المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحْرِيرُ مَسْأَلَةِ ’’النِّكَاحُ بِغَيرِ وَلِيّ‘‘ .. عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ،،



أهــل الحـديث
06-05-2013, 07:10 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا مُحمَّد سيد الأنبياء والمُرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..

فقد شاع عن المذهب الحنفي منذ نشأته وعلى مر العصور -بل وفي أرجاء هذا الملتقى الطيب المُبارك-؛ أنه يُخالف الحديث الصحيح في كثير من المسائل الفقهية، وأنه بذلك يُعد أبعد المذاهب من اتباع السنة، وليس الأمر كذلك؛ فغاية الأمر أن للحنفية أصولًا وقواعد في قبول الأحاديث وردها، وأن هذه الأحاديث التي ردوها لم تصح من خلال أصولهم وقواعدهم. وقد اختلفوا مع المُحدثين في تلك الأصول والقواعد، فالذي حدث أن مُحاكمة الحنفية تمت من خلال منهج المحدثين، وليس هذا من الإنصاف؛ فالمتعين أن يُحاكم الحنفية من خلال منهجهم في قبول الأحاديث وردها، وهذا مما ينبغي أن يُعلم، ولجهل الكثيرين به؛ ظهرت تلك الإشكالات في الكثير من المسائل بالمذهب الحنفي، ومن هذه المسائل ما سنتعرض له من خلال هذا الموضوع، وهي مسألة ’’النكاح بغير ولي‘‘ ، نسأل الله التوفيق والسداد.
اقتباس:
(1) حدثنا معاذ بن معاذ قال: أخبرنا ابن جُريج عن سُليمان بن موسى عن الزهري عن عُروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيَّما امرأة ينكحها الولي أو الولاة فنكاحها باطل -قالها ثلاثًا- فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له). أخرجه أبو داود (2083) والترمذي (1125) والنسائي في الكبرى (5394) وابن ماجه (1879).
(2) حدثنا أبو الأَحْوَص عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي). أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 9) من طريق شعبة وسفيان وذكره الترمذي تعليقًا (1125) وهذا الطريق المُرسل قد أعل به الحنفية الحديث الآتي الموصول، وقد رجَّح البُخاري والترمذي الوصل على الإرسال كما سيأتي تفصيله.
(3) حدثنا يزيد بن هارون عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي). أخرجه أبو داود (2085) والترمذي (1124) وأحمد في مثسنده (4/ 394). وقد رُوي حديث: (لا نكاح إلا بولي) عن ثلاثة عشر صحابيًّا، وقد جمع طرق الحديث ومتابعاته وشواهده مع الكلام عليها من حيث الصحة والضعف؛ الشيخ/ مُفلح بن سليمان الرشيدي في كتابه "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إلا بولي" طبعة مؤسسة قُرطبة، ونقل عن كثير من الحُفَّاظ تصحيح الحديث وأيَّده، وعرض رأي الحنفية في تضعيف الحديث وناقشهم فيه، حتى أصبح كتابه مرجعًا لتخريج الحديث، فجزاه الله خيرًا.
- وذُكر أن أبا حنيفة كان يقول: جائز إذا كان كُفئًا.

***
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المرأة لا تُزوّج نفسها ولا غيرها، أي لا ولاية لها في عقد النكاح على نفسها ولا غيرها، واستدلوا لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي). ومن الصفات المُشترطة في الولي: الذكورة، فإن تولت المرأة تزويج نفسها أو غيرها؛ لم يصح النكاح، ورُوي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، وإليه ذهب سعيد بن المُسيب والحسن وعمر بن عبدالعزيز والثوري وابن المُبارك وإسحاق وأبو عبيد وابن أبي ليلى وابن شبرمة.
وقال أبو حنيفة في الرواية الأولى عنه وهي ظاهر الرواية: تجوز مُباشرة الحرة البالغة العاقلة عقد نكاحها ونكاح غيرها مُطلقًا إلا أنه خلاف المُستحب. ورواية الحسن عن أبي حنيفة وهي المُختارة للفتوى: إن عقدت مع كُفء جاز ومع غيره لا يصح. ونقل عن أبي يوسف ثلاث روايات اختلف في ترتيبها فذكر السرخسي أن أبا يوسف قال: لا يجوز مُطلقًا إذا كان لها ولي، ثم رجع إلى الجواز مع الكفء لا من غيره، ثم رجع إلى الجواز مُطلقًا مع الكفء وغيره.
وذكر الطحاوي أن قوله المرجوع إليه هو عدم الجواز إلا بولي، وكذا الكرخي في مُختصره؛ حيث قال: وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بولي. وهو قوله الأخير.
