تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الفوائد الماسية من الرحلة المقدسية الحلقة الثالثة(3)



أهــل الحـديث
26-04-2013, 03:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



الحمد لله الذي يسر لنا زيارة الحبيبة فلسطين بعد غربتنا عشرات السنين.


والصلاة والسلام على سيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين.
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذه الحلقة الثالثة من رحلتي المقدسية، وفوائدي الماسية منها بعنوان:
«غزوة (الكَتَّةِ!!) وذات الرقاب!!، ولقاء أهل الدهيشة الأحباب».
راجيا تعليقاتكم وتوجيهاتكم.
اليوم هو اليوم الثالث من رحلتي المقدسية.. الأحد 28 ربيع الثاني لسنة 1434هـ، الموافق 10 آذار (مارس) لسنة 2013م
خرجت من الفندق الهاشمي باتجاه المسجد الأقصى الساعة (4.39) بعد أذان الفجر، ومن طريق الآلام وصلت بوابة الناظر، أو باب المجلس ـ كما يسميه أهل القدس ـ الساعة (4.49) أي بعد عشرة دقائق، على مشيتي؛ مشية العجوز الهوينا.
ومن باب الناظر، حتى باب المسجد الأقصى كانت الساعة وصلت (4.59)، أي عشرة دقائق أخرى.
وهي مسافة ـ لمن يسكن في تلك المنطقة ـ تكفيه يوميا لرياضة مشي نموذجية إذا واظب عليها كل يوم خمس مرات في الصلوات الخمس، بمعدل (200) دقيقة يوميا، أي نحو ثلاث ساعات وثلث مشي يوميا، شيء ليس قليلاً!!
بعد صلاة الفجر، والعودة إلى الفندق، جلست مع الشيخ أمجد في المكتب، وأريته على حاسوبي الشخصي بعض ما يتعلق بالفالوجة من خرائط محلية سنة 1946م، وسنة 1948م، مما اعتنى بها أهل الفالوجة في حينها، وهي من وثائق ومقتنيات جمعية الفالوجة الخيرية في عمان، الأردن، ومتاحة على (الإنترنت) في عدة مواقع؛ منها موقع (فلسطين في الذاكرة)،
وموقع (هوية) وغيرهما من المواقع.
وأريته بعض صور البلدة على (جوجل) وبعض خرائط (جوجل) التي أَحْتَفِظُ بها على حاسوبي الشخصي، وبعض وثائق الملكية، وتسجيل الأراضي (الطابو) لبعض أراضينا التي رآها بالأمس في الفالوجة، لأبين له أسباب معرفتي بالطرق والمناطق التي كنا فيها مساء أمس، والتي استغرب هو والأخوة معنا معرفتي الدقيقة بها رغم عدم دخولي لها من قبل، حيث كنت حريصا أن يتيقنوا بالحلف، والأَيمان، والوثائق، أنني لم أدخل هذه البلاد والبقاع قبل هذا، وألا يظنوا بي الظنونا.
أراني الأخ أمجد بعض الصور والمقاطع التي صورها لي أمس على جهازه النقال أثناء جولتنا في القدس وما أحاط بها، وهي صور ومقاطع ـ للأسف، وحاله فيها كحالي تماما ـ لا تنبئ عن احتراف في التصوير والتوثيق!!
بعد ذلك خرجت من الفندق باتجاه باب العمود رفقة جهازي الحاسوب، وفي حقيبته إزاري، تحسبا للبيات خارج القدس بعد جولة الضفة الغربية الجنوبية، والتي كانت بغير رفقة الشيخ أمجد.
وصلت دوار باب العمود الصغير، مع وصول الأخ الحبيب أبو سامر؛ شقيق الشيخ أمجد الذي تفضل بالاستعداد لإخراجي من حدود بيت المقدس إلى حاجز (حِزمة) أو (حِزما) شرقي مدينة القدس الكبرى بسيارته رغم حالته الصحية الخاصة، جزاه الله كل خير.
سار بي الأخ الحبيب أبو سامر عبر شوارع القدس الحبيبة في الفترة الصباحية في أول يوم الأحد بعد عطلة السبت، وفي أيام ربيع فلسطين الذي زادته روعة الطقس والجو روعة إلى روعته، وزاد ذلك كله روعة حديثه الشيق عن جهوده المباركة ـ رغم إصابته ـ في خدمة مجتمعه الفلسطيني بالتعاون مع سائر إخوانه احتسابا لوجه الله تعالى، حتى أخرجني من حاجز (حِزمة) وسار بي إلى الدوار الذي يفرق الطريق إلى رام الله، وأريحا، وبيت لحم، من طريق عناتا.
