المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات !



أهــل الحـديث
07-03-2013, 08:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات !

يُحكى أن والد أحد العلماء المتقدمين ، قال لابنه : يا بُني أود أن أعتلي على كرسي التعليم والمشيخة ، يُحيط بي طلاب العلم كما يحيطون بك في حلقتك يسألونك ويكتبون أقوالك ، غير أن حالي في العلم كما تعرفه ، لم أدرس كما درست ، ولم أجالس العلماء ، وليست لدي إجازات ، فأشفق الابن على أبيه ، وأراد أن يُحقق له أمنيته ، فطلب منه أن يجلس على كرسيه في المسجد ، ويقرأ عليه أحد الطلاب من كتاب ، وقال له : إن سئلت عن شيء فقل : هذه المسألة فيها خلاف ، وفي يوم تفطن أحد الطلبة النابهين لأجوبته المتهافتة المتكررة ، فسأله بدهاء : أفي الله شك فاطر السموات والأرض ؟! فأجاب المتمشيخ : فيها قولان ! فضج الناس ، وكُشف أمر المتعالم .
تذكرت هذه القصة ، عندما عكفت على تحليل ( خطاب فكري ) بدأ يسود في المشهد الثقافي المحلي ، فوجدت : أي شاب حديث السن لديه بعض القراءات الخفيفة (كالوجبات السريعة) يستطيع أن يكون مفكراً متمرداً يلفت الأنظار إليه بسرعة ويوصف من بعض المطبلين بالذكاء والعبقرية والإبداع ، وعثرت أثناء ذلك على مثلث التمرد الفكري ، فأحببت أن أشارككم في كشف زيف المتعالمين الذين ارتفع صخبهم في وسائل التواصل الاجتماعي والمقاهي الفكرية وغيرها ، فما هي أضلاع المثلث ؟
الضلع الأول : (كن معارضاً) .
الضلع الثاني : (كن غامضاً) .
الضلع الثالث : (كن نسبياً) .
ولنبدأ الآن في القاعدة الأولى التي يتعلم منها المفكر " اللامع" - زعموا - أصول جذب الأنظار إلى تغريداته أو شذراته ومداخلاته الفكرية .
:
القاعدة الأولى : ( كن معارضاً ) غرائبياً أو "خالف تُعرف"
المسألة يسيرة جداً بل وقديمة ، لكي تنجح في جذب الأنظار عليك أن تخالف السائد والمعروف ، خالف كل الأشياء المألوفة ، عليك بنقد المقدسات والتشكيك في صحتها ، تهكم على المسلمات الاجتماعية ، حطم كل شيء يستحسنه عموم الناس وارفضه بقوة وعارضه بشدة ، فإذا عظم الناس مثلاً التفاؤل والنظرة الإيجابية ومدحوهما ؛ فعليك أن تهاجمهما بضراوة ، تحدث بامتعاض عن المتفائلين وتفاهاتهم ، وصفهم ببلادة الفهم إزاء الإحساس بآلام العالم ، وتعجب من موت ضمائرهم التي تشاهد كل هذه المآسي في العالم من فقر ومرض وموت ونهب وظلم ومع ذلك يتحدثون ببلاهة عن التفاؤل ، ثم اسخر من فكرة الإيجابية كما تشاء ، فالمجد للساخرين والمستهزئين بكل من لا يشبه فرادتهم وإبداعهم !
:
كن نيتشوياً ومزق القيم تمزيقاً !
ومن هنا وجدنا بعضهم يُوصي غيره ممن يستنصحه : لن تكون مفكراً لامعاً إلا إذا تأثرت بشخصية نيتشه الذي كان يتفلسف ويفكر بمطرقة حطم بها كل شيء رآه الناس جميلاً ومهماً ، كما قال في كتابه " هذا الإنسان " ترجمة مجاهد عبدالمنعم مجاهد (ص 174) : ( إن من يكون مبدعاً في الخير والشر ، يجب أن يكون في البدء مدمراً ، ويمزق القيم تمزيقاً ) .