قال الكمال: ورجَّح قول الشيخين -الطحاوي والكرخي- وهو أن قول أبي يوسف الذي رجع إليه هو عدم الجواز؛ لأن الطحاوي والكرخي أقوم وأعرف بمذاهب أصحابنا، لكن ظاهر الهداية اعتبار ما نقله السرخسي. وعن مُحمد روايتان: الأولى/ انعقاده موقوفًا على إجازة الولي إن أجازه نفذ وإلا بطل، إلا أنه إذا كان كُفئًا وامتنع الولي يجدد القاضي العقد ولا يلتفت إليه. والثانية/ رجوعه إلى ظاهر الرواية. راجع: الموسوعة الفقهية (14/ 191)، والمغني (7/ 6)، وفتح القدير (3/ 256).
قال صاحب الهداية: وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي بكرًا كانت أو ثيّبًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف: أنه لا ينعقد إلا بولي.وعند مُحمد: ينعقد موقوفًا. وقال مالك والشافعي: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلًا؛ لأن النكاح يُراد لمقاصده والتفويض إليهن مُخلّ بها. إلا أن مثحمدًا يقول: يرتفع الخلل بإجازة الولي.
ووجه الجواز أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة؛ ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج، وإنما يُطالب الولي بالتزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة. ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء؛ ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يجوز في غير الكفء؛ لأن كم من مواقع لا يرفع. ويُروى رجوع مُحمد إلى قولهما. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 256)، والعناية (3/ 256)، ونصب الراية (3/ 340)، والمبسوط (5/ 10)، وبدائع الصنائع (2/ 248)، وكشف الأسرار (3/ 60).
قال ابن العربي: النكاح إلى الولي لا حظَّ للمرأة فيه، وبه قال فقهاء الأمصار، وقال أبو حنيفة: لا يفتقر النكاح إلى ولي. وعجبًا له؛ متى رأى امرأة قط عقدت نكاح نفسها، ومن المشهور في الآثار: (لا نكاح إلا بولي). راجع: أحكام القرآن (3/ 505)، وراجع مُختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 59)، ومواهب الجليل (3/ 430)، وشرح الخرشي (3/ 181)، ومنح الجليل (3/ 280)، وراجع: المدونة (2/ 11)، والمنتقى شرح الموطأ (3/ 264).
جاء في الأم: سألت الشافعي عن النكاح فقال: كل نكاح بغير ولي فهو باطل. فقلت: وما الحجة في ذلك؟ قال: أحاديث ثابتة.. وهذا قول العامة بالمدينة ومكة. وراجع: الأم (7/ 234، 5/ 13).
قال في المنهاج: لا تزوج المرأة نفسها ولو بإذن من ويلها، ولا تزوج غيرها بولاية أو بوكالة عن الولي، والوطء في نكاح بلا ولي يوجب مهر المثل لا الحد. راجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (7/ 236)، ونهاية المحتاج (6/ 224)، ومغني المحتاج (4/ 234).
وقال ابن قدامة في المغني (7/ 6): النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت لم يصح النكاح.

واستدل الجمهور بالحديث المشهور: (لا نكاح إلا بولي). وهو حديث صحيح لكثرة طرقه ومتابعاته وشواهده، فقد روي عن ثلاثة عشر صحابيًّا، وسأذكر بعض طرقه لا سيّما ما كان منها محل نقد عند السادة الحنفية.
1- حديث عائشة من طرق عن ابن جرير عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيّما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل -ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له). أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1125)، وابن ماجه (1789)، وقد سبق.
وللحديث طرق كثيرة عن ابن جريج فهو مشهور عنه، وعدد الرواة الذي رووه عنه يزيد عن عشرين راويًا أكثرهم حفاظ كبار. راجع تخريج هذه الطرق كلها في التحقيق الجلي ص(64) وما بعدها.
وانفرد من هؤلاء إسماعيل بن عليّة بزيادة حكاية في آخره عن ابن جرير قال: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه. قال: وكان سليمان بن موسى وكان فأثنى عليه. رواه أحمد في مُسنده (6/ 47).
ولم يُتَابع بنَ علية على ذكر هذه الحكاية سوى بشر بن المفضل -رواها ابن عدي في الكامل (3/ 266)- وهو ثقة، ولكن في السند إليه سليمان بن داود الشاذكوني؛ وهو ضعيف جدًّا -سليمان بن داود الشاذكوني قال عنه البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. وراجع ترجمته في ميزان الاعتدال (2/ 205)-. فهذه المتابعة لا تُعتبر لضعف سندها.
وقد ذُكرت هذه الحكاية عند أحمد بن حنبل فقال: إن ابن جرير له كتب مدونة، وليس هذا في كتبه. المُستدرك على الصحيحين (2/ 169)، والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 105).
وسُئل عنها يحيى بن معين فقال: ليس يقول هذا إلا ابن عليّة، وإنما عرض ابن علية كتب ابن جرير على عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد فأصلحها له. -المصدران السابقان-. وكان يحيى يُضعّف رواية إسماعيل عن ابن جريج جدًّا ويقول: سمع ابن علية من ابن جريج سماعًا ليس بذاك. السنن الكبرى (7/ 106).
وعلى تقدير صحة هذه الحكاية؛ فإنها لا تقدح في صحة الحديث عند المُحدثين على ما تقرر في منهجهم؛ فالزهري قد نَسِيَ هذا الحديث بعد ان حدث به؛ ولذلك لم يجزم بإنكاره له، وإنما قال: لست اعرفه أو نحو هذا، وجزم سليمان بن موسى وهو ثقة بسماعه من الزهري، فالفرع جازم بروايته والأصل غير جازم بنفيه.
قال ابن حبان في صحيحه (9/ 385): هذا خبر أوهم من لم يُحْكِم صناعة الحديث أنه منقطع أو لا أصل له، بحكاية حكاها ابن علية عن ابن جرير في عقب هذا الخبر قال: ثم لقيت الزهري فذكرت ذلك له فلم يعرفه، وليس هذا مما يَهِي الخبرُ بمثله، وذلك أن الخيِّر الفاضل المتقن الضابط من أهل العلم قد يحدث بالحديث ثم ينساه، وإذا سُئِل عنه لم يعرفه فليس بنسيانه الشئ الذي حدث به بدال على بطلان أصل الخبر، والمصطفى صلى الله عليه وسلم خير البشر صلى فسها فقيل له: يا رسول الله؛ أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: (كل ذلك لم يكن). فلما جاز على من اصطفاه الله لرسالته وعصمه من بين خلقه النسيانُ في أهم الأمور للمسلمين الذي هو الصلاة، حتى نسي فلما استثبتوه انكر ذلك، ولم يكن نسيانه بدال على بطلان الحكم الذي نسيه، كان مَنْ بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم من أمته الذين لم يكونوا معصومين جواز النسيان عليهم أجوز، ولا يجوز مع وجوده أن يكون فيه دليل على بطلان الشئ الذي صح عنهم قبل نسيانهم ذلك. اهـ.
ولم ينفرد سليمان بن موسى بروايته عن الزهي؛ بل تابعه حجاج بن أرطأة وجعفر بن ربيعة وعبدالله بن جعفر. فأما متابعة حجاج فرواها البيهقي في السنن الكبرى (7/ 106) من طريق ابن المبارك عن الحجاج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له).
وأما متابعه جعفر بن ربيعة فرواها أبو داود في سننه (2084) وأحمد في مُسنده (6/ 66) من طريق ابن لهيعة عن جعفر ابن ربيعة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. نحو رواية ابن جرير.
وأما متابعة عبيدالله بن أبي جعفر فرواها الطحاوي من طريق ابن لهيعة أيضًا عن عبيدالله بن أبي جعفر عن الزهري به نحوه.
وقد أعلَّ الطحاوي هذه المتابعات؛ فقال في شرح معاني الآثار (3/ 8): وحجاج بن أرطاة لا يثبتون له سماعًا من الزهري، وحديثه عنه عندهم مُرسل، وهم لا يحتجون بالمُرسل وابن لهيعة، فهم يُنكرون على خصمهم الاحتجاج عليهم بحديثه؛ فكيف يحتجون به عليه في مثل هذا. اهـ.
ولم يتعرض الطحاوي لرواية ابن جرير لعلمه بصحتها وثقة رواتها، ولم يكن ضعف هذه المتابعات سببًا في رد الحنفية للحديث، ولكنهم ردوه لأمرين:
الأول/ عدم معرفة الزهري لما رواه كما حكاه ابن علية؛ ومن المُقرر عند الحنفية أن الراوي إذا أنكر ما رواه؛ سقط العمل بالحديث، يقول الطحاوي: في شرح معاني الآثار (3/ 8): وهم يُسقطون الحديث بأهل من هذا.
الثاني/ عمل عائشة بخلاف الحديث؛ ومن المُقرر عندهم أن عمل الراوي بخلاف ما روى يدل على أن الحديث منسوخ أو ليس بثابت.
وعمل عائشة المُشار إليه رواه مالك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوّجت حفصةَ بنت عبدالرحمن المنذرَ بن الزبير، وعبدُالرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبدالرحمن قال: ومثلي يصنع به؟ ومثلي يفات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر بن الزبير فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبدالرحمن. فقال عبدالرحمن: ما كنت لأرد امرًا قضيتيه، فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقًا.يقول الطحاوي في شرح المعاني الآثار (3/ 8): فلما كانت عائشة قد رأت أن تزويجها بين عبدالرحمن بغير أمره؛ جائز، ورأت ذلك العقد مستقيم حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته، استحال عندنا أن يكون ترى ذلك، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي). فثبت بذلك فساد ما روى عن الزهري في ذلك. اهـ.
وقد تأول البيهقي حديث تزويج عائشة لحفصة بين عبدالرحمن؛ بأنها مهّدت لأسباب التأويل، وعليه فإن عائشة لم تُخالف ما روت.
قال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 112، 113): إنما أُريد به أنها مهدت تزويجها ثم تولى عقدة النكاح غيرها، فأضيف التزويج إليها لإذنها في ذلك وتهيئتها أسبابه، والله أعلم.
ثم روى بسنده ما يدل على صحة هذا التأويل: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة رضي الله عنها تخطب إليه المرأة من أهلها، فتشهد فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض اهلها: زوِّج، فإن المرأة لا تلي عقد النكاح. راجع: المصدر السابق.
2- حديث أبي موسى الأشعري: من طريق أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي).
وقد اختُلف على أبي إسحاق؛ فرواه إسرائيل وجماعة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه مُتصلًا، ورواه شعبة والثوري عن أبي غسحاق عن أبي بردة مُرسلًا.
فأما رواية إسرائيل -وقد سبق تخريجها في اول المسألة-؛ فرواها عنه خلق -انظر هذه الروايات في المُستدرك (2/ 170)، والتحقيق الجلي ص(17)-، ولم يختلف عليه في وصله، وقد تابع إسرائيل على روايته موصولًا: شريك بن عبدالله -سنن الدارمي (2/ 185)-، وقيس بن الربيع -شرح معاني الآثار (3/ 9)، والسنن الكبرى (7/ 108)-، وزُهير ابن معاوية -المُنتقى (703)، والسنن الكبرى (7/ 107)- \، وأبو عوانة -سنن ابن ماجه (1881)-، ويونس بن أبي إسحاق -سنن الترمذي (1101) وقد روي عن يونس عن أبي بردة عن أبي موسى بدون ذكر أبي إسحاق كما في مُسند أحمد (4/ 418) فكأن يونس سمعه من أبيه ومن جده، فكان تارة يُحدث به هكذا وتارة يُحدث به هكذا-، وأبو حنيفة -كما في عقود الجواهر المنيفة (1/ 146) وجامع المسانيد (2/ 102)-. وخالفهم شعبة -سنن الترمذي (1101)، وشرح معاني الآثار (3/ 9)-، والثوري -مصنف عبدالرزاق (6/ 196)، وشرح معاني الآثار (3/ 9)-، فروياه عن أبي إسحاق عن أبي بردة مُرسلًا.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 8، 9): كان من الحجة عليهم في ذلك أن هذا الحديث على أصلهم أيضًا لا تقوم به الحجة؛ وذلك أن من هو أثبت من إسرائيل وأحفظ منه مثل سفيان وشعبة قد رواه عن أبي إسحاق منقطعًا.. وكل واحد منهما عندهم حجة على إسرائيل فكيف إذا اجتمعا جميعًا. اهـ.
فقد أعلَّ الطحاوي الرواية الموصولة بالرواية المُرسلة، على منهج المُحدثين على تقديم رواية الأحفظ عند التعارض، من باب إلزام الخصم بما يحتج به؛ ولذلك قال في نهاية كلامه في شرح معاني الآثار (3/ 10): وما كلامي في هذا إرادة مني الازدراء على أحد ممن ذكرت، ولا أعد مثل هذا طعنًا، ولكني أردت بيان ظلم هذا المُحتج وإلزامه من حجة نفسه ما ذكرت. اهـ.
وهذا الإلزام لا يُلزم؛ لأن الراجح الذي عليه المحققون من أئمة الحديث هو ترجيح الوصول على الإرسال، إذا كان رواي الوصل حافظًا متقنًا ضابطًا، وقد سبق تقرير ذلك، وهذا الأمر متحقق في حديثنا هذا، فإسرائيل ثقة حافظ من أثبت الناس في ابي إسحاق وتابعه جماعة منهم أبو حنيفة.
قال عبدالرحمن بن مهدي: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري. وقال حجاج بن مُحمد: قلنا لشعبة: حدِّثنا حديث أبي إسحاق، قال: سلو عنها إسرائيل فإنه أثبن مني فيها. رواهما البيهقي في السنن الكبرى (7/ 108).
وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 131): سمعت أبي يقول: إسرائيل ثقة متقن من أتقن أصحاب أبي إسحاق.اهـ. وقال ابن مهدي: كان إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ الحمد. المُستدرك (2/ 170).
