المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح الأصول الثلاثة مطولًا (1)



أهــل الحـديث
18-04-2013, 12:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

سأبدأ إن شاء الله تعالى عرض شرح الأصول (http://emanrawdah.com/vb/showthread.php?t=12617) الثلاثة (http://emanrawdah.com/vb/showthread.php?t=12617) مطولًا على هيئة حلقات , سائلًا الله جل وعلا أن ينفعني به يوم ألقاه , وأن ينفع به , وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه .



بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


الحَمْدُ للهِ وَكَفَى , وَصَلَاةٌ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى لَاسِيَّمَا عَبْدِهِ المُصْطَفَى وَآلِهِ المُسْتَكْمِلِينَ الشَّرَفَا .
أَمَّا بَعْدُ ...
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ , وَأَحْسَنَ الهَدْيِّ هَدْيُّ مُحَمَّدٍ , وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا , وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ , وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .

لَمَّا كَانَ مِن مَقَاصِدِ التَّأْلِيفِ وَالتَّصْنِيفِ الَّتِي عَدَّهَا أَبُو حَيَّانَ :
(جَمْعِ مُفْتَرِقٍ) – وَذَكَرَ سَبْعَةً غَيْرَهُ وَهِيَ: اخْتِرَاعَ مَعْدُومٍ , أَوْ تَكْمِيلَ نَاقِصٍ , أَوْ تَفْصِيلَ مُجْمَلٍ , أَوْ تَهْذِيبَ مُطَوَّلٍ , أَوْ تَرْتِيبَ مُخَلَّطٍ , أَوْ تَعْيِينَ مُبْهَمٍ , أَوْ تَبْيِينَ خَطَأٍ - كَانَ هَذَا تَجْمِيعُ شُرُوحِ مَتْنِ الأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَأَدِلَّتِهَا , جَمَعْتَهَا مِن وَقْعِ شُرُوحٍ لِمَشَايِخٍ كِبَارٍ مَشْهُودٍ لَهُمْ بِالْعِلْمِ وَسَلَامَةِ المَنْهَجِ – نَحْسَبُهُمْ كَذَلِكَ وَاللهُ حَسِيبُهُمْ – وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ مَا فِي الشَّرْحِ مُسْتَفَادًا مِن دُرُوسِ شَيْخِنَا الهُمَامِ / أَحْمَدَ بنِ عُمَرَ الحَازِمِيِّ – حَفِظَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِ – كَمَا أَدْرَجْتُ مَعَهُ بَعْضَ تَعْلِيقَاتٍ لِلْشَّيْخِ العَلَامَّةِ / مُحَمَّدِ بنِ صَالِحِ بنِ العُثَيْمِيِّنَ – رَحِمَهُ اللهُ – كَمَا كَانَ الشَّيْخُ الحَازِمِيُّ يَعْتَمِدُ تَعْلِيقَاتَهُ أَثْنَاءَ شَرْحِهِ , كَمَا أَخْبَرَ هُوَ فِي ثَنَايَا الشَّرْحِ , وَكَذَلِكَ أَفَدتُكَ تَعْلِيقَاتٍ مِن أَصْحَابِ الفَضِيلَةِ :
الشَّيْخِ / صَالِحِ الفَوْزَانَ (حَفِظَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِ) .
الشَّيْخِ / صَالِحِ آلَ الشَيْخِ (حَفِظَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِ) .
الشَّيْخِ / عَبْدِ اللهِ الفَوْزَانَ (حَفِظَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِ) .
فَجَمَعْتُ الفَوَائِدَ وَرَتَّبْتَهَا , وَمَا كَانَ لِي مِن عَمَلٍ غَيْرِ ذَلِكَ , وَاللهَ أَسْأَلُ أَن يَرْزُقَنِي الإِخْلَاصَ , وَأَن يُبَارِكَ فِي هَذَا العَمَلِ وَيَنْفَعَنِي بِهِ وَيَنْفَعَ بِهِ غَيْرِي , وَأَن يَرْزُقَنِي بَرَكَةَ العِلْمِ المَنُوطَةَ بِعَزْوِهِ لِأَهْلِهِ , وَأَعُوذُ بِاللهِ مِن ثَوْبَيِّ الزُّورِ , وَأَن يَرْزُقَنِي اعْتِقَادًا صَحِيحًا خَالِصًا , وَاتِّبَاعًا صَوَابًا مُجَرَّدًا , إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَيْهِ .

وَهَذَا فَصْلٌ فِي أَهَمِيَّةِ العِلْمِ وَضَرُورَتِهِ وَفَضْلِهِ , وَالحَثِّ عَلَى تَوْجِيهِ مَعَالِي الهِمَمَ لِطَلَبِهِ , أُقدِّمُ بِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي المَقْصُودِ مِن شَرِحِ المَتْنِ , ألَّا يَسْتَثْقِلَ الطَّالِبُ طُولَ الشَّرْحِ وَتَفْرِيعَاتَهُ ؛ إِذْ فَشَى – وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ – بَيْنَ طَلَبَةِ العِلْمِ الاهْتِمَامُ بِالدُّرُوسِ العَامَةِ فَقَط دُونَ المَنْهَجِيِّ مِنْهَا , وَأَصْبَحَ الطُّلَّابُ لَا تَنْبَعِثُ هِمَمَهُم إِلَّا لِلَّطِيفِ مِنَ الدُّرُوسِ القَصَصِيةِ وَالوَعْظِيةِ العَامَّةِ – مَعَ عَدَمِ التَّقْلِيلِ مِن شَّأْنِ الوَعْظِ ؛ لَكِنْ لَا يَكُونُ هُوَ الأَصْلُ وَالأَسَاسُ الَّذِي يَنْشَطُ لَهُ الطُّلَّابُ عَلَى حِسَابِ الدُّرُوسِ المّنْهَجِيَّةِ الَّتِي تُؤَصِّلُ المَسَائِلَ وَتُحَرِّرُهَا – فَتَرَى الحُضُورَ فِي هَذِهِ الدُّرُوسِ كَثِيرًا وَللهِ الحَمْدُ , وَإِذَا نَظَرْتَ لِلدُّرُوسِ التَّأْصِيلِيَّةِ العِلْمِيَّةِ تَكَادُ تَرَى المَسْجِدَ خَالِيًا , وَإِلى اللهِ المُشْتَكَى , وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ ؛ بَلْ هُنَاكَ الكَثِيرُ مِنَ الأَمَاكِنِ وَالمَسَاجِدِ مَا تَكْتَظُ بِطَلَبَةِ العِلْمِ المُجْتَهِدِينَ فِي الطَّلَبِ وَالمُثَابِرِينَ عَلَيْهِ , أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُم ؛ وَإِن كُنَّا لَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ الفَضْلَ عِنْدَ الكِرَامِ مَأْمُولُ , وَلَا أَكْرَمَ مِنَ المَلِكِ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ .

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) . أخرجه من أصحاب الكتب الستة ابن ماجة : (1/81)، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" : (رقم : 2837)، والطبراني في "الأوسط" : (1/33) ، وغيرهم كثيرون ، وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث، فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه , وممن صححه الألباني في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" وقال بعد أن تكلم عن طرقه : (إن طرقه يقوي بعضها بعضاً، بل أحدها حسن، فالحديث بمجموع ذلك صحيح بلا ريب عندي) .
وعن إسحاق بن منصور الكوسج قال: سمعت إسحاق بن راهوية يقول: (طلب العلم واجب , ولم يصح فيه الخبر , إلا أن معناه أن يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته , وزكاته إن كان له مال , وكذلك الحج وغيره ...)
قال أبو عمر (ابن عبد البر) : (يريد إسحاق – والله أعلم – أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل , ولكن معناه صحيح عندهم , وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافًا متقاربًا) .
وقال أبو عمر : قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرضٌ متعينٌ على كل امرئ في خاصة نفسه , ومنه ما هو فرضٌ على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع .
واختلفوا في تلخيص ذلك , والذي يلزم الجميع فرضٌ من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له , ولا شبه له , ولا مثل له ......
وأن القرآن كلام الله , وما فيه حق من عند الله يلزم الإيمان بجميعه , واستعمال محكمه , وأن الصلوات الخمس فريضة , ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به , من طهارتها وسائر أحكامها , وأن صوم رمضان فرض , ويلزمه علم ما يفسد صومه , وما لا يتم إلا به ......
إلى أشياء يلزمه معرفة جُمَلها , ولا يُعذر بجهلها , نحو تحريم الزنا , وتحريم الخمر , وأكل الخنزير , وأكل الميتة , والأنجاس كلها , والسرقة , والربا , والغصب , والرشوة في الحكم , والشهادة بالزور , وأكل أموال الناس بالباطل ......
وما كان مثل هذا كله مما نطق به الكتاب , وأجمعت الأمة عليه , ثم سائر العلم وطلبه والتفقه فيه , وتعليم الناس إياه , وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم , والحكم به بينهم فرض على الكفاية , يلزم الجميع فرضه , فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين , لا خلاف بين العلماء في ذلك , وحجتهم فيه قول الله عز وجل : ﴿وَمَاكَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّفِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيِتَفَقَّهُوا فِي الدّيِنِ وَلِيُنذِرُواقَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِليْهِمْ﴾ . فألزم النفيرَ في ذلك البعضَ دون الكل , ثم ينصرفون فيعلمون غيرهم , والطائفة في لسان العرب: الواحد فما فوقه .
وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: (وجدنا علم الناس كله في أربع: أولها: أن تعرف ربك , والثاني: أن تعرف ما صنع بك , والثالث: أن تعرف ما أراد منك , والرابع: أن تعرف ما تخرج من دينك ؛ وقال بعضهم: ما يُخرجك من دينك) . اهـ (بتصرف يسير من صحيح جامع بيان العلم وفضله)
وفي تفضيل العلم والتعليم على نوافل العبادات , جاء حديث عبد الله بن سعد الأنصاري , ولبعضه شاهد من حديث أبي ذر مرفوعًا , وكلاهما لم يصح إسناده , ولكن له أصل من كلام ابن مسعود موقوفًا عليه من طرق بألفاظ مختلفة , قال : ((إنكم أصبحتم في زمان كثيرٌ فقهاؤه قليل خطباؤه , قليلٌ سائلوه كثيرٌ معطوه , العمل فيه خير من العلم , وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه كثيرٌ خطباؤه , قليلٌ معطوه كثيرٌ سائلوه , العلم فيه خير من العمل)) .
وقال ابن وهب : كنت عند مالك بن أنس فجاءت صلاة الظهر أو العصر وأنا أقرأ عليه , وأنظر في العلم بين يديه , فجمعت كتبي وقُمتُ لأركع , فقال لي مالكٌ: (ما هذا؟ قلت: أقوم للصلاة . قال: إنّ هذا لعجيب , فما الذي قُمتَ إليه بأفضل من الذي كنت فيه ؛ إذا صحت النيةُ فيه) .
وعن الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول : (طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة) .
ولكن هذا ليس مطلقًا بمعنى أن تُترك النوافل كلها لطلب العلم ؛ إذ الغاية من طلب العلم العمل به , فإن لم يعمل فلا ثمرة لعلمه هذا وساوى الجاهل في العمل بعلمه , فلا يسمى عالمًا , فعن أبي عصمةَ عاصمِ بن عصامٍ البيهقي قال ( بتُّ ليلة عند الإمام أحمد فجاء بالماءفلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان , فقال : سبحان الله , رجل يطلب العلملا يكون له وِرد بالليل).
أنشدعَمْرُو بْنُ الْجَاحِظِلِصَالِحِ بْنِ جَنَاحٍ فِي الْعِلْمِ :



تَعَلَّمْ إِذَا مَا كُنْتَ لَيْسَ بِعَالِمٍ



فَمَا الْعِلْمُ إِلا عِنْدَ أَهْلِ التَّعَلُّمِ



تَعَلَّمْ فَإِنَّ الْعِلْمَ زَيْنٌ لأَهْلِهِ



وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْعِلْمَ إِنْ لَمْ تُعَلَّمِ



تَعَلَّمْ فَإِنَّ الْعِلْمَ أَزْيَنُ بِالْفَتَى

مِنَ الْحُلَّةِ الْحَسْنَاءِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ


وَلا خَيْرَ فِيمَنْ رَاحَ لَيْسَ بِعَالِمٍ



بَصِيرٍ بِمَا يَأْتِي وَلا مُتَعَلِّمِ


وكان الثوري يقول : (لا أعلم من العبادة شيئًا أفضل من أن تعلِّم الناس شيئًا)



العلمُ فيه حياةٌ للقلوبِ كما



تحيا البلادُ إذا ما مَسَّها المطرُ



والعلمُ يجلو العمى عن قلبِ صاحِبِهِ



كما يجلى سوادُ الظلمةِ القمرُ


وفي الحض على استدامة الطلب , والصبر فيه على اللأواء والنصب , وكان أبو بكر الخياط يدرس جميع أوقاته , حتى في الطريق , وكان ربما سقط في جُرُفٍ أو خبطته دابة.
وكان بعضهم يقول: (متى تبلغ من العلم مبلغًا يُرضي؟ وأنت تؤثر النومَ على الدرس , والأكلَ على القراءة) .
قال الشيخ أبو الأشبال : هذا – والله – الحرص والاجتهاد , ولم يبلغ القوم ما بلغوا إليه إلا بعد بذل الجهد الشديد , والدأب في التحصيل والتعب الكثير , وسهر الليالي الطوال حتى حازوا ذلك الفضل والجاه العريض الباقي على أعقاب الليالي والأيام , ومن جَدَّ وجد .
كان مالك بن أنس يقول: (لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم , أن يترك التعلُّم) .
قال ابن أبي غسان : (لا تزال عالمًا ماكنت متعلمًا , فإذا استغنيت كنت جاهلًا) .

وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِيقول: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل اللَّه له طريقاً إلى الجنة،وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفرله من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم علىالعابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنالأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذبحظ وافر) رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ.
قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) :
وقوله ((وإن العلماء ورثة الأنبياء)) هذا من أعظم المناقب لأهل العلم , فإن الأنبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم , ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته ؛ إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده , ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء , كانوا أحق الناس بميراثهم , وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم , فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث , وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم , فكذلك هو في ميراث النبوة , والله يختص برحمته من يشاء.
قوله ((فمن أخذه أخذبحظ وافر)) أعظم الحظوظ وأجداها ما نفع العبد ودام نفعه له , وليس هذا إلا حظه من العلم والدين , فهو الحظ الدائم النافع الذي إذا انقطعت الحظوظ لأربابها , فهو موصول له أبد الآبدين , وذلك أنه موصول بالحي الذي لا يموت , فلذلك لا ينقطع ولا يفوت , وسائر الحظوظ تعدم وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها , كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ ؛ فإن الغاية لما كانت منقطعة زائلة تبعتها أعمالهم فانقطعت عنهم أحوج ما يكون العامل إلى عمله وهذه هي المصيبة التي لا تجبر عياذًا بالله , واستعانةً به , وافتقارًا إليه , وتوكلًا عليه و ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقوله موت العالم مصيبة لا تجبر , وثلمة لا تسد , ونجم طمس , وموت قبيلة أيسر من موت عالم , لمَّا كان صلاح الوجود بالعلماء ولولاهم كان الناس كالبهائم , بل أسوأ حالًا , كان موت العالم مصيبة لا يجبرها إلا خَلْفُ غيره له .