وجدتُ الأخوة الأفاضل؛ أبا صهيب، وأبا سلمى في انتظاري مقابل محطة الوقود التي على المفترق والدوار، حيث انطلقنا نحو عناتا لاصطحاب فضيلة الشيخ علي أبو هنية، الذي وجدناه في انتظارنا قرب مسجده الذي يخطب فيه الجمعة، ويؤم المصلين فيه، والذي أخبرنا أنه كان سببا في شراء الساحة القريبة منه لتوسيع المسجد فيها مستقبلاً.
سرنا في بعض شوارع عناتا التي لا زالت تحتفظ بسمات القرية الفلسطينية المقدسية، رغم المباني الحجرية الحديثة فيها، وتوقفنا باب فرن أو مطعم أحضر لنا منه الأخ أبو صهيب قعدان بعض المعجنات باللحم والطحينية، للإفطار الخفيف استعدادا لغزوة (ذات الرقاب) في الخليل بعد قليل.
سرنا من عناتا منحدرين شرقا نحو مفرق الخان الأحمر، أو مفرق (أبو جورج) كما يسميه كثيرون في فلسطين، حيث توجد محطة وقود قديمة قبل الاحتلال تسمى بهذا الاسم، وحيث رأينا على يمين الطريق بين عناتا والخان الأحمر مئات الدونمات الفلسطينية التي صودرت وَجُرِّفَتْ لإزالة أشجار الزيتون الرومانية والعربية والإسلامية الشاهدة على عروبة وإسلامية القدس من جهة، وعلى وحشية العدو الصهيوني.. عدو الشجر والحجر والبشر من جهة أخرى.
صعدنا من مفرق الخان الأحمر يمينا نحو الجنوب الغربي حتى وصلنا دوار مغتصبة (معالي أدوميم)، وهي مغتصبة كسائر المغتصبات يحلو للصهاينة أن يسموها مستوطنات، أو مستعمرات، وهي من أكبر المغتصبات حول القدس من الجهة الشرقية الجنوبية، وفي وسط الدوار رأيتهم وضعوا شجرة زيتون قديمة جدا تزويرا للحقائق، وهي ظاهرة التزوير لا تحتاج لخبرة خبير، لأنهم معروفون بتزوير وتحريف التوراة فكيف بالزيتون والتاريخ والجغرافيا؟!.
على يمين الطريق موقع قرية (باب الشمس) الذي استوحى ـ (الناشطون) الفلسطينيون، وغيرهم من النشطاء والمتضامنين معهم من جنسيات أخرى مختلفة ـ اسمها من رواية بنفس الاسم «باب الشمس» للكاتب اللبناني اليساري إلياس خوري، والتي تتحدث عن قرية من قرى شمال فلسطين، كان أحد أبنائها مقاوما متمرسا، يلجأ إلى جنوب لبنان، ويعود إلى شمال فلسطين؛ إلى قريته (باب الشمس) خلسة بين الحين والآخر، يمارس حياته الاجتماعية الخفية، وينفذ بعض العمليات المُقاومة قبل أن يعود مرة أخرى إلى الجنوب اللبناني، وهكذا، دائم التنقل بين قريته (باب الشمس)، وبين مراتع مقاومته في الجنوب اللبناني المقاوم على مر السنين، منذ الاحتلال.
بعد ذلك دخلنا قرية العيزرية، وهي الآن مدينة كبيرة، وهو محرف من (العزيرية)، وقد اقتبست اسمها من (العزير) عليه السلام، والمذكور في القرآن الكريم بصفته وباسمه في قوله تعالى:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[البقرة: 259]
وهذه القصة من أعجب القصص في القرآن الكريم، وملخص ما قال المفسرون فيها:
إن القرية التي كانت خاوية على عروشها هي بيت المقدس، وهي قريبة جدا من العيزرية، وتُرى بسهولة منها، ولا يفصلها عنها إلا جدار الفصل العنصري الذي سيتهاوى كما تهاوى قبله جدار برلين، وَجُدُرُ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأن الطعام كان من التين، والشراب كان من عصير العنب، المعروفان بسرعة العطب والتلف بسبب الحر.
ومن عجيب وقديم ما قرأته في قصة العزير ما ذكره الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في كتابه التاريخي العظيم «البداية والنهاية» (2/53-54):
عن ابن عباس في قول الله تعالى:
{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ}
يعنى لبني إسرائيل؛ وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب لأنه مات وهو ابن اربعين سنة، فبعثه الله شابا كهيئة يوم مات.
وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس:
وأسود رأس شاب من قبله ابنه * ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر
يرى ابنه شيخا يدب على عصا * ولحيته سوداء والرأس أشقر
وما لابنه حيـــــل ولا فضل قوة * يقوم كما يمشي الصبي فيعثــر
يعد ابنه في الناس تسعين حجة * وعشرين لا يجري ولا يتبختر
وعمر أبيه اربعون أمرهـــــــــــا * ولان ابنه تسعون في الناس غبر
فما هو في المعقول إن كنت داريا * وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر
انتهى.
وأما ملخص قصة العزير كما جمعها الحافظ ابن كثير في كتابه المذكور (2/51-55) فهي:
أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، من ذرية هارون بن عمران.
وأنه كان فيما بين عصر داود وسليمان، من جهة، وبين عصر زكريا ويحيى وعيسى من جهة أخرى.
ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه، وأن الله أماته مائة عام ثم بعثه.
وأنه كان عبدا صالحا حكيما خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر ودخل الخربة وهو على حماره، فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين، وسلة فيها عنب، فنزل في ظل تلك الخربة، وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزا يابسا معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت، ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها ورأى عظاما بالية فقال:
{أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}
فلم يشك أن الله يحييها، ولكن قالها تعجبا، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام.
فلما أتت عليه مائة عام ـ وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث ـ فبعث الله إلى عزير ملَكَاً فخلق قلبه ليعقل قلبه، وعينيه لينظر بهما، فيعقل كيف يحيي الله الموتى.
ثم ركب خلقه وهو ينظر، ثم كسى عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالسا فقال له الملك:
كم لبثت؟ قال:
{لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}
وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب، فقال: أو بعض يوم. ولم يتم لي يوم. فقال له الملك:
بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك ـ يعني الطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة، فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير، والخبز يابس. فذلك قوله:
{لَمْ يَتَسَنَّهْ}
يعني لم يتغير، وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما، فكأنه أنكر في قلبه فقال له الملك:
أنكرت ما قلت لك؟!
انظر إلى حمارك. فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة فنادى الملك عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى ركبه الملك، وعزير ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم، ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا، يظن القيامة قد قامت فذلك قوله:
{وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}.
يعني وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها، حتى إذا صارت عظاما مصورا حمارا بلا لحم ثم انظر كيف نكسوها لحما
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
من إحياء الموتى وغيره.
فَرَكِبَ حمارَه حتى أتى محلته، فانكره الناسُ، وأنكر الناسَ، وأنكر منزله، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، كانت أَمَةً لهم، فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة.
فقال لها عزير:
يا هذه! أهذا منزل عزير؟!
قالت:
نعم. هذا منزل عزير.
فبكت وقالت:
ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا، وقد نسيه الناس.
قال:
فإني أنا عزير، كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني.
قالت:
سبحان الله!! فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة، فلم نسمع له بذكر.
قال:
فإني أنا عزير.
قالت:
فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة؛ يدعو للمريض، ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك.
فدعا ربه، ومسح بيده على عينيها فَصَحَّتَا، وأخذ بيدها وقال:
قومي بإذن الله.
فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت:
أشهد أنك عزير. وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة، وبني بنيه شيوخ في المجلس، فنادتهم فقالت:
هذا عزير قد جاءكم. فكذبوها، فقالت:
أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري، واطلق رجلي، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه.
فنهض الناس، فأقبلوا إليه فنظروا إليه فقال ابنه:
كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقالت بنو إسرائيل:
فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة ـ فيما حُدِّثْنَا ـ غير عزير، وقد حرق بخت نصر التوراة، ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال، فاكتبها لنا.
وكان أبوه (سروخا) وقد دَفَنَ التوراةَ أيام بخت نصر في موضع لا يعرفه أحد غير عزير، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره، فاستخرج التوراة، وكان قد عفن الورق، ودرس الكتاب، وجلس في ظل شجرة، وبنو إسرائيل حوله، فجدد لهم التوراة، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه، فتذكر التوراة، فجددها لبني إسرائيل. فمن ثَمَّ قالت اليهود ـ للذي كان من أمر الشهابين، وتجديده التوراة، وقيامه بأمر بني إسرائيل ـ:
لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب، وإن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب. فقالوا:
{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}
ولهذا يقول كثير من العلماء:
إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير.
ويقال بأن عزيراً استأذن على بعض عظمائهم فلم يأذن له فقال:
مائة موتة أهون من ذل ساعة. فأماته الله مائة عام.
وهو بعيد.
وفي معنى قول عزير:
مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء:
قد يصبر الحر على السيف * ويأنف الصبر على الحيف
ويؤثر الموت على حالة * يعجز فيها عن قِرَى الضيف
وقد ذكر الله عزيراً في القرآن صراحة في ذم يهود الذين نسبوه إلى الله بسبب حياته بعد موته، وتجديده للتوراة التي كان يحفظها كما مرَّ في قصته فقال تعالى:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
[التوبة: 30]
في (العيزرية) مسجد، وفيه قبر يقال أنه قبر العزير، وفيها كنيسة قريبة من المسجد، وفيها كلية الدعوة التابعة لجامعة القدس المفتوحة، وجدار الفصل العنصري العازل لها عن بيت المقدس.. هي محاددة ومتداخلة مع بلدة (أبو ديس)، والتي فيها مقر جامعة القدس المفتوحة، ومسجد الفاروق المحاذي لمقر الجامعة، وإن كانت باقي الجامعة بين (أبو ديس)، و(عرب السواحرة)، وهي غير (بيت ساحور).
لفت انتباهي في بلدة (أبو ديس) شعارات وأعلام وعبارات تَنُمُّ عن تواجد ظاهر للجبهة الشعبية الديمقراطية فيها.
خرجنا من (أبو ديس) في اتجاه (وادي النار)، ومررنا على حاجز (الكونتينر) وهي الحاوية، وهو نسبة إلى (حاوية معدنية) كانت في الموقع المطل على (وادي النار) من جهة (أبو ديس) ويتحكم في الطريق إلى جنوب الضفة الغربية؛ جنوب القدس، وهو مصدر تندر لسكان الضفة الغربية!!.
خرجنا إلى (العبيدية)، والتي لفتت انتباهي كنيستها، ومن (العبيدية) يمكنك مشاهدة قبة الصخرة، ولولا الجدار اللعين لأمكن الوصول إلى قلب القدس خلال ثلاث دقائق، في حين يحتاج الوصول إلى (العبيدية ) وما بعدها الآن أكثر من ساعة في حال سلوك الطريق وعدم إغلاقه أو ازدحامه.
وصلنا (بيت ساحور)، حيث يمكن الوصول من هناك أيضا إلى (أم طوبة)، و(صور باهر) ـ ولولا الجدار اللعين ـ إلى (المكبر).
وصلنا إلى (بيت لحم)، ورأيت مراتع الصبا، و(البطريركية اللاتينية)، وَجُلْنَا في شوارع أعرفها جيدا، وشوارع اشتبهت عليَّ، ومررنا بـ (مخيم عايدة)، و(بقبة راحيل)، حتى وصلنا (مسجد الرباط)، وتركنا (بيت لحم) في الطريق إلى (مخيم الدهيشة) وهي عين الطريق التي مشيتها مئات المرات في طفولتي، وصباي، والتي كان لي فيها ذكريات حادث مروري أليم، لا زالت آثاره ظاهرة في جبهتي.
لا زلت أذكر سيارة (البك أب) الأمريكية البيضاء (المُشَدَّرَةَ) التي تَعَلَّقْتُ بجانبها أنا وأحد زملائي وأترابي، وهي تحمل جنازة امرأة من آل شعفوط من بلدتنا (الفالوجة)، بعد أن صلوا عليها في مسجد (الدهيشة) وتوجهوا بها إلى (قبة راحيل) لدفنها ثَمَّ، ولم يمكن لأحد من المشيعين الذين كانوا في السيارة من رؤيتنا ونحن مُتَعَلِقَيْنِ بجانب السيارة المستأجرة للجنازة.
ولما صارت السيارة قرب دار (العبد حمد) في طرف (بيت لحم) قفزت منها فسقطتُّ على وجهي وشُجَّتْ جبهتي، وواصلت وزميلي السير نحو (بيت لحم)، والدم ينزف من جبهتي، وتوجهت فوراً إلى مكتب (اليونروا) وهو قريب من مستشفى (عالية بنت الحسين)، فأسعفوني وأخبروني بضرورة توجهي للمستشفى فوراً لأن جرحي يحتاج خياطة جراحية، وطلبوا مني عدم إخبار كادر المستشفى عَمَّنْ ساعدني وأسعفني، وكذلك كان.
ولما سألوني عن أسباب إصابتي وأخبرتهم عن السبب طلبوا لي الشرطة التي حققت معي في حينها، وكان الرعب قد تملكني من سؤال الشرطة وتحقيقها، وسؤالهم عن والدي وعمله وتواجده، حيث كان الجميع حينها ـ بما فيهم والدي ـ في المقبرة، وهي غير بعيدة عن المستشفى، ثم تبين لي بعد ذلك أنهم ألقوا القبض على السائق المسكين الذي لا ناقة له ولا جمل في إصابتي، وأنني وشقاوتي المسؤولان الوحيدان عما أصابني.
جاء والدي منزعجا، ولما رآني وقد عُصِبَ رأسي بالشاش الأبيض، والضمادات الطبية، طَلَبَ مني التحرك، ورفع يدي، وقدمي ليتأكد من مدى إصابتي، وطلب إخلاء سبيل السائق المسكين، وأذكر أنالسائق كان من آل (أبو نعمة) الكرام من قرية (بتير) القريبة من (الدهيشة) أيضاً، فأخبروه بأن ذلك يكون في المحكمة أمام القاضي، أو المدعي العام، وكذلك كان، وكانت المحكمة في المقاطعة، في ساحة كنيسة المهد، ومسجد عمر، وتوجه بي والدي إلى المحكمة، ولما دخلت على القاضي ورآني معصوب الرأس بالشاش الأبيض قال لي:
هيك صرت نص عالم!!
ولم أفهم مراده لحظتها، ثم فسروها لي فقالوا:
يعني: صرت نصف شيخ.
واستهوتني تلك العبارة حينها، ولا زلت أسعى للوصول إلى هذا النصف الذي تنبأ به القاضي منذ ذلك الحين، ولا زلت في البدايات، وعلى الله تيسير الباقيات، وأما النصف الآخر فأظنه بعيد المنال، ومن المحال على المخلوق الوصول إلى الكمال، وعليه وإليه ـ سبحانه ـ حُسن الحال والمآل.
خرجنا من المحكمة صحبة السائق المسكين بكفالة والدي، وعدنا أدراجنا إلى البيت في (الدهيشة)، وفي الليلة التي أعقبت الحادث التهب الجرح، وأصابتني جراء ذلك سخونة وحرارة عالية، وصداع شديد، وسهر حرمني النوم، وفي الصباح توجه بي والدي إلى المستشفى، الذي قرر أطباؤه إدخالي المستشفى فورا لاستكمال العلاج، وكذلك كان.
وأذكر أنني رأيت العربة التي يستخدمها المقعدون لأول مرة، وكنت أدفع بها بعض المرضى كبار السن إلى الحمام، أو إلى النافذة الشمالية التي يُطِلُّونَ منها على طريق (بيت لحم) المؤدية من أمام المستشفى إلى (بيت جالا)، والتي كانت شبه فضاء فارغ أيامها، والذي أدهشني عَمَارُه في زيارتي هذه، وأذكر أن أحد أولئك العجائز، الذين كنت أساعدهم، وكان سريري قرب سريره في نفس الغرفة.. كان من بلدة (دورا) الخليل، وقد ذكرت كل ذلك لإخواني الذين رافقوني في هذه الرحلة.
مررنا بدار (العبد حمد)، ثم بـ (دير المجانين)، ثم بدار (سابات)، و(كازية حسين البريجي) ـ كما كنا نسميها ـ الذي كان شريكا لوالدي في بعض أعماله، ودخلنا (مخيم الدهيشة) الذي تغيرت معالمه، وامتلأ الجبل الذي كان مقابلا له من الجهة الشمالية، وكان قبل الاحتلال فارغا!! صار الآن ـ ومنذ سنين ـ عامرا بالبنيان.
عانقت بعيني المشتاقتين كل (ملم) من أرض (الدهيشة)، وفي الطريق إلى (الخضر) رأيت العمران قد وصل بينهما، وهما اللتان كان يفصلهما أرض فارغة من العمران ـ حينها ـ و(دار اليهود) كما كنا نسميها، وأظن أنه كان هناك مقلع أيضاً؛ يعني: (كسارة).
تذكرت أشجار الفاكهة التي كانت في منطقة (الخضر) الشمالية الشرقية التي سرت يوما في ظلالها بعد عصرِ يومٍ حتى خلت أنني سأتوه وأضيع فيها.
تأملت بوابة (الخضر)، والصورة القديمة عليها للخضر ـ بزعمهم ـ يطعن التنين برمحه من على فرسه، وتذكرت بعض اعتقادات أحد الصوفيين ونحن في الجيش بالخضر، وتواجده في (جبل أنطون) شمال شرق مخيم الدهيشة!
مررنا على (بِرَكِ سليمان) في جنوب شرق (الخضر)، وفي الطريق إلى (عصيون)، رأيت اشارة مرور إرشادية تشير إلى قرية (نحالين)، فتذكرت مذبحة (نحالين) في مثل هذا الشهر؛ شهر آذار (مارس) سنة 1954م، وتحديدا في 29 آذار (مارس) سنة 1954م، والتي كان من ضحاياها والدا أخينا الشيخ حسن بن محمد بن يوسف النحاليني المقدسي، أبو محمد ـ رحمهم الله جميعاـ والذي ترجمت له وكتبت عنه في كتابي:
«إتحاف الأنام بتراجم الأعلام الأيتام»
يسر الله تمام نشره، وإتمامه طباعته وصدوره قريبا إن شاء الله.
وصلنا إلى (عصيون)، وتذكرت خبر عمتي (ليقة)، وزواجها لـ (يوسف عوض الله؛ أبو روحي)، بديلةً لـ (عزيزة أم عوض الله) (أم عاطف) ـ كما اعتدنا على سماع تسميتها ـ لعمي (خليل)، حيث كان الاتفاق بين العائلتين إيصال العروسين إلى (كازية كفار عصيون)، من مخيمي (الفوار) و (الدهيشة)، وهناك يتم التبادل، وكيف أصر العم الكبير (أحمد محمد نمر) على قياس المسافات قبل التسليم!!
وصلنا مخيم (العروب)، وتذكرتُ، وَذَكَرْتُ للأخوة كيف سُقْتُ عِجْلاً من (العروب) إلى مخيم (الدهيشة) عبر الطريق التي سلكناها، ولم يتجاوز عمري يومها تسع سنوات، حيث كنت في الصف الثالث الابتدائي حين جاء والدي يستأذن لي الأستاذ محمود عابد الذي كان يدرسنا حينئذ، وأخذني إلى مخيم (العروب)، حيث سقت العجل برفقة رجل من (عراق المنشية)، كان زوجا لإحدى خالات والدتي، من مخيم (العروب)، إلى مخيم (الدهيشة)، وأذكر أن الموسم حينها كان ربيعيا، ولما رجعنا إلى مخيم (الدهيشة) برفقة عِجْلِنَا العزيز، توجهت بعدها مباشر إلى (بيت جالا) عبر طريق ترابية من جهة دار (سابات) لحضور مباراة بين فريق مدرسة مخيم (الدهيشة) وفريق آخر لا أذكر اسمه الآن.
تجاوزنا مخيم (العروب)، من جهة المدرسة الزراعية، مرورا بـ (بيت أُمَّر)، ثم (حلحول)، ثم (الخليل)، ورأيت مدرسة الشريف حسين، وتذكرت بركة كانت بجانبها، وكان السباحون يقفزون من أعلى المدرسة فيها، وينزلون فيها برؤوسهم (يغزون رأسا) بمهارة خارقة حينها تسر الناظرين.
مررنا في (الخليل) على منارة (مئذنة) ضخمة، تكاد تكون برجا، لزاوية الطريقة (الخلوتية)، والتي كان شيخها الشيخ ياسين القواسمة ـ رحمه الله ـ والذي كان لأتباعه ـ ولا يزال ـ في (مخيم حطين) ـ وغيره ـ زاوية يتوارثها أتباعه، وكان له عند الصهاينة مكانة سمحوا بسببها لأتباعه بالدخول إلى الضفة الغربية بمجرد إبراز الهوية الشخصية، أو حتى رخصة السواقة لحضور جنازته في أواسط ثمانينات القرن الميلادي الماضي ـ كما تواتر عن كثير من أتباعه حينها ـ وهي بلا شك مكيدة أكيدة من يهود فيهم وفي شيخهم المتوفى ـ رحمه الله ـ ليفرقوا بينهم وبين سائر المسلمين، وقد عَدَّهَا أتباعُ الطريقة المذكورة ـ يومها ـ كرامة من كرامات شيخهم ـ أو سيدهم ـ كما كان يحلو لهم أن يسموه بها.
ذكرت لإخواني بعض أذكار تلك الطريقة والتي يظهر فيها الشرك صراحة كقولهم:
نحن بالله عزنا والحبيب المقرب*** بهما عز نصرنا لا بجاه ومنصب
كل من رام ذلنا من قريب وأجنبي*** سيفنا فيه قولنا حسبنا الله والنبي
ثم يبدؤون بذكر الله باسمه اللطيف ببطء، ثم يتدرجون في السرعة حتى لا تكاد تفهم ما يقولون، ويخيل لك أنهم يقولون: شلطيف.. شلطيف.