ووصف نفسه بأنه يتفلسف بمطرقة ، فأفكاره بمثابة "الشاكوش" الذي يهشم به كل شيء تعارف الناس على حُسنه وخيريته وأنه حق ، وهكذا يُقال للشاب الحدث : لن تكون مفكراً لا معاً حتى تهدم وتدمر كنيتشه وتخالف الناس ، فتكره التفاؤل وتهاجم المقدس وتمدح التناقض وتتعشق السير في المناطق المحرمة وتتغزل في القمم الكئيبة المنعزلة .. الخ
:
المحرمات هي الحقيقة !
ومن نماذج هذه المعاكسة والمخالفة ، ما قاله نيتشه في (ص 15) في أن كل المحرمات هي الحقيقة التي حُجبت عنك ، فإن كنت تبحث عن الحقيقة ؛ فعليك أن تقتحم تلك الغابات الممنوعة : ( إن ما هو محرم تحريماً شديداً هو دائماً الحقيقة ) .
وفي (ص 177) يحذر من قيم الخير ويهجوها كما يهجو الناس الشر ، فيقول : ( من خلال الخير يصبح كل شيء زائفاً ومعطوباً من الجذور) ويمضي نيتشه في كثير من مقولاته يهاجم فكرة الخير التي يحترمها البشر جميعاً ! ويمتد هجومه حتى إلى الإنسان المتفائل الذي يحتقره ويصفه بالمتفسخ ويؤكد أن ضرره أكثر من المتشائم .
:
كن حاقداً واغضب كــ " الديناميت " !
وفي (ص 173) يقول : ( إنني لست رجلاً ، إنني ديناميت ) وهذا تكريس منه لفكرة الهدم والتقويض ، والتفلسف بمطرقته المسرفة في التكسير ، بل أكثر من ذلك هو يتكلم عن فلسفة تُفج وتنسف ، كأشد مواد المتفجرات " الديناميت".
وفي (ص 173 ) أيضاً يطري عمل المهرج ويجعله أفضل من عمل رجل الدين الأخلاقي : ( أعتقد أنني ممتلئ بالحقد ... أنا لا أريد أن أكون قديساً ، إنني بالأحرى أحب أن أكون مهرجاً ، بل ربما أنا مهرج) .
وفي (ص43) يقول : ( إن وخز الضمير يبدو لي نوعاً من القيم الشريرة ) فما اصطلح الناس على تسميته بتأنيب الضمير ، يراه نيتشه من القيم الفاسدة والضارة التي يجب التخلص منها لسعادة العالم وانتصاره .
:
هل عبقريتك في أنفك كنيتشه ؟
وفي (ص 173-174) يقول : ( إن عبقريتي تكمن في أنفي !! ) وهذا إمعاناً منه في الطرح الغرائبي المعاكس للمألوف ، وماذا سيجد العالم في أنف نيتشه من عبقرية يا تُرى ؟
ثم يمدح التناقض فيقول : ( إني أتناقض بمثل ما لم يتناقض أحد من قبلي )
ولعل هذه المخالفة لكل شيء سائد أو المعاكسة دائماً من أجل المعارضة ، هي أحد أسرار الإعجاب الشديد بنيتشه الذي نجده متفشياً في أوساط بعض الشباب لكونه مُلهماً لهم في تعبيد هذا الطريق القصير نحو الشهرة السريعة بأدنى جهد وأيسر مجهود ، وهو إعجاب غير مبرر علمياً وعقلياً لعدة اعتبارات مهمة ربما أعود لها لاحقاً .
:
تمجيد العفن عند الفيلسوف " العوّاء " !
