للتدريس إن كنت لذلك أهلاً، ولا تنس أن لكل حادث حديث، وأن لكل مقام مقال.
6ـ وَثِّق وأرخ ما تستطيع من أماكن وآثار وكتب ومكاتبات وغير ذلك فلعله يحتاجه خلفك الصالح والأجيال من بعدك.
7ـ ترحم على من قضى في مصارعة المحتل الظالم، وادع بالخلاص لمن في أسره، وقدر واحترم من خلصه الله من براثنه.
8ـ احترم الصغار حيث كانوا، وتعاون معهم على الخير، وشجعهم على سلوك سبيله، وحبهم في الله، فلعلهم أحباب الله.
9ـ تذكر من طفولتك الحَسَنَ، فقد كان صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح يتذكرون ويذكرون مثل هذه الحسنات.
10ـ رسخ الوحدة الوطنية الشرعية بين أبناء المجتمع المسلم، فالوحدة مطلب شرعي أولاً وآخراً.
11ـ اذكر طعام مضيفك بخير، وادع له بالخلف والبركة والمغفرة، فهي سنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة سلفك الصالح.
12ـ تواصل مع إخوانك في كل المناسبات ـ ما استطعت ـ فلن تعدم منهم نصيحة أو فائدة عزيزة.
13ـ الوقوف على أطلال ما له أثر في حياة الناس منهج عربي في أشعارهم، وشرعي في قرآننا!!
14ـ احذر مساجد القبور والصلاة فيها، ففي صحة الصلاة فيها نظر.
15ـ احرص على الكتب والرسائل المتخصصة النافعة وخاصة كتب علماء السلف وأئمتهم، فهي سبيل خير وعلم وهداية.
16ـ قِلْ ـ ولو قليلا ـ وأعط بدنك حقه من الراحة ليستجم لقابل العمل، فهي سنة نبوية ثابتة بقوله عليه الصلاة والسلام:
«قِيلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لا تَقِيلُ»
رواه أبو نعيم وغيره عن أنس وحسنه شيخنا.
17ـ الإعلام سلاح فتاك ذو حدين فأحسن استعماله لخدمة الدعوة الإسلامية السلفية ونشرها إن أتيحت لك الفرصة لذلك.
18ـ شارك الحاضرين معك فيما تطرح وتقول فهو تقريب لهم، وسبيل لتوصيل ما تريده إليهم.
19ـ الشعر كالكلام؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
«الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلاَمِ، حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ ،وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلاَمِ».
رواه البخاري في «الأدب المفرد» والدارقطني وغيرهما عن عبد الله بن عمرو وغيره وصححه شيخنا.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
«الشِّعْرُ كَلاَمٌ، حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلاَمِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَلاَمٌ بَاقٍ سَائِرٌ، فَذَلِكَ فَضْلُهُ عَلَى الْكَلاَمِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ لاَ يُعْرَفُ بِنَقْصِ الْمُسْلِمِينَ وَأَذَاهُمْ وَالإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ بِأَنْ يَمْدَحَ فَيُكْثِرَ الْكَذِبَ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ».
20ـ اذكر الأحلاف والمعاهدات بما فيها، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلف (الفُجَّارَ)، وحلف (المطيبين).
21ـ الشعر ليس قرآنا يتلى، فَحَسِّنْ حَسَنَهُ، وَقَبِّحْ قبيحه، وَغَيِّرْ منه ما يخالف الشرع وَبَيِّنْهُ، وتذكر من سيرة الصحابة قصة عثمان بن مظعون رضي الله عنه مع لبيد بن ربيعة بن مالك.
رواها أبو نعيم ـ وغيره ـ في «الحلية».
22ـ لا تُحضر الصغار المُشَوِّشِينَ مجالس العلم، وبيوتهم جناتهم.
23ـ اغتنم أي فرصة لتذكير الناس بأيام الله، فإن الله وسائر مخلوقاته يستغفرون لمعلمي الناس الخير.
24ـ لا تدخل الطعام على الطعام فإنه يُمرض، ويورث الأسقام.
25ـ استغفر لإخوانك الذين يكرمونك، وادع لهم، وكل ما تستطيع ودع ما لا تشتهي، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
26ـ احفظ حدود الله يحفظك الله، ولا تنتهك حرماته فيفضحك ولو في قعر بيتك.
27ـ زر إخوانك في الله فهي من أعظم القربات، وادع لهم كلما تذكرتهم.
28ـ اصبر على مكر العدو فإن صبرك قاتله***كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
29ـ ادع لإخوانك في فلسطين فهم في نحر أقسى عدو ليل نهر، وصبح مساء، يقاسون ما تشيب منه الغربان.
30ـ جامل إخوانك بما لا يخالف الشرع وقابل محبتهم لك في الله بمحبتهم.
وإلى أن نلقاكم على خير إن شاء الله في الحلقة الخامسة من الرحلة المقدسية، وفوائدها الماسية، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ونترككم في رعاية الله وحفظه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته