المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قواعد الترجيح بين الأدلّة عند الإمام ابن عبد البر



أهــل الحـديث
26-03-2013, 02:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



القاعدة الأولى:التّرجيح بالحفظ والعدالة

1-شرح القاعدة

المراد من هذه القاعدة :أن يتعارض خبران ويكون راوي أحدهما أوثق من الآخر،سواء كان من جانب العدالة أو من جانب الضّبط،فهل لهذه الأوصاف الزّائدة أثر في تقديم خبر الحافظ العدل وتقديمه على الّذي دونه في الحفظ والعدالة؟
قال الإمام الحازميّ:"أن يكون أحد الرّاويين أتقن وأحفظ نحو ما إذا اتّفق مالك بن أنس وشعيب بن أبي حمزة في الزّهريّ،فإنّ شعيبا وإن كان حافظا ثقة،غير أنّه لا يوازي مالكا في إتقانه وحفظه ،ومن اعتبر حديثهما وجد بينهما بونا بعيدا".
وقد ذكر العلماء جملة من القواعد تعود- والله أعلم- إلى التّرجيح بالضّبط منها:التّرجيح بقوّة حفظه وزيادة ضبطه وشدّة اعتنائه – التّرجيح بسرعة حفظ أحدهما وإبطاء نسيانه-ترجيح رواية من لا يكثر تفرّده بالرّوايات عن الحفّاظ- ترجيح رواية من لم يختلط ودام عقله على من اختلط عقله في بعض الأوقات- ترجيح رواية الأكثر تيقّظاً والأقلّ نسياناً على رواية من لا يكون كذلك ،كما ذكروا مجموعة من القواعد ترجع إلى التّرجيح بالعدالة منها:التّرجيح بشهرة العدالة-التّرجيح بإمامة المعدّلين-التّرجيح بصراحة التّعديل-ترجيح رواية حسن الاعتقاد على المبتدع –التّرجيح بورع الرّاوي-التّرجيح بذكر أسباب التّعديل-ترجيح رواية الرّاوي الّذي عُرفت عدالته بالاختبار والممارسة على من عرفت عدالته بالتّزكية- التّرجيح بكثرة المزكّين للرّاوي - ترجيح رواية مشهور النسب على رواية مجهول النسب وذلك لأن احتراز المشهور عن الكذب أكثر،ومثله:- ترجيح رواية الراوي الذي لم يلتبس اسمه .
وقد يستعمل الإمام ابن عبد البرّ وغيره هذه القاعدة مع كون راوي الخبر المعارض ضعيفا سواء كان سيّء الحفظ أو كان متّهما في عدالته، فيكون ذلك على سبيل التّنزّل بصحّة الحديث،وإلا فقد سبق بيان أنّ من شروط التّعارض والتّرجيح تساوي الدّليلين المتعارضين في الحجّيّة،ولا حجّة في الضّعيف،فكيف يعارض الصّحيح؟

2-حجّيّة القاعدة
أ-آراء العلماء

اختلف العلماء في جواز ترجيح خبر العدل الحافظ على خبر من دونه في العدالة والحفظ على قولين:
الرّأي الأوّل:جواز ترجيح الخبر لضبط راويه وعدالته،وهو مذهب الجماهير ، ونقل إمام الحرمين إجماع المحدّثين على تقديم رواية الأحفظ،حيث قال:"إذا روى راويان خبرين،وكلّ واحد منهما ثقة مقبول الرّواية لو انفرد،ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوّة الحفظ والضّبط والاعتناء بالوعي، فهذا ممّا يرى أهل الحديث مجمعين على التّقديم فيه" .
الرّأي الثّاني:وذهب الإمام ابن حزم إلى أنّه لا يجوز التّرجيح بحفظ الرّواة وعدالتهم،حيث قال: "وقالوا نرجّح أيضا بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن...ولكنّنا نقول:إنّ هذا الّذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نصّ ولا إجماع،وما كان كذلك فهو ساقط" .وقال أيضا:"وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم ،فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة،...وهذا خطأ شديد" .
رأي الإمام ابن عبد البرّ: سلك الحافظ ابن عبد البرّ مسلك الجمهور في ترجيح الخبر بضبط روّاته وشدّة حفظهم،وشهرة عدالتهم،وتقديم رواياتهم وزياداتهم،وممّا يدلّ على ذلك قوله:"قد علم كلّ ذي علم بالحديث أنّ مالكا في نافع وغيره زيادتُه مقبولة،لموضعه من الحفظ والإتقان والتثبّت،ولو زاد هذه اللّفظة مالك وحده،لكانت زيادته مقبولة،لفقهه وفهمه وحفظه وإتقانه،وكذلك كلّ عدل حافظ"([1] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn1)) فقد قدّم-رحمه الله-رواية الإمام مالك،وإن كان من خالفه أكثر،لأنّهم لا يقاسون به في الحفظ والعدالة،وقال أيضا:"لا يدفع ما قاله مالك من ذلك،لموضعه من الحفظوالإتقان،وثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه"([2] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn2))،وقال:"ورواية ابن شهاب لهذا الحديث:هي الّتي عليها المدار عند أهل العلم،لحفظ ابن شهاب وإتقانه"([3] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn3))،وقال أيضا:"والقلب إلى رواية مالك أميل لأنّه أثبت في الزّهريّ"([4] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn4))،وقال أيضا:"وابن شهاب فيما نقل من ذلك لا يقاس به غيره في حفظه وإتقانه"([5] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn5)).
وقال في الردّ على رواية أبي الزّبير في عدم احتساب الطّلاق البدعيّ:"وقد رواه عنه جماعة جلّة،فلم يقل ذلك واحد منهم،وأبو الزّبير ليس بحجّة فيما خالفه فيه مثله،فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟،ولو صحّ لكان معناه عندي- والله أعلم-:ولم يرها على استقامة،أي:ولم يرها شيئا مستقيما،لأنّه لم يكن طلاقه لها على سنّة الله وسنّة رسوله-صلّى الله عليه وسلّم- ،هذا أولى المعاني بهذه اللّفظة إن صحّت وكلّ من روى هذا الخبر من الحفّاظ لم يذكروا ذلك،وليس من خالف الجماعة الحفّاظ بشيء فيما جاء به"([6] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn6))،كما كان الإمام ابن عبد البرّ-رحمه الله- يرجّح رواية الأحفظ في الأمور الّتي تتعلّق بالزّيادات في السند،كقوله:"وكلّ من أرسل هذا الحديث فالثّوريّ أحفظ منه والقول فيه قول الثوريّ"([7] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn7))،وقال:"ومن وصل هذا الحديث وأسنده فقوله أولى،والحديث صحيح مسند ثابت الاتّصال لا يضرّه تقصير من قصّر به،لأنّ الّذين أسندوه حفّاظ ثقات "([8] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn8)).

ب-أدلّة الآراء

أدلّة الرّأي الأوّل
استدلّ الجمهور على جواز التّرجيح بناء على حفظ الرّواة وضبطهم،بأدلّة منها:
1-إنّ الظّنّ الحاصل بخبر الحافظ أقوى من الظّنّ الحاصل بخبر من دونه،فيكون أولى،قال الخطيب البغداديّ:"وقد يرجّح أيضا بضبط راويه وحفظه وقلّة غلطه،لأنّ الظّنّ يقوى بذلك" .
2-إنّ النّفس إلى ما رواه الأحفظ أسكن،والقلب إلى روايته أميل،قال أبو الوليد الباجيّ:" أن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأحفظ،وراوي الّذي يعارضه دون ذلك،وإن كانا جميعا يحتجّ بحديثهما،فيقدّم خبر أحفظهما وأتقنهما،لأنّ النّفس أسكن إلى روايته ،وأوثق بحفظه" .
3-كما يستدلّ بأدلّة التّرجيح بكثرة الرّواة-الّتي سيأتي ذكرها-،لأنّ القلب أميل إلى رواية الأحفظ كميله إلى رواية الأكثر،قال إمام الحرمين:"فالقول عندي في الخبرين،مع اختصاص إحدى الرّوايتين بالمزيّة،كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرّواة مع الاستواء في الصّفات المرعيّة" .
وبنفس هذه الأدلّة يمكن الاستدلال على جواز التّرجيح بورع الرّواة وشهرة عدالتهم،لأنّ الرّواة قد يتفاوتون في العدالة،كما يتفاوتون في الضّبط والحفظ.
أدلّة الرّأي الثّاني
استدلّ الإمام ابن حزم على مذهبه في إبطال التّرجيح بالعدالة،بأدلّة منها:
1-إنّ الله لم يفرّق بين خبر عدل ،وخبر عدل آخر أعدل منه،ومن حكم في الدّين بغير أمر من الله أو من رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- ،أو إجماع متيقّن،فقد قفا ما ليس به علم،وفاعل ذلك عاص لله،قال ابن حزم:"وإنّما أمر تعالى،بقبول نذارة النّافر الفقيه العدل فقط،وبقبول شهادة العدول فقط، فمن زاد حكما فقد أتى بما لا يجوز له، وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه،وغلب ما لم يأمره الله-عزّ وجلّ- بتغليبه" .
2- قد يعلم الأقلّ عدالة ما لا يعلمه من هو أتمّ منه عدالة ،فقد جهل أبو بكر-رضي الله عنه-ميراث الجدّة،وعلمه المغيرة ومحمّد بن مسلمة –رضي الله عنهما-،وبينهما وبين أبي بكر بون بعـيد.
3-القول بترجيح خبر الأعدل هو من باب طيب النّفس،وهو باطل لا معنى له،قال ابن حزم:"ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشّهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقلّ، وإنّما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ،ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين،وكذلك في القذف والقطع،فأين طيب النّفس ههنا؟، فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدّليل عليه،وسواء طابت عليه النّفس أولم تطب" .
4-إنّ القائلين بترجيح رواية الأعدل هم أترك النّاس لذلك،حيث يأخذون، بما روى الأقلّ عدالة ويتركون ما روى الأعدل.
وبهذه الأدلّة أيضا استدلّ الحافظ ابن حزم في إبطاله التّرجيح بالضّبط والحفظ،حيث قال:"وهذا أيضا خطأ قد أبطلنا-فيما سلف من هذا الباب-قول من رام ترجيح الخبر بأنّ فلانا أعدل من فلان" .
الرّأي الرّاجح
الرّاجح من الرّأيين:ما ذهب إليه الجمهور من جواز التّرجيح بضبط الرّواة وحفظهم،وكذا عدالتهم، وأمّا ما استدلّ به ابن حزم،فيناقش كما يلي:
1-إنّ عدم التّفريق بين نذارة وشهادة العدل والأعدل يكون فيما لم تتعارض الأدلّة،أمّا مع التّعارض فيمكن التّرجيح بناء على هذا التّفاوت.
2-لا خلاف في أنّ الأعدل والأحفظ قد يخفى عليه ما لا يخفى على من هو دونه،ولكن التّرجيح بينهما فيما إذا استويا في العلم وتقابلا ،فيرجّح الأعدل والأحفظ.
3-ليس المراد من طيب النّفس التّشهّي واتّباع الهوى،وإنّما المراد تقديم ما غلب على الظّنّ أرجحيّته وفق الضّوابط الشّرعيّة،وقد قال النّبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-:}استفت قلبك:البرّ ما اطمأنّت إليه نفسك....{.
4-لا يقدح في تقرير هذه القاعدة عدم العمل بها في بعض الأحيان،وذلك لأنّها أغلبيّة وليست كليّة،فربما تخلّف العمل بها لعارض،،أو لقاعدة أخرى غلّبت عليها.
5-كما أنّ الإمام ابن حزم-وإن أنكر العمل بهذه القاعدة نظريّا-إلا أنّه استعملها في بعض الفروع التّطبيقيّة،ومن ذلك قوله-في مسألة وضوء الجنب عند نومه-:" فإن قيل: إنّ هذا الحديث أخطأ فيه سفيان،لأنّ زهير بن معاوية خالفه فيه،قلنا: بل الخطأ بلا شكّ من خطّأ سفيان بالدّعوى بلا دليل،وسفيان أحفظ من زهير بلا شكّ" ،وقال-في مسألة الاستصباح بالمائع إذا وقعت فيه نجاسة-:"عبد الواحد قد شكّ في لفظة الحديث،فصحّ أنّه لم يضبطه،ولا شكّ في أنّ عبد الرّزّاق أحفظ لحديث معمر" .

3-تطبيقات القاعدة عند ابن عبد البرّ
حكم أكل الضّبع

اختلف الفقهاء في حكم أكل الضّبع على أقوال :
القول الأوّل:فذهب الحنفيّة إلى تحريمه والمالكيّة إلى كراهته ،واستدلّوا بعموم حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال:}أكل كلّ ذي ناب من السّباع حرام {.
القول الثّاني:وذهب الشّافعية والحنابلة إلى جواز أكل الضّبع ،واستدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه- قال:}جعل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الضّبع من الصّيد وجعل فيه إذا أصابه المحرم كبشا{،وفي رواية: قال عبد الرّحمن بن أبي عمّار:}سألت جابر بن عبد الله عن الضّبع،أآكلها؟،قال:نعم،قل� �:أصيد هي؟،قال:نعم، قلت: أسمعت ذلك من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؟، قال: نعم { .
فعارض حديث جابر حديث أبي هريرة الدّال على تحريم أكل ذي النّاب من السّباع،والضّبع ذو ناب من السّباع،وقد رجّح الإمام ابن عبد البرّ حديث أبي هريرة القاضي بالتّعميم،وذلك لمخالفة عبد الرّحمن بن أبي عمّار من هو أحفظ منه وأثبت،حيث قال:"والحجّة لمالك وأصحابه في تحريم أكل كلّ ذي ناب من السّباع عموم النّهي عن ذلك،ولم يخصّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-سبعا من سبع،فكلّ ما وقع عليه اسم سبع فهو داخل تحت النّهي على ما يوجبه الخطاب،وتعرفه العرب من لسانها في مخاطباتها،وليس حديث الضّبع ممّا يعارض به حديث النّهي عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع،لأنّه حديث انفرد به عبد الرّحمن بن أبي عمّار،وليس بمشهور بنقل العلم ولا من يحتجّ به إذا خالفه من هو أثبت منه..وقد روي النّهي عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع من طرق متواترة..روى ذلك جماعة من الأئمّة الثّقات الّذين تسكن النّفس إلى ما نقلوه،ومحال أن يعارضوا بحديث ابن أبي عمّار"([9] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn9))،فرجّح الإمام ابن عبد البرّ حديث أبي هريرة الدّال على جواز الضّبع،لكون روّاته أثبت وأحفظ وأشهر بالعدالة ونقل العلم من عبد الرّحمن بن أبي عمّار،ولأنّ خبر أبي هريرة-رضي الله عنه- أكثر روّاة.
والصّحيح خلاف ذلك،لأنّ الخبر في جواز أكل الضّبع صريح ،وهو مرويّ في الصّحيح،ولا تعارض بين الخبرين،لأنّ حديث أبي هريرة مخصوص بحديث جابر،وهو أولى من التّرجيح،ولعلّ تخصيص الضّبع بالحلّ من سائر السّباع يدلّ على اختصاص السّبع المحرّم بكونه يعدو على النّاس في الغالب،كما قال ابن عبد البرّ:"فقال منهم قائلون: إنّما أراد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله هذا ما كان يعدو على النّاس مثل الأسد والذّيب والنّمر والكلب العادي وما أشبه ذلك ممّا الأغلب في طبعه أن يعدو،وما كان الأغلب من طبعه أنّه لا يعدو فليس ممّا عناه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-بقوله هذا،وإذا لم يكن يعدو فلا بأس بأكله"([10] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn10)).
قال الإمام ابن القيّم:" فإنّه إنّما حرّم ما اشتمل على الوصفين:أن يكون له ناب وأن يكون من السّباع العادية بطبعها،كالأسد والذّئب والنّمر والفهد، وأمّا الضّبع فإنّما فيها أحد الوصفين،وهو كونها ذات ناب،وليست من السّباع العادية،ولا ريب أنّ السّباع أخصّ من ذوات الأنياب،والسّبع إنّما حرّم لما فيه من القوّة السّبعيّة الّتي تورث المغتذي بها شبهها،فإنّ الغاذي شبيه بالمغتذي،ولا ريب أنّ القوّة السّبعيّة الّتي في الذّئب والأسد والنّمر والفهد،ليست في الضّبع حتّى تجب التّسوية بينهما في التّحريم،ولا تعدّ الضّبع من السّباع لغة ولا عرفا والله أعلم" .

حكم الشّفعة في المقسوم

المقصود بالشّفعة: انتقال حصّة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبيّ بمثل العوض المسمّى
ولم يختلف الفقهاء في مشروعيّتها ،وإنّما اختلفوا في وجوبها في المقسوم على قولين :
القول الأوّل:ذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا شفعة إلا للشّريك ما لم يقاسم،واستدلّوا بحديث
أبي سلمة وأبي الزّبير عن جابر-رضي الله عنه-:} أنّ رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- قضى بالشّفعة فيما لم يقسم،فإذا وقعت الحدود فلا شفعة { .
القول الثّاني:وذهب الحنفيّة إلى أنّ الشّفعة تثبت للشّريك المقاسم وغير المقاسم إذا كانت الطّريق واحدة،واستدلّوا بما رواه عبد الملك عن جابر أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال:}الجار أحقّ بشفعته ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحد{.
وقد ذهب الإمام ابن عبد البرّ مذهب الجمهور في أنّه لا شفعة للشّريك المقاسم،وردّ حديث عبد الملك عن جابر-رضي الله عنه- ،لكون عبد الملك لا يقاس بأبي سلمة وأبي الزّبير في الحفظ والعدالة،حيث قال:" على أنّي أقول إنّ حديث عبد الملك هذا في ذكر الطّريق قد أنكره يحيى القطّان وغيره،وقالوا لو جاء بآخر مثله ترك حديثه، وليس عبد الملك هذا ممّا يعارض به أبو سلمة وأبو الزّبير،وفيما ذكرنا من روايتهما عن جابر ما يدفع رواية عبد الملك هذه"([11] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn11))،وممّا يقوّي ما ذهب إليه الجمهور أيضا:
1-"أنّ إيجاب الشّفعة إيجاب حكم،والحكم إنّما يجب بدليل لا معارض له وليس في الشّفعة أصل لا اعتراض فيه ولا خلاف إلا في الشّريك المشاع"([12] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn12)).
2-على فرض تعارض الأخبار،فإنّها تتساقط ويرجع إلى الأصل،وهو بقاء الملك إلا بدليل،قال ابن عبد البرّ:"وإذا حصلت الآثار في هذا الباب متعارضة متدافعة،سقطت عند النّظر ووجب الرّجوع إلى الأصول،وأصول السّنن كلّها والكتاب يشهد أنّه لا يحلّ إخراج ملك من يد قد ملكته ملكا صحيحا إلا بحجّة لا معارض لها"([13] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn13)).
3-كما يمكن الجمع بين الحديثين بأن يحمل الجار على الشّريك،ولا تعارض بينهما،قال ابن عبد البرّ:"ويحتمل أن يكون الجار المذكور في هذا الحديث هو الشّريك في المشاع،والعرب قد تسـمّي
الشّريك جارا والزّوجة جارة،وإذا حمل على هذا لم تتعارض الأحاديث"([14] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn14)).