وصلنا (الشلالة) ـ وهو حي رئيسي من أحياء مدينة القدس المحتلة ـ حيث كان ينتظرنا الأستاذ أكرم أبو اسنينة (أبو طلال)، وهو من أحبتنا وإخواننا الفضلاء من خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، وقد ترافقنا في عدة رحلات عمرة سابقة، وقد أخبرنا ـ حفظه الله ـ وبطريقته (الكوميدية) المضحكة، وبلهجته الخليلية الممدودة الطويلة التي تطول حكايتها:أن هذه المنطقة الرئيسية للمواجهات المستمرة بين شباب الخليل، أثناء المظاهرات والاحتجاجات وبين الصهاينة المحتلين.
مررنا بمدرسة شجرة الدر للبنات في طريقنا نحو مدينة الخليل القديمة، (القصبة)، وهو السوق المسقوف، و(خزق الفار) المتفرع عنه على يمين الداخل، وقد مررنا بالكثير من المحلات التراثية في صناعة الفروات، والجلود، وبيع الأطعمة التي تَرِدُ سوق الخليل من القرى المجاورة كدبس العنب، ولبن الجميد، والزعتر البلدي، وغير ذلك، وعند رؤية اللبن تذكرت تلك الطرفة التي يتناقلها أهل مدينة الخليل، وأهل عجور ـ وهي من قرى جبل الخليل سابقاً، ويحتلها ويسكنها الآن بعض اليهود المغاربة الأغبياء الذين تركوا جنات المغرب الجميلة، وجاؤوا إلى فلسطين الحبيبة مصدقين أكاذيب الصهاينة في أرض الميعاد ـ على حد سواء، وملخصها:
أن فلاحا فلسطينيا من قرية عجور المذكورة جاء بقربةِ لبنٍ مخيضٍ من قريته ليبيعها في مدينة الخليل ـ كحال الكثيرين غيره من الفلاحين الفلسطينيين الذين دأبوا على بيع منتجاتهم في المدن المجاورة والقريبة منهم ـ فباعها إلى تاجر ممن يَتَّجِرُونَ في بيع المشروبات المثلجة بخمسة قروش (شلن)، وذهب لبعض شأنه في مدينة الخليل، وفي طريق عودته رأى بائع المشروبات يبيع سائلاً أبيضَ من وعاء زجاجي يعلوه الثلج، وَتَرْشَحُ على جدران الوعاء نقاط الماء النَدِيِّ من أثر الثلج، فأعجبه المنظر، وقد أخذ العطش منه مأخذه، وشعر برغبة شديدة في تذوق ذاك السائل الأبيض البارد اللذيذ، فسأل البائع عن اسم هذا السائل العجيب!! فقال له بلهجته الخليلية الممدودة المحبوبة المعروفة:
هــــــــــــاداااااااااا اااااااااااااا ياغوووووووووووووورت يا خييييييييييييي.
يعني:
هذا (ياغورت) يا أخي.
وهو اسم غير عربي للبن!! لا أدري أإنجليزي هو أم تركي؟!
فسأله الفلاح سعر الكأس المملوء من ذاك (الياغورت!!)، فأخبره أنه بـ (شلن) فقط، فاشترى ذاك الكأس بـ (الشلن) الذي سبق وأن أخذه من البائع، قيمة قربته التي باعه إياها قبل قليل، والتي كانت تحوي عشرات الأكواب مثل هذا الكوب، وأخذ يتذوق اللبن ويتجرعه ويقول بلهجته العامية:
لولا مخافة الله لكول إنِّه هالياغورتات لَبَنَات بكرتنا البَرْكَة.
يعني:
لولا مخافة الله لأقول: أن هذا (الياغورت) لبن بقرتنا البرقاء.
مررنا ببعض المساجد القديمة جدا في السوق القديم حيث عمل تجار تلك السوق رغم حصار الصهاينة على استمرارها وديمومة الصلاة فيها.
لفت نظرنا التداخل الشديد بين مساكن مواطني الخليل ومساكن المغتصبين الصهاينة، حيث تجد مساكن الصهاينة فوق السوق مباشرة، وقد حمى مواطنو الخليل انفسهم من اعتداءات الصهاينة المستمرة عليهم بإلقاء الأوساخ والأتربة والحجارة وغير ذلك عليهم لترهيبهم وتهجيرهم من بيوتهم ومتاجرهم تحت حماية جيش الاحتلال، ببعض الشبك المعدني وغيره مما لا يحمي حقيقة طالما هناك معتدٍ متربص يُحِبُّ الإيذاء ويمارسه عمليا ليل نهار، وصبح مساء.
