المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فوائد حديثية يكتبها عماد بن حسن المصري



أهــل الحـديث
14-05-2013, 03:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بيان مذهب الإمام ابن عبد البر النمري:
وتوسع الحافظ ابن عبد البر في التعديل فقال في «التمهيد» 1/28 من النسخة المغربية: الذي اجتمع عليه أئمة الحديث والفقه في حال المحدّث الذي يقبل نقله ويحتج بحديثه ويجعل سنةً وحكماً في دين الله: هو أن يكون حافظاً إن حدّث من حفظه، وعالماً بما يحيل المعاني، ضابطاً لكتابه إن حدّث من كتابٍ، يؤدي الشيء على وجهه، متيقِّظاً غير مغفَّل، وكلهم يستحب أن يؤدي الحديث بحروفه لأنّه أسلم له، فإن كان من أهل الفهم والمعرفة جاز له أن يحدّث بالمعنى، وإن لم يكن كذلك لم يجز له ذلك، لأنّه لا يدري لعله يحيل الحلال إلى الحرام، ويحتاج مع ما وصفنا أن يكون ثقة في دينه، عدلاً جائز الشهادة مرضياً، فإذا كان كذلك وكان سالماً من التدليس كان حجةً فيما نقل وحمل من أثر هذا الدين ...، إلى أن قال رحمه الله: وكل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبداً على العدالة حتى تتبين جرحته في حاله أو في كثرة غلطه لقوله ^ : «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله».
قلت: أرى أن توسع الحافظ ابن عبد البر جاء من أمرين:
1. أن الراوي غير المنصوص على تعديله من أي معدّلٍ: يقوم مقام التعديل عند الإمام ابن عبد البر معرفتُه العلم وطلبه إيّاه حتى يتبين جرحه.
2. وعلى تعريف ابن عبد البر يدخل كثيرٌ من الرواة في دائرة التوثيق ممن لم ينص أحدٌ من الأئمة على توثيقهم، ومن هنا نصل إلى دائرة مؤدّاها توثيق المجاهيل، إذ معرفة الراوي بطلب العلم لا تقوم مقام التعديل. وهو أقرب إلى مذهب أبي حنيفة الإمام القائل: إن ظاهر المسلمين العدالة، وردَّ هذا القول ابن أبي الدم الفقيه الشافعي الحموي فقال: وهو غير مرضي عندنا لخروجه عن الاحتياط( )، ونقل الإمام السيوطي في «تدريب الراوي» 1/354 موافقة ابن الموّاق ابنَ عبد البر فيما ذهب إليه في توسعه للتعديل.
قلت: ولعل الإمام النووي رحمه الله في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» جنح لمثل هذا فقال: وفي الحديث الآخر: «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»، وهذا إخبارٌ منه ^ بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصرٍ خلفاً من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف وما بعده، فلا يضيع، وهذا تصريحٌ بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع، والحمد لله( ).
ورد كلا المذهبين (مذهب ابن عبد البر ومن سار على مثله كابن الموّاق والنووي) السيوطي في «تدريب الراوي» 1/357 بعد نقله تضعيف الأئمة لحديث: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله» قال: ثم على تقدير ثبوته إنما يصح الاستدلال به لو كان خبراً، ولا يصح حمله على الخبر لوجود من يحمل العلم وهو غير عدلٍ وغير ثقةٍ، فلم يبق له محمل إلا على الأمر، ومعناه أنّه أمر للثقات بحمل العلم، لأن العلم إنما يقبل عنهم، والدليل على ذلك أن في بعض طرقه عند ابن أبي حاتم: «ليحمل هذا العلم» بلام الأمر، وذهب بعض أهل العلم إلى أن العدالة تثبت برواية جماعةٍ من الـجلة عن الشخص، وهذه طريقة البزار في «مسنده» وجنح إليها ابن القطان.
قال التاج السبكي في «طبقات الشافعية» 1/ 88 في باب: (قاعدة في الجرح والتعديل): والصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومُزكُّوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينةٌ دالةٌ على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنّا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة.
وقال المزي رحمه الله مستصوباً ما قاله ابن عبد البر: وما قاله ابن عبد البر هو في زماننا مرضيٌ، بل ربما يتعين. وقال ابن سيد الناس: لست أرى ما قاله أبو عمر إلا مرضياً، وإليه مال ابن الجزري والذهبي( ).