وترجيح الوصل على الإرسال في هذا الحديث هو ما ذهب إليه إمام المُحدثين البُخاري وتلميذه الترمذي، فقد سُئل البُخاري عن حديث إسرائيل فقال: الزيادة من الثقة المقبولة، وإسرائيل بن يونس ثقة، وإن كان شعبة والثوري أرسلاه فإن ذلك لا يضر الحديث. أسنده عنه البيهقي (7/ 108).
وقال الترمذي في العلل الكبير (1/ 155): حديث أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم عندي أصح -والله أعلم- وإن كان سفيان الثوري وشعبة لا يذكران فيه عن أبي موسى؛ لأنه قد دلَّ في حديث شعبة أن سماعهما جميعًا في وقت واحد، وهؤلاء الذي رَوَوْا عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى سمعوا في أوقات مختلفة، ويونس بن أبي إسحاق قد روى هذا عن أبيه، وقد أدرك يونس بعض مشايخ أبيه فهو قديم السماع، وإسرائيل قد رواه وهو من أثبت أصحاب أبي إسحاق بعد شعبة والثوري. اهـ. وكذا البيهقي في الكبرى (7/ 108) وقال نحوه في الجامع عقب حديث (1125).
فالحديث على قواعد المُحدثين؛ صحيح، فعُلم من ذلك أن إلزام الطحاوي المُحدثين بتضعيف الحديث؛ ليس صوابًا، كما أن الحديث على قواعد الحنفية أيضًا صحيح؛ لأنه لا تعارض عندهم بين الوصل والإرسال، فكلاهما مقبول عندهم يُحتج به كما سبق تقريره.
ونجد الطحاوي بعد ان أطال في الكلام على إعلال الحديث من جهة السند، ينتقل إلى الكلام عليه من جهة المتن، وأنه ليس فيه حجة لمن احتج به.
يقول الطحاوي: إنه لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا نكاح إلا بولي). لم يكن فيه حجة لما قال الذي احتجوا به لقولهم في هذا الباب؛ لأنه قد يُحتمل معاني؛ فيُحتمل ما قال هذا المُخالف لنا إذ ذلك الولي هو أقرب العصبة إلى المرأة.، ويُحتمل أن يكون ذلك الولي مَنْ توليه المرأة مِنَ الرجال قريبًا كان منها أو بعيدًا، ويُحتمل أن يكون الوالي هو الذي إليه ولاية البضع من والد الصغيرة أو مولى الأمة أو بالغة حرة لنفسها، فيكون ذلك على أنه ليس لأحد أن يعقد نكاحًا على بضع الأولى بذلك البضع، وهذا جائز في اللغة، قال تعالى: (فَلْيًمْلِلْ وَلِيُّهُ بِاْلْعَدْلِ) [البقرة: 282]، فقال قوم: ولي الحق هو الذي له الحق، فإن كان مَنْ له الحق يُسمَّى وليًّا، كان مَنْ له البضع أيضًا يُسمى وليًّا له، فلما احتمل ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا نكاح إلا بولي) هذه التأويلا، انتفى أن يُصرف إلى بعضها دون بعض إلا بدلالة تدل على ذلك، إما من كتاب أو من سنة أو من إجماع. اهـ.
وهذه التأويلات التي ذكرها الطحاوي لا يحتملها لفظ حديث عائشة: (أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)؛ لذلك تاوله الجصَّاص على أمر آخر فقال كما في أحكام القرآن (1/ 549): وهذا عندنا على الأمة تزوج نفسها بغير إذن مولاها. اهـ.
يقول الخطابي في معال السنن (3/ 196): وقوله: (أيّما امرأة)؛ كلمة استيفاء واستيعاب، وفيه إثبات الولاية على النساء كلهت، ويدخل فيها البكر والثيّب والشريفة والوضيعة، والولي هاهنا العصبة. اهـ.
ويقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 549): وقوله: (لا نكاح إلا بولي)؛ لا يعترض على موضع الخلاف؛ لأن هذا عندنا نكاح بولي، لأن المرأة ولي نفسها كما أن الرجل ولي نفسه؛ لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على من يلي عليه، والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك في بضعها. اهـ.
3- حديث أبي هريرة: روى ابن ماجه في سننه (1882) من طريق مُحمد بن مروان العقيلي عن هشام ابن حسان عن مُحمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها).
وقد تابع مُحمد بن مروان على رفع هذا الحديث: عبدُالسلام بن حرب ومخلدُ ابن حُسين، إلا أن عبدالسلام جعل الجملة الأخير -كنا نعد التي تنكح نفسها هي الزانية- من كلام أبي هريرة. أخرج حديثيهما البيهقي في السنن الكبرى (7/ 110).