رأينا على سطح أحد المباني التي احتلها الصهاينة جنديا مدججا بالسلاح يحرس بيوت المستوطنين، ولما رآنا ننظر إليه أدار وجهه إلى الجهة الأخرى كأنه لا يرانا، وتشاغل عنا حتى لا يستفزنا، ولا نستفزه، وكفانا الله شر الاستفزاز والاشتباك.
وصلنا قرب المسجد الابراهيمي ـ والذي لا بد لدخوله من المرور عبر (المعاطة)، ـ كما يسميها سكان الخليل ـ وهي باب دَوَّارٌ لا يمر منه إلا شخص واحد، ولأنه يُشَبَّهُ باسطواناته البارزة والمتعددة، آلة تنظيف الدواجن من ريشها، يسمونها (المعاطة) للتشابه بينهما.
رفضت ـ وكذلك باقي إخواني الكرام وافقوني ـ على عدم الدخول إلى المسجد للصلاة فيه، ولا حتى زيارته، لأنه مبني على قبور، ولا تحل الصلاة في مسجد بني على قبر ـ فكيف بقبور ـ كما صح عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم؟! فعن عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالاَ:
«لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ ـ وَهْوَ كَذَلِكَ ـ:
«لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا».
رواه البخاري (435 و436)
شربنا ـ قرب المدخل المؤدي إلى المسجد ـ عصير الجزر الذي أصر إخواننا الفضلاء على أن نشربه، لكن ليس بمثل ثمن (ياغورت) العجوري، ثم رجعنا أدراجنا في اتجاه (الشلالة) حيث تركنا السيارة، وقد سألت مختار الحي وبعض تجاره عن بعض أقاربنا الذين كانوا يسكنون في تلك النواحي فأخبروني أنهم خارج تلك المنطقة.
رجعنا إلى حيث أوقفنا سيارتنا ـ وقد بدأت الدكاكين تفتح أبوابها في ساعة متأخرة من الضحى ـ وقد تسوق بعض إخواننا من خيرات الخليل الغذائية وخاصة لبن (الياغورت)، لكن ليس بمثل ثمن (ياغورت) العجوري السابق الذكر، بل بما هو رخيص نسبيا بالنسبة لغيرها من مدن الضفة الغربية كما أخبرني بعض الأخوة بذلك حين سؤالي عن حرصهم على التسوق هنا.
خرجنا من الشلالة في اتجاه مسجد ومقبرة الشيخ علي البكاء ـ وهو شيخ يُذكر من صلاحه كثرة بكائه من خشية الله ـ ليريني إخواننا الدار التي أوقفها أخونا الفاضل الشيخ نبيل إدعيس (أبو فارس) ـ جزاه الله خيرا، وحفظه الله ـ على المركز العلمي في فلسطين، وعلى المدرسة السلفية لتكون فرعا للمركز العلمي في مدينة الخليل.
وصلنا شارع الملك فيصل الأول ملك العراق في العهد الهاشمي، من جهة باب الزاوية، مرورا بمستشفى الملكة عالية؛ ملكة العراق، وقد فَصَّلْتُ لإخواننا بين الملكة المذكورة ـ والمسمى المستشفى باسمها من أيام العهد الأردني قب الاحتلال ـ وبين الملكة علياء الحسين ـ بنت طوقان (أم علي) ـ والتي لقيت حتفها في حادث طائرة عمودية في أواسط السبعينات من القرن الميلادي الماضي ـ والذي يسمى المطار الدولي قرب عمان باسمها ـ وبين الأميرة عالية بنت الحسين، والتي يظهر أنها سُميت باسم ملكة العراق السابقة ـ الذي سمي مستشفى الخليل باسمها ـ وسُمي مستشفى بيت لحم باسم الأميرة عالية بنت الحسين حيث كانت بِكْرُ الملك حسين بن طلال.
من اللافت للنظر في الخليل ـ وفي غيرها من محافظات الضفة الغربية ـ التشابه الشديد بين الشرطة الفلسطينية، والشرطة الأردنية في أكثر الصفات من حيث اللباس والتصرفات، وإن شئت أن تَطْرَدَ الحكمَ إلى الشرطة العراقية بعد الاحتلال فلن تخطئ، لأن الشرطة الأردنية هي المُدَرِّبَةُ للجهتين الفلسطينية في الغرب، والعراقية في الشرق.

اشترى لي الأخ صلاح قعدان ـ جزاه الله خيرا ـ حذاء جلديا خليليا (نابوليا) خفيفا، وأرسل في ذلك الأستاذ أكرم أبو اسنينة، ولم أذهب معه للقياس، فوجدته بعد لبسه في القدس صغيرا على قدمي الكبيرة!!.