وقال الحافظ أبو الفتح ابن دقيق العيد ما معناه:
تُعرَف ثقة ذي الثقة بأحد أمور ثلاثة:
1. أن ينص أحد الرواة على أنّه ثقة.
2. أن يكون اسمه مذكوراً في كتاب من الكتب التي لا يترجم فيها إلا للثقات، ككتاب «الثقات» لابن حبان أو العجلي أو لابن شاهين.
3. أن يكون قد خرَّج حديثه بعض الأئمة الذين اشترطوا على أنفسهم ألا يخرجوا غير أحاديث الثقات.
لذلك أشار الحافظ ابن حبان في مقدمة كتابه إلى أنّه لا يخرج في كتاب «الثقات» إلا عن ثقة يجوز الاحتجاج بخبره. فقال في «الثقات» 1/11: ولا أذكر في هذا الكتاب الأول إلا للثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم، واقنع بهذين الكتابين المختصرين عن كتاب «التاريخ الكبير» الذي خرجناه لعلمنا بصعوبة حفظ كل ما فيه من الأسانيد والطرق والحكايات. ثم قال: فكل ما أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصالٍ خمس، ثم تكلم رحمه الله على هذه الشـروط الخمسة، وهي:
1. أن يكون فوق الشيخ المترجم له رجلٌ ضعيف لا يحتج بخبره.
2. أن يكون دونه رجلٌ واهٍ لا يجوز الاحتجاج بروايته.
3. أن يكون الخبر مرسلاً فلا يلزمنا به الحجة.
4. أو أن يكون منقطعاً.
5. أو أن يكون في الإسناد رجلٌ يدلس.
قلت: ولا بد من إيضاح مسألةٍ عند ابن حبان، فقد يقع للحافظ ابن حبان أسماء ثقاتٍ عنده ذكرهم في «ثقاته» وذكرهم في «الضعفاء»، فنصّ الحفّاظ كابن حجر والعراقي على أنه إن كان جرحه مفسراً قُدِّم على توثيقه.

ــ هل خوارم المروءة تقدح في العدالة؟
قال الزركشي رحمه الله في النوع الثالث والعشرين: معرفة من تقبل روايته: قوله: (خوارم المروءة) فيه أمورٌ: أحدها: ذكر الخطيب وغيره أن المروءة في الرواية لا يشترطها أحد إلا الشافعي، وهو يقدح في نقل المصنف الاتفاق عليه. ثم قال: واعلم أن اشتراط السلامة من خوارم المروءة خارجٌ عن العدالة، فإن العدالة اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، وخوارم المروءة التلبُّس بما لا يعتاد به أمثاله( ).
قال ابن الصلاح: وعقد الخطيب باباً في بعض أخبار من استفسر في جرحه فذكر ما لا يصلح جارحاً، منها عن شعبة أنّه قيل له: لِـمَ تركتَ حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، ومنها عن مسلم بن إبراهيم أنّه سئل عن حديث لصالح الـمُرّي فقال: ما تصنع بصالح ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة فامتخط حماد. والله أعلم( ).
قلت : والذي ظهر لي والله أعلم عدم اشتراط السلامة من خوارم المروءة في عدالة الراوي، لأن الخوارم خارجة عن حد الحفظ والصدق والعقل والدين، فهي سلوك اجتماعي لا أكثر ولا أقل، وهذا قول الإمام ابن حزم الظاهري، فهو لا يرى المروءة داخلةً في العدالة اعتباراً، انظر «الإحكام» 1/144.

ــ رواية المجهول والمستور وبماذا ترتفع الجهالة:
قال الخطيب: المجهول عند أهل الحديث: من لم يعرفه العلماء، ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحد. وأقلّ ما يرفع الجهالة رواية اثنين مشهورين( ).
وقال ابن الصلاح: ومن روى عنه عدلان وعيَّناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة( ). ثم قال: ثم بلغني عن أبي عمر ابن عبد البر الأندلسي وجادةً قال: كل من لم يرو عنه إلا رجلٌ واحدٌ فهو عندهم مجهول إلا أن يكون رجلاً مشهوراً في غير حمل العلم، كاشتهار مالك بن دينار بالزهد، وعمرو بن معد يكرب بالنجدة( ).
قال الدارقطني: وأهل الحديث لا يحتجون بخبـرٍ انفرد بروايته رجلٌ غير معروفٍ، وإنما يثبت العلماء عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلاً مشهوراً، أو رجلاً قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع الجهالة عنه: أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذا صفته ارتفع عنه اسم الجهالة وصار معروفاً، فأما من لم يرو عنه إلا رجلٌ واحدٌ انفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره( ).
وقال الخطيب رحمه الله: المجهول عند أصحاب الحديث: هو كل من لم يشتهر بطلب العلم من نفسه ولا عرفه العلماء به، ومن لم يُعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحدٍ، وأقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم( ).
وقال الحافظ العراقي: إنّ الذين انفرد ابن حبان بتوثيقهم لا يخلو إما أن يكون الواحد منهم لم يرو عنه إلا راوٍ واحدٍ، أو روى عنه اثنان ثقتان وأكثر بحيث ارتفعت جهالة عينه، فإن كان روى عنه اثنان فأكثر ووثقه ابن حبان ولم نجد لغيره فيه جرحاً فهو ممن يحتج به( ).
وفي «شرح نخبة الفكر» للحافظ ابن حجر ص189: والتحقيق أن رواية المستور( ) ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل يقال: هي موقوفةٌ إلى استبانة حاله كما جزم به إمام الحرمين .
وفي «تمام المنة» ص 19 ــ 20 قال الامام الالباني ناصر الدين الألباني معلقاً على قول الحافظ ابن حجر: وإنما يمكن أن يتبين لنا حاله بأن يوثقه إمامٌ معتمدٌ في توثيقه، وكأن الحافظ أشار إلى هذا بقوله: إنّ مجهول الحال هو الذي روى عنه اثنان فصاعداً ولم يوثّق، وإنما قلت: معتمدٌ في توثيقه، لأن هناك بعض المحدّثين لا يعتمد عليهم في ذلك، لأنّهم شذّوا عن الجمهور فوثقوا المجهول، منهم ابن حبان.
قلت : ولكن أرى أن الشيخ المحدّث الألباني رحمه الله خالف هذه القاعدة في كثير من كتبه، أقطف مثالاً واحداً من ذلك، وليس المقام مقام رد، بل هو مقام توضيح وتقعيد للقواعد الحديثية عند المحدّثين، قال رحمه الله في «الإرواء» 1/242: الحسن بن محمد العبدي: أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 1/2/35 فقال: روى عن أبي زيد الأنصاري روى عنه علي بن المبارك الهنائي، قلت (ناصر): فقد روى عنه إسماعيل بن مسلم أيضاً كما ترى وهو العبدي القاضي، وبذلك ارتفعت جهالة عينه، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات» 4/124، ثم هو تابعي.
قلت : فيه أمران:
الأول: قول الشيخ: ارتفعت جهالة عينه، أقول: أغلب المحدّثين على رد رواية المستور، وأنا مع رأي ابن حجر القائل بالتوقف حتى يتبين لنا حاله، إلا أن بعض الشافعية يقبلون رواية المستور.
الثاني: كنتَ اشترطتَ أن يوثقه إمام معتمد في توثيقه، واشترطتَ أن لا يكون مثل ابن حبان، وهنا في «الإرواء» اعتمدت توثيق ابن حبان لهذا الراوي المستور الذي لم يرو عنه إلا اثنان.

ــ المجهول والمستور عند المحدّث شعيب الأرنؤوط:
ولأني قريب جداً من الشيخ المحدّث دار بيني وبينه حفظه الله نقاش حول هذا الموضوع كانت خلاصته ما يلي:
1. رد رواية المجهول جهالةً كاملةً ــ عيناً وحالاً ــ .
2. قبول رواية المستور إذا وثقه أو نصَّ على توثيقه ابن حبان ــ وليس فقط أن يكون مذكوراً في «الثقات» ــ بل يوثِّقه آخر فوق العجلي.
3. قبول رواية المستور إذا كان تابعياً كبيراً واستخدمه بعض الخلفاء الراشدين ووثقه ابن حبان ولم يخالف حديثه الجماعة، مثل مالك الدار( ).