قال أبو الدرداء : ((من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد , فقد نقص عقله ورأيه)) , قال ابن القيم : فقوام الدين بالعلم والجهاد ؛ ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان , وهذا المشارك فيه كثير , والثاني: الجهاد بالحجة والبيان , وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل , وهو جهاد الأئمة , وهو أفضل الجهادين , لعظم منفعته , وشدة مؤنته , وكثرة أعدائه . قال تعالى : ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ فهذا جهاد لهم بالقرآن , وهو أكبر الجهادين , وهو جهاد المنافقين أيضًا ؛ فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين , بل كانوا معهم في الظاهر , وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم , ومع هذا فقد قال تعــالى : ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والبرهان .
والمقصـود : أن سبيل الله هي: الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله , ولهذا قال معاذ : (عليكم بطلب العلم , فإن تعلمه لله خشية , ومدارسته عبادة , ومذاكرته تسبيح , والبحث عنه جهاد) ؛ ولهذا قرن الله بين الكتاب المنزل والحديد الناصر , كما قال تعالى : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَابِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَلِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌشَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُوَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين , كما قيل:



فما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مُرهَفٍ



تقيم ظباهُ أخدعًا كلَ مائلٍ



فهذا دواءُ الداءِ من كلِ جاهلٍ



و هذا دواءُ الداءِ من كلِ عاقلٍ


قال كعب الأحبار: طالب العلم كالغادي الرايح في سبيل الله عز وجل , وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: إذا جاء الموتُ طالبَ العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد, وقال سفيان بن عيينة: من طلب العلم فقد بايع الله عز وجل .اهـ
في الحال التي يُسأل (يُطلب) بها العلم , الإخلاص الإخلاص , فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعترسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أول من تُسعر بهم النار يوم القيامةثلاثة , فذكرهم وذكر منهم رجلاً تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن , فأُتي بهفعرَّفه نعمه فعَرَفها , قال فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلمَ وعلمته وقرأتفيك القرآن , قال : كذبت , ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم , وقرأت القرآنليقال : هو قارئ . فقد قيل . ثم أُمر به فيسحب على وجهه حتى أُلقي في النار... (.
وقال الحافظ البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) : (وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض , فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه .. ) ثم قال ( وليتق المفاخرة والمباهاةبه , وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع , وعقد المجالس , فإن الآفةالداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه) , وقال أيضاً ( وليجعل حفظه حفظ رعاية لا حفظ رواية , فإن رواة العلوم كثير , ورعاتها قليل , ورب حاضر كالغائب , وعالم كالجاهل , وحامل للحديث ليس معه منه شيء...)
ثم ذكر الحسن البصري قوله ( همة العلماء الرعاية وهمة السفهاءالرواية) .اهـ
وعن أبي الدرداء قال: ((العلم بالتعلم)) .
وقال الريَّاشيُّ: سمعت الأصمعي وقد قيل له : حفظتَ ونسي أصحابك , قال: (درستُ وتركوا) .
وقال رجل لأبي هريرة : إني أريد أن أتعلم العلم , وأخاف أن أضيعه , فقال أبو هريرة: (كفى بتركك له تضييعًا) .
وقال الفرَّاء: (لا أرحم أحدًا كرحمتي لرجلين : رجل يطلب العلم ولا فهم له , ورجل يفهم ولا يطلبه , وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم) .
وكان يُقال : (علم علمك من يجهل , وتعلم ممن يعلم , إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت , وحفظت ما علمت) .
وعن عشق العلم , وأخذه بتلابيب العقول , عن محمد بن أحمد الواعظ قال : (قام أبو بكر الباغندي يصلي , فكبر , ثم قال : ((حدثنا محمد بن سليمان)) , فسبحنا به , فقال : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم * الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين ﴾) .
وروي عنه أيضًا قال : (قد حبب إلي الحديث , رأيت النبي , فلم أقل((ادع الله لي)) وقلت له : ((يارسول الله أيهما أثبت في الحديث : منصور أو الأعمش ؟ )) فقال لي: ((منصور , منصور)) ) , وقال ابن كثير : (إنه ربما يسرد بعض الأحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم , وهو لا يشعر) .
وختامًا أقول كما قال الراجز:



إن لم تكونوا مثلَهم فتشبهوا



إن التشبه بالكرام فلاحُ