تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر حول كتاب "حركة التصحيح الفقهي" للأستاذ/ ياسر المطرفي



أهــل الحـديث
02-04-2013, 10:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

خواطر وتعليقات حول

كتاب "حركة التصحيح الفقهي" للأستاذ/ ياسر المطرفي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آله وصحبه الميامين، وبعدُ:

فهذه خواطر يسيرة خطرت علي أثناء قراءة كتاب "حركة التصحيح الفقهي" للأستاذ ياسر بن ماطر المطرفي، والكاتب –وفقه الله- قد أجاد في بحثه، وتميز فيه بسهولة العبارة، ووضوح التحليل، والبُعد عن التكلف، وبما أنّ الكتاب يتكلم في مسألة (مهمة وخطرة) في نفس الوقت، فإنّي أحببتُ نشر الخواطر التي بدت لي أثناء مطالعة الكتاب، ليشاركني الباحث والقارئ في التقويم وتصحيح ما قد أكون فهمتُه خطأً، أو ندّ عني تعليله وإدراك سببه، وقد جعلتُ هذه الخواطر والتعليقات بشكل وقفات يسيرة.

الوقفة (1) : مساحة الإجماع عند ابن تيمية

شغل موضوع (الإجماع عند ابن تيمية) حيزاً كبيراً من الفصل الثاني (مراحل التصحيح في النظر الفقهي)، وقد يخيل للقارئ بعد قراءة هذا الفصل أن مساحة الإجماع عند شيخ الإسلام ضيقة جداً، وهذا الأمر قد نبه عليه الباحث في النقطة (4) بعنوان (مسائل الفقه بين الإجماع والخلاف)، وهذه النقطة من المهم إعادة النظر فيها ومطالعتها حتى لا يتهاون البعض بمسألة الإجماع، بسبب تصوره أنّ علماً من أعلام الأمة كشيخ الإسلام لا يعترف بكثير من الإجماعات، أو أنه اشترط شروطاً يندر وقوع إجماع معها، وهذا مخالف للواقع والحقيقة الفقهية في تراث شيخ الإسلام، ومن طالع –على سبيل المثال- كتاب (موسوعة الإجماعات لشيخ الإسلام ابن تيمية للباحث عبدالله البوصي)، وكيف أنّ شيخ الإسلام ينقل إجماع الصحابة في بعض المسائل ويعتبر قول المخالف قولاً شاذاً، مع أنّه منقول عن أئمة أجلاء، تبين له مركزية موضوع الإجماع عند الشيخ رحمه الله.
وما أشار إليه الباحث من شروط لثبوت الإجماع عند الشيخ وأنّه تشدد فيه، فإنّ موقفه –رحمه الله- كان معالجةً لإشكالية كثرة الإجماعات المدعاة التي تدعيها طوائف ومذاهب ليدعموا أقوالهم بالإجماع الذي يظنونه، ولذا فقد تمنيتُ لو أنّ الباحث حاول أن يعطي القارئ صورة عن حجم المسائل التي ادُعِيَ فيها الإجماع مع وجود المخالف، حتى يظهر للقارئ سبب هذا الموقف من ابن تيمية -رحمه الله- من الإجماع ! فكثرة الدعاوى تُلزم العالِم بالوقوف الصارم لضبط الأمور، وعدم التجاوز المخل والذي يؤدي بالانحراف بالحقيقة العلمية عن مسارها الصحيح بسبب ظنون وأهواء.
ولنأخذ تصوراً –وإن كان في الواقع غير دقيقٍ ولا كافٍ - عن نسبة الادعاءات التي لم يصح فيها الإجماع، ففي (رسالة الباحث د.علي الخضير عن الإجماع في عقود المعاوضات) ذكر الباحث أن المسائل التي حكي فيها الإجماع (365) مسألة وقد صح الإجماع عند الباحث (276) مسألة، وأما (89) فلم يثبت فيها إجماع عنده. (والباحث د.ظافر العمري في رسالته عن الإجماع في أبواب النكاح) ذكر أن المسائل التي حكي فيها الإجماع (539) وقد ثبت عنده الإجماع في (391) مسألة، ولم يثبت في (148) مسألة، (والباحث د.صالح الحربي في رسالته عن الإجماع في أبواب الجهاد) ذكر أن المسائل التي حكي فيها الإجماع (245) وقد ثبت عنده الإجماع في (171) مسألة، ولم يثبت في (74) مسألة، من هذه الإحصائية التقريبية نستفيد أنّ قرابة 28% من الإجماعات المنقولة لا يثبت يعني أكثر من الربع وهي نسبة ليست يسيرة في مسألة مهمة كالإجماع، ومنها نستفيد أيضاً أنّ نسبة عالية من الإجماعات المنقولة صحيحة مما يفيد أنّ موضوع الإجماع له مساحة كبيرة في الفقه الإسلامي، والتهاون فيه دليلٌ على ضعف التصور وسوء الفهم لهذا الدليل ومكانته في الفقه الإسلامي وعند علماء الأمة.
الوقفة (2) : التقعيد الأصولي وموافقته وأثر في التطبيق:

الكتاب يزخر بقواعد أصولية ينسبها الباحث إلى الإمام ابن تيمية -رحمه الله-، وقد استشهد عليها الباحث بتقريرات من كلام الشيخ رحمه الله، لكن مما ينقص الكتاب هو بحث أثر هذه التقريرات والتأصيلات في تطبيقات الإمام –رحمه الله-، وهل واقع الإمام ابن تيمية الفقهي وفتاويه وتراثه الضحم يشهد لها، وهذا في نظري من المهم بمكان، وقد أشار الباحث إليه في أول الكتاب حين أشار إلى عدم الاكتفاء بمسألة (الطلاق) في بحث (نظرية التصحيح) بل إنه سيعتمد (على اختيارات ابن تيمية في الأبواب الفقهية الأخرى، من أجل أن نؤكد على مدى التوافق بين عموم خط ابن تيمية الفقهي وبين منهجه التصحيحي في مسألة الطلاق)، وهذه الإشارة مهمة من الباحث وهي تزيد من الوثوق بنتائج الكتاب، لكن في واقع الكتاب –حقيقةً- أزعم أنّ بعض هذه التأصيلات لم يُبحث فيها الاطراد أو التوافق مع منهج ابن تيمية العام، بل اكتفى الباحث بنقل كلام ابن تيمية وشرح معناه والتقرير من خلاله دون توثيق تطبيقي من خلال فتاوي الإمام وتقريراته الفقهية، وهذا مما يُضعف الكتاب، ويُقلل الاعتماد عليه، في هذه الزاوية –تحديداً-، وأضربُ على هذا مثالاً :

في فصل (منهجية إثبات الخلاف عند ابن تيمية) أشار الباحث إلى عدة أصول عند ابن تيمية، هذه الأصول مرتبطة بمسألة التثبت من وقوع الإجماع وهي :

1- أنّ ابن تيمية رحمه الله لا يجزم بصحة "الإجماع الظني" عند "وجود احتمال نزاع لم يطلع عليه".

2- وكذلك لا يجزم بصحة "الإجماع الظني" عند "وجود قولٍ مخالف لمبهم لم يذكر اسمه".

3- وأنّ ابن تيمية يرى "أن مخالفة الواحد تكون قادحة في صحة الإجماع".

4- وأنّ "توقف العالم في المسألة المنقول فيها الإجماع دليل على عدم ثبوته".

5- وأنّ "رجوع العالم عن الإجماع مثبتٌ للخلاف".

6- وأنّ الشيخ ابن ابن تيمية "يعتد بخلاف الشيعة الفقهي".

7- وأنه "يعتد بخلاف الظاهرية".

8- وأنه يعتبر اجتهاد العامي إذا كان يمتلك الأدوات العلمية لهذا الاجتهاد الجزئي.

هذه التقريرات لم يبحث الكاتب أثرها في فقه الإمام ابن تيمية رحمه الله، ولم يذكر أمثلةً تطبيقية عليها، حتى يتبين المعنى الذي يريده ابن تيمية في كلامه، لاسيما وأنّ أغلب هذه التقريرات مستخلصة من مناقشة ابن تيمية للسبكي في مسألة الطلاق، فالموطن موطن محاججة ومخاصمة، وهذا في نظري أنّه خلل في الكتاب، لأنّ هذه التأصيلات هي قواعد وأسس يُنطلَق منها في الاستنباط وبناء الأحكام فكان إثباتها بحاجة إلى استقراء في تطبيقات ابن تيمية وعدم الاكتفاء بمجرد "نقلٍ" كتبه أثناء محاججة ومخاصمة، والباحث قد أشار إلى هذه القضية –وهي عدم الاكتفاء بكلام العالِم دون تطبيقه - حين كلامه عن مسألة "التركيب بين الأقوال أو الجمع بين الأقوال" عند ابن تيمية، وأنّ ابن تيمية قد تفرد بأقوالٍ في مسائل خلافية لم يقل بها غيره مع أن ابن تيمية يرى (أن علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث بل القول الثالث يكون مخالفاً لإجماعهم)، قال الأستاذ ياسر عند محاولة مناقشته وتحليله لهذه الإشكالية :(وإذا أردنا أن نصل إلى طبيعة النظر التيمي في ذلك فثمة حاجة إلى استقراء مجموع الأقوال التي ركبها ابن تيمية، ومقارنتها بكلامه التطبيقي والخروج بعد ذلك بنتيجة عامة، وعدم الاكتفاء بكلامه النظري المجرد)، وهذا الكلام هو ما أشرتُ إليه في هذه النقطة وهو (عدم الاكتفاء بكلام ابن تيمة النظري المجرد) بل لا بد من النظر في التطبيق الفقهي للإمام، والجمع بين التنظير والتطبيق ثم التقرير من خلالهما والخروج بنتيجة عامة، ولذا أتصور أنّ ما قرره الباحث في فصل (منهجية إثبات الخلاف عند ابن تيمية) هو تقرير نظري مجرد بحاجة إلى مقارنة وإثبات من تطبيقات ابن تيمية رحمه الله الفقهية.

أمرٌ آخر : الباحث أطلق هذه الاعتبارات والتقريرات السابقة مجردةً دون ذكر ضوابط لها عند ابن تيمية مع أنّ الباحث قد ذكر في باب " منهجية التعامل مع الخلاف الفقهي" بعض الضوابط المؤثرة على التقريرات السابقة التي قررها الباحث عن منهجية ابن تيمية في تعامله مع الإجماع، وهذا في نظري أنه خطأ وقع فيه الباحث، لأنّ القارئ ولأول وهلة سيأخذ تصوراً عن أنّ ابن تيمية يعتد بخلاف هؤلاء -(أقصد الذين أشرتُ إليهم في أول هذه الوقفة)- في نقض الإجماع ، وأنّ خلافهم معتبرٌ مطلقاً، وهذا قد وقع حقيقةً !

فقد تناقل البعض في "التويتر والفيسبوك" أنّ الإمام ابن تيمية "يعتد بخلاف الشيعة الفقهي"، واعتبرها بعضهم "فتحاً لتخفيف الاحتقان الطائفي"، وآخر عدها "هزةً عنيفة في وجه التيار السلفي"، وقد أشاروا إلى النص الذي نقله الباحث عن الإمام ابن تيمية، وأشاروا إلى تقرير الباحث في كتابه لهذه المسألة، ولذا رأيتُ أنّه من المناسب مناقشة ما ذكره الباحث عن "موقف الإمام ابن تيمية من خلاف الشيعة الفقهي"، ليتبين أهمية ما ذكرتُه من تقرير القواعد وأهمية النظر في الجانب التطبيقي دون الاكتفاء بالكلام النظري المجرد.

الوقفة (3) : "موقف الإمام ابن تيمية من خلاف الشيعة الفقهي"

تحت فصل (منهجية إثبات الخلاف عند ابن تيمية) أشار المؤلف في النقطة الثامنة والتي عنون لها بـ ( في الاعتداد بخلاف الشيعة) إلى أنّه (من أوجه توسع ابن تيمية في مسألة الاعتداد بالخلاف الفقهي تعامله مع الخلاف الفقهي الشيعي، فإنّ له رأياً في خلافهم يغاير به كثيراً ممن يرى عدم الاعتداد المطلق بأقوالهم)، إذ إن ابن تيمية (يرى أن الشيعة موافقون لأهل السنة في غالب الفروع الفقهية)، ثم نقل المؤلف نصين لابن تيمية في هذه المسألة منها قوله رحمه الله (وقولهم –أي الشيعة-في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة أو بعض أهل السنة ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد،....إلخ ما نقله المؤلف)، ثم بين الباحث –وفقه الله-استناد الإمام ابن تيمية رحمه الله في مسألة الاعتداد بقول الشيعة في الخلاف إذ يقول :(وابن تيمية يبني مسألة الاعتداد بقولهم في الخلاف على إدخالهم في مفهوم الأمة وأنّ الإجماع المعصوم هو إجماع الأمة وهم جزء من الأمة)، ثم نقل نصاً طويلاً –قرابة الصفحة والنصف-للإمام ابن تيمية رحمه الله نقله من كتاب لم ينشر بعدُ لشيخ الإسلام واسمه "الرد على السبكي"، من ضمن هذا النص –والنقاط ،...، مني وليست من الباحث- قول الشيخ رحمه الله :(وأيضاً؛ فالنزاع في الطلاق المحلوف به والطلاق المعلق مشهور في كتب الشيعة، وهم ينقلونه عن أئمة أهل البيت، كأبي جعفر الباقر وابنه وغيرهما، فإن كانوا صادقين في هذا النقل عنهم = فلا يستريب مسلم في الاعتداد بنزاع هؤلاء، وأنه لاينعقد إجماع التابعين مع مخالفة أبي جعفر الباقر وأمثاله ،...، وبتقدير أن يكون كل ما نقل أهل البيت كذباً، فهؤلاء عدد كثير ولهم نظر واستدلال يقولون : إن الطلاق المعلق بالصفة لا يقع، والطلاق المحلوف به لا يقع، وليس ما انفردوا به عن أهل السنة، بل قد وافقهم طائفة من أهل السنة.

وقد تنازع الناس في أهل الأهواء والبدع هل يعتد بخلافهم ؟ ،...، وأكثر الناس يقولون : إنه يعتد بخلافهم إذا كانوا من أهل الملة، فإنهم داخلون في مسمة الأمة والمؤمنين.

،...، فإذا كان اسم المؤمنين وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يتناولهم، ولهم نظر واستدلال، ولهم دين يوجب قصدهم الحق= لم يبق وجه لمنع الاعتداد بهم.