قلت : والذي ترجح للعبد الفقير أن المستور تقبل روايته بشروط:
1. إذا لم يأت بما ينكر عليه إسناداً ومتناً.
2. إذا روى عنه ثلاثة ثقات.
3. إذا ذكره ابن حبان في الثقات.
فالقرينتان الأُولَيان تقومان عندي مقام النصّ والثالثة شرطٌ مكملٌ لسلامة ما رواه هذا الراوي.
والمستور إذا روى عنه ثقةٌ إمامٌ (واحد) ونصَّ على توثيقه أحد الأئمة الكبار كالدارقطني أو النسائي فهو ثقةٌ. ووافقني على هذا شيخنا شعيب حفظه الله.

ــ الـمستور عند المحدّث ناصر الدين الألباني:
قال رحمه الله في «تمام المنة» ص19: والمجهول الذي لم يرو عنه إلا واحدٌ وهو المعروف بمجهول العين، وهذه الجهالة التي ترتفع برواية اثنين عنه فأكثر وهو المجهول الحال والمستور، وقد قبل روايته جماعةٌ من غير قيد، وردّها الجمهور.
قلت : ثم خالف الشيخ رحمه الله هذه القاعدة أيضاً، فقَبِلَ مجهول الحال والذي لم ينص على توثيقه أحد، ففي تعليقه على ترجمة مالك بن الخير في «تمام المنة» ص204 قَبِلَ مَن لم ينص على توثيقه أحد.
وقَبِلَ من روى عنه واحد كمالك بن نمير الخزاعي وصحح له في «صحيح النسائي» 1/ 272 برقم 1206. ثم ضعَّف عمرو بن مالك النكري كما في «تمام المنة» ص138 تحت حديث عرى الإسلام، فقال: وفيه عندي نظر لأنه من رواية عمرو بن مالك ولم يذكروا توثيقه إلا عن ابن حبان، ومع ذلك فقد وصفه ابن حبان بقوله: يخطئ ويُغرب يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه. ثم قَبِلَه رحمه الله في «الصحيحة» 5/608 رقم 2472 فقال: إسناد صحيح رجاله ثقات رجال مسلم غير عمرو بن مالك النكري وهو ثقة كما قال الذهبي في «الميزن» ذكره تمييزاً ووثقه أيضاً من صحح حديثه هذا.
وقال رحمه الله في «مختصر العلو» ص173 في أثر ابن الضريس: قلت (ناصر): وهذا إسنادٌ لا بأس به فإن صالحاً هذا أورده ابن أبي حاتم 2/406/407 وقال: روى عنه محمد بن أيوب ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد روى عنه الذهلي.
قلت : ولم أجد من وثقه.
ثم قال ص20 من «تمام المنة»: نعم، يُمكن أن تقبل روايته إذا روى عنه جمع من الثقات ولم يتبين في حديثه ما ينكر عليه، وعلى هذا عمل المتأخرين من الحفاظ كابن كثير والعراقي والعسقلاني وغيرهم.
ــ إعلام الخلّان بقبول العلماء لتوثيق ابن حبان:
أصبح من المعلوم عند المتأخرين وشاع بينهم شيوع النار في الهشيم: أن الإمام ابن حبان متساهلٌ في التوثيق، حتى غدا ابن حبان على ألسنة بعض الناشئة سُبَّةً يتندَّرون بها في مجالسهم، ويا ليتهم وقفوا عند ذلك، بل ما أن تحتّج عليهم بحديثٍ أو راوٍ من عند ابن حبان إلا أوردوا عليك زوراً وميناً أن ابن حبان متساهلٌ جداً وتساهله أكبر ألف مرةٍ من الحاكم.
وكأن التساهل سمةٌ من سمات ابن حبان منفرداً ــ إن ثبت تساهله ــ علماً بأن ابن حبان مشى على قواعد عند المحدّثين أصّلوها ولم يخالفها، بل إن بعض المحدّثين قديماً وحديثاً على قول ابن حبان في الجانب العملي التطبيقي، فقد ذكرنا أن ابن عبد البر وابن الموّاق والمزي والنووي توسعوا في إثبات العدالة واكتفوا بظاهر الإسلام، فهل هؤلاء الأئمة في نظر هؤلاء الناشئة متساهلون، أم إنّ محدّثي هذا العصر هم الذين اخترعوا هذه المسألة، وإليك التفصيل:
ذكر النووي رحمه الله في «التقريب»( ) تساهل الحاكم فقال: ثم إنّ الزيادة في الصحيح تعرف من السنن المعتمدة كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وغيرها، منصوصاً على صحته، ولا يكفي وجوده فيها إلا في كتاب من شرط الاقتصار على الصحيح، واعتنى الحاكم بضبط الزّائد عليهما، وهو متساهل، فما صحّحه ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً حكمنا بأنّه حسن إلا أن يظهر فيه علّةٌ توجب ضعفه، ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم ابن حبان.