وخالفهم سُفيان بن عيينة -السنن الكبرى (7/ 110)-، وحفص بن غياث -سنن الدارقطني (3/ 227)-، فروياه عن هشام بن حسان موقوفًا على أبي هريرة. وكذا رواه الأوزاعي عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفًا -السنن الكبرى (7/ 110)-.
والأشبه بالصواب: رواية عبدالسلام بن حرب؛ لأنه ميّز المرفوع من الموقوف، فدلَّ على إتقانه، وللحديث طرق أخرى، وما ذكرته يكفي لثبوته والاحتجاج به.
وأجاب الجصّاص عن حديث أبي هريرة؛ بأنه محمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك؛ لأنه مأمور بإعلان النكاح، ولذلك يجمع له الناس، فكره للمرأة حضور ذلك المجمع. وبأن عبارة "إن الزانية هي التي تزوج نفسها" من قول أبي هريرة. وبأنها خطأ بإجماع المسلمين؛ لأن تزويجها نفسها ليس بزنا عند أحد من المُسلمين، والوطء غير مذكور فيه، فإنه حملته على أنها زوجت نفسها ووطئها الزوج فهذا أيضًا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا؛ لأن من لا يُجيزه إنما يجعله نكاحًا فاسدًا يوجب المهر والعدة ويثبت له النس إذا وطِء. راجع: أحكام القرآن (1/ 549).
4- حديث معقل بن يسار في سبب نزول قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232]: روى البُخاري في صحيحه (5130) عن الحسن في قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه. قال: زوَّجت أختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليها أبدًا. قال: وكان رجلًا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه. قال: فأنزل الله هذه الآية: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. فزوجها إياه.
قال الحافظ في الفتح (8/ 192): اتفق أهل التفسير على أن المُخاطب بذلك؛ الأولياء، ذكره ابن جرير وغيره، وروى ابن منذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي في الرجل يُطلق امرأته فتقضي عدتها فيبدوا له أنه يُراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعه وليها. اهـ.
وقال في موضع آخر منه (9/ 187) -بعد ذكره حديث معقل بن يسار السابق-: هذا صريح في نزول هذه الآية في هذه القصة، ولا يمنع ذلك كون ظاهر الخطاب في السياق للأزواج؛ حيث وقع فيها: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) [البقرة: 232] لكن قوله في بقيتها: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) ظاهر في أن العضل يتعلق بالأولياء. اهـ.
وقال الشافعي فيما نقله عنه البيهقي في السنن (7/ 104): وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًّا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف. قال: وجاءت السنة بمعنى كتاب الله تعالى. اهـ.
وقال الترمذي في جامعه (3248): وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي؛ لان أخت معقل بن يسار كانت ثيبًا، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوّجت نفسها ولم تحتج إلى وليها معقل، وإنما خاطب الله في الآية الأولياء فقال: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 323]؛ ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن. اهـ.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره (2/ 488): وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي مع العصبة؛ وذلك أن الله منع الولي من عضل المرأة -إن أرادت النكاح- ونهاه عن ذلك، فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في غنكاحها لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم؛ إذ كان لا سبيل لع إلى عضلها؛ وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها غنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها، فلا عضل هنالك لها من أحد فينهي عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما عنه صحة القول بأن لولي المرأة -في تزويجها- حقًّا لا يصح عقده إلا به، وهو المعنى الذي أمر الله به الولي من تزويجها إذا خطبها ورضيت به، وكان رضًا -عند أوليائها- جائزًا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله، ونهاه عن خلافه من عضلها ومنعها عما أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به. اهـ.
ويرى الحنفية أن الخطاب في الآية للأزواج، وإذا كان للأولياء فمعناه المنع عن الخروج والمُراسلة في عقد النكاح، وتأول الطحاوي -كما في شرح معاني الآثار (3/ 11)- حديث معقل على أن العضل الذي نُهي عنه كان تزهيهده لأخته في المُراجعة.
يقول الجصّاص في أحكام القرآن (1/ 546): فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطابًا للأزواج؛ لأنه قال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232] فقوله تعالى: إنما هو خطاب لمن طلق؛ وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما قال: (وَلَا تَمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُواْ) [البقرة: 231]. وجائز أن يكون قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) خطابًا للأولياء وللأزواج ولسائر الناس والعموم يقتضي ذلك. اهـ.
ويقول ابن التركماني في الجوهر النقي مع السنن الكبرى (7/ 104): المنهي عن العضل -في هذه الآية- هم المطلقون لا الأولياء؛ لأن جواب الشرط يجب أن يرجع إلى من خوطب بالشرط وهم المطلِّقون في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) والأولياء لم يجر لهم ذكر، فيلزم من صرف ذلك إليهم محذوران: إحداهما: إخلاء الشرط عن الجزاء، والثاني: عدم الالتئام بعود الضمير إلى غير المذكورين أولًا. والعضل من الأزواج المطلِّقين: أن يمنعوهن من الخروج والمُراسلة في عقد النكاح، ويحبسوهن وويضيقوا عليهم ويطولوا العدة عليهن، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَلَا تَمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُواْ) كانوا يطلقون فإذا قرب انقضاء العدة راجعوا من غير حاجة ضرارً.
ويقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 546): وقوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) معناه: لا تمنعوهن أو لا تضيّقوا عليهن في التزويج. وقد دلّت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير ولي ولا إذن وليها: أحدها/ إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي. والثاني/ نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان. فإن قيل: لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه، كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه. قيل له: هذا غلط؛ لأن النهي يمنع ان يكون له حق فيما نُهي عنه، فكيف يُستدل به على إثبات الحق؟ -يُمكن أن يُجاب عن ذلك بأن النهي في الآية نهي عن التعسف في استعمال الحق، وهذا لان ينفي أصل الحق- وأيضًا فإن الولي يُمكنه أن يمنعها عن الخروج والمُراسلة في عقد النكاح، فجائز أن يكون النهي عن العضل مُنصرفًا إلى هذا الضرب من المنع؛ لأنها في الأغلب تكون في يد الولي بحيث يُمكنه منعها من ذلك.. (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَنْ يَتَرَاجَعَا) [البقرة: 230] قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا: أحدهما/ إضافته عقد النكاح إليها في قوله: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه)، والثاني/ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَنْ يَتَرَاجَعَا) فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الولي. ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنلإُسِهِنَّ بِاْلْمَعْرُوفِ) [البقرة: 234] فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي؛ وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي لموجب الآية. اهـ.
يُفهم من ذلك؛ أن من أسباب عدم أخذ الحنفية بحديث (لا نكاح إلا بولي)؛ مُخالفته لعموم القرآن، وردُّ الحديث لمُخالفته عموم القرآن من القواعد المُقررة عندهم، وإذا أضفنا ذلك لما قبله؛ يكون الحديث مردودًا عند الحنفية لثلاثة أسباب: مُخالفته لعموم القرآن، ومُخالفة عمل الراوي له، وإنكار الراوي له.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 235): ردوا الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه: (لا نكاح إلا بولي). وأن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل، وقالوا: هو زائد على كتاب الله، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعًا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح، والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: (لا نكاح إلا بولي مُرشد وشاهدي عدل) -والحديث بهذا اللفظ قد رواه البيهقي في الكبرى (7/ 112) من حديث ابن عباس، ورواه البيهقي أيضًا (7/ 125)، وابن حبان في صحيحه (9/ 386) من حديث عائشة بدون لفظة "مُرشد"-، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين. فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تُقبل. اهـ.

وقد استدل الحنفية على عدم اشتراط الولي في صحة النكاح بأدلة؛ منها ما يلي:
1- روى مُسلم في صحيحه (3541) عن ابن عباسأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها). وفي رواية أخرى له (3542): (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تُستأمر وإذنها سكوتها).
ولأبي داود في سننه(2100): ( ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر وصمتها إقرارها).
يقول الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 11): فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها) أن أمرها في تزويج نفسها إليها لا إلى وليها. اهـ.
ويقول الجصّاص في أحكام القرآن (1/ 546): فقوله: (ليس للولي مع الثيب أمر)؛ يُسقط اعتبار الولي في العقد، وقوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها)؛ يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) -البخاري (6977)-، وقوله لأم الصغير: (أنت احق به ما لم تنكحي)-أبو داود (2276)-. فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق. اهـ.
وقد اتفق اهل اللغة على أن الأيم تُطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرًا كانت او ثيّبًا. راجع: النهاية (1/ 85)، ولسان العرب مادة: أيم.
واختلف العلماء في المُراد بها في هذا الحديث، فقال علماء الحجاز والفقهاء كافة: المُراد الثيب. واستدلوا بأنه جاء مُفسرًا في الرواية الأخرى بالثيب، وبأنها جعلت مقابلة للبكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب.
وقال الكوفيون وزُفر: الأيم هنا/ كل امرأة لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا كما هو مقتضاه في اللغة، قالوا: فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها على نفسها النكاح صحيح، وليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه.
ثم اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: (أحق بنفسها من وليها) هل هي أحق بالإذن فقط، أو بالإذن والعقد على نفسها، فعند الجمهور بالإذن فقط، وعند هؤلاء بهما جميعًا. راجع: شرح مُسلم للنوي (9/ 203)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (4/ 563).
2- ما رواه البُخاري في صحيحه (2310) عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إني قد وهبت لك من نفسي. فقال رجل: زوجنيها. قال: (قد زوّجناكها بما معك من القرآن).
يقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 546): ولم يسألها هل لها ولي أم لال، ولم يشترط الولي في جواز عقدها. اهـ.
3- ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 11)، والنسائي في سننه (3254)، من طريق عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة، فخطبني إلى نفسي فقلت: يا رسول الله؛ إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا. فقال: (إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك). قالت: قم يا عمر. فزوج النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها.
قال الطحاوي في معاني الآثار (3/ 12، 13): فكان في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها إلى نفسها؛ ففي ذلك دليل أن الأمر في التزويج إليها دون أوليائها، وعمر هذا ابنها، وهو يومئذ طفل صغير غير بالغ؛ لأنها قد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: إني امرأة ذات أيتام. يعني عمر ابنها وزينب بنتها، والطفل لا ولاية له، فولته هي أن يعقد النكاح عليها ففعل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم جائزًا، وكان عمر بتلك الوكالة قام مقام من وكله، فصارت أم سلمة رضي الله عنها كأنها هي عقدت النكاح على نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم حضور أوليائها، دل ذلك أن بضعها إليها دونهم، ولو كان لهم في ذلك حق أو أمر، لما أقدم النبي صلى الله عليه وسلم على حق هو لهم قبل إباحتهم ذلك له.
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أَوْلَى بكل مؤمن من نفسه. قيل له: صدقت، هو أَوْلَى به من نفسه، يطيعه في أكثر مما يطيع فيه نفسه، فأما أن يكون هو أَوْلَى به من نفسه في أن يعقد عليه عقدًا بغير أمره من بيع أو نكاح أو غير ذلك؛ فلا، وإنما كان سبيله في ذلك صلى الله عليه وسلم كسبيل الحكام من بعده، ولو كان ذلك كذلك، لكانت وكالة عمر إنما تكون من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قبل أم سلمة؛ لأنه هو وليها.. ولما ثبت أن عقد أم سلمة رضي الله عنها النكاح على بضعها كان جائزًا دون أوليائها؛ وجب أن يُحمل معاني الآثار التي قدمنا ذكرها في هذا الباب على هذا المعنى أيضًا، حتى لا يتضاد شئ منها ولا يتنافى ولا يختلف. اهـ.
وقد أجاب البيهقي: بأن الحديث ليس فيه حجة؛ لأنه لو كان جائزًا بغير ولي لأوجبت العقد بنفسها ولم تأمر غيرها، فلما أمرت به غيرها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها -على ما جاء في بعض الروايات- دلَّ على أنها لا تلي عقدة النكاح، وعمر بن أبي سلمة كان عصبة لها؛ لأنه من بني أعمامها، فيكون الولي هو الذي زوجها، ويُقال: إن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى ولي، وتزويج زينب بنت جحش يدلُّ على ذلك. راجع: معرفة السنن والآثار (10/ 39)، والسنن الكبرى (7/ 131).

ويتضح من خلال عرض الأدلة والمُناقشات حولها؛ احتدام الخلاف في المسألة، وبصرف النظر عن أيها أرجح، فإن للحنفية أدلة ناهضة للاحتجاج، ولهم تأويلات صالحة مُعتبرة لأدلة الجمهور لتتفق مع أدلتهم، فضلًا على أن أدلة الجمهور لم تتوافر فيها شروط قبول الأخبار لدى الحنفية من ثلاث جهات: مُخالفة عموم القرآن، وعمل الراوي بخلاف ما روى، وإنكار الراوي لما رواه.

وأخيرًا.. فما كان هذا شأنه؛ لا يُوصف بمُخالفة الحديث، وعليه فدعوى ابن أبي شيبة رحمه الله وغيره مُخالفة الحنفية للحديث في هذه المسألة؛ غير مقبولة ولا تصح.

وبعد هذا؛ أرجوا أن أكون قد لفتُّ الانتباه إلى أهمية البحث في مجال مناهج الفُقهَاء في نقد الحديث؛ حيث إن لهم أصولًا تُخالف أصول المُحدثين، كما وأنصح بالإطلاع العام على كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث.. بين النظرية والتطبيق" للدكتور/ كيلاني مُحمد خَليفة. والذي في أصله رسالة علمية نال عنها مؤلفها درجة ماجستير في الحديث الشريف وعلومه من كلية دار العلوم جامعة القاهرة في مصر بدرجة ممتاز. وقدَّم له الأستاذ الدكتور/ مُحمد سعيد رمضان البوطي. كما وانصح بالإطلاع خصوصًا في تحرير تلك المسألة للصفحات من (453) إلى (468).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،،
وجزاكم الله خيرًا،،
والله أعلم.


طويلب العلم
سيف البغدادي