المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نصيحة لمن ابتلي بالغلو في التبديع والتجريح



أهــل الحـديث
12-04-2013, 04:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


نصيحة إلى غلاة التبديع والتجريح 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
وبعد :
فهذا بحث مختصر أعددته لإخواني في الله ناصحاً محباً للخير لهم ، راجياً من الله تعالى القبول في الدارين وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وألا يجعل لأحد فيه شيئاً إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل .
أولا _ التحري والتبين والتثبت من الخبر :
فقد أمرنا (الله تعالى) بضرورة التبين والتثبت من الأخبار فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
وقال صلى الله عليه وسلم : «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ».
وقد ذكر الإمام النووي (رحمه الله) في كتابه رياض الصالحين باب الحث على التثبت فيما يقوله ويحكيه حديثا عن سمرة  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ».
ومن التثبت طلب سند الكلام ؛ أي تقول للناقل : من أخبرك بهذا الكلام ؟ أو ما مستندك ؟ وهذه الخصيصة من أهم خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،فتجدها في العلاقات الاجتماعية بين الناس ، وتجدها في طلب العلم بكل فنونه، فهم على سبيل المثال لا يقبلون قول أي إنسان في علم الحديث ما لم يعرف عند علماء الرجال وهذا نوع من التثبت والتحقق .
قال عبد الله بن المبارك (رحمه الله) : " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء فإذا قيل له من حدثك بقي " أي اتضح وانكشف .
وهنا يتأتى وزن ناقل الخبر من حيث القبول أو الرد , ومن ذلك الصدق والعدالة والضبط والإتقان والأمانة والاحتياط من مرض التحاسد بين الأقران والمعاصرين ، وفي ذلك يقول الإمام الذهبي (رحمه الله ) في ترجمة عفان الصفار : (كلام النظير والأقران ينبغي أن يتأمل ويتأنى فيه) .
وقد يُنسب للرجل ما لم يقله ، كما حدث لأحمد (رحمه الله) حين نُسب إليه القول أن الغسل لا يكون إلا من الإنزال ، فكان أحمد ينكر ذلك ويقول : ما أحفظ أني قلت به قط، فقيل له : بلغنا أنك تقوله ، فقال : الله المستعان ، من يكذب عليَّ في هذا أكثر من ذاك .
ورحم الله الإمام أحمد فما زال الكذب على العلماء ، والمؤمنين وتقويلهم ما لم يقولوه ، باق حتى يومنا هذا .
ثم أليس من أوثق عرى الإسلام النصيحة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((الدين النصيحة، قلنا لمن ؟ قال : لله عزَّ وجل ولكتابه، ولرسوله ، ولأئمة المؤمنين وعامتهم)) . فأين النصيحة للمؤمنين ؟.
وإني لناقلٌ لك من قبائح فهم العوام مما قصّه لنا ابن القيم (رحمه الله) فقال : ((قد نُسب إلى مالك (رحمه الله) القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها ، وهو كذب على مالك وأصحابه فكتبهم كلها مصرِّحة بتحريمه ، ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكاً يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين باباً واحداً ، وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع العلماء)) ثم قال : (( ونظير هذا الظن الكاذب، والغلط الفاحش ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة ، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر ... قال شيخنا -أي ابن تيمية- ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) على ذلك - أي إباحة ذكران العبيد المؤمنين - ... ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ، ويحرّمه بعضهم ، ويقول : اختلافهم شبهة ، وهذا كذب وجهل)) .
ثانيا : التأني في إصدار الأحكام :
والعجيب أن كثيراً من الناس قد يتحفظون ويتورعون عن أكل الحرام مثلاً ، أو عن شرب الخمر ، أو عن مشاهدة الصور العارية والمحرمة ، ولكن يصعب عليه كف لسانه ، فتجده يَفْرِي في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول ، ولهذا قرر العلماء أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به ، لاسيما إذا لاح انه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ، وما ينجو منه إلا من عصم الله .
قال الذهبي (رحمه الله) : " ما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس .
وسأل أحمد بن حنبل (رحمه الله) بعض الطلبة من أين أقبلتم؟ قالوا : جئنا من عند أبي كُريب، وكان أبو كُريب ينالُ من الإمام أحمد، وينتقده في مسائل، فقال نِعم الرجل الصالح! خذوا عنه وتلقوا عنه العلم، قالوا: إنه ينال منك ويتكلم فيك! قال أيُّ شيء حيلتي فيه، إنه رجلٌ قد ابتُلي بي .
وحدث الأعمش عن زِرّ بن حُبيش وأبي وائل ، وكان زر بن حُبيش علوياً ، يميل إلى علي بن أبي طالب، وكان أبو وائل عثمانياً، وكانوا أشد شيء تحاباً وتوادّاً في ذات الله عز وجل، وما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا، ولم يحدث أبو وائل بحضرة زر، لأنه كان أكبر منه سناً .
وقد حصل في هذا الزمان انشغال بعض أهل السنَّة ببعض تجريحاً وتحذيراً ، وترتَّب على ذلك التفرُّق والاختلاف والتهاجر، وكان اللائقُ بل المتعيَّن التواد والتراحم بينهم ، ووقوفهم صفًّا واحداً في وجه أهل البدع والأهواء المخالفين لأهل السنَّة والجماعة ، ومن المجروحين مَن يكون نفعه عظيماً، سواء عن طريق الدروس أو التأليف أو الخطب ، ويُحذَّر منه لكونه لا يُعرف عنه الكلام في فلان أو الجماعة الفلانية مثلاً .
ومن أهل السنَّة مَن إذا رأى أخطاء لأحد من أهل السنَّة كتب في الردِّ عليه، ثم إنَّ المردودَ عليه يُقابل الردَّ بردٍّ، ثم يشتغل كلٌّ منهما بقراءة ما للآخر من كتابات قديمة أو حديثة والسماع لِمَا كان له من أشرطة كذلك؛ لالتقاط الأخطاء وتصيُّد المثالب، وقد يكون بعضُها من قبيل سبق اللسان، يتولَّى ذلك بنفسه، أو يقوم له غيرُه به، ثم يسعى كلٌّ منهما إلى الاستكثار من المؤيِّدين له المُدينين للآخر، ثم يجتهد المؤيِّّدون لكلِّ واحد منهما بالإشادة بقول من يؤيِّده وذم غيره، وإلزام من يلقاه بأن يكون له موقف مِمَّن لا يؤيِّده، فإن لم يفعل بدَّعه تبَعاً لتبديع الطرف الآخر،وأتبع ذلك بهجره، وعَمَلُ هؤلاء المؤيِّدين لأحد الطرفين الذامِّين للطرف الآخر من أعظم الأسباب في إظهار الفتنة ونشرها على نطاق واسع، ويزداد الأمر سوءاً إذا قام كلٌّ من الطرفين والمؤيِّدين لهما بنشر ما يُذمُّ به الآخر في شبكة المعلومات (الانترنت) ، ثم ينشغل الشباب من أهل السنَّة في مختلف البلاد بل في القارات بمتابعة الاطلاع على ما يُنشر بالمواقع التي تنشر لهؤلاء وهؤلاء من القيل والقال الذي لا يأتي بخير، وإنَّما يأتي بالضرر والتفرُّق، مِمَّا جعل هؤلاء وهؤلاء المؤيِّدين لكلٍّ من الطرفين يشبهون المتردِّدين على لوحات الإعلانات للوقوف على ما يجدُّ نشره فيها، ويُشبهون أيضاً المفتونين بالأندية الرياضية الذين يشجِّع كلٌّ منهم فريقاً، فيحصل بينهم الخصام والوحشة والتنازع نتيجة لذلك.
قال ابن القيم (رحمه الله) ": وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ،وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ،وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ،وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ " .
وقال ابن بطة (رحمه الله) : " قد تعجبت من حالي فِي سَفَري وحَضَري مع الأقربين منّي والأبعدين ، والعارفين بي والمُنْكِرين، فإنّي وجدتُ بمكة وبخُراسان وغيرهما من الآفاق التي قصدتها ، من صِبايّ وإلى هَذَا الوقت، أكثر من لقيته بها، موافقًا أو مخالفًا، دعاني إِلَى مساعدته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له فِي فِعْله على قبولٍ ورِضى . فإنْ كنت صدقته فيما كان يقوله، وأجزت له ذلك كما يفعل أَهْل هَذَا الزّمان، سماني موافقًا، وإنْ وقفتُ فِي حرف من قوله، وَفِي شيء من فِعله، سماني مخالفًا. وإنْ ذكرتُ فِي واحدٍ منهما أن الكتاب والسُّنّة بخلاف ذلك، سماني خارجيًّا. وإنْ قُرئ عليَّ حديثٌ فِي التوحيد ، سماني مشبِّهًا، وإنْ كان فِي الرؤية سماني سالميًّا.
إِلَى أن قال : وأنا متمسكٌ بالكتاب والسُّنّة، متبرّئ إِلَى اللَّه من الشِّبْه والمِثْل، والضد والنّد، والجسم والأعضاء والآلات متبرّئ إِلَى اللَّه مِن كل ما يشبه الناسبون إليَّ ويدّعيه المدَّعون عليّ، مِن أن أقول فِي اللَّه شيئًا مِن ذلك ، أو قلته، أو أراه ، أو أتوهّمه ، أو أتجرّأه ، أو أنتحله ، أو أصفه به ، وإن كان على وجه الحكاية. سبحانه وتعالى عمّا يقولُ الظالمون عُلُوًّا كبيرًا " .
ثالثا : قبول الحق من المخالف :
فالحق يقبل لكونه موافقًا للدليل ،فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه ؛ ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق ، ويردون ما عندها من الباطل ، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي .
قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وفي دعاء النبي  : "... «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
قال ابن القيم (رحمه الله) : فمن هداه الله – سبحانه - إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى الله لما اختُلف فيه من الحق .
وقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ومن العدل فيهم قبول ما عندهم من الحق .
قال ابن تيمية: "وقد قال سبحانه: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان، فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالماً له" اهـ .
وهكذا أدبنا القرآن الكريم حين ساق كلام بلقيس (وقت كفرها) ثم وافقها عليه ؛ قال تعالى حاكيا عنها : {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
ولما دلّ الشيطان أبا هريرة  إلى آية الكرسي لتكون له حرزًا من الشيطان، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي  : «أما إنه قد صدقك وهو كذوب» .
وقد قبل عليه الصلاة والسلام الحق من بعض اليهود ففي سنن النسائي عن قتيلة - امرأة من جهينة - «أن يهوديا أتى النبي  فقال إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون : والكعبة فأمرهم النبي  إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت».
بل يقبل الحق وإن جاء على لسان البهائم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة  قال رسول الله  : «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تكلم؟! فقال رسول الله  : فإني أومن به وأبو بكر وعمر» قال أبو هريرة قال رسول الله  : «بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب فقال له من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس سبحان الله فقال رسول الله  فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر» .
وكان معاذ بن جبل  يقول : اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرًا-أو قال فاجرًا - واحذروا زيغة الحكيم، قالوا : كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق ؟ قال: إن على الحق نورًا.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : " ولكنّ الحق يقبل من كل من تكلم به .
إن من الإنصاف أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب ، حتى لو كان فاسقاً، بل حتى لو كان مبدعاً، بل حتى لو كان كافراً.
ولذلك استنكر ابن تيمية (رحمه الله) على بعض المنتسبين للسنة فرارهم من التصديق، أو الموافقة على حق يقوله بعض الفلاسفة، أو المتكلمين، بسبب النفرة والوحشة، أو إعراضهم عن بعض فضائل آل البيت .
وقال (رحمه الله) : لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني ، فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله ، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي (رحمه الله) في تفسيره : إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع ، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ، ويعتبر قربها من الحق وبعدها عنه " .
وهكذا تلوح لك في هذه النصوص ، أمارات الإنصاف والعدل ، حتى مع الخصوم المباعدين، فضلاً عن الإخوة المتحابين.
وبهذا استمال النبي  قلوب أعدائه، وعالج قسوتها وشماسها ونفارها، حتى لانت واستقادت وقبلت الحق، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة الصافية، والإحسان إلى الآخرين بالقول والفعل، من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب: { (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) }.
[B]رابعا : العـدل والإنصاف :[B]
فليست العصمةُ لأحد بعد رسول الله  ؛ فلا يسلم عالِمٌ من خطأ، ومن أخطأ لا يُتابَع على خطئه، ولا يُتخذ ذلك الخطأ ذريعة إلى عيبه والتحذير منه ، بل يُغتفر خطؤه القليل في صوابه الكثير ، ومن كان من هؤلاء العلماء قد مضى فيُستفادُ من علمه مع الحذر من متابعته على الخطأ، ويُدعى له ويُترحَّم عليه، ومَن كان حيًّا سواء كان عالماً أو طالب علم يُنبَّه على خطئه برفق ولين ومحبَّة لسلامته من الخطأ ورجوعه إلى الصواب .
ومن العلماء الذين مَضوا وعندهم خلل في مسائل من العقيدة ، ولا يستغني العلماء وطلبة العلم عن علمهم ، بل إنَّ مؤلَّفاتهم من المراجع المهمَّة للمشتغلين في العلم، الأئمة : البيهقي والنووي وابن حجر العسقلاني.
قال سعيد بن المسيب (93هـ) : "ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاَّ وفيه عيب، ولكن مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أنَّه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله.
وقال غيره: لا يسلم العالم من الخطأ، فمَن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو عالم، ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً فهو جاهل" .
وقال عبد الله بن المبارك (181هـ) : "إذا غلبت محاسنُ الرَّجل على مساوئه لَم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لَم تُذكر المحاسن" .
وقال الإمام أحمد (241هـ) : "لَم يعبر الجسر من خراسان مثل إسحاق (يعني ابن راهويه) ، وإن كان يخالفنا في أشياء ؛ فإنَّ الناسَ لم يزل يخالف بعضُهم بعضاً" .
وقال أبو حاتم ابن حبان (354هـ) : "كان عبد الملك ـ يعني ابن أبي سليمان ـ من خيار أهل الكوفة وحفاظهم ، والغالب على من يحفظ ويُحدِّث من حفظه أن يهم ، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبْتٍ صحَّت عدالتُه بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة ؛ لأنَّهم أهل حفظ وإتقان ، وكانوا يحدِّثون من حفظهم ، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في الروايات، بل الاحتياط والأولى في مثل هذا قبول ما يروي الثبت من الروايات، وترك ما صح أنَّه وهم فيها ما لم يفحش ذلك منه حتى يغلب على صوابه، فإن كان كذلك استحق الترك حينئذ" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) : "ومِمَّا ينبغي أن يُعرف أن الطوائفَ المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدِّين والكلام على درجات ، منهم مَن يكون قد خالف السنَّةَ في أصول عظيمة،ومنهم مَن يكون إنَّما خالف السنَّةَ في أمور دقيقة، وَمن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعدُ عن السنَّة منه، فيكون محموداً فيما ردَّه من الباطل وقاله من الحقِّ، لكن يكون قد جاوز العدل في ردِّه بحيث جحد بعضَ الحقِّ وقال بعضَ الباطل، فيكون قد ردَّ بدعةً كبيرة ببدعة أخفَّ منها، ورد باطلاً بباطل أخفَّ منه، وهذه حالُ أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنَّة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لَم يَجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعةَ المسلمين يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأَهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثيرٌ من سلف الأمة وأئمتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة ، بخلاف مَن والى موافقَه وعادى مخالفَه ، وفرَّق بين جماعة المسلمين ، وكفَّر وفسَّق مخالفَه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلَّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات" .
وقال أيضا : "وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنَّه بدعة، إمَّا لأحاديث ضعيفة ظنُّوها صحيحة، وإمَّا لآيات فهموا منها ما لَم يُرَد منها، وإمَّا لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتَّقى الرَّجل ربَّه ما استطاع دخل في قوله : {بَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وفي الصحيح أنَّ الله قال: " قد فعلتُ " .
وقال الإمام الذهبي (748هـ) : " ثم إن الكبير من أئمَّة العلم إذا كثر صوابُه ، وعُلم تحرِّيه للحقِّ ،واتَّسع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعُرف صلاحُه وورعه واتِّباعه ، يُغفر له زلَله ، ولا نضلِّله ونطرحه ، وننسى محاسنه ، نعم ! ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ، ونرجو له التوبة من ذلك" .
وقال أيضاً : " ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه ، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة " .
وقال أيضاً: "ولو أنَّ كلَّ من أخطأ في اجتهاده ـ مع صحَّة إيمانه وتوخِّيه لإتباع الحقِّ ـ أهدرناه وبدَّعناه، لقلَّ مَن يسلم من الأئمَّة معنا، رحم الله الجميعَ بمنِّه وكرمه" .
وقال الحافظ الذهبي أيضًا : قال أبو الحسن الصفَّار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسُئل عن تفسير أبي بكر القفال [الشاشي الشافعي ت 365] ، فقال: قدَّسه من وجه، ودنَّسه من وجه. أي: دنَّسه من جهة نصره للاعتزال .
قلت [الذهبي ] : قد مَرَّ موته، والكمال عزيز، وإنما يُمدح العالم بكثرة مَاله من الفضائل، فلا تُدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها،وقد يُغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق،ولا قوة إلا بالله .اهـ
وقال في ترجمة ابن عبد الحكم :" قُلْتُ: لَهُ تَصَانِيْفُ كَثِيْرَةٌ، مِنْهَا: كِتَابٌ فِي (الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ) ، وَكِتَابُ (أَحْكَامِ القُرْآنِ) ، وَكِتَابُ (الرَّدِّ عَلَى فُقَهَاءِ العِرَاقِ) ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَمَا زَالَ العُلَمَاءُ قَدِيْماً وَحَدِيْثاً يَرُدُّ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ فِي البَحْثِ، وَفِي التَّوَالِيفِ، وَبمثلِ ذَلِكَ يتفَقَّهُ العَالِمُ، وَتتبرهَنُ لَهُ المشكلاَتُ، وَلَكِن فِي زَمَانِنَا قَدْ يُعَاقَبُ الفَقِيْهُ إِذَا اعتنَى بِذَلِكَ لِسُوءِ نِيَّتِهِ، وَلطلبِهِ للظُّهورِ، وَالتَّكَثُّرِ، فَيَقُوْمُ عَلَيْهِ قضَاةٌ وَأَضدَادٌ، نَسْأَلُ اللهَ حُسْنَ الخَاتمَةِ، وَإِخْلاَصَ العَمَلِ ".
وقال أبو هلال العسكري (رحمه الله) : "ولا يضع من العالم الذي برع في علمه : زلة ، إن كانت على سبيل السهو والإغفال ، فإنه لم يعر من الخطأ إلا من عصم الله جل ذكره ، وقد قالت الحكماء : الفاضل من عدت سقطاته ، وليتنا أدركنا بعض صوابهم ، أو كنا ممن يميز خطأهم "
وقال ابن رجب الحنبلي (795هـ) : "ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير من صوابه" .
وقال الذهبي (رحمه الله) : وهو يترجم لأبي محمد بن حزم صاحب المُحلّى وشيخ الظاهرية ، قال: ولي ميل لأبي محمد بن حزم، لمحبته للحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل، وفي المسائل البشعة في الفروع والأصول، وأقطع - لاحظ قوله : - وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكني لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه. اهـ
وقال ابن رجب (رحمه الله) : " أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة، مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم فكان ماذا ؟ لقد انغمر ذلك في بحر علمهم ،وحُسم مقصدهم ،ونصرهم للدين ،والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً ، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ، ولا ينفع فيها كشفه وبيانه".
خامسا : الرفق واللـين :
فيما يتعلَّق بالردِّ على مَن أخطأ، ينبغي مراعاة ما يلي :_
1_أن يكون الردُّ برفق ولين ورغبة شديدة في سلامة المخطئ من الخطأ، حيث يكون الخطأ واضحاً جليًّا.
2_إذا كان الخطأ الذي رد عليه فيه غير واضح، بل هو من الأمور التي يحتمل أن يكون الرادُّ فيها مصيباً أو مخطئاً، فينبغي الرجوع إلى العلماء للفصل في ذلك، وأمَّا إذا كان الخطأ واضحاً، فعلى المردود عليه أن يرجع عنه؛ فإنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل.
3_ إذا حصل الردُّ من إنسان على آخر يكون قد أدَّى ما عليه، فلا يشغل نفسَه بمتابعة المردود عليه، بل يشتغل بالعلم الذي يعود عليه وعلى غيره بالنفع العظيم.
4_ لا يجوز أن يَمتحن أيُّ طالب علم غيرَه بأن يكون له موقف من فلان المردود عليه أو الرَّاد ، فإن وافق سلم ، وإن لم يُوافق بُدِّع وهُجر، وليس لأحد أن ينسب إلى أهل السنَّة مثل هذه الفوضى في التبديع والهجر، وليس لأحد أيضاً أن يصف من لا يسلك هذا المسلك الفوضوي بأنَّه مُميِّع لمنهج السلف، والهجرُ المفيد بين أهل السنَّة ما كان نافعاً للمهجور، كهجر الوالد ولده ، والشيخ تلميذه، وكذا صدور الهجر مِمَّن يكون له منزلة رفيعة ومكانة عالية، فإنَّ هجرَ مثل هؤلاء يكون مفيداً للمهجور، وأمَّا إذا صدر الهجر من بعض الطلبة لغيرهم، لاسيما إذا كان في أمور لا يسوغ الهجر بسببها، فذلك لا يُفيد المهجور شيئاً، بل يترتَّب عليه وجود الوحشة والتدابر والتقاطع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له عن يزيد بن معاوية : "والصواب هو ما عليه الأئمَّة، من أنَّه لا يُخَصُّ بمحبة ولا يلعن، ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم، لاسيما إذا أتى بحسنات عظيمة، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنَّ النَّبيَّ  قال: "أوَّل جيش يغزو القسطنطينيَّة مغفورٌ له"، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري  ... .
فالواجب الاقتصاد في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به؛ فإنَّ هذا من البدع المخالفة لأهل السنَّة والجماعة".
وقال أيضا :"وكذلك التفريق بين الأمَّة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله  " .
وقال أيضا : " وليس لأحد أن ينصب للأمَّة شخصاً يدعو إلى طريقته ، ويُوالي ويُعادي عليها غير النَّبيِّ  ، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويُعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمَّة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويُعادون" .
وقال أيضا : " فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك نظر فيه : فإن كان قد فعل ذنباً شرعيًّا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعيًّا لم يجز أن يُعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره.
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البرِّ والتقوى، كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. ".
قال الحافظ ابن رجب في شرح حديث {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} : "وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب ، وقد حكي الإمام أبو عَمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد _ إمام المالكية في زمانه _أنَّه قال : جماعُ آداب الخير وأزمته تتفرَّع من أربعة أحاديث: قول النَّبيِّ  : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، وقوله  : "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله للذي اختصر له في الوصيَّة : (لا تغضب) ، وقوله  : "المؤمن يُحبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه" .