قال السيوطي في «التدريب»( ): ويقاربه، أي: صحيح الحاكم، في حكمه صحيح أبي حاتم ابن حبان، قيل: إن هذا يفهم ترجيح كتاب الحاكم عليه، والواقع خلاف ذلك، قال العراقي( ): وليس كذلك، وإنما المراد أنّه يقاربه في التساهل فالحاكم أشدُّ تساهلاً منه. قال الحازمي( ): ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم. قيل: وما ذكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، فإنَّ غايته أنّه يُسمّي الحسن صحيحاً، فإن كانت نسبته إلى التساهل باعتبار وجدان الحسن في كتابه، فهي مشاحة في الاصطلاح، وإن كانت باعتبار خفّة شروطه فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقةً غير مدلس، سمع من شيخه وسمع منه الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرسالٌ ولا انقطاعٌ، وإذا لم يكن في الراوي جرحٌ ولا تعديل، وكان كلٌّ من شيخه والراوي عنه ثقةً، ولم يأت بحديثٍ منكر فهو عنده ثقة. وفي كتاب «الثقات» له كثيرٌ ممن هذه حاله، ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حالهم، ولا اعتراض عليه فإنه لا مشاحة في ذلك، وهذا دون شرط الحاكم، حيث شرط أن يخرِّج عن رواة خرّج لمثلهم الشيخان في الصحيح، فالحاصل أن ابن حبان وفّى بالتزام شروطه ولم يوفِّ الحاكم.
وفي أجوبة الحافظ العراقي ص136: سأل الحافظ ابن حجر شيخه العراقي عن اعتماد ودرجة توثيق ابن حبان فقال: ما يقول سيدي في أبي حاتم ابن حبان إذا انفرد بتوثيق رجلٍ لا يعرف حاله إلا من جهة توثيقه له، هل ينتهض توثيقه بالرجل إلى درجة من يحتج به؟ وإذا ذكر الرجل بعينه أحد الحفّاظ كأبي حاتم بالجهالة، هل يرفعها عنه توثيق ابن حبان وحده أم لا؟ قال الحافظ العراقي: إن الذين انفرد ابن حبان بتوثيقهم لا يخلو إما أن يكون الواحد منهم لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، أو روى عنه اثنان ثقتان وأكثر بحيث ارتفعت جهالة عينه، فإن كان روى عنه اثنان فأكثر ووثقه ابن حبان ولم نجد لغيره فيه جرحاً فهو ممن يحتج به، وإن وجدنا لغيره فيه جرحاً مفسراً فالجرح مقدَّم.
على أنّ الحفّاظ المتأخرين أمثال ابن حجر والذهبي والمزي والعراقي رحمهم الله تابعوا ابن حبان في توثيقه لبعض الرواة وقالوا فيهم: محله الصدق، صدوق، مستور، مقبول، على إنني أجد فرقاً بين راوٍ وراوٍ آخر عند ابن حبان اختلفت ألفاظ الحفّاظ فيهم بنقص التوثيق أو زيادته.