سعاية العبد في العتق

وهي:أن يعتق بعض عبد،ويبقى بعضه الآخر في الرّق،فيعمل العبد ويكسب،ويصرف ثمن كسبه إلى مولاه،فسمّي كسبه لهذا الغرض سعاية ،اختلف الفقهاء في مشروعية السّعاية على قولين :
القول الأوّل:ذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا سعاية على العبد في العتق،فلا يعتق نصيب الشّريك إلا مع يسار المعتق،وذلك بدفع القيمة لا مع إعساره ،واستدلّوا بحديث ابن عمر-رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-قال:}من أعتق شركا له في عبد،فكان له مال يبلغ ثمن العبد،قوّم العبد عليه قيمة عدل،فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ،وإلا فقد عتق منه ما عتق{.
القول الثّاني:وذهب الحنفيّة إلى أنّه يستسعى العبد في حصّة الشّريك إن لم يكن للمعتق مال ،واستدلّوا بحديث أبي هريرة –رضي الله عنه-أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال:}من أعتق نصيبا أو شقيصا في مملوك، فخلاصه عليه في ماله،إن كان له مال،وإلا قوّم عليه فاستسعي به غير مشقوق عليه{.
وسبب الخلاف تعارض الحديثين،وقد رجّح الإمام ابن عبد البرّ حديث ابن عـمـر-رضي الله عنهما- الّذي لم يذكر فيه زيادة:" ثمّ استسعي غير مشقوق عليه"،لترك أهل الحفظ والإتقان لها، إذ قال:"فاتّفق شعبة وهشام وهمّام على ترك ذكر السّعاية في هذا الحديث،والقول قولهم في قتادة عند جميع أهل العلم بالحديث،إذا خالفهم في قتادة غيرهم،وأصحاب قتادة الّذين هم حجّة فيه: هؤلاء الثّلاثة شعبة وهشام الدّستوائيّ وسعيد بن أبي عروبة ،فإن اتّفقوا لم يعرج على من خالفهم في قتادة،وإن اختلفوا نظر،فإن اتّفق منهم اثنان وانفرد واحد،فالقول قول الاثنين،لا سيّما إن كان أحدهما شعبة،وليس أحد بالجملة في قتادة مثل شعبة لأنّه كان يوقفه على الإسناد والسّماع،وهذا الّذي ذكرت لك قول جماعة أهل العلم بالحديث،وقد اتّفق شعبة وهشام في هذا الحديث على سقوط ذكر الاستسعاء فيه،وتابعهما همّام"([15] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn15)).
وقال أيضا:"وأمّا هشام الدّستوائيّ وشعبة بن الحجّاج وهمّام بن يحيى فرووه عن قتادة باسناده المذكور لم يذكروا فيه السّعاية،وهم أثبت من الّذين ذكروا فيه السّعاية "([16] (http://www.bdayt-m.com/vb/#_ftn16)).
والصّحيح ما ذهب إليه بعض المحقّقين من الجمع بين الرّوايتين-وهو أولى من التّرجيح-وذلك على وجهين :
1- أنّ المعسر إذا أعتق حصّته لم يسر العتق في حصّة شريكه،بل تبقى حصّة شريكه على حالها وهي الرّق،ثمّ يستسعي في عتق بقيّته،فيحصل ثمن الجزء الّذي لشريك سيّده،ويدفعه إليه ويعتق،وجعلوه في ذلك كالمكاتب،قال ابن حجر:" والّذي يظهر أنّه في ذلك باختياره لقوله:"غير مشقوق عليه"،فلو كان ذلك على سبيل اللّزوم بأن يكلّف العبد الاكتساب والطّلب حتّى يحصل ذلك،لحصل له بذلك غاية المشقّة،وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور،لأنّها غير واجـبة
فهذه مثلها".
2- المراد بالاستسعاء أنّ العبد يستمرّ في حصّة الّذي لم يعتق رقيقا،فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرّق،قال في الفتح:"قالوا:ومعنى قوله:"غير مشقوق عليه"،أي:من وجه سيّده المذكور،فلا يكلّفه من الخدمة فوق حصّة الرّق،لكن يردّ على هذا الجمع،قوله في الرّواية المتقدّمة:"واستسعي في قيمته لصاحبه" ،والأولى أن يقال بأنّه لا معارضة بين الخبرين،فأحدهما ذكر التّقويم في حال اليسار،والآخر زاد الاستسعاء في حال الإعسار،والأخذ بالزّيادة متعيّن،وهو نوع من أنواع الجمع،وذلك أولى من التّرجيح.

([1])التّمهيد ج15 ص298.

([2])التّمهيدج8 ص121.

([3])التّمهيد ج1 ص387.

([4])التّمهيدج8 ص153.

([5])التّمهيد ج8 ص246.

([6])التّمهيد ج15 ص66.

([7])التّمهيد ج1 ص333.

([8])التّمهيد ج1 ص100.

([9])التّمهيدج1 ص155.

([10])التّمهيد ج1 ص152.

([11]) التّمهيد ج7 ص48.

([12])التّمهيد ج7 ص48.

([13])التّمهيدج7 ص50 .

([14])التّمهيدج7 ص48 .

([15]) التّمهيد ج14 ص276.

([16])الاستذكار ج23 ص126.