المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من عبقرية الإمام أحمد في قوله "الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله"



أهــل الحـديث
09-04-2013, 10:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


من عبقرية الإمام أحمد في قوله "الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله"

كلَّما وقفتُعندَ بعض الألفاظ المنقولة عنِ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وجدتُ دقَّةً وقوةًربما لا تلحظها في كثيرٍ ممَّن اشتُهر عنه وضْع المطوَّلات، ويظهر لي مدَى ماتعرَّض له الإمام مِن إجحاف عندَ الحديث على عالميَّتِه من ناحية الفِقهوالنَّظَر.

وقدِ اشتُهِر الإمام - رحمه الله تعالى - بقلَّة التصنيف،ومع ذلك قَدَّرَ اللهُ تعالى له أن يحملَ أقرانُه وطلبتهوتلاميذه عنه هذا العبءَ، فلا أعلمُ إمامًا بلَغ الاهتمام برَصْد قوله وتدوينه فيمختلف العلوم الشرعيَّة ما بلغه الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - حتى إنَّك تجِدالرواياتِ الكثيرةَ حول المسألة الواحدة، وبالرغم مِن اعتبار البعض أنَّ هذهالمسألة مِن مثالب المذهب الحنبلي؛ إلا أنَّني أراها مِن الأدلة البَيِّنَة على مدىعناية النَّقْل ودقَّته، ووفْرة ناقليه، فلا يعني النَّقْل لقولٍ واحدٍ لغير الإمامأحمد - رحمه الله تعالى - في مسألةٍ أنَّ هذا العالِم أو الشيخ لم يَقُلْ إلا قولاًواحدًا، فعدم النَّقْل ليس نَقْلاً للعدم! فالدعوى أنَّ الأئمة لهم روايات في مسائلبحُكم تشابُكِها واقترابها مِن بعض، وبحُكم التغيرات التي قد تحصُل للعالِم فيمشوار طلبِه وتحصيله، وما قد يُسبِّبه الاختلاف بيْن الفتاوى والأحكام مِن تنوعللرِّوايات في المسألة … إلى غير ذلك مِن عوامل، فامتازَ مَن نُقِلت أقوالهوحُفِظَت، على مَن ضاعتْ أقواله أو اختُصِرت.

ثم يأتي دَور فِقه الأقوالوالجمْع بينها، وبيان الصُّور التي يلتحق بها كلُّ قول، وقد يجمع البعضُ أقوالاًللإمام أحمد - رحمه الله تعالى - تتناول صورًا متقاربة، إلا أنَّها ليستْ متطابقة،معتبرًا إيَّاها من تعدُّد الروايات، وليس الأمر في حقيقته على هذاالنحو.

وقد شهِد عصر الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - ارتفاعَ نجْمالمتكلِّمين بعد أن راجتْ بضاعتهم لدَى الخليفة المأمون، وموَّهوا على الكثير منالناس؛ ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْأُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاًمِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هود: 116]، فكان مِن هذه البقية إمامُ أهلالسُّنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى.

لكن النهي عنِ الفساد يستلزم العِلمَ به، والنهي عن السُّوء يستلزمتصوُّرَه، فلا يُتَصَوَّر النهي عن شيء مجهول، أو ما لا تُعلم له أبعادٌ وملامح،فمراحلُ النهي عن الفساد يُمكن تحليلها إلى:
1-فَهم المنهج الشرعي بدقَّة وعمق.
2-العِلم بالمخالفة، والوقوف على شُبهاتها.
3-بيان موطِن المخالَفة بدقَّة.

أمَّا فَهم المنهج الشرعي، فقد يشترك فيه عددٌ مِن علمائناوأئمَّتنا مِن العلماء الربانيِّين، لكن القليل منهم مَن يستطيع فَهم النوازلوالمخالفات التي تطْرأ على المجتمع المسلِم، ويبيِّن عوارها، سيَّما إذا كانتْ هذهالمخالفات تعتمد على مناهجَ فكريَّة غير معتادة عندَ علماء الشريعة، ويستلزمفَهمُها قدراتٍ خاصَّة لتحليل آحادها، والغوْص في معانيها؛ لئلاَّ نصنع إشكالاً فيغير محلِّه إنْ كان ما يعتري المنهج المخالِف غرابة اللفْظ والاصطلاح، لا حقيقةالمخالَفة، أو تمرُّ علينا المخالفة دون تنبُّه إنْ كانت تحمل في غرابتها مخالَفة،تحميها - الغرابة - مِن أن يقف العلماءُ على كُنهها.

وقد كان مِن الأصولالفاسِدة التي بنَى عليها المعتزلة آراءهم أنَّقضايا العدل والتوحيد سابقةٌ علىفَهْم كلام الشارع، ولعلَّ هذا هو السرُّ في انتحالهم لطريقتهم المشهورة، والتينُسبت إليهم في تناول عِلم أصول الفقه، وكذا هو السبب في ادِّعائهم أنَّ العقل أصلُالنقل، فلا يعود النقلُ على العقل بالإبطال، فعند التعارُض - بوهمهم - يُقدَّمالعقل؛ لئلاَّ ينهدم بالتَّبع دليلُ النقل، فينهدمَا جميعًا!

فلمَّاتعرَّضوا لصفات الله - تبارك وتعالى - كان لازمُ مذهبهم إثباتَ هذه الصِّفات بمنأًىعن النص الشرعي مِن حيث الأصل، فإذا ثبتتِ الصفة على هذه الجِهة - سواء سلبيَّة أوإيجابيَّة - وورد في النصوص الشرعيَّة ما يخالف ما وصلتْ إليه عقولُهم مِن هذهالصفات، وجَب تأويلُ تلك الصِّفة، وصرْفها عن حقيقتها؛ لتتلاءمَ النصوص مع ماوصَلوا إليه بعقولهم، وبناءً على ذلك وصلوا إلى القضية التي اشتهرتْ في عصْر الإمام - رحمه الله - باسم "قضية خلْق القرآن"، فقد نفَوا عنالله - تبارك وتعالى - صفةَ الكلام، وبالتالي انتحلوا فِكرةَ أنَّ القرآن ليسكلامًا لله - تبارك وتعالى - وإنَّما هو مخلوق له!

غير أنَّ المعتزلة وغيرهممِن المتكلِّمين - فيما بعد - لم يكتفوا بوضْعِ ما وصلوا إليه مِن نتائجَ مغلوطة فيكُتبهم الكلامية العَقَدية؛ وإنَّما طفح ذلك على مناحٍ شتَّى مِن أقوالهمومصنَّفاتهم في غير عِلم الكلام والعقائد، فظَهر الأثَر الكلامي والعقدي فيمصنَّفاتهم اللُّغوية كأبي عليٍّ الفارسي وابن جنِّي والمبرِّد، وفي اختياراتهمالبلاغية كالجاحظ، وحتى إنْ كانت متعلِّقةً بالتفسير كالزمخشري في "الكشَّاف"، كما ظهرتْ في أقوالهم ومصنَّفاتهمالأصوليَّة.

وقد دَرَجَ أغلب الأصوليِّين على تعريف الحُكم الشرعي بأنَّه "خطاب الله المتعلِّق بفِعل المكلَّف…"، على تفصيلاتٍفي ذلك في كونه خطابَ الله أو مُقتضاه، وفي إسناد الخطابِ إلى الشارع أو الشَّرْع،وفي جمع "فعل" إلى أفعال، وما ورَد على التعريف مِنقيود… إلى آخر ذلك، وكان لا بدَّ أن يكونَ مِن اللافت استخدام لفظ "خطاب"، وعدم استخدام لفظ "كلام"،إلا أنَّ هذا الاختلافَ بيْن اللفظين لم يسترعِ الكثير مِن انتباه واضعي المتونوشُرَّاحِها، ومضوا على نقْل هذا اللفظ لاحقًا عن سابِق، بل إنَّ مصنَّفاتالأصوليِّين مِن أهل السُّنة والجماعة درجتْ على نفْس المنوال، وإلى وقتناالحاضِر!

وإذا أردْنا أن نعرِف سبب اختيار لفْظ أو ترجيحه على آخَر،فلنستدعِ الألفاظ التي كانتْ مُرَشَّحة للاستخدام خلافًا لهذا اللفظ، ونبْحث فيلوازم استخدام كلِّ لفظ، فلا شكَّ أنَّ انتهاج هذه الطريقة مُبَيِّنٌ الدَّاعيلاستخدام لفْظ، وطرْح ما عداه.

لا شكَّ أنَّ اللفظ المتبادر للاستعمال فيهذا التعريف هو لفظ "كلام الله…"، أو "كلام الشارع…"، أو "كلام الشرع…"،ونحوه كـ"قول"، على الخِلاف في اللفظ المسند إليه،والعدول عنه إلى غيره لا بدَّ وأن يكون ناتجًا عن اختيار وإرادة، يسبقُها بحْث،وإلا كان عبثًا أو تقليدًا، وإذا صحَّ التقليد والتمرير عندَ الخالف، فلا يصح أنيكونَ كذلك عندَ السابق؛ لأنَّه ما انتقل إلا لداعٍ، سيما وما نعرِفه من الدقَّة فيوضْع هذا النوع مِن هذه المصنَّفات؛ لانبناء عِلم الفقه عليها، وركونه إليها، بلويظهر ذلك بوضوحٍ في نَفَس المتأخِّر، وما ظهَر من معارك على ألفاظ الحدودوالتعريفات، وإيراد ما لم يحصلْ في غيره من العلوم كمًّا وكيفًا، فالتدقيق في ألفاظعِلم الأصول بين منتحلِيه لا يُدانيه غيره مِن العلوم، حتى وإنْ كانتِ الألفاظالمستخدَمة في تلك العلوم - غير الأصول - أكثرَ دقَّةً في نفْس الأمر، لكن اكتسابهاللدقَّة ربَّما لأمْرٍ خارجيٍّ، كعِلم العقيدة، فإنَّ ألفاظها اتَّسمت بالدقَّةلانتحال الألفاظ الشرعيَّة الواردة، لا لتدقيق مُنتحلي هذا العِلموحْدَهم.

إذا ثبَت هذا، فإنَّ استعمال لفظ "كلامالله…"، أو"قول الله …"، ونحوهما لا يتناسَب معاعتقاد المعتزلي من نفْي صِفة الكلام عن ذاته - تبارك وتعالى - وإذا كان المقصودُبالحُكم مدلول نَفْس النصِّ الشرعي بشرْطه؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43]، فإنَّ مدلوله هو الحُكمعندَ جمهور الأصوليِّين، فلا يصحُّ إطلاق لفظ "كلام"،أو "قول" على النصِّ السابِق بناءً على المعتقَدالمعتزلي مِن أنَّ القرآن مخلوق، فكان لا بدَّ مِن استخدام لفظ آخَر يُشير إلىالنصِّ السابِق ونحوه، دون أن يخدش المعتقد المعتزلي، وقد يُشير أيضًا ضمنًا إلىهذا المعتقد، فوقَع التوافُق على استعمال لفظ "خطابالله…"، قال أبو الحسين البصري: "لأنَّ النَّسخ يدْخل الأَفْعَال، ويَقَعبها، كمَا يدْخل الخِطاب، ونقدِّم النَّسْخ على الإِجْماع؛ لأَن النَّسْخ يدْخل فِيخطاب الله سُبْحانه وخطاب رَسُوله - صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - دون الإجماع"[1] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn1)، وتظهر المقابَلة بيْن ما أسْندَه إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبيْن ما أسندَه لله - عزَّ وجلَّ - في قوله: "لأَنالقَرَائِن قد تكون شَاهدَ حَال وَغير ذَلِك مِمَّا ليْس من فعل الْمُتَكَلّم - صلىالله عليه وسلم - بَاب فِي حسن دُخُول الْمجَاز فِي خطاب الله وَفِي أَنه قد خَاطببِه - صلى الله عليه وسلم -"[2] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn2)، فأسند إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -كلامًا،وإلى الله - تبارك وتعالى - خِطابًا، وقوله: "وَمِنْها قَوْلهم: لَو خَاطب اللهبالمجاز والاستعارة، لصَحَّ وَصفُه بأنَّه مُتَجَوِّزٌ فِي خِطابه وبأَنَّهمستعير"[3] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn3)، وغيره من النقول، وسيأتيبعضُها.

ونرى أنَّ استعمال هذا اللفظ فيه مِن دقَّةالمعتزلة - بحسبِ معتقدهم - وذلك أنَّنا بحثنا في معاني هذا اللفظ، فوجدْنا ممَّاقد يكون دافعًا للمعتزلة لاستعمال هذا اللفظ عددًا من معانيه:
1-الخَطب: سببُ الأمْر[4] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn4)، وربَّما يتعلَّق هذا بشكل مباشِر باعتقاد أنَّالقرآن مخلوق بحسبِ المعتزلة، فكأنَّ خطابه - تبارك وتعالى - سبب في حُدوث هذاالنص.

2-أنَّ الخطابَ يَستدعي مخاطبًا، فالخطاب "كلُّ كلام بيْنك وبين آخَر"[5] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn5)، فإذا كان المخاطَب - وهو المكلَّف - مُحْدَثٌ بلاشكٍّ، فلازمه أنَّ الخطاب محدَثٌ!

3-أنَّالخطبة تستدعي "المرة"[6] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn6)، وأنَّ لها أولاً وآخِرًا، ومنها قولُ بعض العرب: اللَّهُمَّ غَلَبَني فلانٌ على قُطْعةٍ منَ الأرض؛ يُريدُ أَرضًا مَفْرُوزة[7] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn7)، وهو ما يوافِق كذلك معتقدَ الأشاعرة، مِن قصرهمالقِدم على الكلام النفْسي، وأما أهل السُّنة فيثبتون قِدم النوع، وحدوث الآحاد،فإنَّه - تبارك وتعالى - لم يزَلْ متكلمًا - كما سبق - وسيأتي بيانُذلك.

4-أنَّ الخطاب مُباين للكلام، فأنتَ تقول: "خاطبته بقول"، فهو ليس قولاً، وإلاَّ كان معناه كلمتهبكلام، ووسيلة الخِطاب قد تكون الكلامَ وغيره، فيصحُّ المخاطبة بالرِّسالة مثلاً،والمخاطبة بواسطة، وهو موافِق للمعتقد المعتزلي.

5-وبالرغم مِن ذلك، فقد تشترِك بعضُ الألفاظ مع لفظ "الخطاب" فيما سبَق، إلا أنَّ اختيار مادة (خ ط ب) له خصوصيتُه في هذا الموضِع، فلا شكَّ في علاقةالاتِّصال والمصدرية بيْن فِكر المتكلِّمين ومنهجهم ومصنَّفاتهم، وبيْن كُتبالفلاسفة التي تُرْجِمت في تلك العصور، مِن الناحية الجُمَليَّة المنهجيَّة، وكذامِن الناحية اللفظيَّة التفصيليَّة، فقد اختلفتْ طرائق المتكلِّمين عن مناهجِسَلفهم من أئمَّة المسلمين، وقد أقرُّوا في مواضعَ بأنهم خَلَفيُّون في مقابل منهجالسلفيِّين، كما تسلَّلتْ بعض الألفاظ والاصطلاحات التي لم تكُنْ عندَ السلف - رضيالله عنهم.

والنَّظَر في عُمَد الكُتب التي تُرْجِمت إلى العربية، بلوربَّما استُعْمِلت على لُغتها الأصلية كمجموعة كُتب أرسطو، ومنها كتابه "الخطابة"، قد يُشير إلى خُصوص اختيار هذا اللفْظ، فقد قال فيتعريفه للخطابة: "القُدرة على النَّظَر في كلِّ ما يوصل إلىالإقناع في أيِّ مسألةٍ مِن المسائل"[8] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn8)، وباعتبار ابن رشد المعلِّم الثاني، والمُفَسِّرلكلام أرسطو؛ ننقل أيضًا تعريفَه للخطابة، فقدْ قال: "قوَّةتتكلَّف الإقناع الممكِن في كلِّ واحد مِن الأشياء المفردة"[9] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn9)، ومِن هنا نرى أنَّ المعتزلة قدِ استعملوا هذهالمادَّة (خ ط ب)؛ لوجود العلاقة بيْن كلام الله - تبارك وتعالى - باعتباره حُكمًا شرعيًّا بشرطه، وبيْن القُدرة على النظر التي أشارإليها أرسطو، قال أبو الحسين البصري: "وأمَّا كَيْفيَّة الاسْتِدْلال بالأدلَّة علىالأَحْكام، فالمرجع به إلى كَيْفيَّة تَرْتِيب الشُّرُوط والمقدِّمات الَّتي معهايسْتَدلُّ بالأدلَّة على الأحكام الشَّرعِيَّة، وَيصِحُّ أن يحمل مَعها خِطابالحكيم إذا تجرَّد على حَقِيقَته دون مجازه، وعلى مجازه مع القَرِينَة"[10] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn10).

وبالرغم مِن أنَّ نشأة مذهب الأشاعرة كانمِن حيث الأصلُ للردِّ على المعتزلة، إلا أنَّ العلاقة بيْن المذهبين تضايقتْ شيئًافشيئًا، والتزم متأخِّرو الأشاعِرة بكثيرٍ ممَّا لم يلتزمْ به أسلافُهم نتيجة هذاالتقارُب، ويعتبر أبو المعالي الجويني (ت 478) الجسرَ الأكْبر لعبور الكثير مِن طرقالمعتزلة وأفكارهم إلى مذهَب الأشعريَّة، بل يعتبر المذهب الأشعري مِن بعده تابعًالما وصَل إليه، بالرغم مِن رجوعه في أُخريات حياته - كما هي عادةُ كثيرٍ من أئمَّةالأشاعرة - عن كثيرٍ ممَّا انتحله.

وعلى كلِّ حال، فقد كان المؤسِّس الحقيقيللمذهب الأشعري في طوره الأخير، وقد كان تلميذه الغزالي وفيًّا له إلى حدٍّ كبير،فقد تتبَّع خُطاه في كثيرٍ من المناحي العلميَّة على أكثرَ من مستوى، فقدِ اعتمدعلى كتابه "نهاية المطلب" في الفِقه، في وضْع "البسيط"، ثم "الوسيط"، ثم "الوجيز"، ثم "الخلاصة"، واعتمدعلى كُتبه الكلامية في تنظير عقيدةِ الأشاعرة، واعتمَد كذلك على "البرهان" في أصولِ الفِقه في وضْع كتابه "المستصفى"، ثم "التلخيص"، ثمتتابع التصنيف مِن الأشاعرة في أصولِ الفِقه؛ ولأنَّ هؤلاء المتكلِّمين ينتمونفقهيًّا إلى مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - فقد سُمِّيَت هذه المدرسة بمدرسةالمتكلِّمين أو مدرسة الشافعيَّة، ودخَل على نفس المنوال المتكلِّمون أوالمتأثِّرون بهم من المذهبين الفقهيين المالِكي والحنبلي، فنُسِبت الأصولالمُصَنَّفة منهم إلى المذاهِب الفقهيَّة التي ينتسبون إليها، وهي في حقيقتِها قدسايرتْ طريقة المتكلِّمين، بالرغم مِن تطعيم بعضِهم لطريقته بِذِكْر أقوال إمامالمذهب وفقهائه، وتَكفي مقارنة كتاب كـ"الرسالة" للإمامالشافعي - رحمه الله تعالى - من جِهة، وبين "البرهان" للجويني أو "المستصفى" للغزالي، فضلاً عن كُتب متأخِّريالمتكلمين كشروحات الإسنوي؛ لبيان الفرْق بين طريقة الشافعي في تناول عِلم أصولالفِقه، وبين طريقة المتكلِّمين الذين انتسبوا إليه.

فَسَرَتْ طريقةالمعتزِلة وألفاظهم وقضاياهم إلى أصولِ المذاهِب الفقهيَّة، بالرغمِ مِن قيامالأشاعِرة منهم بمحاولة الردِّ عليهم في بعضِ المسائل الواضِحة، وبيان مخالفتهم لهمفيها، كمسألة التحسين والتقبيح العَقلي، وكحُكم الأشياء قبل ورود الشَّرْع، إلاأنَّه بقيتْ بعض الألفاظ والقضايا الخفيَّة إلى الآن تحتاج إلى تدقيقٍ وتمحيص؛لبيان الأصْل الذي بُنيت عليه.