فإن المانع من الاعتداد بهم : إما عدم العلم، وإما سوء القصد؛ فمن لم يكن عارفاً بأدلة الشرع فهو عاص بخلافهم، يجب عليه اتباع العلماء)

في هذه النقطة ومن خلال هذا النص الطويل –والذي نقلتُ شاهده- قرر الباحث أنّ شيخ الإسلام يعتد بقول الرافضة في الخلاف الفقهي، وقبل الدخول في مناقشة هذه المسألة يجب علينا تحديد معنى الاعتداد بالقول الفقهي، وما المقصود منه ؟

معنى الاعتداد بالقول الفقهي :
لم يُشر الباحث إلى معنى "الاعتداد بالقول الفقهي" بالتحديد، لكن يمكن أن نفهم من الفصل الذي عقده الباحث وهو فصل (منهجية إثبات الخلاف عند ابن تيمية) أنّ الاعتداد بالقول الفقهي هو المعنى المتبادر لدى القارئ وهو يعني: "أن القول الفقهي المعتد به له أثر على الإجماع من جهة ثبوته أو عدمه"، فـ "الاعتداد بالخلاف" مربوط بمسألة ثبوت الإجماع من عدمه، وممكن أن يضاف إلى مسألة الاعتداد بالقول الفقهي أمراً آخر وهو أنّ الاعتداد بالقول الفقهي يفيد : بأنّ قول هذه الطائفة -المعتد بها- وأدلتها واستدلالاتها معتبر وينظر إليه؛ ولذا فإننا حين نقول إنّ "قول هذه الطائفة أو الفرقة يُعتد بها في الخلاف الفقهي" فإنّ هذا يعني أمران هما:
أ- أنّ مخالفة هذه الطائفة أو الفرقة في مسألةٍ مُعتبرٌ في الإجماع، وأنّ خلافها ينقض الإجماع، ومن الخطأ تجاوزه ونقل الإجماع في مسألةٍ مع مخالفتهم في ذلك، وهذا الأمر واضحٌ لا يحتاج إلى بيان.
ب- المعنى المحتمل وهو : أنّ قول هذه الطائفة واستدلالاتها حاضرٌ ومؤثرٌ في الجدل الفقهي، وتقرير المسائل، والترجيح وما إلى ذلك.
إذا تقرر ذلك، فهل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- اعتبر (مخالفة الشيعة) في المسائل الإجماعية ناقضاً للإجماع ؟ وهل قولهم الفقهي وأدلتهم حاضرة في فقه ابن تيمية وتقريراته ؟ حتى نستطيع أن نثبت من خلال ذلك أنّ ابن تيمية رحمه الله يعتد بخلاف الشيعة، لأننا حين نقرر أن هذه القاعدة الفقهية معتمدة عند عالمٍ معين فإنه لا بد أن يكون فحص ثبوت هذا الأمر عنه من خلال فتاويه وتطبيقاته الفقهية التي تناول فيها هذه القاعدة أو تلكم النظرية .
ونحن نحظى بتراث فقهي ضخم للإمام ابن تيمية -رحمه الله- نستطيع من خلاله محاكمة أي قاعدة أو نظرية تُنسب إليه ليتبين لنا ثباتها من عدمه ويتبين لنا مدى تعامله معها كثرة وقلة، توسعاً وتضييقا.
ولذا رأيتُ أنه من المهم مناقشة ما ذكره المؤلف من خلال الواقع الفقهي لابن تيمية رحمه الله..

قول الشيعة المخالف :

إنّ القسمة المنطقية لأقوال الشيعة الفقهية بنسبتها لجمهور المسلمين تنقسم إلى قسمين :

1- أقوال مخالفة لجمهور المسلمين .

2- أقوال موافقة لجمهور المسلمين كلهم أو بعضهم.

وسأبدأ بالأقوال المخالفة لجمهور وموقف ابن تيمة رحمه الله منها :

أشار الباحث الأستاذ المطرفي في فصل (منهجية التعامل مع الخلاف الفقهي) إلى أن الإمام ابن تيمية يشترط في اعتبار القول الفقهي: أن لا يكون حادثاً تفرد به صاحبه، كذلك في النص الذي نقلته في موضوع "احتجاج ابن تيمية بقول الشيعة" أشار الإمام ابن تيمية إلى هذه القضية حيث قال :(فهؤلاء –يعني الشيعة- عدد كثير ولهم نظر واستدلال يقولون : إن الطلاق المعلق بالصفة لا يقع، والطلاق المحلوف به لا يقع، وليس ما انفردوا به عن أهل السنة، بل قد وافقهم طائفة من أهل السنة).

وهو صريح قوله رحمه الله :(ليست لهم –يعني الشيعة- مسألة واحدة فارقوا بها جميع أهل السنة المثبتين لخلافة الثلاثة إلا وقولهم فيها فاسد، وهكذا المعتزلة وسائر الطوائف كالأشعرية والكرامية والسالمية ليس لهم قول انفردوا به عن جميع طوائف الأمة إلا وهو قول فاسد، والقول الحق يكون مأثوراً عن السلف وقد سبق هؤلاء الطوائف إليه) منهاج السنة النبوية (2 / 369 - 370).

ويقول أيضاً : (والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد، لا ينفردون قط بقول صحيح، وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر، وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرافضة، فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالاً في غاية الفساد).

ثم شرع -رحمه الله- في ذكر بعض هذه الأقوال الفاسدة مثل : (تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب ، وصومهم قبل الناس بيومين وفطرهم قبل الناس بيومين ، وجعلوا الصوم بالحساب، ومثل تحريمهم بعض أنواع السمك، ويحرمون ذبائح أهل الكتاب ويحرم أكثرهم ذبائح الجمهور لأنهم مرتدون عندهم، والرافضة تجعل الصلوات الخمس ثلاث صلوات فيصلون دائماً الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعاً وهذا لم يذهب إليه غيرهم من فرق الأمة ، والرافضة لا تصلي جمعة ولا جماعة لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم، ولا يصلون إلا خلف المعصوم ولا معصوم عندهم، وهذا لا يوجد في سائر الفرق أكثر مما يوجد في الرافضة، فسائر أهل البدع سواهم لا يصلون الجمعة والجماعة إلا خلف أصحابهم كما هو دين الخوارج والمعتزلة وغيرهمأ وأما أنهم لا يصلون ذلك بحال فهذا ليس إلا للرافضة، ومن ذلك أنهم لا يؤمِّنون في الصلاة هم أو بعضهم وهذا ليس لأحد من فرق الأمة، وكذلك إقامة المآتم والنوائح ولطم الخدود وشق الجيوب وفرش الرماد وتعليق المسوح وأكل المالح حتى يعطش ولا يشرب ماء تشبهاً بمن ظلم وقتل، وإقامة مأتم بعد خمسمائة أو ستمائة سنة من قتله لا يعرف لغيرهم من طوائف الأمة)

ثم ختم –رحمه الله - ذلك بقوله :(ومفاريد الرافضة التي تدل على غاية الجهل والضلال كثيرة لم نقصد ذكرها هنا لكن المقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين لآثار النبي صلى الله عليه و سلم لا ينفردون عن سائر الطوائف بحق والرافضة أبلغ في ذلك من غيرهم). منهاج السنة النبوية (5 / 172-177) ملخصاً.

من هذا يتبين أنّ موقف الشيخ رحمه الله مما تفرد به الرافضة من أقوال عن سائر الأمة أنّ هذا القول قولٌ فاسد لا يصح اعتباره والاحتجاج به.

وهذا يشهد له واقع الشيخ الفقهي، إذ إنك تجده ينقل الاتفاق في بعض المسائل معرضاً عن مخالفة الشيعة في هذه المسألة ومن أمثلة ذلك :

1- مسألة المسح على الخفين : هذه المسألة صارت شعاراً لأهل السنة وقد خالف فيها الرافضة فمنعوا المسح على الخفين ولم يجيزوه، وقد ذكر شيخ الإسلام الإجماع في ذلك فقال: (وكذلك اتفق الفقهاء على أن من توضأ وضوءا كاملاً ثم لبس الخفين جاز له المسح بلا نزاع) مجموع الفتاوى (21 / 209).

وأعرض الشيخ رحمه الله عن مخالفة الشيعة في هذه المسألة .

2- السجود على الحُصر في الصلاة : عند الرافضة الإمامية أن السجود على شيء غير الأرض لا يجوز؛ يقول الطوسي شيخ الطائفة الشيعية (ت460 هـ):( لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتته الأرض مما لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار، وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك) الخلاف للطوسي (1/358).

ثم نجد أن شيخ الإسلام ينقل الإجماع في هذه المسألة معرضاً عن خلاف الشيعة فيقول :( ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض كالخمرة والحصير ونحوه وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض : كالأنطاع المبسوطة من جلود الأنعام وكالبسط والزرابي المصبوغة من الصوف وأكثر أهل العلم يرخصون في ذلك أيضا وهو مذهب أهل الحديث كالشافعي وأحمد ومذهب أهل الكوفة كأبي حنيفة وغيرهم .) مجموع الفتاوى (22 / 174).

3- مسألة عدد الرضعات في الرضاعة : عند الرافضة الإمامية أن الرضاع المحرِّم يكون بأحد أمرين : برضاع يوم وليلة، أو عشر أو خمس عشرة رضعة متوالية من امرأة واحدة، يقول الشيخ الطوسي: (من أصحابنا من قال: أن الذي يحرم من الرضاع عشر رضعات متواليات لم يفصل بينهن برضاع إمرأة أخرى، ومنهم من قال: خمس عشرة رضعة - وهو الاقوى - أو رضاع يوم وليلة) الخلاف للطوسي (5/96)، ومع هذا نجد أنّ شيخ الإسلام يُعرض عن هذا وينقل الإجماع على أن الرضاع المحرم بخمس رضعات فيقول :(إذا ارتضع منها خمس رضعات في حولين فقد صار ابنها ؛ ويحرم عليه كل ما ولدته المرأة : سواء ولدته قبل الرضاع أو بعده : باتفاق العلماء ) مجموع الفتاوى (34 / 56).
4- مسألة (علاقة أخو المرتضع بأولاد المرضعة) : يقول الشيخ الطوسي :(إذا حصل بين صبيين الرضاع الذي يحرم مثله فإنّه ينشر الحرمة إلى إخوتهما وأخواتهما، وإلى من هو في طبقتهما ومن فوقهما من آبائهما، وقال جميع الفقهاء خلاف ذلك) الخلاف للطوسي (4/303).
ولكن نجد أن شيخ الإسلام ينقل الإجماع في هذه المسألة معرضاً عن خلاف الشيعة فيقول :(أما إخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب فهم أجانب من أبويه من الرضاعة وإخوته من الرضاع. وهذا كله متفق عليه بين المسلمين) مجموع الفتاوى (34 / 49).
5- مسألة (الجمع بين المرأة وعمتها) : يقول الشيخ الطوسي :( يجوز الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، إذا رضيت العمة والخالة بذلك. وعند جميع الفقهاء أنه لا يجوز ذلك - أعني: الجمع بينهما، ولا تأثير لرضاهما -) الخلاف للطوسي (4/296).
وشيخ الإسلام ينقل الإجماع في هذه المسألة معرضاً عن خلاف الشيعة فيقول :(فلا يجمع بين الأختين ؛ ولا بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها . وهذا أيضا متفق عليه) مجموع الفتاوى (32 / 69).
6- مسألة (ذبائح أهل الكتاب) : يقول الشيخ الطوسي :( لا تجور ذبائح أهل الكتاب - اليهود، والنصارى – عند المحصلين من أصحابنا، وقال شذاذ منهم: أنه يجوز أكله) الخلاف للطوسي (6/24).
وشيخ الإسلام ينقل الإجماع في هذه المسألة معرضاً عن خلاف الشيعة فيقول : (ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين) مجموع الفتاوى (35 / 232).
هذه بعض الأمثلة والتي توضح ما قرره الشيخ رحمه الله من أنّ (ما انفردوا به عن الجماعة أقوالٌ في غاية الفساد)، وأنّه لا يُعتد بها في الإجماع، ولا قيمة لها، بل ليس الأمر مقتصراً على الشيعة بل يتعداه إلى طوائف ومذاهب أهل السنة، يقول رحمه الله:(وأما الخوارج والمعتزلة والجهمية فإنهم أيضا لم ينفردوا عن أهل السنة والجماعة بحق بل كل ما معهم من الحق ففي أهل السنة من يقول به لكن لم يبلغ هؤلاء من قلة العقل وكثرة الجهل ما بلغت الرافضة، وكذلك الطوائف المنتسبون إلى السنة من أهل الكلام والرأي مثل الكلابية والأشعرية والكرامية والسالمية ومثل طوائف الفقه من الحنفية والمالكية والسفيانية والأوزاعية والشافعية والحنبلية والداوودية وغيرهم مع تعظيم الأقوال المشهورة عن أهل السنة والجماعة لا يوجد لطائفة منهم قول انفردوا به عن سائر الأمة وهو صواب، بل ما مع كل طائفة منهم من الصواب يوجد عند غيرهم من الطوائف، وقد ينفردون بخطأ لا يوجد عند غيرهم، لكن قد تنفرد طائفة بالصواب عمن يناظرها من الطوائف كأهل المذاهب الأربعة قد يوجد لكل واحد منهم أقوال انفرد بها وكان الصواب الموافق للسنة معه دون الثلاثة، لكن يكون قوله قد قاله غيره من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمة، بخلاف ما انفردوا به ولم ينقل عن غيرهم فهذا لا يكون إلا خطأ، وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ، وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف) منهاج السنة النبوية (5 / 177-178).
فإذا كان كذلك فإنّ تفرد الشيعة بقولٍ هو من باب أولى أن لا يحتج به لاختلاف كثير من أصولهم عن أهل السنة.
- قول الشيعة الموافق
ننتقل للنوع الثاني من أقوال الشيعة وهي التي توافق قول جمهور المسلمين أو بعضهم، وهي الغالب من فقههم كما قرر شيخ الإسلام رحمه الله، وهل كان شيخ الإسلام يعتد بها، وهل كانت حاضرة في فقهه ؟
إنّ الناظر في فقه الإمام ابن تيمية رحمه الله لا يجد لفقه الشيعة حضوراً في فتاويه وجدله الفقهي، ولا يجد في فتاويه وفقهه مناقشةً لأدلتهم ونظرهم في المسائل، إلا نزراً يسيراً جداً يعد بأصابع اليد، وهذا قليل إن لم يكن شبه المعدوم أمام التراث الفقهي الضخم المنثور أمامنا لشيخ الإسلام رحمه الله.
وقد قمت بالبحث -(من خلال خاصية البحث في الموسوعات الاليكترونية في المفردات بلواصقها : كالشيعة والإمامية والرافضة والاثناعشرية )- في كتب شيخ الإسلام وفتاويه عن مواطن ذكر فيها الشيخ "أقوال الشيعة الفقهية" من باب الإشارة إلى مذهبهم أو أدلتهم ومناقشتها فلم أجده ذكرهم إلا في مواطن يسيرة جداً وهي :
(مسألة التمتع بالحج، وثلاث مسائل في الطلاق وهي : حكم الطلاق بالثلاث، تعليق الطلاق بالصفة، تحديد لفظ معين في الطلاق ، ومسألة لزوم الفطر في السفر).
يعني ما مجموعه خمس مسائل فقط ! وهذه كلها كانت مجرد إشارة إلى أنّ هذا المذهب هو مذهب الشيعة، دون ذكر أو مناقشة لأدلتهم وأصولهم، أما ذكر مذهبهم على وجه الاستنكار والتضعيف فهذا موجود في كتب الشيخ، في مواطن وقد ذكرنا مثالاً لها في أول المقالة.
إذا كان الوضع بهذه الصورة فهليمكننا القول بأنّ الإمام ابن تيمية يعتد بخلافهم؟
قد يعترض قائلٌ بأنّ ابن تيمية لا يلزم أن يشير إلى أقوالهم لأنه سيناقش أقوال من وافقوهم من أهل السنة فلا حاجة لذكرهم والإشارة إليهم !
فيُقال: معنى هذا أنّ القول باعتبار خلافهم إذا وافقوا أهل السنة، لا يعدو أن يكون خلافاً لفظياً، لأنّ الاعتداد بخلافهم مرتبط بموافقتهم لأهل السنة، ولا أثر لمخالفتهم، وبذلك يصبح لا فرق بين من قال (يُعتد بخلافهم) وبين من قال (لا يُعتد بخلافهم) لأنّ الجميع سيعتد بخلاف من يوافقونهم من مذاهب أهل السنة، والنتيجة واحدة !
وهذا الأمر وهو عدم حضور الفقه الشيعي ليس مختصاً بالإمام ابن تيمية رحمه الله، بل هو ظاهرٌ في كتب فقه المذاهب وغيرها من داووين الفقه الإسلامي، فإنك لو بحثت فيها عن أقوال الشيعة الفقهية فلن تجد لها أثرٌ أو ذكرٌ في هذه الكتب، إلا نزراً يسيراً جداً من المسائل التي اشتهر تفردهم فيها كالمسح على الخفين، ووقت صلاة المغرب، وحكم ذبائح أهل الكتاب، وما شابهها.
والخلاصة : أنّ شيخ الإسلام أهمل ما تفرد به الشيعة من أقوال فقهية، واعتبرها "فاسدة"، وتجاوزها، ونقل الاتفاق مع مخالفتهم، وأهمل أدلتهم وغابت في آثاره الفقهية الضخمة، إلا في شيء يسير لا يذكر نسبةً إلى تراثه الكبير، فهل بعد هذا يحق لنا أنّ نقول بأنّ ابن تيمية يعتد بخلاف الشيعة الفقهي ؟!
لكن يرد علينا السؤال : كيف نفهم كلامه الصريح في هذه المسألة ؟
في تصوري أنّ الصحيح في فهم كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة هو أن الشيخ يعتد بقول الشيعة الفقهي في "تقوية الخلاف الثابت"، وهذا أخذتُه من واقع المسألة التي ورد فيها هذا الكلام الصريح للشيخ –رحمه الله- والذي استند عليه الباحث، وهاتان المسألتان هما مسألتي (الطلاق المحلوف به، والطلاق المعلق)، فإنّ تلك المسألتين مما يُثبت الإمام –رحمه الله- فيهما الخلاف ويُبطل الإجماع، وليستا مما تفرد بها الشيعة كما نص عليه الشيخ، بل وافقوا طوائف من أهل السنة، وكذلك لم يبنوه على أصل مخالف كما أشار الشيخ، بل بنوه على رواياتٍ عن أبي جعفر الباقر وابنه محمد، وإن لم تصح هذه الروايات فإنّ لهم نظراً صحيحاً في هذه المسألة كما يرى الشيخ، وهم من الأمة، ومعددون من المؤمنين فلا مانع من الاعتداد بقولهم في مثل هذه المسألة.
وهذا التوجيه هو الذي أرى أنّ واقع الشيخ الفقهي وسياق كلامه المنقول يؤيده، وإن كان في الحقيقة لا يزيد في المسألة –نفسها- شيئاً يُذكر ولا يؤثر عليها، سواءً قلنا بأنّ الشيخ يعتد بقول الشيعة الفقهي أو لايعتد، لأنّ الشيخ قد احتج بخلاف بعض السلف ودلالات بعض الأدلة، وليس لخلاف الشيعة أثرٌ في تبني الشيخ لهذا القول، ولو قُدِّر أنّ الشيعة لا يقولون بالذي يراه الشيخ في هذه المسألة فلن يتغير رأيه فيها لوجود الخلاف الثابت عنده والذي استند به في نقض الإجماع وعدم الإقرار به في هذه المسألة، لكن السبب في نظري –والله أعلم- في كلام الشيخ الصريح بالاعتداد بقول الشيعة الفقهي هو أنّ البعض انتقد الأقوال التي قال بها ابن تيمية في بعض مسائل الطلاق بأنها "صارت شعاراً لأهل البدع مما يدل على بطلانها"، فكأنه يقول : ولو كان قولاً لأهل البدع فإنّ أهل البدع يُعتد بهم في مثل هذه المسائل التي لم ينفردوا بها ووافقهم عليها طائفة من السلف وأهل السنة، فلهم نظرٌ واستدلال وهم جزء من الأمة.
مع ذلك فإنّ القول بالاعتداد بهم مع اشتراط عدم تفردهم في القول واشتراط موافقتهم لقول من أقوال أهل السنة يبقى –في حقيقته- اعتداداً صورياً لا أثر له في الخلاف.
والذي كان من المهم على الباحث تحريره حين تصدى لإثبات هذا الأصل عند الشيخ –رحمه الله- .
والله أعلم.
الوقفة (4) : من يصنع التصحيح ؟