وعلى شاكلة نيتشه في مهاجمة السائد والمتعارف عليه رغبة في الظهور بمظهر المفكر المتمرد المستقل ، وجدنا فئاماً من الشباب والشابات مؤخراً انتشر بينهم الإعجاب الشديد بكتابات الكاتب الروماني الأصل ، الفرنسي الثقافة " سيوران " التي تضج بتمجيد العفن ككتابه " موجز العفن " ، ومدح الحزن وإطراء الكآبة والوحدة والتشاؤم ككتابه " على ذرى اليأس " .
:
لو لم يُولد البشر لكانت هذه أمثل صيغة للوجود !
يمارس " سيوران " نوعاً من الإغراق المقزز في التشكي من وطأة الوجود وعبء الحياة وفقدان المعنى ، حيث يرى " ألا نولد هي أمثل صيغة وجود على الإطلاق " ، وأن الوجود الإنساني ما هو سوى ترقيع لما لا يمكن ترقيعه .
ويقول بكل بجاحة وقسوة : " رؤيتي للمستقبل واضحة إلى حد أنه لو كان لي أبناء لخنقتهم على الفور " ، وتتمحور فلسفته حول هذا المعنى . حتى وصف نفسه بأنه " فيلسوف عَوّاء " أي أنه يعوي بكثرة كما تفعل الذئاب !
:
تجميل الانتحار وتحسين الاعتقاد بعبثية الوجود !
وفي كتاب " المعنى والغضب : مدخل إلى فلسفة سيوران " لحميد زناز (ص 72 ) تطالعنا عبارة سيوران :
( ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم إلى هذا العالم ) .
ويقول (ص16) : ( لا شيء يثبت أننا أكثر من لا شيء ) .
وفي (ص 80) يمجد الانتحار ويُجمله جداً ، قائلاً : ( فكرة الإنتحار هي الفكرة الوحيدة التي تجعلنا نتحمل الحياة ) .
وفي (ص 73) يعلن سخطه من ضيوفه وزائريه مناقضاً فضيلة كرم الضيافة أو فضيلة التهذيب ، فيقول في ذلك : ( سأكتب على مدخل منزلي : " كل زيارة هي اعتداء " أو " ارحموني ، لا تدخلوا " أو ملعون من يدق الباب " ) .
وفي (ص 76) يتحسر على فكرة العدم لأنها لم تُفهم ولم تُقدس كما يجب قائلاً : ( واأسفاه على العدم ) .
وفي (ص 76) يذم مفهوم الوطنية قائلاً : ( إنسان يحترم نفسه لا يمكن أن يكون له وطن ، الوطن صمغ قوي ) .
وفي (ص 77) يمجد التناقض بين القول والفعل : ( أمضي وقتي في الدعوة للانتحار عن طريق الكتابة ، والدعوة لتجنبه عن طريق القول ) .
ثم هو يدعو إلى أن يكون الوعي مطروداً في المنافي ، وإلا لم يكن بوعي حقيقي : ( عدم الوعي وطنٌ .. الوعيُ منفى ) ، إلى غير ذلك من الأفكار العدمية والتشاؤمية التي تخالف الضرورات الإنسانية والمألوفات التي تسالم عليها البشر طوال مسيرة حياتهم لفائدتها ونفعها وكونها ضرورية لاستمرار الوجود الإنساني .
:
مستهلكوا الأفكار المستوردة !
إن " مستهلكي الأفكار المستوردة " من الباحثين عن شهرة سريعة أو من المستلذين بخداع أنفسهم بأنهم مبدعون مختلفون عن الآخرين ، لا يستطيع أحدهم أن يأتي بفكرة إلا أن تكون من الأفكار المغتصبة المسروقة بوقاحة من سيوران أونيتشه أو عبدالله القصيمي وأشباههم ، فأين الإبداع والعقل المتوهج بالموهبة المختلفة .
إن أي " درباوي " أو " عربجي " يمتلك النظرة ذاتها ، فهو يرى أنه يعيش مهمشاً لغرابته واختلافه وفي واقع الأمر يحمل " فلسفة وجودية " لكنها من نوع آخر والفارق بين الفئتين فارق طبقي اقتصادي ليس إلا ، وهنا أدعو أن تعقدوا مقارنة بين " مستهلكي الأفكار المستوردة و" الدرباوية " وابحثوا عن نقاط التشابه بينهما من حيث الرغبة في إثبات الذات وشد الانتباه عبر التمرد ؟!
إن الإبداع والشخصية المختلفة تكون محل ثناء واحترام إذا كانت حقيقية منتجة ، وتكون كذلك متى زادت في معرفتنا ، أو أضافت إلى الوجود إضافة بناءة مفيدة تساهم في نشر العلم الحقيقي و محاصرة الجهل أو تسعى إلى تعزيز قدرات الإنسان ومنفعته وقوته و تسلحه بأسلحة جديدة تمكنه من محاربة الظلم والمرض والفقر أو تسكب في أرواحنا وأذاوقنا ما يزيد في الإشباع الجمالي والتناغم مع الكون والكائنات ، وما عدا ذلك فهو إبداع مزيف ، واختلاف مثير للشفقة !
إن أولئك لا يقدرون على " إنتاج أفكارهم المبتكرة " ، لقد اختاروا أن يكونوا منسلخين تتمشى بكتيريا الكراهية لذواتهم في عروقهم ، وتسري في دمائهم الرغبة في التنازل عن هويتهم ، بل ربما بلغ الأمر ببعضهم أن يصرح باستعداده لأن يعرض خدماته لخيانة عروبته وإسلامه لأول مشتر أجنبي .
ولذا رأينا وسمعنا تفاقم الهجوم على اليقين والسكينة والاستقرار ، ومدح أضدادها من الشك والقلق والحيرة تماشياً مع رغبات البعض أن يكون مفكراً متمرداً في سويعات قليلة ، ومن جراء هذه الآفة رأينا تنامي موجة التشكيك في المقدسات ، مع أن أركان الإيمان والإسلام لم تقف يوماً في وجه تقدم حقيقي أو قوة جديدة نافعة لبني الإنسان ، حتى يسوغ القدح فيها بكل هذه الضراوة والرفض .
ومن مظاهر التطبيق لقاعدة : ( كن معارضاً ) أي كن غريباً مختلفاً عن السائد ؛ الولع بطرح الأسئلة التي تثير الدهشة لأول وهلة ، مع أنها لا تليق بطارحيها لبعدها عن تخصصاتهم ، وما ذلك إلا محاولة من بعضهم للظهور بالعمق الفكري والعبقرية الفريدة ، ولكي يقال عنه : إنه واسع التفكير في الأشياء والوجود ، ومما يؤكد أنها أسئلة لا تليق بهم ؛ أنهم لا يبذلون أي جهد علمي حقيقي أو بحثي للعثور على الإجابات ، وذلك من قبيل :
- لماذا الشمس دائرية وليست مثلثة أو حلزونية ؟
- لماذا القمر ليس له أسنان ؟
- هل الهواء له ذاكرة ؟
- هل ترانا القطة كما نرى أنفسنا ، أو ربما كانت تشاهد الإنسان في صورة دجاجة ؟
- هل تشعر الألوان بوجودها أو ربما ظن اللون الأحمر أنه كالماء بلا لون ؟
وهذه أسئلة سهلة جداً لحد التفاهة ، تعتمد على الصور المجازية والتلاعب بالكلمات ، ويستطيع أي محترف لغوي أن يطلق العشرات على شاكلتها من مدفع أسئلته وبسرعة فائقة .
وللحديث بقية فلم ننته إلا من الثلث الأول فقط ، وانتظروا مفاجأة القاعدة الثانية : ( كن غامضاً ) ، سنكشف زيف هؤلاء – إن شاء الله - وننزع عنهم ألاعيب الدهشة التي بهروا بها البسطاء ، وهم بلا شك يُدهشون الكثيرين في البدايات ، ولكن ما إن تسلط أضواء الصدق عليهم تتلاشى " فلاشاتهم " أمام نور الحقيقة !

أ.د. خالد الدريس