فلمَّا استقرَّ هذا اللفظ عندَ الأشاعرةوغيرهم، أورد عليهم المعتزلةُ الإيراداتِ القاضيةَ بحدوث كلام الله - تبارك وتعالى - حال استعمال هذا اللفْظ[11] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn11)، وانبرى للردِّ عليهم الكثيرُممَّن انتحل هذا اللفظ، لكن السؤال ما زال واردًا؛ لأنَّهم حاولوا إثباتَ مساواةالخِطاب بالكلام اصطلاحًا، فما الداعي ابتداءً في العدول عن لفْظ (كلام) إلى لفْظ (خطاب)، حتى إنْوصل مَن يحاول الردَّ إلى أنَّه صار يساويه عُرفًا؟

وبالرغم ممَّا سبق وأنْذكرناه مِن عناية أصحاب الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - بأقواله ومرويَّاته، إلاأنَّ هذه العناية الفائِقة قد طغَى عليها - فيما يبدو - جانب الجمْع والتصنيف أكثرمِن التأصيل والتحليل لتلك المرويَّات، فما زالتِ الكثير مِن مرويَّات الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وأقواله تحتاج إلى تدقيق وفَهْم، ولعلَّ هذه المرحلة كانتْمُرَشَّحة للظهور بقوَّة بعد ما ظهَر مِن أتباع المذهب من جمْع الرِّوايات،وتصنيفها على الأبواب والمسائل، إلا أنَّ الفقه الإسلامي بعامَّة أُصيب بحالة مِنالتَّرَهُّل نتيجةَ عوامل متعدِّدة، فتوقَّفت حركة المذهب، وتأخَّر ظهور مرحلةتالية تُعنَى بالجانب التحليلي للمرويَّات المجموعة.

وقد توقَّفتُ حول قولالإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: "الحُكم الشَّرْعي خطابُالشرْع وقوله"، وكيف تَعَامَل الأصوليُّون الحنابلةُ معها، فلم يتعرَّضلمعناه ابنُ تيمية في "المسودة"[12] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn12)، وإنَّما ذَكره ضمنَ الأقوال التي ذكَرها لمعنى (الحُكم الشرعي)، وحاول القاضِي المرداوي أن يُبَيِّنمعناه، فالتفتَ أولاً إلى أن الحُكم الشرعي هل هو نفس الخطاب؟ فَبَيَّنَ أنَّ مراده "مَا وَقع به الخطاب؛ أي: مَدْلُوله، وهو الإيجاب والتَّحريم والإحلال، وَهُوَ صفةُالحاكِم، فهو عنْد الإِمَام أَحْمد: مَدْلُول خِطاب [الشَّرْع]"[13] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn13)، ثم التفتَ إلى العطف في كلمة الإمام، وقال: " [وَالظَّاهِر أنَّ] الإِمام أَحْمد أراد بزيادَة: (وَقَوله) على خِطاب الشَّرْع، التَّأْكِيد، مِن بَابعطف الْعَام على الخَاص؛ [لأنَّ] كل خطاب قَول،وَلَيْسَ كل قَول خطابًا"، فاعتبر قول الإمام: "وقوله" زِيادة، ولم يجِدْ لها مخرجًا إلا أنْ جعلها للتأكيد مِن باب عطف العام على الخاص،ونقَل ابن النجار عنه هذا الكلام[14] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn14).

فإذا علمنا أنَّ بيئة الإمام أحمد - رحمهالله تعالى - كانت تعجُّ بأفكار المعتزِلة العقديَّة والأصوليَّة كما ذكَرْنا،وأنَّ العامَّة والخاصَّة كانوا يفزعون لإمام أهْل السُّنة لبيان ما تتقاذفهألْسِنة وأقلام المعتزِلة؛ ظهَر أنَّ كثيرًا مِن أقواله ومرويَّاته لا يُمكنفَهمُها إلاَّ على هذا النحو.

فإذا عَلِمْنا - كذلك - أنَّ الإمام لم يكنمِن أهل وضْع الحدود التي ولع بها المتكلِّمون، ظهَر لنا غرابةُ قول الإمام - رحمهالله - وخروجه عن طريقةِ الإمام في أقواله التي كان يحرِص فيها بشدَّة على متابعةاللفظ الأثَري، إلاَّ أن يبيِّن مجملاً مِن الألفاظ المحدَثة، أو يفصِّله، ونحوهامِن عمليات "التحليل" للألفاظ التي لم تكن معتادةً بينطلبة العِلم والعلماء؛ ليُبَيِّن موطن المخالَفة بدقَّة - إنْ كان - على ما بينَّاهفي صدْر كلامِنا.

فظهر أنَّ قول الإمام أحْمد - رحمه الله تعالى -: "الحُكم الشرْعي: خِطاب الشَّرْع وقوله" ليس وضعًا منهوتأصيلاً لمعنى الحُكم الشرْعي؛ وإنَّما هو تصويبٌ منه لِمَا ظهَر في بيئته مِن قولالمعتزلة أنَّ الحُكم الشرعي هو "خِطاب الشَّرْع…" فلمَّا ظهر له - رحمه الله تعالى - أنَّ هذا التعريفَ على هذا النحو لا يمثِّلإشكالاً عندَ أهل السنة إلا مِن جهة النقص، وأنَّ الاقتصار على المذكور هوالمُشْكِل، سَدَّ هذه الخَلَّة بعطفِ ما نقَص على ما انتشر، فلمْ يَعنِ الإمامُأحمد رحمه الله - فيما نرَى - بكلمة "وقوله" الزيادةَللتأكيد مِن باب عطف العام على الخاص - كما فسَّره المرداوي - وإنَّما هو إقرارٌللمتكلِّمين على تعريفهم الحُكم الشرْعي بأنَّه خطاب الشارِع، وهذا مِن تمامالإنصاف، فقدْ كان يكفيه أن يقول: إنَّ "حكم الشرع: قوله"، فيدخُل فيه خطابُه،لكنَّه أثبت لهم ما أثبتوا، ثم زاد عليه ما أخْرَجه من حيِّز الإشكال، وإذا كانكلُّ خطاب قولاً، وليس كل قول خطابًا - كما ذكَر المرداوي - فقد كان يلزمه إثباتُأنَّ الحكم الشرعي عندَ الإمام أحمد هو "قوله" دونالالتفاتِ إلى لفْظ "خطاب"؛ لأنَّه مُتَضَمَّنٌ في لفظ "قول".

وهو ما يلفتنا إلى الفَهْم الدقيق الذي ظهَرللإمام أحمد - رحمه الله تعالى - لإشكال اقتصارِهم على أنَّ الحُكم الشرعي هو خطابُالشارِع، فقد تَقَدَّم أنَّ معتقد أهل السُّنة والجماعة أنَّ الله - تبارك وتعالى - لا يزال متكلمًا، بالقوَّة والفِعل وقتمَا شاء ويشاء، فكلامه - تبارك وتعالى - صفةٌله، قديم بالنَّوْع، حادثٌ بالآحاد، فخِطابه داخلٌ في هذا المعنى؛ لاستلزامهمخاطَبًا، وبالتالي يلزم حدوث هذا الخطاب، فصحَّ مذهب المعتزلة ومَن تبِعهم في هذاالجُزء، لكنَّه غيرُ جامعٍ؛ لأنه مبنيٌّ على معتقدِ المعتزلةِ كما سبَق، فخرج منهالكلامُ القديم.

ولعلَّ القرافيَّ قد تَنَبَّه لهذا الإشكال في تعريفالمعتزلة في القرن السابع، فهو متوفًّى سنة 684، فقد مرَّ بعد إشارة الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - أكثر من أربعة قُرون حتى وجدْنا مَن ينبِّه على هذا الأمر - فيماوقفْنا عليه - فقد قال في تعريفه للحُكم الشرعي: "كلام الله القديم المتعلِّقبأفعال المكلَّفين على وجه الاقتضاء أو التخيير، أو ما يُوجِب ثبوت الحُكم أوانتفاءه"[15] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn15)، واعتبر أنَّ هذا سبقٌ منه فيوضْع التعريف على هذا النحو؛ فقال: "فيجتمع في الحدِّ (أو) ثلاث مرَّات، وحينئذٍ يستقيم، وتجمع جميع الأحكامالشرعيَّة، وهذا هو الذي أختاره، ولم أرَ أحدًا ركَّب الحدَّ هذا التركيب"[16] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn16)، ووافقه على سبقه هذا تقيُّ الدين الحصني[17] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn17)، غير أنَّ تعيين موضع السبق في هذا التعريفمُبْهَمٌ، وقد فهم البعضُ ممَّن تعرَّض لدراسة الآراء الأصوليَّة للقرافي[18] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn18)أنَّ ادِّعاء موضع السَّبْق في تعريف القرافي هوزِيادته "أو الوضع"، وهو الظاهِر مِن سِياق كلامالقرافي، لكنَّه استشكل ذلك في أنَّ شيخَه ابن الحاجب قد أدْخل الأحكامَ الوضعية فيالتعريف في "مختصره"، ولا يُتَصَوَّر عدم اطِّلاعه علىذلك، لكن محقق كتاب "شرح تنقيح الفصول" خرَج من هذا الإشكال، فاستنبط أنَّ "سَبْقالقرافي في محلِّه؛ إذْ عبَّر بـ(كلام) بدلاً مِن (خطاب)، وزاد قيد (القديم)"، وأشار إلى ذلك الطوفي[19] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn19)، وعلى هذا يكون قول القرافي: "ولم أرَ أحدًا ركَّب الحدَّ هذا التركيب" كلام مُسْتَأْنَف،لا تَعَلُّق له بحَرْف العطف (أو)، وهو ما يَظْهر لنا،لكنَّنا نستدرك على القرافي - بناءً على هذا - أنه مسبوقٌ بلفظ (قول) مِن قول الإمام أحمد، وهو بنحو لفظ (كلام)، فالسَّبْق على هذا قد يستقيم لخصوصِ لفظ (كلام) مع تركيبه في التعريف على هذا النحو.

لكنالقرافي - لأشعريته - قَيَّدَ الكلام بالقديم، فخرَج مِن الإشكال المعتزلي[20] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftn20)الذي مرَّ على أغلبِ الأشاعرة الذين صنَّفوا فيالأصول.

والخلاصة:
كان الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - حادَّ النظر في كلامِ المخالفين مِن أهل البِدع، مع تضلُّعه مِنعلوم الشريعة، وبناءً على ذلك استطاع بألفاظٍ بسيطة الكشفَ عن تمويه تلك الفِرق،وما يستتبع استعمالها لألفاظ لم يعهدْها العلماء، لكنَّه استطاع تحليلَ تلكالألفاظ، وبيان ما يُمكن أن يقبل مِن أجزائها، وما لا يُقبل، وزيادة ما نقَص مِنتلك الأجزاء، مع الإنصاف التامِّ مع المخالف، بموافقته في الجُزء المقبول، وإتمامالنقْص فيما ندَّ من ذلك.

فقوله: "الحُكم الشرعي خطابُالشَّرْع وقوله"، مِن أمثله فَهمه الدقيق لقول المخالِف، وما يستتبعه مِنإشكالات إذا ذُكر منفردًا، ومع ذلك لمَّا احتوى على جزءٍ من الحق لم يبطلْهبالكلية، كما أنَّ فيه معرفةً دقيقةً لقواعد الفقه وأصوله، وعلاقتها بالعقيدة،وكيفية بناء القول الأُصولي على المذهَب العقدي، فاستطاع بهذه الكُليمات تصويبَالتعريف مِن الناحية الأصوليَّة، وربْطه بالمعتقد الصحيح لأهل السُّنَّة والجماعة - رحمه الله تعالى.



[1] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref1) "المعتمد" (1/8).
[2] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref2)السابق (1/24).
[3] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref3)السابق (1/25).
[4] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref4) "المحيط" للصاحب ابن عبَّاد (1/353)، "منتخب من صحاحالجوهري" لأبي نصر الفارابي (ص: 1324).
[5] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref5) "مجمل اللغة" لابن فارس (1/295).
[6] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref6) "إكمال الإعلام بتثليث الكلام" لابن مالك (1/189).
[7] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref7) "لسان العرب" لابن منظور (1/361).
[8] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref8) "الخطابة" لأرسطو - تعريبإبراهيم سلامة (1/90).
[9] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref9) "تلخيص الخطابة" لابن رشد (ص: 15).
[10] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref10) "المعتمد"(1/7).
[11] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref11)انظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (1/255).
[12] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref12) "المسودة"(ص577).
[13] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref13) "التحبير شرْح التحرير" (2/790).
[14] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref14) "الكوكب المنير شرْح مختصر التحرير" (1/333).
[15] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref15) "شرح تنقيح الفصول" (ص: 70).
[16] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref16)السابق (80).
[17] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref17) "القواعد"(1/199).
[18] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref18)الدكتور عياض السلمي في كتابه "شهاب الدين القرافيحياته وآراؤه الأصوليَّة" (ص: 82).
[19] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref19) "شرح مختصر الروضة"(1/251).
[20] (http://www.alukah.net/Culture/0/32077/#_ftnref20)انظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (1/255).