المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ارتحال



االزعيم الهلالي
07-05-2013, 06:00 AM
بل عودة !

النسيان نعمة كبيرة تأتينا متى تريد وتشيح بوجهها متى نريد ! نطرق أبواب ذلك المدعو بالنسيان ولكنه يتجاهلنا كما يتجاهل المٌعسِر دائنيه ، نخطب ودّهُ ويصد عنّا بالضبط مثلما يفعل البخيل مع زائريه .

الحنين يغالبنا والذكرى تؤرّقنا والآم الماضي كعادتها توجعنا ، وهو غارقٌ في غياهب جبّه يطل ليرمقنا بطرفهِ وكأنه يسخرُ بنا ، وحين تتعاظم الخطوب نلتفت إليه ولا نجده .

تشتد ولا أراها تنفرج تضيق وأراني في سَمّ إبرتها ألِج ، وأندبُ حظي والهم في قلبي َيموجُ ويختلج . هكذا هي الدنيا معي لم تصفوا لي مشاربها ، حتى وإن صفت لا تلبث أن تعود عابسةً في وجهي فاردة ً عليَّ مناكبها !

مجبراً أعود أدراجي أبحث عن ذاتي بل عن تلك التي لم تخذلني يوماً ، تلك التي لم تُشح بوجهها عني يوماً ، تلك التي لم تعبس قط في وجهي يوماً ، تلك التي كلما أتيتها ذراعاً اقتربت مني باعاً تلك التي كلما أتيتها حبواً أتتني ركضاً ، تلك التي لا أعرفها إلا حينما تضيق بوجهي ، تلك التي في السعة لا أريها أبداً وجهي !

هكذ أنا وهكذا تفعل معي دائماً ولا أجدني إلا وأنا عائد إليها راجلاً ، وكأني لا أبحث عنها إلا عندما تشتد الأزمات وتتكاثر النكبات .
لا أذكر يوماً أني عدت لها طواعية بل مصيرها الصد إن كانت لي داعية ، في الرخاء لا أعرفها وحينما يشتد البلاء أعود وسرعان ما أجدها ، أحياناً مرحبة وأحياناً أخرى حائرة وفي المرة الأخيرة كانت مني ساخرة!

تسألني بإلحاح : أما آن لك أن تعود ؟
بنظرةٍ مكسورة ووجهٍ شاحب وقلب تملؤه الحسرة وزفرة بلغت الحلقوم : بلى !
وهي تتنهد فَرِحَة : ما بالك هذه المرة ؟ أهو مشروع حزنٍ قادم أم هو بالفعل متمكّنُ وقائم ؟
وكأني كنت أنتظر منها أن ترمي الشرارة في قشٍ من المشاعر المُتعَبَة والأحاسيس المهملة ، وهاهي بالفعل قد رمتها وخَلُصت !
لا أدري هل أجبتها بشيءٍ أم لا ! كل ما أعلمه أني أجهشت بالبكاء وهي تنظر بسعادة بالغة ارتسمت على محياها وكأنها كانت تتمنى ذلك بالفعل!
كنت أنتظر منها إخراجي مما أنا فيه ، ولكن كلما رمقتها أشعر بها وكأنها ترغب بهذا منذ زمنٍ بعيد وحصل لها أخيراً ما تريد .
سألتها راجياً : إليكِ عني فأنا لا أطيق سخريتك الممجوجة .
فلم تَرُد إلا بما عهدته عنها : بل هذا دواء الحمقى و ... .
أعرفها عن ظهر قلب لذلك قلت مقاطعاً : لو كنتُ كما قلتِ لما أصبحت كما ترين!
هي الوحيدة التي تعرف جيداً ما أعانيه لذلك سأطرق لها صاغراً متذللاً طالما أنها المنقذ الوحيد!
لم أكد ألتقط أنفاسي حتى بادرتني قائلة : أجزم أن الأمر جلل هذه المرة بل أشد وأمر من سابقيه !
زفرة موجعة سبقت قولي : بالفعل ، ولم أزد .
وقفت تتأملني وكأنها المرة الأولى التي تراني فيها ، أطالت النظر هذه المرة ، عم السكون المكان لم يقطعه إلا قولها : ربٌ غفور ربٌ غفور عد إليه عد إليه! فليس لك عندي شيء ولم يعد بوسعي فعل شيء ، وتلت بصوتٍ شجي : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً }

وتوارت غير آبهة لأمري حاولت أن أنادي أصرخ انتظري ، عودي ، ولم أستطع !أتسائل كيف لها أن تتركني هكذا غارقاً في حيرتي وترحل وأنا الذي لم اعتد منها ذلك ؟! كيف لها أن تتركني فيما أنا فيه وهي التي كلما أتيتها محملاً بهموم لو كُبت في بحرٍ لغمرته وتزيح كل ذلك عني! ولكن لم أجد إجابةً إلا انفعالاتي .

أدركت أخيراً أنها قد ضاقت ذرعاً بي صبرت على مساوئي وأخطائي وزللي ، لعلي أعود عن ذلك ولكنها لم تجد إلا تمادياً وتسويفاً وضعفاً يزداد أمام ملذاتي .
لا بد أنها يئست مني وتعبت ، لذلك وَجَدَت أن وقوفها بجانبي لن يزيدني إلا ضعفاً وجبناً ، وليس من حلٍ إلا الرحيل ، وفعلاً رحلت!

طال السكون وأنا على أمل أنها ستعود ولكنها لم تعد! عدت إلى ربي أناجيه وأنا يكسوني الذل : أستغفرك يا الله وأتوب إليك عدد ما كان وعدد ما سيكون وعدد الحركات والسكون ، ربي اغفر لي وتبّ عليَّ إنك أنت التواب الغفور .

لا أدري ما أقول رغم يقيني التام بأن العودة إلى النفس جميلة ولكن العودة إلى الله أجمل .


ودمتم في رعاية الله وحفظه :smilie47::rose: