المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه



أهــل الحـديث
02-03-2013, 07:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وبعد؛
فقد كنت في الخارج للعلاج مرافقاً لشخص، والتقيت في أحد المساجد بمدينة لندن أحد القراء وصار بيني وبينه تعارف وبعد أيام سألني عن حديث العرباض بن سارية المشهور الذي فيه: "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" فقلت هو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن، فذكر لي أن بعض المنتسبين إلى الحديث عندهم يضعفه، وأنه كتب فيه بحثاً، فطلبت منه البحث وإذا هو أوراق معدودة، فرأيت أن أكتب بحثاً صغيراً في بيان صحة الحديث والجواب على أوجه الطعن التي ذكرها المضعف له.
ثم رأيت اليوم بعد رجوعي إلى قطر أن أنشر هذا البحث في ملتقى أهل الحديث بعد انقطاع طويل عنه بسبب مشاغل الدنيا الكثيرة، أسأل الله عز وجل ألا يشغلنا إلا بطاعته.
لكني قبل ذلك بحثت في الملتقى هل للحديث فيه ذكر، فإذا الكلام فيه كثير والنقاشات قد وقعت من قبل، وإذا بالورقات التي أرسلت إلي واعتمد عليها المضعف للحديث هي بعينها موضوع طرحه الأخ الفاضل محمد الأمين في هذا الملتقى، كما وجدت مشاركات له في بعض المواضيع المتعلقة بالحديث نفسه، وهو فيها يضعف الحديث، فلا أدري هل الأخ الذي يضعف الحديث وجمعني به لقاء في لندن حول الموضوع هو محمد الأمين نفسه أو غيره.
وعلى العموم أحببت أن أطرح هذا الموضوع من باب الفائدة، وهو وإن كان قديماً بالنسبة لغيري إلا أنه جديد بالنسبة لي ولعلي أضفت فيه جديداً.
وسوف أطرحه مكتوباً ومرفقاً بصيغة pdf
نص البحث:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ؛
فقد أرسل لي أحد الإخوة الفضلاء وريقات كتبها بعض طلبة العلم من أهل الحديث في تضعيف حديث مشهور لم يضعفه أحد من أهل العلم إلا ابن القطان الفاسي، وأحسب أنه إنما كتب هذه الوريقات حرصاً منه على السنة، وتطبيقاً لمنهج أهل النقد في تمييز الصحيح من الضعيف.
والحديث الذي تكلم فيه هو الحديث الذي رواه الخمسة إلا النسائي من حديث عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ومع أنني فرحت بوجود بعض أهل الحديث قريبا مني هنا في مدينة (لندن) لكوني عند كتابة هذه الأوراق فيها، لعله يبادلني الكلام في علم الحديث الشريف، إلا أنني لا أخفي عدم إعجابي بالطريقة التي انتهجها في تضعيف هذا الحديث، فرأيت لذلك أن أعلق عليها بما يتيسر لي من باب المناصحة والمذاكرة.
وقد رأيت أن أسوق كل وجه من أوجه الانتقاد على الحديث وجوابه عقبه مباشرة، لأني رأيت ذلك أقرب للفهم وأبعد عن تشتت الذهن، وأوجه انتقاد هذا الحديث التي ذكرها الأخ الفاضل ثمانية أوجه كما يلي؛
الوجه الأول وجوابه
الوحه الأول هو أن الحديث من رواية عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وهو تابعي لا يوجد فيه توثيق ولا تجريح، فالرجل مجهول الحال، والحديث من أجله لا يصح، كما قال ابن القطان الفاسي في الوهم والإيهام (4/89).
ويمكن الجواب على ذلك بما يلي؛
أ): أن ابن القطان بنى تضعيفه للحديث على عدم وجود توثيق في الراوي وعدم وجود توثيق في راوٍ معين ليس دليلاً على جهالته، فقد يكون الراوي معروفاً واكتفي بمعرفته عن توثيقه، وتصحيح الأئمة لحديث الراوي دليل على عدم جهالته، وقد صحح الحديث عشرة من النقاد كما سيأتي.
ب) أن التوثيق عند ابن القطان لا يكون إلا ممن عايش الرواي أو نقل عمن عايشه، وهذا منهج مخالف لمنهج النقاد فإن عندهم لمعرفة حال الراوي طريقتين؛ إحداهما: ناتجة عن المعايشة كما هو مذهب ابن القطان، والثانية: ناتجة عن سبر الأحاديث، والذي عليه الأئمة تصحيح حديث من روى عنه الثقات إذا لم يأت بما ينكر عليه، وعبد الرحمن السلمي روى عنه جماعة من الثقات منهم خالد بن معدان وكان كبير القدر عند أهل الشام، ولم يأت السلمي بمنكر وإلا لتكلم فيه النقاد.
وهذا الذي ذكرت أن أئمة النقاد عليه يحتاج في توضيحه لبحث مستقل ليس هذا موضعه غير أنه سيرد كلام للإمام أحمد في سعيد بن جمهان يشير إلى ما ذكرته.
ثم إن عبد الرحمن السلمي ابنٌ لصحابي جليل وهو عمرو بن عبسة السلمي، وعدم رواية ابنه عبد الرحمن عنه دليل على ثقة عبد الرحمن، حيث إن النفس تتشوف للرواية عن الآباء والافتخار بهم، ومع ذلك لم يرو عبد الرحمن عن أبيه، وذلك محمول على أنه ليس عنده عن أبيه رواية، وهذا قد يكون دليلا على مزيد التثبت، والله أعلم.
وأما ابن القطان فإنه معروف بالتعنت في الجرح، وتعنته في كتابه الوهم والإيهام كثير، وقد تعقبه الذهبي في مواضع منه، ومن مليح ما وقفت عليه من ذلك أن ابن القطان لما كان ينتقد منهج عبد الحق في التصحيح للمختلطين قال في ضمن ما قال كما بيان الوهم والإيهام (5/504): "وأن سهيل بن أبي صالح، وهشام بن عروة لمنهم، لأنهما تغيرا، وهو لا يتجنب شيئا مما يجد لهما، ولا ينبه على كونه من روايتهما إذا كان من عند البخاري أو مسلم".
فعلق الذهبي على كلامه هذا في كتاب الرد على ابن القطان (ص:60) بقوله: "قلت: فاتتك نكتة، فإنك صَحَفِي ما جالست أصحاب الحديث، أعاقل يعد هشام بن عروة من المختلطين؟ أعظم الله أجرنا فيك".
وقد رد عليه الذهبي في تجهيل أناس كثيرين في كتاب الرد على ابن القطان، غير أني لم أقف على كتابه هذا إلا بعد أن بحثت عن ردوده عليه في الميزان، ولذلك سأقتصر على بعضها، فأقول:
لما قال ابن القطان في حفص بن بغيل: "لا يعرف له حال ولا يعرف" علق عليه الذهبي في الميزان (1/556) بقوله: "ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، وهذا شئ كثير، ففى الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل".
قال مقيده: ومن الأمثلة على ذلك إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، فإنه لا يوجد فيه تجريح ولا تعديل، وقد أخرج له البخاري حديثه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان بالمدينة يهودي، وكان يسلفني في تمري إلى الجداد، وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة، فجلست، فخلا عاما، فجاءني اليهودي عند الجداد ولم أجد منها شيئا، فجعلت أستنظره إلى قابل فيأبى، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: «امشوا نستنظر لجابر من اليهودي» ... الحديث. ومع ذلك قال فيه ابن القطان كما في بيان الوهم والإيهام (4/498): "إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المذكور، لا تعرف له حال".
وعندما قال ابن القطان في مالك بن الخير: "هو ممن لم تثبت عدالته"، علق عليه الذهبي في الميزان (3/426) بقوله: "يريد أنه ما نص أحدا على أنه ثقة، وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدا نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح".
وعندما قال ابن القطان في أبي عمير بن أنس بن مالك: "لم تثبت عدالته"، علق عليه الذهبي في الميزان (4/558) بقوله: "صحح حديثه ابن المنذر، وابن حزم، وغيرهما، فذلك توثيق له".
وقد قال الذهبي عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي راوي حديث العرباض في الكاشف (1/638): "صدوق"، وقال أبو الفضل العراقي في ذيل ميزان الاعتدال (ص:146): "قال ابن القطان مجهول والحديث لا يصح، قلت ذكره ابن حبان في الثقات وروى عنه ابنه جابر وضمرة بن حبيب وعبد الأعلى بن هلال ومحمد بن زياد الإلهاني فالرجل معروف العين والحال معا".
ثم وجدت كلمة لعبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم وهو المقدم في معرفة أهل الشام، قد تكون دليلاً على أن السلمي من الثقات المعروفين، وهي قوله كما في تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص:606) حيث قال: "والعرباض قديم الموت، روى عنه الأكابر: عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وجبير بن نفير، وهذه الطبقة".
فوصفه لعبد الرحمن بأنه من الأكابر وإن كان قد يريد به السن، إلا أنه قد يكون أراد مع السن المنزلة أيضاً، لا سيما وقد قرنه بجبير بن نفير بل قدمه عليه، وجبير بن نفير من التابعين المخضرمين والثقات الأجلاء المعروفين.
الوجه الثاني وجوابه
ما ذكره من أن عبد الرحمن بن عمرو السلمي من أهل الشام، وأهل الشام ليس عندهم من ضبط ما عند أهل المدينة والبصرة، وأنه لم يذكر في ترجمته ما يدل على ضبطه، ثم نقل في ذلك كلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/316) حيث قال: "وقد اتفق أهل العلم بالأحاديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة ثم أحاديث أهل البصرة وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك؛ فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء ولم يكن فيهم - يعني أهل المدينة؛ ومكة والبصرة؛ والشام - من يعرف بالكذب لكن منهم من يضبط ومنهم من لا يضبط".
ثم أورد كلامه أيضاً في منهاج السنة النبوية (8/187) حيث قال: "والحديث لا يثبت إلا برواية من علم أنه عدل ضابط ثقة يعرفه أهل الحديث بذلك. ومجرد العلم بنسبته لا يفيد ذلك، ولو كان من كان. وفي أبناء الصحابة والتابعين من لا يحتج بحديثه، وإن كان أبوه من خيار المسلمين".
والجواب أن هذا الوجه من الانتقاد إنما يصح لو كان حديث السلمي يعارض حديثاً آخر لبعض ثقات أهل المدينة أو البصرة أو غيرهم، كما أن شيخ الإسلام إنما أورد كلامه على سبيل الاستطراد في تفضيل حديث أهل المدينة ورأيهم في الجملة، كما أنه لم يقل بأن الأصل عندهم عدم الضبط، فهذا لا يقوله أحد، غاية ما قال أنهم أهل جهاد وعبادة وليس عندهم من العناية بالأسانيد والألفاظ ما عند أهل المدينة والبصرة.
وليس معنى ذلك أن نستصحب قلة الضبط عندهم في كل حديث يمر معنا، ولذلك لما ذكر قول أهل الحجاز في تضعيف الحديث إذا لم يكن له أصل في الحجاز وقول بعض العراقيين في تضعيف حديث أهل الشام عَقَّبَ على ذلك بقوله كما في مجموع الفتاوى (20/242) حيث قال: "أكثر الناس على ترك التضعيف بهذا، فمتى كان الإسناد جيدا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيا أو عراقيا أو شاميا أو غير ذلك".
ثم إن ما ذكر عن أهل الشام قد يكون حجة في تصحيح الحديث الذي نحن بصدد الكلام عنه من جهة أخرى، لأننا نعلم أنه كلما زادت عناية أهل المصر بالحديث وطلبه كلما زاد التشدد في قبول الأفراد، وكلما تقدمت طبقة الراوي كلما كان ذلك أدعى لقبول تفرده، وكلما تأخرت طبقة الراوي كلما كان ذلك أدعى لعدم قبول تفرده، ونجد العلماء يقبلون ما تفرد به الصحابة ثم ما تفرد به التابعون الثقات وبعض أحاديث المستورين منهم، ويتشددون فيمن بعدهم.
وذلك تشددوا في أحاديث أتباع التابعين، وبالغوا في التشدد فيمن بعدهم، لأن العناية بالحديث وطلبه تزداد مع تأخر الزمن، بحيث صار يحضر مجالس أتباع التابعين المئات بل الآلاف، ومن ثم كان قبول التفرد في زمنهم في غاية الصعوبة، وهذه نكتة فارقة بين نظر المتقدمين ونظر المتأخرين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها.
وهكذا يقال بالنسبة للأمصار، فقد كان طلب الحديث في المدينة والبصرة والكوفة منتشراً بشكل لم يسبق له مثيل، لا سيما في عهد صغار التابعين فمن بعدهم، بينما قَصَّرَ أهل الشام في ذلك، وهذا مدعاة لقبول التفرد بالنسبة لأحاديث الشاميين دون غيرهم، لا سيما القدماء منهم أمثال عبد الرحمن السلمي.
وأما ما ذكره ابن تيمية من أنه لا يقبل حديث أحد إلا من عرف بالعدالة والضبط، فهذا قول أهل الحديث إلا أن الشأن في معرفة ذلك، وقد تقدم ما ذكره الذهبي من أن الذي عليه جمهور العلماء هو قبول حديث من كان من المشايخ إذا روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه، وأمثال هذا الضرب كثير في الصحيحين كما قال الذهبي، فهذا يقتضي أن من روى عنه الثقات ولم يأت بما ينكر أن ذلك دليل على عدالته وضبطه، وابن تيمية على هذا المنهج، ولذلك نجده يصحح هذا الحديث كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.

الوجه الثالث وجوابه
ما ذكره من أن عبد الرحمن بن عمرو السلمي مع عدم شهرته بالرواية والعلم قد تفرد بهذا الحديث، وعلى الأخص بجملة "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين"، وتفرد مثله بهذا الحديث المهم في أصول الدين لا يحتمل.
والجواب على هذا الوجه بما يلي؛
أ) أن ما ذكره الباحث حجة عليه لا له، لأن هذه الأهمية الكبيرة لهذا الحديث تقتضي الطعن في راويه لو كان فيه مطعن، وعدم طعن الأئمة في راويه دليل بين على أن تفرده به مقبول عندهم، ولذلك لا تكاد تجد كتاباً في الحديث أو الفقه أو الأصول إلا ويحتج بمذهب الخلفاء الراشدين ويرجح بذلك قوله الذي يذهب إليه على قول غيره، اعتماداً منهم على هذا الحديث من غير نكير من أحد، وسيأتي الكلام عما يتعلق بهذه الجزئية من المتن بإذن الله تعالى.
ب) أن القول بأن السلمي تفرد بهذا الحديث فيه ما فيه، وإن كان طريق السلمي أسلم الطرق من الاعتراض، لكن وجود عدد من الطرق يعسر في بعضها الجزم بأنه خطأ يمنع فيما أحسب من ادعاء تفرد السلمي به.
ومن أهم تلك الطرق طريقان؛
- الطريق الأول: طريق يحيى بن أبي المطاع عن العرباض، وهذا الطريق أخرجه ابن ماجه وغيره من طرق كثيرة عن الوليد بن مسلم، والحاكم في المستدرك (1/177) من طريق عمرو بن أبي سلمة التنيسي، وتمام في فوائده (1/98) من طريق مروان بن محمد الطاطري، والطبراني في الأوسط (1/28) وابن عساكر في تاريخ دمشق (64/374) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن العلاء بن زبر، أربعتهم (الوليد بن مسلم وعمرو بن أبي سلمة، ومروان بن محمد، وإبراهيم بن عبد الله بن العلاء) عن والد الأخير عبد الله بن العلاء بن زبر عن يحيى بن أبي المطاع سمعت العرباض بن سارية نحوه.
وفي رواية الوليد بن مسلم وعمرو بن أبي سلمة التصريح بالسماع بين يحيى بن أبي المطاع والعرباض بن سارية، وكذا في رواية زيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي على ما قاله ابن عساكر في تاريخ دمشق (64/375) حيث قال: "رواه الوليد بن مسلم وزيد بن يحيى بن عبيد عن عبد الله بن زبر عن يحيى قال سمعت العرباض".
وقد نص البخاري في تاريخه الكبير (8/306) على سماع ابن أبي المطاع من العرباض حيث قال: "يحيى بن أبي المطاع القرشي يعد في الشاميين سمع عرباض بن سارية روى عنه العلاء بن زبر".
بينما كان أبو زرعة الدمشقي يستغرب من سماع ابن أبي المطاع من العرباض فلما سأل دحيماً أنكر ذلك السماع، واستدل بأمر سأبينه لكن بعد نقل ما جرى بينهما، ففي تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص:605-606) قال أبو زرعة: "وحدثني عبد الرحمن بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: أخبرني الوليد بن سليمان بن أبي السائب قال: صحبت يحيى بن أبي المطاع إلى زيزاء، فلم يزل يقرأ بنا في صلاة العشاء، وصلاة الصبح في الركعة الأولى: قل هو الله أحد، وفي الركعة الثانية: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.
قال أبو زرعة: فقلت لعبد الرحمن بن إبراهيم تعجبا لقرب يحيى بن أبي المطاع، وما يحدث عنه عبد الله بن العلاء بن زبر أنه سمع من العرباض، فقال: أنا من أنكر الناس لهذا، وقد سمعت ما قال الوليد بن سليمان.
قال عبد الرحمن بن إبراهيم: قال محمد بن شعيب: قال الوليد بن سليمان: فحدثت أيوب بن أبي عائشة بهذا، فأخبرني أنه صحب عبد الله بن أبي زكريا إلى بيت المقدس، فكان يقرأ في صلاة العشاء: قل هو الله أحد، وفي الركعة الثانية بالمعوذتين.
فكانت هذه أيضا أدل، إذ يحكيها الوليد بن سلميان عن يحيى بن أبي المطاع لأيوب بن أبي عائشة فيحدثه بمثلها عن ابن أبي زكريا، أكبر دليلا على قرب عهد يحيى بن أبي المطاع، وبعد ما يحدث به عبد الله بن العلاء عنه، من لقيه العرباض، والعرباض قديم الموت، روى عنه الأكابر: عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وجبير بن نفير، وهذه الطبقة".
قال مقيده: ملخص ما احتج به دحيم على بعد سماع يحيى بن أبي المطاع من العرباض بن سارية أمران؛
الأمر الأول: قرب عهد يحيى بن أبي مطاع من عهدهم، واستدل على قرب عهده بقرينتين؛
القرينة الأولى: إدراك الوليد بن سليمان وصحبته ليحيى بن أبي المطاع، والوليد بن سليمان من طبقة شيوخ شيوخ دحيم، فكأن دحيماً يستبعد أن يكون بينه وبين العرباض بن سارية ثلاث وسائط فقط.
والقرينة الثانية: أن الوليد لما حكى ما فعله يحيى بن أبي المطاع لأيوب بن أبي عائشة حدثه أيوب بمثلها عن عبد الله بن أبي زكريا، ففهم دحيم من ذلك أن يحيى بن أبي المطاع وعبد الله بن أبي زكريا من طبقة واحدة، بل إن أبا زرعة الدمشقي يرى ابن أبي المطاع أصغر من ابن أبي زكريا، فقد عد ابن أبي المطاع في الطبقة الرابعة كما في تهذيب الكمال (31/538-539) بينما عد ابن أبي زكريا في الطبقة الثالثة كما في تهذيب الكمال (14/521).
وقد قال أبو زرعة الدمشقي كما في تهذيب الكمال (14/521): "لا أعلم عبد الله بن أبي زكريا لقي أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
والأمر الثاني: بعد عهد العرباض بن سارية من عهد يحيى بن أبي المطاع، لأنه قديم الموت، واستدل على قدم موته بأن الذي يروي عنه أناس من أكابر القدماء كعبد الرحمن السلمي وجبير بن نفير.
قال مقيده: ما ذهب إليه دحيم من إنكار سماع يحيى بن أبي المطاع أو استبعاده واستدلاله على ذلك بما ذكره محل تأمل، وليس دليلاً بيناً في المسألة، وقد كان تلميذه متردداً في هذا الاستبعاد، إنما كان مستغرباً من حكاية السماع، ومستبعداً له لا أكثر، أما أنه جازم بعدمه فلا.
وأحسب أن في هذا الاستدلال على عدم سماع ابن أبي المطاع من العرباض بن سارية نظر قوي لما يلي؛
أ) أن العرباض ليس قديم الموت وإن روى عنه أناس من القدماء، فقد ذكر غير واحد منهم أبو مسهر وأبو عبيد أنه مات سنة خمس وسبعين انظر تهذيب الكمال (19/551).
ب) أن كون طبقة يحيى بن أبي المطاع هي طبقة عبد الله بن أبي زكريا لا تعني أنه بعيد العهد عن أن يسمع من العرباض بن سارية، على أن الحافظ أبا الحسن بن سميع صاحب الطبقات وهو شيخ أبي زرعة الدمشقي قد جعل طبقة ابن أبي المطاع الثالثة وطبقة ابن أبي زكريا الرابعة عكس ما فعله تلميذه أبو زرعة الدمشقي، كما في تهذيب الكمال (31/538، 14/522).
وعلى التنزل أنهما من طبقة واحدة فإن طبقتهما هي طبقة مكحول الشامي، لأن عبد الله بن أبي زكريا وهو أحد فقهاء أهل دمشق، يعتبر من أقران مكحول الشامي، كما في تهذيب الكمال (14/520).
وقد صح أن مكحولاً روى عن أبي ثعلبة الخشني كما في صحيح مسلم ح(1931) وأبو ثعلبة الخشني مات في نفس السنة التي مات فيها العرباض بن سارية وهي سنة خمس وسبعينن كما قال ذلك غير واحد منهم أبو عبيد وابن سعد كما في تهذيب الكمال (33/174).
وإنما لجأت إلى الاستدلال برواية مكحول لكونه من طبقتهما ولكون روايته في صحيح مسلم، بخلاف عبد الله بن أبي زكريا ويحيى بن أبي مطاع والعرباض بن سارية فليس لهم في الصحيحين شيء.
ثم إن عبد الرحمن بن عمرو السلمي الراوي عن العرباض بن سارية توفي سنة عشر ومائة كما يقول محمد بن سعد كما في تهذيب الكمال (17/305)، وقد توفي يحيى بن أبي المطاع سنة سبع عشرة ومائة كما في الوافي بالوفيات (17/96)، وهي قريبة من السنة التي توفي فيها السلمي.
ثم إن تأخر وفاة يحيى بن أبي مطاع بحيث أدركه الوليد بن سليمان وصحبه ليست دليلاً على صغر سنه، فقد يكون معمراً، ويدل على ذلك أنه ابن أخت بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نص على ذلك غير واحد من أهل العلم كالطبراني في مسند الشاميين (3/342)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (64/374) وغيرهم.
وبلال بن رباح ليس له إلا أخ واحد اسمه خالد، وأخت واحدة اسمها غفيرة بالتصغير، قال البخاري في التاريخ الأوسط (1/53): "وبلال بن رَبَاح أَخُوهُ خَالِد وغفيرة أُخْته"، وقال ابن حجر في الإصابة (8/255): "غفيرة بفاء مصغرة، بنت رباح، بفتح الراء والموحدة، أخت بلال المؤذن وأخيه خالد، ذكرها المستغفري، وقال: هم أخوان وأخت، قاله البخاري".
ومن المعلوم أن بلالا أسلم في بداية الإسلام في السنة الأولى، وعمره آنذاك فوق الثلاثين، لأنه توفي في زمن عمر وقد جاوز الستين، وقيل توفي في طاعون عمواس وهو ابن سبعين. انظر تهذيب الكمال (4/290)، فهذا يعني أنه توفي بعد إسلامه بقرابة ثلاثين سنة، مما يدل على أنه حين أسلم كان قد جاوز الثلاثين من عمره.
ومن المعلوم أيضاً أنه لا ذِكْرَ لوالد بلال وقت إسلامه ولا وقت البعثة، وهذا يدل على أنه قد توفي في ذلك الزمن، مما يدل على أن أخت بلال غفيرة كانت موجودة وقت البعثة بغض النظر عن سنها في ذلك الوقت، وعلى تقدير أنها كانت صغيرة جداً فينبغي أن يكون سنها عند وفاة بلال قد جاوز الثلاثين.
والعادة جارية كما هو معلوم لا سيما في زمن الصحابة الذين يبكرون بالزواج أن تكون المرأة التي في هذا السن قد ولد لها، أو سيولد لها قريباً، الأمر الذي يدل على أن ولادة يحيى بن أبي المطاع إن لم تكن قبل وفاة خاله بلال فليست بعدها بزمن كثير.
فلو افترضنا أن غفيرة أنجبت ولدها يحيى بن أبي المطاع في سن الخمسين على أقصى تقدير، وهو سن اليأس، فهذا يعني أنها ولدته في سنة أربعين أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل، وإذا كان العرباض بن سارية قد توفي سنة خمس وسبعين فهذا يعني أن سن يحيى بن أبي المطاع في ذلك الوقت قد جاوز الثلاثين.
إذا تبين ذلك فإن عنعنة مثله عن مثل العرباض بن سارية مقبولة، هذا لو كانت الرواية بالعنعنة، فكيف والرواية ثابتة بالتصريح بالسماع، والدليل على ثبوتها رواية الوليد وغيره، وهم من الثقات، والدليل على أن التصريح بالسماع ثابت استشكال أبي زرعة الدمشقي ودحيم لذلك كما تقدم عنهما.
ولعل ما تقدم من البيان كافٍ في عدم ترجيح قول دحيم النافي للسماع أو المشكك فيه على قول البخاري المثبت له على أقل تقدير، مما يدل على عظم قدر البخاري في هذا الشأن، وعدم التسليم بنسبة الخطإ إليه كما صنع ابن رجب وغيره دون تفحصٍ، ونظر، والله تعالى أعلم.
- الطريق الثاني: طريق حجر بن حجر، وقد أخرج هذا الطريق أبو داود في سننه من طريق الوليد بن سلم مقرونا بعبد الرحمن السلمي حيث رواه الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية فذكر الحديث.
قال مقيده: هذا الطريق غريب جداً، فقد روى الحديث عن خالد بن معدان جماعة ورواه عن ثور بن يزيد جماعة ولم يذكر أحد منهم حجر بن حجر هذا إلا الوليد بن مسلم، وهذا التفرد في الحقيقة يعسر قبوله إلا أن رده أيضاً يعسر الإقدام عليه لما يلي؛
أ) أن الوليد بن مسلم من كبار طبقة تبع الأتباع، حتى إنه قد روى عنه بعض شيوخه الكبار كالليث بن سعد، وابن لهيعة.
والوليد بن مسلم من الحافظ الكبار المقدمين في أهل الشام، وهو أوثق من كل من روى هذا الحديث، وقد رواه عنه الكبار من أئمة العلل كأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبي خيثمة زهير بن حرب، وناهيك بهؤلاء الثلاثة.
وتفرد مثل طبقة الوليد وارد في غير أهل الشام كأهل المدينة وأهل البصرة فقد تفرد أمثاله من أهل تلك البلدان بأشياء وقبلت عنهم، فكيف بتفرد الوليد بن مسلم عن أهل الشام وهم أقل عناية من غيرهم بالطلب وهو - أعني الوليد - مقدم فيهم بلا نزاع.
ب) أن حجر بن حجر لا يعرف إلا بهذه الرواية، ورواية أخرى يرويها عن أبي مريم الكندي، إلا أنه اشتهر بالرواية الأولى، وهي التي رواها أحمد وأبو داود وأشار إليها جماعة من النقاد، حتى قال الذهبي عن حجر بن حجر كما في الميزان (1/466): "ما حدث عنه سوى خالد بن معدان بحديث العرباض مقرونا بآخر"، وكل من ترجم له لم يذكر إلا روايته عن العرباض ورواية خالد بن معدان عنه.
ومرادي من ذكر هذا أن هذا الرجل وإن وثقه الحاكم وأبو نعيم الأصبهاني وذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه لا يعرف عندهم بغير هذه الرواية التي رواها الوليد بن مسلم، وهذا يعني أن الوليد بن مسلم لم يأت بذكره إلا وهو متثبت من ذلك، لأن الغلط في مثل هذا غير وارد، فإما أن يكون كذب وحاشاه من ذلك فهو من أهل الورع والإتقان، وإما أن يكون ضبط روايته، وهذا ليس بعجب من مثله.
وعليه فلا أقل من التوقف وعدم الطعن في مثل هذه الرواية، لا سيما وقد رواها الكبار ولو كانت غلطاً بيناً من الوليد لما سكتوا عنه، ولما رووه أصلاً.
بل قد جزم جماعة من المحدثين بأن حجر بن حجر قد روى هذا الحديث، قال أبو نعيم كما في المسند المستخرج على صحيح مسلم (1/36): "وقد روى هذا الحديث عن العرباض بن سارية ثلاثة من تابعي الشام معروفين مشهورين؛ عبدالرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر ويحيى بن أبي المطاع".
وقال الحاكم في المستدرك (1/175): "وقد تابع عبد الرحمن بن عمرو على روايته عن العرباض بن سارية ثلاثة من الثقات الأثبات من أئمة أهل الشام، منهم حجر بن حجر الكلاعي".
وقال الجورقاني كما في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (1/473): "وقد روى هذا الحديث، عن العرباض بن سارية جماعة من التابعين، منهم: حجر بن حجر".
تنبيه: استشهد الباحث في معرض كلامه عن تفرد عبد الرحمن بن عمرو السلمي بكلام للبزار حيث قال الباحث: "واعترض البعض على ابن القطان في تجهيله لعبد الرحمن وقالوا قد روى عنه جماعة. والجواب أن هذا لا يُثْبِتُ أكثر من العدالة، أما الحفظ فلا يَثْبُتُ إلا بسبر حديثه، وهو متعذر لأنه ليس له إلا حديث فيه ألفاظ تفرد بها. وهو ما شهد به علماء الحديث، قال البزار في مسنده: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا عن العرباض بن سارية»".
هذا الكلام من الباحث عليه ملاحظات؛
الأولى: وهي الأهم أن استشهد بكلام البزار على تفرد عبد الرحمن بهذا الحديث، والجزء الذي نقله من كلام البزار لا يدل على ذلك.
الثانية: أن البزار أورد هذا الكلام بعد روايته للحديث من طريق يحيى بن أبي المطاع عن العرباض بن سارية ولم يورد الحديث من طريق عبد الرحمن أصلاً.
الثالثة: أن الباحث ترك من كلام البزار ما ينفي زعمه بشكل قاطع، وهذا هو نص كلام البزار دون حذف أو تصرف، حيث قال كما في مسنده (10/137): "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا عن العرباض بن سارية، وقد رُوي عن العرباض من غير وجه فذكرنا هذا الطريق منه واقتصرنا على هذا الإسناد دون غيره".
الرابعة: قوله بأن رواية جماعة عن السلمي لا تثبت له أكثر من مجرد العدالة وأما الحفظ فلابد من سبر حديثه وهو متعذر، لأنه ليس له إلا هذا الحديث، وهذا غريب جداً، لأن الجزم بمثل ذلك لا يقوله إلا الحفاظ، وقد وجدت بالبحث السريع في معجم الطبراني ثلاثة أحاديث مسنده لعبد الرحمن بن عمرو السلمي، أحدها هذا (18/245-247)، والآخر عن عتبة بن عبد السلمي (17/131)، والثالث عن عمر بن الخطاب مرسلاً (1/66)، وكلها صحيحة إلى عبد الرحمن السلمي.
كما أن سبر حديث الرجل لا يقتصر على الروايات المسندة، بل يتجاوز ذلك إلى ما رواه من المقطوعات في التفسير والسيرة وغيرها من العلوم، وهذا لا يفعله إلا الحفاظ الذين كتبوا كل شيء، وأما نحن فغالب الكتب التي بين أيدينا إنما تذكر الروايات المسندة، وقليل منها الذي يذكر المراسيل أو الموقوفات أو المقطوعات.
كما أن القول بأن رواية الجماعة لا تثبت الضبط ليس مسلماً وإن كان هو المشهور عند المتأخرين من أهل الاصطلاح تبعاً لابن الصلاح وقبله الخطيب، بل الذي عليه النقاد كما ذكر ذلك الذهبي وغيره أن الراوي إذا روى عنه جماعة من الثقات لاسيما أهل القرون الأولى، ولم يأت بما ينكر عليه أنه مقبول الحديث، وقد دللت على ذلك في بحث لي في المجهول بأدلة كثيرة إلا أنه ليس عندي الآن لأستشهد به.

الوجه الرابع وجوابه
ما ذكره من أن الحديث على أهميته في أصول الدين لم يخرجه صاحبا الصحيحين، وعدم وجوده في الصحيحين مدعاة للتأمل والتشكك فيه.
والجواب على هذا الوجه بما يلي؛
أ) أن الحاكم قد أجاب عن ذلك بقوله في المستدرك (1/174): "والذي عندي أنهما رحمهما الله توهما أنه ليس له راو عن خالد بن معدان غير ثور بن يزيد"، ومعنى كلام الحاكم هنا أن الشيخين توقفا فيه بسبب تفرد ثور بن يزيد به على ما ظناه، وهذا أمر محتمل.
ب) أن أبا نعيم قد أجاب عن ذلك في المسند المستخرج (1/36): "وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، وهو وإن تركه الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج فليس ذلك من جهة انكسار منهما له فإنهما رحمهما الله قد تركا كثيرا مما هو بشرطهما أولى، وإلى طريقتهما أقرب، وقد روى هذا الحديث عن العرباض بن سارية ثلاثة من تابعي الشام معروفين مشهورين".
ج) أن البخاري ومسلما قد ذكرا أنهما لم يستقصيا في جمع الصحيح، وأنهما تركا من الصحيح غير ما أخرجاه، وقد أورد نصوصهما بذلك أهل الاصطلاح، انظر على سبيل المثال مقدمة ابن الصلاح (ص:19-20).
والعجيب أن ما احتج به الأخ الفاضل من أن عدم إخراج الشيخين له يدل على التشكك فيه، هو بعينه ما خشيه أبو زرعة الرازي ومحمد بن مسلم بن وارة وهما من النقاد الكبار حيث انتقدا مسلماً على تأليفه كتابه الصحيح، وسوف أسوق ما يفيد ذلك مما نقله البرذعي عنهما في هذا الصدد للفائدة قال البرذعي كما في كتاب الضعفاء لأبي زرعة رواية البرذعي (2/674-677): "شهدت أبا زرعة ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج...وأتاه ذات يوم، وأنا شاهد، رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم...ثم قال لي: ...، ويُطَرِّقُ لأهل البدع علينا فيجدوا السبيل بأن يقولوا الحديث إذا احتُجَّ عليهم به ليس هذا في كتاب الصحيح، ...، وقدم مسلمٌ بعد ذلك إلى الري فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة فجفاه، وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحواً مما قالـه أبو زرعة أن هذا يطرق لأهل البدع علينا. فاعتذر إليه مسلم وقال: إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعاً عندي، وعند من يكتبه عني فلا يُرتاب في صحتها، ولم أقل إن ما سواه ضعيف، ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره، وحدثه".
د) أن كل واحد من البخاري ومسلم قد انفرد عن صاحبه بأحاديث كثيرة ليس عند الآخر ما يقوم مقامها، وهي صحيحة باتفاق أهل العلم، ومن تلك الأحاديث التي تحضرني على عجل - وهي أحاديث مهمة - ما يلي؛
1) حديث أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته" هذا الحديث من أحاديث الأصول، وقد تفرد بإخراجه البخاري وليس عند مسلم ما يقوم مقامه.
2) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني " قال: «ويسمي حاجته» هذا الحديث مهم في الاستخارة وقد تفرد بإخراجه البخاري وليس عند مسلم ما يقوم مقامه.
3) حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، فهذا الحديث أصل من الأصول، ومع ذلك تفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأشار البخاري إلى صحته بالتبويب عليه لكنه لم يخرجه.
4) وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» هذا الحديث أصل من الأصول ومع ذلك تفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
5) وحديث أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟"، هذا الحديث من الأحاديث المهمة ومع ذلك تفرد بإخراجه مسلم وليس عند البخاري ما يقوم مقامه.
6) وحديث شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته»، هذا الحديث من الأحاديث المهمة ومع ذلك تفرد بإخراجه مسلم وليس عند البخاري ما يقوم مقامه.
7) وحديث النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس»، هذا حديث مهم في معرفة البر والإثم ومع ذلك تفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
وأما المسائل الفقهية والتفسير والرقائق فقد تفرد كل واحد منهما عن الآخر في ذلك بأشياء كثيرة تدل على أنهما لم يستقصيا أو أنهما تركا إخراج ذلك لأن ما تركه كل واحد منهما لا يرى أنه على شرطه، أو لآي سبب آخر، وقد يكون تركهما لما تركاه لكونها لا يريان صحته، لكن هذا الأخير ليس هو الاحتمال الوحيد لما تركا إخراجه.
وقد ألف الدارقطني كتاباً سماه الإلزامات استدرك فيها على البخاري ومسلم أحاديث كثيرة يرى أنها على شرطهما، وفي بعضها أن ما تركاه أولى من الإخراج بما أخرجاه.
ومن تلك الأحاديث التي أشار إليها حديث عروة بن مضرس الطائي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات، قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه»، رواه الخمسة، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم، وهذا الحديث أصل في اعتبار صحة الحج لمن وقف بعرفة ليلاً، وقد أخذ به العلماء كافة، وصححوه، قال الحاكم في المدخل (ص: 37): "وهذا حديث من أصول الشريعة مقبول متداول بين فقهاء الفريقين ورواته كلهم ثقات ولم يخرجه البخاري ولا مسلم في الصحيحين".

الوجه الخامس والسادس وجوابهما
ذكر الأخ الفاضل وجهين آخرين وقد جمعتهما هنا لأن الكلام في الجواب عنهما مرتبط بعضه ببعض، والوجهان هما؛
الوجه الخامس: أن الحديث لم يصححه غير الترمذي وهو معروف بتساهله كما قال ذلك الإمام الذهبي وغيره.
والوجه السادس: النكارة في المتن حيث إن هذه الجملة التي تفرد بها عبد الرحمن السلمي تقتضي أنه يحق للخليفة الراشد أن يشرع شيئاً جديداً لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يخالف أصول الشريعة، لأن الله أمرنا أن نرد الخلاف إلى الله والرسول وليس إلى الخلفاء الراشدين.
والجواب على هذين الوجهين بثلاثة أمور؛
أ) الأمر الأول: أن يقال إن الترمذي من الأئمة النقاد الكبار وما يذكر من تساهله إنما يمكن التعلق به عند مخالفة غيره من النقاد له، وأما عند عدم المخالفة فما زال الأئمة يعتمدون على تصحيحه.
وأما عدم الاعتماد على تصحيحه من أجل أن في الإسناد رجل لا يعرف حاله فهذا تعنت فيما أحسب، لأن أهل العلم يعتمدون على توثيق الترمذي وغيره من الأئمة إذا لم يعارضهم أحد مثلهم، ويصححون لأجل ذلك الأحاديث، فإذا صحح الترمذي أو غيره من النقاد حديثاً فذلك يدل على اعتماده على راويه، فالأصل حينئذٍ قبوله إلا بدليل.
هذا لو لم يصحح الحديث إلا الترمذي فكيف وقد وافقه أئمة آخرون، وعدة من صححه بالإضافة إلى الترمذي عشرة، وكلهم من المتقدمين نسبياً بعضهم من طبقة شيوخه وبعضهم من طبقته وبعضهم من طبقة تلاميذه فمن بعدهم، وإليك أقوالهم؛
1- الإمام أحمد بن حنبل (241ه) فقد احتج بالحديث على تسمية ما فعله الخفاء الراشدون سنة، وذلك فيما نقله عنه أبو داود السجستاني في المسائل (ص:369) حيث قال: "سمعت أحمد غير مرة، يسأل، يقال: لما كان من فعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي سنة؟ قال: نعم، وقال مرة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، فسماها سنة ...".
2- الإمام محمد بن عيسى الترمذي (279ه) حيث قال كما في السنن (5/45): "هذا حديث حسن صحيح".
3- الإمام أبو بكر البزار (292ه) فيما نقله عنه بسند صحيح ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/1165) حيث قال البزار: "هذا حديث ثابت صحيح وهو أصح إسنادا من حديث حذيفة: «اقتدوا بالذين من بعدي»؛ لأنه مختلف في إسناده، ومتكلم فيه من أجل مولى ربعي هو مجهول عندهم".
4- الإمام أبو بكر بن المنذر (319ه) في الأوسط (1/225) حيث قال: "وقد ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»".
5- الإمام أبو عبد الله الحاكم (405ه) في كتابه المستدرك على الصحيحين (1/174) حيث قال: "هذا حديث صحيح ليس له علة".
6- الإمام أبو نعيم الأصبهاني (430ه) في كتابين من كتبه الأول: المسند المستخرج على صحيح مسلم (1 / 36) حيث قال: "وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، وهو وإن تركه الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج فليس ذلك من جهة انكسار منهما له فإنهما رحمهما الله قد تركا كثيرا مما هو بشرطهما أولى وإلى طريقتهما أقرب". والثاني: الضعفاء (ص:46-47) حيث قال: "هذا حديث جيد صحيح من حديث الشاميين ... فتلقت الهداة العقلاء وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم بالقبول ولزموا التوطين على سنته وسنة الهداة المرشدة من الخلفاء فلم يرغبوا عنها بل علموا أن الثبوت عليها غير ممكن إلا بتتبع ما سنه عليه السلام وسنته بعده أئمة الهدى الذين هم خلفاؤه في أمته ...".
7- الإمام أبو عمر بن عبد البر (463ه) حيث قال تعليقاً على كلام البزار المتقدم ذكره كما في جامع بيان العلم وفضله (2/1165): "هو كما قاله البزار رحمه الله حديث عرباض حديث ثابت، وحديث حذيفة حديث حسن، وقد روى عن مولى ربعي عبد الملك بن عمير، وهو كبير ولكن البزار وطائفة من أهل الحديث يذهبون إلى أن المحدث إذا لم يحدث عنه رجلان فصاعدا فهو مجهول".
8- الإمام أبو إسماعيل الهروي (481ه) في كتابه ذم الكلام وأهله (4/31) حيث قال: "وهذا من أجود حديث في أهل الشام وأحسنه".
9- الإمام أبو محمد البغوي (516ه) في شرح السنة (1/205) حيث قال: "هذا حديث حسن".
10- الإمام أبو عبد الله الجورقاني (543ه) في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (1/473) حيث قال: "هذا حديث صحيح ثابت مشهور".
فهؤلاء عشرة من أئمة الحديث النقاد كلهم ينصون على صحة هذا الحديث والاحتجاج به، وأما المتأخرون فكلامهم في تصحيحه كثير يعسر تتبعه، ومن مشاهير المتأخرين الذين نصوا على تصحيحه شيخ الإسلام ابن تيمية (728ه) في اقتضاء الصراط المستقيم (2/83) حيث قال: "وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية ..." ثم ذكره.

ب) والأمر الثاني: أن الأمة قد تلقت هذا الحديث بالقبول والتسليم، وليست معرفة تلقي الأمة هذا الحديث بالقبول عسيرةً على طالب العلم، فإن الشواهد الدالة على ذلك كثيرة جداً، ومن أبينها ما يلي؛
1- نسبة أئمة الحديث هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة الجزم، وكلام الأئمة في ذلك كثير جداً، ومنهم على سبيل التمثيل؛ الإمام أبو عبد الله المروزي (294ه) في كتابه السنة (ص:14)، والإمام أبو بكر بن خزيمة (311ه) في صحيحه (4 / 325)، والإمام الطحاوي (321ه) في كتابه مختصر اختلاف العلماء (5/106)، والإمام أبو محمد البربهاري (329ه) في كتابه شرح السنة (ص:95)، والإمام أبو بكر الجصاص (370ه) في أحكام القرآن (4/247)، والإمام أبو سليمان الخطابي (388) في معالم السنن (4/301)، والإمام أبو عبد الله بن منده (395ه) في فضل الأخبار وشرح مذاهب أهل الآثار (ص:25)، والإمام أبو نصر السجزي (444ه) في رسالته إلى أهل زبيد (ص:144، 368)، والإمام أبو المظفر المروزي (489ه) في الانتصار لأصحاب الحديث (ص:52) وغيرهم.
وأما المتأخرون فكلامهم في ذلك كثير جداً يعسر استقصاؤه ولكني سأذكر كلام أحد المحققين منهم وهو ابن رجب الحنبلي (795ه) حيث قال في فتح الباري له (6/423) وهو يتكلم عن البسملة: "فقد ثبت عن أبي بكر وعمر وعثمان الإسرار بها، فلا عبرة بما حدث بعدهم وبعد انتقال علي بن أبي طالب من المدينة؛ فإن هؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنتهم، وهم كانوا لا يجهرون بها"، وقال في جامع العلوم والحكم (2/121): "وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة، كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور".
2- قبول الأئمة من أهل العلم للعبارة الورادة في هذا الحديث أعني قوله: "الخلفاء الراشدين المهديين" مما يدل على أن الحديث مسلم به عندهم، وكلامهم في ذلك كثير جداً، وممن ورد عنه قبول هذه العبارة من يلي؛
أ) التابعي الجليل قاضي البصرة زرارة بن أوفى (93ه) فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (6/288) والقاسم بن سلام كما في البدر المنير (7/659) وسعيد بن منصور في السنن (1/234) والطحاوي في مشكل الآثار (2/111) من طرق صحيحة عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي (ثقة من رجال الكتب الستة) قال: سمعت زرارة بن أوفى يقول: «قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابا، وأرخى سترا فقد وجب عليه المهر»، ووجه الاحتجاج هنا إنما هو في وصف زرارة بن أوفى للخلفاء الأربعة أو بعضهم بالخلفاء الراشدين المهدين، فلولا أن هذا المعنى معروف عندهم من هذا الحديث لما ذكره زرارة بن أوفى.
ب) الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189ه) صاحب أبي حنيفة في كتاب الكسب (ص:39) حيث قال في معرض كلام له: "وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أعلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين".
ج) الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (224ه) في الناسخ والمنسوخ (ص:175) حيث قال: "وما مضى عليه السلف من الخلفاء الراشدين المهديين الذين هم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وتأويل حديثه".
وقد نقل مثل ذلك عن جماعة كثيرين من أهل العلم لا يحسن الإطالة بذكر أقوالهم، منهم؛ إسحاق بن راهويه (238ه) فيما نقله النحاس عنه في الناسخ والمنسوخ (ص:762)، وأحمد بن حنبل (241ه) فيما نقله عنه غير واحد كما في كتاب السنة للخلال (2/428) والمنتخب من علل الخلال (ص:217) وجامع بيان العلم وفضله (2/1170) والمسائل التي حلف عليها أحمد بن حنبل لابن أبي يعلى (ص: 73)، وأبو زرعة الرازي (264ه) وأبو حاتم الرازي (277ه) كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للآلكائي (1/198)، وأبو سعيد الدارمي (280ه) في كتاب النقض (2/616)، وابن جرير الطبري (310ه) في تهذيب الآثار (2/758)، وابن خزيمة (311ه) في صحيحه (4/325)، وغيرهم كثير.
3- أن عامة الأئمة الذين ألفوا في عقيدة أهل السنة قد نصوا على أن الخلفاء الأربعة من الخلفاء الراشدين المهديين، وهذا يدل على اعتمادهم على هذا الحديث، وكلامهم في ذلك كثير، ومن أشهر الكتب التي ذكرت ذلك من كتب أهل السنة ما يلي؛
أ) العقيدة الطحاوية لأبي جعفر الطحاوي (321ه) حيث جاء فيها (ص:81) ما يلي: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون".
ب) الشريعة لأبي بكر الآجري (360ه) حيث جاء فيها ما يلي (5/2222): "واجب على كل مسلم أن يتمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وسنة الخلفاء الراشدين المهدين".
ج) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (418ه) حيث جاء فيه ما ذكره أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ومن ذلك قولهما (1/198): "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص, والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته, والقدر خيره وشره من الله عز وجل, وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق, ثم عمر بن الخطاب, ثم عثمان بن عفان, ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام, وهم الخلفاء الراشدون المهديون".
د) الاقتصاد في الاعتقاد لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (600ه) حيث جاء فيه ما يلي(ص:198-200): "ونعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص ... أبو بكر الصديق ... ثم بعده الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب ... ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان ... ثم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون".
ه) العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 127) حيث جاء فيها ما يلي: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: ... واتباع: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة».
وغير ذلك كثير بل قد نص على ذكر الخلفاء الراشدين المهديين جماعة ممن كتبوا في الاعتقاد من غير أهل الحديث وكلامهم في ذلك كثير أيضاً، ومن ذلك ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري (324ه) في كتابه مقالات الإسلاميين (1/228) في معرض حديثه عن قول أصحاب الحديث وأهل السنة حيث قال: "ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضوان الله عليهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلِّهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم".
4- أن أهل العلم الذين لا يرون مذهب الخلفاء الراشدين حجة فيما لا سنة فيه مطلقاً لا يطعنون في هذا الحديث رغم أن ظاهره حجة عليهم، وإنما يتأولونه بما يوافق مذهبهم، وعلى رأس هؤلاء الإمام ابن حزم الظاهري (456ه) فقد ذكر في الإحكام في أصول الأحكام (6/78) هذا الحديث وتكلم بكلام طويل في الوجوه التي يحتملها معنى الحديث ثم أبطلها كلها إلا وجهاً واحدا حيث قال: "وإما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته صلى الله عليه وسلم فهكذا نقول ليس يحتمل هذا الحديث وجها غير هذا أصلا، وقال بعضهم إنما نتبعهم فيما لا سنة فيه"، ثم رد هذا القول الأخير بقوله: "وإذ لم يبق إلا هذا فقد سقط شَغَبُهم وليس في العالم شيء إلا وفيه سنة منصوصة وقد بينا هذا في باب إبطال القياس من كتابنا هذا، وبالله تعالى التوفيق".
وقال في المحلى بالآثار (12/354): "فإن قال قائل: قد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؟» قلنا: سنة الخلفاء - رضي الله عنهم - هي اتباع سنته - عليه السلام -، وأما ما عملوه - باجتهاد فلا يجب اتباع اجتهادهم في ذلك".
قال مقيده: لو كان في هذا الحديث عند ابن حزم أدنى مطعن يمكن أن يجعله وجهاً للرد على المستدلين به، لصاح بذلك، وإنما اكتفى ببيان معنى الحديث على ما يوافق رايه، والله أعلم.

ج) والأمر الثالث: أن ما فهمه الأخ الفاضل من معنى الحديث وجعل معناه مقصوراً عليه ليس متعيناً، ولا أدل على ذلك من أقوال الأئمة الكثيرة في معناه، وتتبع ذلك يحتاج إلى بحث مستقل لا يتسع الوقت في الحقيقة للقيام به.
إلا أن ما أوردته من تصحيح الأئمة للحديث وتلقي الأمة له بالقبول كافٍ في رد المعنى الذي فهمه الأخ الفاضل منه، إذ لا أحد من الأمة يقول بأن للخلفاء الراشدين حق في التشريع.

الوجه السابع وجوابه
قوله أن الحديث غير معروف عند الصحابة وإلا لما خالفوا الخلفاء الراشدين، ولو كان معروفاً لاحتج به علي رضي الله عنه على من ترك القتال معه أو خالفه.
هذا الوجه من الانتقاد في الحقيقة من أضعف ما تعلق به الأخ الفاضل وهو يذكرني بطريقة ابن حزم الظاهري رحمة الله عليه في كثير من انتقاداته، والجواب على هذا الوجه مرتبط بفهم المراد من معنى الحديث، ولو كان هذا الوجه من الانتقاد دليلاً على ضعف الحديث لكان دليلاً على ضعف ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة أيضاً، لأن القرآن الكريم وكذا السنة يدلان على وجوب قتال الفئة الباغية، ومع ذلك لم يحتج علي بتلك النصوص على من خالفه أو ترك القتال معه.
والحقيقة أن كثيراً من الصحابة إنما ترك القتال مع علي أو خالفه مع وجود تلك النصوص الكثيرة الدالة على ترجيح القتال معه مجتهدين ومتأولين، بل ومن قاتله كان مجتهداً ومتأولاً، وليس ذلك دليلاً على بطلان شيء من تلك النصوص.
على أن معنى الحديث بعيدٌ كلَّ البعد عن الدلالة على وجوب القتال مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولذلك فإن هذا الانتقاد أعني قوله بأن الصحابة لا يعرفون الحديث، ولذلك لم يستدل به علي رضي الله عنه انتقاد خارج عن موضع النزاع أصلاً.

الوجه الثامن وجوابه
قوله أن هذا الحديث لو صح لبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم مراده بالخلفاء الراشدين، ولما ترك الناس من غير بيان؛ وإلا فكيف يأمرنا بشيء لا نعرفه على وجه التحديد، ولذلك اضطرب العلماء في تحديدهم.
وهذا الوجه من الانتقاد غريب جداً كسابقه، وطريقته ظاهرية حزمية صرفة، لا يستفيد منها إلا أهل الزندقة والضلال، لأن هذا الوجه من الانتقاد يمكن توجيهه لكثير من النصوص القرآنية والحديثية التي اختلف في معناها أهل العلم، واضطربوا في تفسيرها.
على أن أهل العلم متفقون في معنى هذا الحديث على دخول الأئمة الأربعة فيه، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يخالف في واحد من هؤلاء أحد من أهل السنة، ونصوصهم في ذلك كثيرة جداً، وقد أشرت إلى بعضها فيما تقدم، إنما يخالف في ذلك أهل البدع والزيع، نسأل الله العافية والسلامة.
وقد احتج الإمام أحمد على وصف الخلفاء لأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بالخلفاء الراشدين المهديين بما رواه الخمسة إلا ابن ماجه من حديث سعيد بن جمهان، قال: "حدثني سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم قال لي: أمسك خلافة علي قال: فوجدناها ثلاثين سنة، قال سعيد: فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك".
ففي السنة لأبي بكر بن الخلال (2/419) قال: "أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: ذكرت لأبي عبد الله حديث سفينة، فصححه، وقال: قلت: إنهم يطعنون في سعيد بن جمهان، فقال: سعيد بن جمهان ثقة، روى عنه غير واحد، منهم حماد، وحشرج، والعوام، وغير واحد، قلت لأبى عبد الله: إن عباس بن صالح حكى عن علي بن المديني ذكر عن يحيى القطان أنه تكلم في سعيد بن جمهان، فغضب وقال: باطل، ما سمعت يحيى يتكلم فيه، قد روى عن سعيد بن جمهان غير واحد، وقال: "أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، هؤلاء أئمة العدل، ما أعطوا فعطيتهم جائزة، لقد بلغ من عدل علي رحمه الله أنه قسم الرمان والأبزار، وأقام الحدود، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا أمير المؤمنين، فهؤلاء يجمعون عليه ويقولون له: يا أمير المؤمنين، وليس هو أمير المؤمنين؟"، وجعل أبو عبد الله يفحش على من لم يقل إنه خليفة، وقال: «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونه أمير المؤمنين وهؤلاء، يعني الذين لا يثبتون خلافته» ، كأن يعني كلامه أن هؤلاء قد نسبهم إلى أنهم قد كذبوا".
وفي السنة لأبي بكر بن الخلال (2 / 422) أيضاً: "سمعت أبا بكر بن صدقة، يقول: سمعت غير واحد من أصحابنا، وأبا القاسم بن الجبلي غير مرة أنهم حضروا أبا عبد الله سئل عن حديث سفينة، فصححه، فقال رجل: سعيد بن جمهان، كأنه يضعفه، فقال أبو عبد الله: "يا صالح، خذ بيده، أراه قال: أخرجه، هذا يريد الطعن في حديث سفينة".
وأما من زاد على الأربعة ذكر عمر بن عبد العزيز من الأئمة فإنما زادوه بحجة، ولا إشكال في ذلك، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/122): "ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد أيضا، ويدل عليه ما خرجه الإمام أحمد من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت. فلما ولي عمر بن عبد العزيز، دخل عليه رجل، فحدثه بهذا الحديث، فسر به، وأعجبه».
قال مقيده: ولمن لم ير إلحاقه بالخلفاء الأربعة الراشدين، وإن كان خليفة راشداً أن يصرف هذا الحديث لمهدي آخر الزمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سكت بعد ذكر تلك الخلافة التي على منهاج النبوة، والله تعالى أعلم.

الخاتمة
قبل الختام أحب أن أنبه إلى أن كثيرا من المصالح والأحكام التي قررها الخلفاء الراشدون أو بعضُهم قد اعتبرها أهل العلم من سنن الخلفاء الراشدين المهديين التي أمرنا باتباعها، ولولا ضيق الوقت لتتبعت تلك المصالح والأحكام التي سنها الخلفاء الراشدون واتبعها الناس بعدهم، ولكن أكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاثة منها؛
1- جمع القرآن، فقد نص جمع من الأئمة على أن جمع القرآن في كتاب واحد من سنن الخلفاء الراشدين، فقد أخرج البخاري جمع القرآن في عهد أبي بكر بمشورة عمر ثم أخرج جمعه في عهد عثمان بمشورة حذيفة، وصح عن علي رضي الله عنه قوله: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين"، ونقل ابن كثير قول على بن أبى طالب رضي الله عنه: "لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا"، ثم قال ابن كثير: "فاتفق الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، على أن ذلك من مصالح الدين, وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي".
2- صلاة التراويح، وهي مشهورة جداً عن عمر بن الخطاب، وهي وإن كانت في بدايتها سنة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستمر عليها، ووجه الاستدلال بها من جهة أمر عمر رضي الله عنه بالاستمرار عليها.
3- الأذان العثماني، أخرج البخاري من حديث السائب بن يزيد وفيه: "فلما كان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك"، قال ابن رجب في فتح الباري لابن رجب (8/231): "وقوله في هذه الرواية التي خرجها البخاري هنا: "فثبت الأمر على ذلك"، يدل على أن هذا من حين حدده عثمان أستمر، ولم يُترك بعده. وهذا يدل على أن عليا أقر عليه، ولم يبطله، فقد أجتمع على فعله خليفتان من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين".
هذا آخر ما أردت بيانه من الكلام حول هذا الحديث النبوي الشريف، أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في ذلك، كما أتمنى ممن اطلع على ما كتبته أن يضع كلامي في أحسن مواضعه، وأن يعتبر ما كتبته نصيحة لي وله ولجميع إخواننا من طلبة العلم كي لا نتعجل في الحكم على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والله ولي التوفيق.

كتب ذلك
سعيد بن محمد المري
غفر الله له ولوالدين ولجميع المسلمين

<div style="padding:6px"> الملفات المرفقة
: حديث العرباض بن سارية.pdf&rlm; (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/attachment.php?attachmentid=101812&d=1362197062)
: 464.2 كيلوبايت
: <font face="Tahoma"><b> pdf