المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الماوردي



أهــل الحـديث
14-05-2013, 08:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الماوردي الفقيه الدستوري الأديب العربي



بقلم العلامة: محمد أبو الوفا المراغي
دستوري، قاض فقيه، أديب، مرب، هكذا كان الماوردي، طرازاً غريباً بين علماء الإسلام، لا نحسب أن نظراءه كثيرون. فقد نقرأ في تراجم الكثير من علماء الإسلام أن فلاناً فقيه، أو أديب، أو قاض، أو نحو ذلك من ألقاب الأدب والفقه والحديث إلا أنه يعوزنا الدليل على ما ذكر المترجمون من تلك الألقاب.
أما الماوردي فقد ترك لنا الأدلة على فقهه ودستوريته وأدبه على أنصع ما تكون الأدلة، وحسب الماوردي أن يترك لنا (الأحكام السلطانية) لنعرف كيف كان قانونياً دستورياً في الإسلام، وأن يترك لنا (أدب الدنيا والدين) لنعرف مبلغ تضلعه في الأدب، وتذوقه للأساليب وفقهه في تخير المستجاد منها، وأن يترك لنا كتاب ( الحاوي الكبير) في فقه الشافعي لنعرف غزارة علمه بالفقه ، وقدرته على استقصاء مسائله، وهكذا تجد للماوردي شخصيات علمية متعددة، وينبغي لمن يتحدث عنه أن يفرد كل شخصية بحديث خاص.
الماودري القاضي:
قال المترجمون للماوردي أنه أقضى القضاء، وأنه لقب بذلك اللقب سنة 429هـ، وأنه ولي القضاء في بلاد كثيرة، ولكنهم لم يذكروا لنا نادرة غريبة من نوادره في القضاء، كما ذكروا عن غيره، إلا أنهم ذكروا في ترجمته حادثة في الفتيا، تدل على حريته واستقلاله في الرأي، وهي فتيا تتصل ببعض كبار رجال الدولة في عصره، فقد أمر الخليفة أن يزاد في لقب جلال الدولة ابن بويه لقب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك ـ وخطب له بذلك، فأفتى بعض الفقهاء بالمنع، وأنه لا يقال ملك الملوك إلا لله، وانحاز إليهم العامة، ورموا الخطباء بالطوب، وأفتى بعض الفقهاء بالجواز، على تأويل أن المراد بلقب ملك الملوك: ملك ملوك الأرض ـ والعبرة في ذلك بالقصد والنيِّة.
وكان ممّن أفتى بالمنع وشدّد فيه الماوردي، مع أنه كان صديقاً لجلال الدولة، ولما افتى بالمنع، انقطع عن جلال الدولة، فطلبه، وقال له: أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي.
الماوردي الدستوري القانوني:
لقد كان الماوردي ـ بلغة عصرنا ـ دستورياً بأوسع معاني الكلمة، وكان دستورياً إسلامياً، وإذا قلنا دستورياً إسلامياً، فمعنى ذلك أيضاً أنه قانوني بأوسع معاني الكلمة أيضاً، فالدستوري الإسلامي يستمد مادته من الشريعة الإسلامية، والشريعة تناولت كل ما تحتاج إليه الدولة في علاقتها بغيرها من الدول، أو علاقات رئيس الدولة بالمواطنين، أو علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وإذا تناول العالم هذه العلاقات بالتَّقنين والترتيب كان دستورياً وكان قانونياً، وهكذا كان الماوردي، فلقد تناول هذه العلاقات بالدراسة والتَّصنيف فكان نمطاً غريباً بين علماء الإسلام.
تناول هذه العلاقات في كتب أربعة، وهي: (الأحكام السلطانية) و(قانون الوزارة) و (السياسة والملك) و (تسهيل النظر وتعجيل الظفر)، ولم يصل إلى أيدي العلماء فيما نعلم إلا الأول، وضاع الآخرون فيما شاع من تراث الإسلام، ولم تبق إلا أسماؤها في كتب التراجم.
(الأحكام السلطانية)
وإذا كان الكتاب مرآة الكاتب، فالأحكام السلطانية بترتيبه وتقنينه وصياغته مرآة صافية لشخصية الماوردي الدستورية القانونية، فلقد كانت القواعد الإسلامية، الدستورية، والاقتصادية، والإدارية، والجنائية، والعسكرية، ممتزجة بغيرها، مبعثرة هنا وهناك، موزّعة قبله في أبواب كتب الفقه وفصولها فانتدب لها واستخلصها من مظانها، ووحّد موضوعاتها فجمع النظير إلى نظيره، والشبيه إلى شبيهه، وجعلها كتاباً موضوعياً خالصاً، يسهل على الولاة والمسؤولين سبيل الرجوع إليها، والبت في الأمور بدقة وسرعة، وفي ذلك يقول في خطبة ـ أي: المقدمة ـ كتاب الأحكام السلطانية: (ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها، مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه).
وقد سبق الماوردي بعض العلماء فألفوا في موضوعات خاصة من القانون، فألف الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كتاباً في ناحية من نواحي الاقتصاد الإسلامي، وهو كتاب (الخراج) الذي تناول فيه حقوق الدولة في الأراضي المملوكة، ثم توسع بعده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فألف كتاباً شاملاً في النواحي الاقتصادية وهو كتاب (الأموال).
ولكن الماوردي كان أشمل نظراً وأعم موضوعاً، فتناول في كتابه ما سبق به، ثم ضم إليه كل ما تحتاج إليه الدولة في عصره، من القوانين الدستورية والاقتصادية والجنائية والعسكرية.
فقد تناول الماوردي في كتابه موضوع اختيار رئيس الدولة، وقواعد اختيار الوزراء، وفصَّل حقوقهم، وهذا مما يدخل الآن في القواعد الدستورية، ثم تناول اختيار أمراء الأجناد ونوابهم، ممّا يدخل في القوانين العسكرية، ثم تناول طرق تحصيل الأموال للدولة من فيء وغنيمة وجزية وغيرها ممّا يدخل في القوانين المالية، ثم تناول أحكام الجرائم والمظالم وغيرها، ممّا تتناوله القوانين الجنائية.
تناول الماوردي ذلك كله، وصاغه صياغة قانونيّة، ليس بينها وبين الصياغات القانونيّة الحديثة إلا الشكليات والاصطلاحات، كتسمية القاعدة مادة، والجملة منها فقرة، ونحو ذلك مما لا ينقص من حظ الكتاب وقيمته العلمية.
ولقد كانت طريقة تأليف الكتاب وترتيبه وصياغته، حدثاً غريباً في عالم التأليف في عصره، حتى قال ابن قاضي شهبة فيما نقله عنه ابن العماد في (الشذرات): (إنه تصنيف عجيب).
وأخذ ذلك الكتاب مكانه بين تراث الإسلام القانوني قروناً عديدة، وما زال مرجع المتحدثين في تاريخ التقنين الإسلامي في سائر فروعه، ويعتبر هذا الكتاب من وجهة نظرنا مرحلة هامة من مراحل التقنين الإسلامي الموضوعي والشكلي، وقد ترجم هذا الكتاب قديماً إلى اللغة الفرنسية، إذ كانت فرنسا من الأمم التي عرفت بالتخصص القانوني.
الماوردي الأديب:
ليس الماوردي في حاجة إلى دليل على أنه أديب بعد كتابيه ( أدب الدنيا والدين)، و(الأحكام السلطانية)، فما من أديب إلا وكان ( أدب الدنيا والدين) من مناهل أدبه، وما من واعظ إلا وكان عدّته وزاده، وعليه اعتماده، والكتاب في اختياره وصياغته آية من آيات التضلع في الأدب والحكمة، فقد جمع إلى حكمة العرب حكمة الهند، وآداب الفرس، وفلسفة اليونان، وإذا كان الماوردي نسيج وحده في تصنيف كتاب (الأحكام السلطانية ) على ما أشرنا، فهو نسيج وحده في تصنيف (أدب الدنيا والدين)، فقد صنف الأول ليكون دستور الحكام والأمراء والولاة، وصنف الثاني ليكون دستور المسلم في دينه ودنياه، وقد بناه على أساس أخلاقي، فأدار الحديث فيه على الفضائل، وما يقابلها من الرذائل، ليطمع المسلم في الأولى، ويكون على حذر من الثانية، فيسير في حياته على بصيرة تفضي به إلى سعادة الدنيا والآخرة، وتحدث عن الفضائل وأصولها في القرآن والسنة، وعن رسومها في فلسفة اليونان، وأدب الفرس والعرب، بما وسعته ثقافة عصره وثقافته، فكان الكتاب مزيجاً من الأخلاق والأدب والحكمة، أفرغ فيه الماوردي ثقافته الأدبية الخصبة التي ندر أن يتوافر مثلها لفقهاء الإسلام.
على أن (الأحكام السلطانية ) أيضاً آية من آيات الثقافة الأدبية للماوردي، فقد تناول ما أودعه فيه من الأحكام بأسلوب سهل، بعيد عن تعقيدات المصنفات الفقهية، ولا يعسر على الدارس المتوسط تفهمه، والإفادة منه، ورصعه في بعض المواضع بفرائد من الشعر والمثل والحكمة، لينسى القارئ أنه يقرأ في كتاب فقه أو قانون.
وقال المترجمون للماوردي: أنه شاعر ولكنهم لم يذكروا من شعره إلا بيتين لم يقطع المترجمون بنسبتهما إليه، فقد قال صاحب "معجم الأدباء": قرأت في كتاب "سر السرور" لمحمود النيسابوري هذا البيتين منسوبين للماوردي:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله=وأجسادهم دون القبور قبور
وإن امرؤ لم يحي بالعلم صدره=فليس له حتى النشور نشور
مع أن الماوردي ذكره في كتاب (أدب الدنيا والدين ) بعنوان: و أنشدت لبعض أهل هذا العصر.