أخيراً .. بعض القراء لكتاب الأستاذ المطرفي "قد يشعر" بنشوةٍ عارمة تدفعه لممارسةِ "تصحيحٍ فقهيٍ" يؤمن به ويتمناه، والوقوف ضد عوائق يتصورها، متخذاً في مسيرة شيخ الإسلام -رحمه الله- نبراساً ودرساً تاريخياً يتتبع أثره، ووقوداً يتزود منه، وعزاءً يتعزى به، ولكنه في نفس الوقت قد غاب عن ذهنه "حفرياتٍ" قام بها الباحث ليتبين من خلالها مميزات "صانع التصحيح = ابن تيمية" ومؤهلاته للقيام بهذه العملية "التصحيحية".

هذه المؤهلات والمزايا هي المؤثر الأكبر في عملية التصحيح إذ إنّ هذه المؤهلات هي الأساس في اختيار "الرأي الفقهي" وتبنيه، ومن ثمَّ تقدير أهمية "المواجهة التصحيحية"، وحساب "المصالح والمفاسد" والموازنة بينها في سبيل ذلك التصحيح.

هذه المؤهلات والمزايا يفتقدها الكثير ممن يتحدثون عن "التصحيح والتجديد الفقهي"، وهم يتشدقون بتجربة شيخ الإسلام رحمه الله، ويسقطون تجاربهم على تجربته –رحمه الله-، فقد نسوا أنّ سقوط تجاربهم وخطأ الكثير من ممارساتهم ليست بسبب التسلط السياسي أو الممانعة التي يذمونها إنما كانت كانت بسبب فقدانهم للمؤهلات التي تؤهلهم للاختيار والتوقيت الصحيح وطريقة المعالجة المناسبة .

يقول الباحث في الفقرة الثانية من الفصل الثاني "صانع حركة التصحيح ... الامتياز والاستثناء" : (أهم المؤهلات التي صنعت الزعامة العلمية في شخصية ابن تيمية تتلخص في الآتي : 1-الرسوخ والنضج المعرفي : فلن يجدي في حركة التصحيح أدعياء الفقه وقليلو المعرفة ،...، لقد فرض ابن تيمية نفسه علمياً حتى لم تعد علميته مجال شك وريبة ،...، وشهد له بهذا الرسوخ موافقوه ومخالفوه ...،)

(2- الشجاعة والجرأة الأدبية : لا تقوم حركات التصحيح ما لم يكن خلفها شخصية شجاعة ،...، إن الإشكال الأكبر الذي يعترض الجرأة أن تكون فرعاً عن اللامبالة بأحكام الدين، الأمر الذي يُودِي بحركة التصحيح ويحرفها عن مسارها، مما دعا الذهبي أن ينبه بخصوص شجاعة ابن تيمية المعرفية وأنها لم تكن فرعاً عن ضعف الديانة فيقول :"ولا هو بمتلاعب بالدين؛ فلو كان كذلك؛ لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم" ) فهذه الخصائص والمزايا مهمة جداً لمن يريد أو يظن أنه يُمارس "حِراكاً تصحيحياً"، عليه أن يسأل نفسه : هل هو فعلاً يتميز بالرسوخ والنضج المعرفي ؟ وهل يُمارس ما يمارسه تديناً لا هوىً أو مُناكفة ؟ إذ إنّ النضوج العلمي والمعرفي سيقوده -بعد توفيق الله- إلى صحة المنهج وانضباطه وصواب الرأي وسداد الفكرة وبُعد النظرة، والديانة ستعصمه من الهوى والمكابرة وشرور المناكفة، وفقدان تلك المزايا سيقوده –حتماً- إلى التجديف متلبساً بلبوس التصحيح ! وقد لخص الإمام الذهبي -رحمه الله- هذا المعنى :( وإنما الذم والمقت لأحد رجلين : رجل أفتى في مسألةٍ بالهوى ولم يُبدِ حجة ، ورجل تكلم في مسألة بلا خميرةٍ من علم ولا توسعٍ في نقل ؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل) .

هذه بعض الخواطر اليسيرة أحببتُ نشرها لأستفيد من ملاحظاتكم وتعليقاتكم، فلا تحرموني منها بورك فيكم ووفقتم لكل خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صالح بن علي العميريني
بريدة
18/5/1434هـ