أقول : ما أحوج طلبة العلم إلى التأدُّب بهذه الآداب التي تعود عليهم وعلى غيرهم بالخير والفائدة، مع البُعد عن الجفاء والفظاظة التي لا تُثمر إلاَّ الوحشة والفُرقة وتنافر القلوب وتمزيق الشمل .
سادسا : الأخــوة :
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .
وعن ابن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله  قال دب إليكم داء الأمم قبلكم البغضاء والحسد والبغضاء هي الحالقة ليس حالقة الشعر ولكن حالقة الدين والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك أفشوا السلام بينكم ".
فكل ما يقوي وحدة الصف المسلم، ولا يترتب عليه محظور شرعي فهو مطلوب، وهكذا كان هدي السلف رضوان الله عليهم .
فقد صح عن ابن مسعود  أنه عاب على عثمان  صلاته بمنى أربعا وصلى معه , فقيل له في ذلك فقال : الخلاف شر .
وفي المدونة : " قلت لمالك : إنه يلينا قوم يرون خلاف ما ترى في السهو , يرون أن ذلك عليهم بعد السلام فيسهو أحدهم سهوا يكون عندنا سجود ذلك السهو قبل السلام , ويراه الإمام بعد السلام فيسجد بنا بعد السلام ؟ قال: اتبعوه فإن الخلاف أشر .
وقال ابن تيمية (رحمه الله) : "ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب , واجتماع الكلمة خوفا من التنفير , عما يصلح كما ترك النبي  بناء البيت على قواعد إبراهيم ; لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية , وخشي تنفيرهم بذلك. ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم. وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان , وأنكر عليه فقيل له في ذلك , فقال: الخلاف شر ; ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة , وفي وصل الوتر , وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول , مراعاة ائتلاف المأمومين , أو لتعريفهم السنة , وأمثال ذلك " .
وقال (رحمه الله) : (أهل التوحيد... وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقاً ولا اختلافاً بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له) .اهـ
وقال ابن تيمية (رحمه الله) : (ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه، دون موافقه، في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات). اهـ
وقال (رحمه الله) : (وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق، حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى كما يفعله بعض أهل المشرق فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا). اهـ
وقال (رحمه الله) : "ومما ينبغي أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة.
ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة...ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك" .اهـ
وقال (رحمه الله) : أما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير وقد قال النبي لأصحابه يوم بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم لا نصلى إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر وقال قوم لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام. اهـ
وقال الشاطبي (رحمه الله) :"وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات ؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً ، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية ؛ لأن الكليات نص من الجزئيات غير قليل، وشأنها في الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب، وأما الجزئي فبخلاف ذلك ، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له ؛ كالزلة والفلتة" .اهـ
وقال ابن تيمية : (فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم يُنْكِر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم يُنْكِر على من ترجح عنده تقليد الشافعي، ونحو ذلك) .اهـ
وقال ابن القيم : (وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً) .اهـ
وقال ابن القيم (عن الاختلاف في المسائل الاجتهادية) : (وهذا النوع من الاختلاف، لا يوجب معاداة ولا افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل، فإن الصحابة  اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة... فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة، ولا ذم بل يدل المستفتي عليه ، مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه ، فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق. اهـ
ولقد ضرب لنا سلفنا أمثلة شامخة في هذا الباب_ من ذلك :
1-ما قاله يونس الصدفي (264هـ) قال: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: (يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة) ؟!
2-ما رواه ابن عبد البر عن العباس بن عبد العظيم العنبري قال: كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبًا على دابة، قال : فتناظرا في الشهادة، وارتفعت أصواتهما حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف، قام أحمد فأخذ بركابه.
3-وقال الإمام أحمد بن حنبل عن إسحاق بن راهويه: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا) .

أَعَدَّهَا _الفَقِير إِلى عَفْوِ ربِّه
 محمد بن عبد العزيز 
(الاثنين 13 جماد ثاني 1432 هـ)