المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بُوَيطيُّون لا بوطِيُّون وقِصَّةُ الرَّجلُ الحديدي! مقال للأخ الشيخ مُهنَّد بن حُسين المعتبي



أهــل الحـديث
26-03-2013, 06:10 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




بُوَيطيُّون لا بوطِيُّون

وقِصَّةُ الرَّجلُ الحديدي!




لا تكادُ تجدُ طفلاً لا يعرف الفيلم الكرتوني الشَّهير (الرَّجل الحديدي) الذي سلبَ لُبَّ أكثرهم بقوَّته وشجاعته!
لكنْ إذا أردتَ أن تعرفَ (الرَّجلَ الحديديَّ) بحقٍّ فإنه العلاَّمة البُوَيطيُّ [231 هـ] الذي تميَّز عن البوطيِّ بـ (ياءِ اليَفَاعِ)، و(ياءِ اليأس)، و(ياءِ اليد)؛
فاليفاعُ ما علا من الأرضِ وارتفع، والغلام إذا ارتفع كان يافعًا، واليأس قطعُ الرجاء من الأطماع، وهو إحدى الرَّاحتين، واليدُ القُوَّة التي لا يتخللها خَوَر..
كُلُّ هذه الياءات استأثر بها العلاَّمة البُوَيطيُّ دونَ البُوطيِّ، فلقد كانَ البُويطيُّ (الرَّجلَ الحديديَّ)!
..
.
أمَّا البُوطيُّ؛ فلا أظنُّ أحدًا لا يعرفه اليوم، لكنَّ (الرَّجلَ الحديديَّ) وهو العلاَّمة البُويطيُّ أبو يعقوبُ يوسفُ بن يحيى المصريُّ صاحبُ الشافعيِّ غيرُ معروفٍ عند كثيرٍ من أهل النِّضال بلهَ العامة..
فما شأنُ أبي يعقوبَ البُويطي، ولماذا كان (الرجل الحديدي) وما علاقته بالبوطي؟
إن أردتَ علمَه؛ فقد قال الشافعيُّ: لَيْسَ فِي أَصْحَابِي أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنَ البُوَيْطِيِّ!
وإن أردتَ عبادتَه وعملَه وزهدَه؛ فقد قال الذهبيُّ: (كَانَ إِمَاماً فِي العِلْمِ، قُدْوَةً فِي العَمَلِ، زَاهِداً رَبَّانِيّاً، مُتَهَجِّداً، دَائِمَ الذِّكْرِ وَالعُكُوْفِ عَلَى الفِقْهِ)!
وإن أردتَ محنته الحديديَّة، فخذ منها شذراتٍ؛ فالأمة بحاجةِ أيَّام الأزمات والشدائد للبُويطيين لا للبوطيين!
فلقد امتُحِن في مسألة (خلقِ القُرآن) أيام الواثق، وهُدِّد، وأُكرِه، وسجنَ، فما تواني ولا تنازل، بل رسخ رسوخَ الجِبال، وكان درسًا استثنائيًا في الثبات!


قال الرَّبيعُ بن سُليمان – تلميذ الشافعيِّ وقرين البُويطي- كما في [سير أعلام النُّنبلاء]: (ولقد رأيتُه على بغلٍ، في عُنقه غُلٌّ، وفي رِجلَيه قيدٌ، وبينه وبين الغُلِّ سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا! وهو يقول: إنما خَلق الله الخَلق بـ (كُن)، فإذا كانت مخلوقةً، فكأن مخلوقًا خُلِقَ بمخلوقٍ! ولئن أُدخلت عليه لأصْدُقَنَّه -يعني الواثق- ولأموتَنَّ في حديدي هذا حتى يأتيَ قومٌ يعلمون أنه قد مات في هذا الشأنِ قومٌ في حديدِهم)!
قال ابنُ السبكيُّ عن هذه: (قلتُ: يرحمُ الله أبا يعقوبَ، لقد قام مقامَ الصدِّيقين)!
هل علمتَ الآن لماذا كان (الرجل الحديدي) بحق؟!
وهل علمتَ الآن الفرق بين البُويطيِّ والبوطي؟!
وهل علمتَ أنَّ إكراهِ البُويطي كان في مسألةٍ لفظيَّة –وإن كانت اعتقاديَّة- يجوز فيها –بالاتفاق- الخروج من القتل بموجبِ الإكراه؟!
فأين الإكراهُ على تلبيس الحقِّ بالباطل، والتضامنِ مع المجرم، واستجرار فتاوي القتل والقمع والإبادة؟!


ثمَّ أتمَّ بقيَّة حياتهِ في سُجُون الواثق، وكان كان يعتصرُ ألماً؛ لفواتِ الجُمَعِ والجماعات، ففي [طبقات الشافعية الكبرى] قصَّةٌ غايةٌ في الألم:



(قال أبو عمرو المستملي: حضرنا مجلسَ محمدَ بن يحيى الذُّهليَّ،
فقرأ علينا كتابَ البُويطيَّ إليه، وإذا فيه: «والذي أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهلِ الحديثِ؛ لعلَّ الله يُخلِّصني بدعائهم، فإني في الحديد! وقد عَجزتُ عن أداءِ الفرائضِ من الطَّهارة، والصلاة!»
فضجَّ الناسُ بالبكاءِ، والدعاءِ له!)
إلامَ آلُ أمرُ البُويطيِّ؟
قال الربيع: (دخلتُ على البويطيِّ أيامَ المحنةِ، فرأيتُه مُقيَّدًا إلى أنصافِ ساقَيه، مغلولةً يداه إلى عُنقهِ!).
ويختمُ الذهبيُّ القصَّةَ بقوله:
(مَاتَ الإِمَامُ البُوَيْطِيُّ فِي قَيْدِهِ، مَسْجُوْناً بِالعِرَاقِ، فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ).
رحمك الله أبا يعقوب..!
كلاهما (البُويطيُّ والبُوطيُّ) أفضى لمولاه، وكلاهما تركَ أثرًا، لكنَّ الآثارَ مختلفةٌ تمامًا لاختلافِ القدمين!
فتلك قَدَمٌ فرَّت وهربت من الباطل ولاذت بالحقِّ، وهذه قدمٌ سَعت وتهاوت على أبواب آل الأسد! (هل يستويانِ مثلاً)؟!
بعيدًا عن قضيَّة موتِ البوطيِّ، وقصَّة قتله، ومشروعيَّة الفرح بموته، وهل نوى الانشقاقَ عن النظام الأسدي الكافر أو لا ؟... إلخ
أهلُ السنَّة لا يحكمون على معيَّنٍ بالنار، ولا يتألّون على الله، ولا يجهلون أن البوطيَّ –كغيره- قَدِمَ على ربٍّ عليم، برٍّ رحيم، عزيزٍ حكيم.
بل يعظِّمون شأنَ (تكفير المعيَّنِ) أشدَّ التعظيم، ويحتاطون فيه حيطةً كبيرة، وفي ذلك يقول ابنُ تيميَّة: (فالتوقُّفُ عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلبُ على طباعِ مَن يغلِبُ عليهم الجهل!) [بغية المرتاد 224].
ولا يكفر الرَّجلُ إلاَّ بتوفُّر الشروط، وانتفاء الموانع.
وأهل السنَّةِ -وخصوصًا السلفيين- ليس مناطُ موقفهم ضد البُوطيِّ أشعريَّتَه وصوفيَّتَه رغم عدائه للسلفيين، بل السلفيُّون كانوا وما زالوا يتغنون بمآثرِ صلاح الدين الأيوبي ويعدُّونه إمامًا عظيمًا من أئمة الجهاد في تاريخ المسلمين، ويفتخرون بمواقف العلماء من الأشاعرة وغيرهم فيما يتعلَّقُ بأمور المسلمين ودمائهم، كما هو الحالُ في الافتخار بحال العزِّ بن عبد السلام رحمه الله!
إنما مناطُ موقفهم المخالف ضدّ البوطيِّ ممالأتُه للنظام الأسدي الكافر منذ عشرات السنين، ووقوفهم مع الهالك حافظ الأسد في مجازر حماة، وتلبيسه الحقَّ بالباطلِ فيما هو أوضحُ من الشمس، وخذلانه لأهل الحقِّ، ومفارقته لعامَّة علماء الشام في هذا الموقف العصيب!
صحيحٌ أنَّ بشار الأسد لن يتوقَّفَ عن القتل والإبادة انتظارًا لفتوى البوطي وأمثاله، فإنه قاتلٌ لا محالة، لكنَّ البوطيَّ وأشباهَه أداةٌ فحسبُ لتلبيس الحقِّ بالباطل على عامة النَّاس، وخيانة العلم والدين والأمانة، ونقض لميثاقِ الله على أهل العلم في البيان وعدم الكتمان!
وقد كان كثيرٌ من السوريِّين إلى وقتٍ قريبٍ لا يسمحون بنقد البوطيِّ ويتفاخرون به في المجالس، فقد كان ذا نفوذٍ علمي عندهم، وقد جمع خصلتين: فصاحة في الحديث، ورشاقة في الكتابة!
ولما ظهرت خيانته لعموم النَّاس أصبح أكثر هؤلاء يُسمُّون كلَّ عالمٍ شبيحٍ بوطيًّا!


وأنتَ تجد أنَّ الناسَ تجاه البوطيِّ بعد وفاته ثلاثة أقسام:
مادحةٌ له، وكأنه لم يرتكب شيئًا، بل رحلَ رحيلَ العلماء الكرامِ شهيدًا كعمر بن الخطاب!
وساكتةٌ عن الخوض في عرضِه من باب التورُّعِ والسلامة أو لأيِّ سببٍ آخر، وهو مسلك فيه سلامةٌ لكلِّ من لم يتبيَّنْ حالَ الرجل.
وذامَّةٌ له؛ لمواقفه المخزية، وأعماله البشعة؛ فهؤلاء لا يتحدَّثُ أكثرهم – لا سيما العارف منهم – عن مآله عند الله، وإنما يتحدَّثُ في حياتِه التي عاشها مُخذِّلاً مدافعًا عن أهل الباطل والإجرام!
الأهمُّ الآن حقًّا.. ما العبرُ والدُّروسُ من قصَّةِ وفاةِ البوطيِّ؟ فإنَّ سنَّة الله لا تتبدَّل!


فإنَّنا لو تأملنا حالَ الرجلِ وحياته وأفعالَه وعلمَه وشُهرته ومماته؛ لاستخراجًا أنواعَ العِبَرِ، وألوانَ المواعِظ (إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون)!
ومن أعجبِ ما قرأتُه في حالِ البوطيِّ ما كتبه الدكتور الشامي عبدالكريم بكَّار في (تويتر) قال: (حدثني أحدُ شيوخِ البوطي؛ أنَّه حذَّره من الاقتراب من حافظ الأسد، فقال له [أي البوطي] بالعامية: يعني أفرمل؟ قال له شيخه: نعم! سمعته مشافهة).
وليتَه إذْ لم يُفرمل أيَّامَ حافظٍ= فَرْملَ أيَّام بشَّار!


وقد كاتبه عددٌ من علماء الشام، ومن أقرانه، ولكنه لم يستجب لهم، وقد كتب له الشيح محمد راتب النابلسي [وهو قريبٌ من سنِّ الثمانين الآن] رسالةً ذكَّره فيها بالله، ونصحه أن يترك الدفاع عن الباطل، وختم رسالته بقوله:
(... لأنني أخشى عليك أن تُحاسَبَ عن كُلِّ نِقطةِ دَمٍ من طِفلٍ بريءٍ قُتل ظلمًا، أو عن شابٍّ في عمر الزهور قتل بوحشية، أو عذِّب في أقبيةِ الظلمة .....
أقول: كُفَّ لسانَك، واعتزل الطُّغاة إذا لم تجد كلمةُ الحقِّ سبيلَها إلى لسانك!)


أيُّ موعظةٍ أبلغُ من هذه الأخيرة؟!
تاللهِ؛ لقد كان في عافية لكنه آثر النقمة على النعمة!
تاللهِ؛ لقد كنا نحبُّ له أن يلحق بركب العلماء الذين اعتزلوا وهربوا، أو قابلوا فقُتلوا!
تاللهِ؛ لقد كنا نُحبُّ له أن يستدرك ما فاته من عمره الذي قضى آخره في خيانة العلم والأمانة والديانة!
تاللهِ؛ لقد كنتُ أرجو أن يكونَ بوطيَّ الاسم بُوَيطيَّ المذهب السياسي حالَ الفتن والمحن!
ربَّاه.. عبدُك البوطيُّ الآنَ بين يديك..
أيها العالـِم: إن ألمـَّت بك محنةٌ؛ فكن بُوَيطيًّا لا بُوطيًّا، (ولا تلبسوا الحقَّ بالباطل وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون)!
.


أبو ريَّان مُهنَّد بن حُسين المعتبي

السبت 11 / 5 / 1434 هـ