ــ قاعدة: تحسين الحديث بشواهده، وأول من قالها واستخدمها:
لقد كثر القول في هذه الآونة حول مبحث مهم في السنة المشرفة، ألا وهو تحسين الحديث بشواهده، وهل الترمذي هو أول من اصطلحه؟ أم هل الترمذي ناقل لهذا المذهب؟ وهل كل الشواهد مما يُـحسَّن بها الحديث؟ ولـمّا كنت قد شرعت بهذا المبحث أطلعني أستاذنا العلامة شعيب على مقدمة «المسند» وكان حفظه الله قد كتب بحثاً في هذا الموضوع في مقدمة «المسند» أنقله كما هو، فلقد وفّى فيما كتب وحقق، ويبقى سؤالٌ يحتاج لإجابة: هل كل الشواهد مما يُحسَّن بها الحديث؟
أقول وبالله أستعين: قال شيخنا في مقدمة «المسند» 1/78: ولـما كان هذا الأمر قد خفي على بعض من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا هذا أو استراب في صحته وأحقيته وجب أن نبسط القول فيما أُثر عن الأئمة المتقدمين من إطلاق لفظ الحسن على كثير من الأحاديث التي خفّت فيها شروط الصحة لإزالة هذه الشبهة من أذهانهم، قال الحافظ ابن حجر في «نكته» على ابن الصلاح 1/426: وأمّا علي بن المديني فقد أكثر من وصف الأحاديث بالصحة والحسن في «مسنده» وفي «علله»، وظاهر عبارته أنّه قصد المعنى الاصطلاحي، وكأنّه الإمام السابق لهذا الاصطلاح، وعنه أخذ البخاري ويعقوب بن شيبة وغير واحد. اهـ( ).
ويبقى السؤال مطروحاً: هل كل الشواهد مما يُـحَسَّن بها الحديث؟ الجواب: لا، فإنّ في بعض الشواهد مَن نص أهل العلم على أنّهم ليسوا ثقات، والذي أراه ــ والله أعلم ــ أنّ شروط تقوية الحديث أو تحسينه خلو تلك الطرق من متروكٍ، أو كذّابٍ، أو منكر الحديث.
قال الإمام ابن الصلاح في «مقدمته» ص76: ثم اعلم أنّه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه، بل يكون معدوداً في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به، وقد تقدم التنبيه على ذلك.
( ) «النكت على ابن الصلاح» للزركشي 3/330، و«فتح المغيث» للسخاوي 1/326.
( ) «تهذيب الأسماء واللغات» 1/17.
( ) انظر مذاهبهم في: «فتح المغيث» 1/326، و«نكت الزركشي» 2/330، و«التقييد والإيضاح» ص139، و«الروض الباسم» لابن الوزير 1/2/25، و«توضيح الأفكار» للصنعاني 2/502.
( ) «محاسن الاصطلاح» ص218، و«والنكت» للعراقي ص136 – 137.
( ) «مقدمة ابن الصلاح» ص96.
( ) «الكفاية» ص 86، وانظر «تدريب الراوي» 1/373.
( ) «مقدمة ابن الصلاح» ص289.
( ) «مقدمة ابن الصلاح» ص101، و«تدريب الراوي» 1/374.
( ) «سنن الدارقطني» 3/174.
( ) «الكفاية» ص88.
( ) أجوبة الحافظ العراقي لتلميذه الحافظ ابن حجر ص136.
( ) ويقصدون بالمستور مجهول الحال الذي روى عنه اثنان.
( ) وحديث التوسل الذي رواه مالك عن عمر بن الخطاب في استسقاء عمر بالعباس ليس معناه التوسل بذات العباس بل بدعائه كما في حديث الإسماعيلي.
ولـمّا قلت لشيخنا شعيب: لماذا قبلت حديث مالك الدار؟ قال: لم أقبله على إطلاقه بل إذا خالفت روايته الجماعة فهو ضعيف الرواية. وقال لي عن هذا الحديث: هذا مخالف لحديث (كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم) فقد عدل عمر عن التوسل بالنبي إلى التوسل بذات العباس، فقلت لشيخنا: ليس بين الحديثين مخالفة = = إذ إن رواية الإسمـاعيلي بيَّنت أن توسـل عمر كان بدعاء العباس لا بذاته، فأقره شيخنا حفظه الله. وهذا يدل على أن شيخنا المحدّث شعيباً حفظه الله يرى أن التوسل بالذوات لا يجوز.
( ) «تدريب الراوي شرح تقريب النواوي» 1/112.
( ) «تدريب الراوي» 1/114.
( ) « التقييد والإيضاح» ص31.
( ) «شروط الأئمة الخمسة» ص37.
( ) وقد نقل ابن كثير في «مسند عمر» قول علي بن المديني في جملة أحاديث: حديث حسن أو إسناد حسن أو صالح الإسناد أو إسناد جيد، انظرها في «مسند عمر» 1/111 و132 و277