أسلوب الماوردي:
وإذا صح أن نتّخذ من كتابي: (أدب الدنيا والدين) و(الأحكام السلطانية) نموذجاً لثقافة الماوردي الأدبية، وأسلوبه في الكتابة، حكمنا بأن الماوردي قد تشبّع بثقافة عصره الأدبية، عربية كانت أم غير عربية، ووعاها، وحفظ كثيراً منها، وكان ينفق منها متى أراد، ويستشهد بها في مواطن الاستشهاد شعراً ونثراً، وحكمةً ومثلاً، وحكمنا بأن أسلوبه الكتابي من الأساليب الأدبية المسجوعة على المعتاد من الأساليب في ذلك العصر، مع مراعاة حق المعنى، على أنه كان يترسل أحياناً.
وهاك نموذجاً من كتابه في (أدب الدنيا والدين) عن سلطان الهوى على النفوس: (ولما كان الهوى غالباً ،وإلى سبيل المهالك مورداً، جعل العقل عليه رقيباً مجاهداً ،يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خداع حيلته، لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتي العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه، أعني بأحد الوجهين قوي سلطانه وبالآخر خفاء مكره، فأما الوجه الأول فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه، حتى تستولي عليه مغالبة الهوى والشهوات، فيكَلّ العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها في العقل المقهور بها، وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وأنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم كما قال محمد بن بشير:
كل يرى أن الشباب له =في كل مبلغ لذة عذر)
وللماوردي رأي في الأدب، وهو أنه يتغيّر بتغيّر الأحوال، وتنقل العادات، وأن لكل عصر أسلوباً في الأدب خاصاً به يكون أوقع في النفوس، وأسبق إلى الأفهام.
ويقول في ذلك في "أدب الدنيا والدين": (إن لأهل كل وقت في الكلام عادة تؤْلف، وعبارة تُعرف، ليكون أوقع في النفوس، وأسبق إلى الأفهام، وله حكمه في استصفاء الأدب، وقبول بعضه، ورفض بعض).
الماوردي الفقيه:الماوردي الفقيه:

احتل الماوردي مكاناً بارزاً بين فقهاء الشافعية، وتردد اسمه، وشاعت أقواله في المراجع الكبرى من كتب الشافعية، وقد قال الخطيب عنه: (كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعية، وله في الفقه كتابا "الحاوي" و"الإقناع"، ولا يخطئ من يعد كتاب "الأحكام السلطانية " كتاباً من كتب الفقه، حيث عالج ناحية خاصة منه، وهي الأحكام المتعلقة بنظم الحكم والإدارة والاقتصاد الإسلامي، وكتابه "الحاوي" من أشهر كتب الفقه، وهو من أكبر الكتب وأشهر المراجع المعتبرة في المذهب، قال في "كشف الظنون": إنه كتاب عظيم يقع في عشر مجلدات، ويقال: إنه لم يؤلف مثل. وقال العلامة الإسنوي: لم يصنف مثله، وقال ابن خلكان: لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامّة بالمذهب.
وكتاب "الإقناع" كتاب مختصر في الأحكام المجردة عن الأدلة، قال الإسنوي عنه: يشتمل على غرائب، وقد نقل ابن السبكي في طبقاته مختارات من فوائده الفقهية في كتابيه الحاوي والأحكام السلطانية،، ولشهرة كتاب الحاوي عرف به الماوردي فقيل عنه: إنه صاحب كتاب "الحاوي".
وقد نقل ابن السبكي في طبقاته مختارات من فوائده الفقهية من كتابيه الحاوي والأحكام السلطانية، ولشهرة كتاب الحاوي عرف به، فقيل عنه: إنه صاحب كتاب (الحاوي) وفي المكتبات مخطوطات من كتاب الحاوي، وأجزاء متفرقة منه، وهو ثروة فقهية عسى أن يقيض الله لها من يعمل على نشرها من القادرين على ذلك من أصحاب الرأي والقيادة في الأمم الإسلامية، وإنها لخدمة إسلامية ستظل ذكراها باقية مقرونة بالدعاء والثناء ما بقي الفقه الشافعي بل ما بقي الإسلام.
الماوردي المربي:
قبل أن أتكلم عن الماوردي كعالم من علماء التربية يحسن أن أشير إلى معنى التربية عند علماء التربية الإسلامية... فهي عند هؤلاء ما يشمل تثقيف الذهن بالعلوم والمعارف، وتزكية النفس بالآداب والفضائل، فهي تربية لسعادة الدنيا والآخرة، وقد ألحّ علماء التربية الإسلاميون في أن تسير الترتيبات جنباً إلى جنب لأن الإخلال بإحداهما إخلال ببناء الشخصية الإسلامية الكاملة، فالعلم بلا خلق جهل أو كالجهل، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بنفسه وبرأيه، أو يتكثّر بعلمه، والخلق بلا علم إجْحاف بالعقل، وإهدار لمواهب الإنسان.
ولقد تحدث الماوردي في التربية بمعناها الواسع، ولم يكن حديثه في كثير من مسائلها حديث