المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المتلاعبون بالأحلام



ابداع القلم
26-06-2006, 11:02 AM
المتلاعبون بالأحلام



* هذا الموضوع كتب بواسطة الدكتور مشاري بن عبدالله النعيم وأحببت من الأخوة الإطلاع عليه

فاجأني اتصال تليفوني قبل عدة أيام وكان المتصل فتاة تشتكي بمرارة على تعامل احدى الجامعات السعودية التي وعدها مسؤولو القبول فيها بأنها مقبولة في الجامعة وماطلوها ثم علمت بعد ذلك أنها لم تقبل بعد أن انتهى وقت القبول في كل الجامعات قلت لها إن هذا "السيناريو" أسمعه كثيرا من طلاب وطالبات لم يقبلوا في الجامعة، وهم كثر هذه الأيام، وأخبرتها أنني لا استطيع أن أفعل أي شيء لأنني لست مسؤولا في تلك الجامعة أو وزارة التعليم العالي ولكنها أصرت على أن أتدخل بصفتي الصحفية لأنها في الأصل لا تعلم انني انتمى للوسط الأكاديمي وأن هذه المشاكل أعيشها كل يوم، قلت لها إن هذا الموضوع تكرر كثيرا في الصحافة المحلية ولم يعد هناك مساحة اضافية استطيع أن أساهم بها يمكن أن يساعدها في حل مشاكلها ومع ذلك قلت لها ابعثي لي بأوراقك على الفاكس لعلي أتكلم مع أحد الزملاء في الجامعة التي تقدمت لها لعله يساعدك وانتهت المكالمة عند هذا الحد.
والحقيقة أن الفتاة كانت منكسرة لكنها ثابتة وممتلئة ثقة بالنفس فقد كانت تحدثني عن مشكلتها وكأنها تدافع عن قضية حياة، على انني قلت في نفسي ماذا يمكن أن أعمل لمساعدتها وهي واحدة من مئات يحتاجون للمساعدة، ونسيت الموضوع حتى وصلتني أوراق الفتاة بعد عدة أيام (فقد بعثتها على الفاكس ولم أكن متواجدا في المنطقة لعدة أيام) فقد صدمت وأصبت بهزة، فأول ما وقعت عيني عليه هو تقرير طبي يفيد ان الفتاة مصابة بشلل رباعي، والورقة الثانية هي شهادة الثانوية العامة التي تفيد أن الفتاة حاصلة على أكثر من 90% علمي واسترجعت كلمات الفتاة ولم اذكر ابدا انها قالت لي انها مصابة باعاقة وكانت تحدثني كأنها طالبة مثل كل طالبة، فالتفت لسجلها العلمي وقلت في نفسي، معها حق، فالاعاقة بالنسبة لها ليست هي السبب الذي يجعلها تطالب بحقها، فهي تطالب بشيء من حقها اكتسبته بجهدها وتعبها ومثابرتها، ومع ذلك فهي تستحق الأفضلية لأكثر من سبب منها الاعاقة.

لقد امتلأت غضبا وتذكرت شخصية الفتاة الثابتة واصرارها على خوض معركة الحياة فمثلها لا تثنيه الصعوبات فرغم شللها استطاعت ان تتفوق في الدراسة لكن هناك من يتلاعب بالأحلام ومن يفتقر للانسانية ويهضم الحقوق بدم بارد، دون ان يعي ان وجوده في مكان يتعلق بحقوق الناس هو امانة كبيرة سوف يسأل عنها، اتصلت على الفتاة، وقد تغيرت لهجتي معها ليس من باب الشفقة فهي لا تحتاج إلى شفقتي ولا عطفي فهي صاحبة حق ولا يوجد سبب يجعل الجامعة لا تقبلها، قلت لها لماذا لم تقبلك الجامعة قالت ان المسؤولين هناك يقولون أن مباني الجامعة غير مؤهلة لاستقبال من لديهم نفس اعاقتها وانه يصعب عليهم التعامل معها، فازددت غضبا كوني معماريا أعلم بساطة تأهيل مبنى لاستقبال معوقين بأي درجة من الاعاقة، ثم ان من واجبات الجامعة أن تقوم بقبول الطلاب والطالبات دون تصنيفهم إلى معوقين وغير معوقين، مع انني أرى أن ذوي الاحتياجات الخاصة يستحقون أن نفضلهم على غيرهم كونهم بحاجة فعلا الى هذا التفضيل، ووضعت نفسي مكانها واستشعرت العزلة التي ستفرض على نتيجة قرار الجامعة فانتفضت وقلت لماذا نقرر مصير مثل هؤلاء دون أن نقف لحظة ونفكر.

لقد شعرت بالعار وأنا اسمع حديث الفتاة التي كانت تحدث بمرارة ولكن في تحد لم أجده في كثير من الذين حباهم الله بالصحة والعافية، ودار في ذهني العديد من الأسئلة التي كنت اسألها نفسي دائما لماذا لا يعيش ذوي الاحتياجات الخاصة بيننا ولماذا لم أجد اثناء دراستي في الجامعة معوقا واحدا وكأننا مجتمع يخلو من الاعاقة، وبعد سماعي لحكاية الفتاة بدأت أعرف بعض أسرار الصورة الخالية من المعوقين في مجتمعنا، وتذكرت تعليق أحد الانجليز الذين عملوا في المملكة عندما كنت أدرس في بريطانيا عندما قال لي "انني لم أر معوقين في شوارعكم ولا في الحياة العامة، فهل.. لا يوجد في مجتمعكم معوقين"، وتذكرت كل المحاولات لاعادة الحياة لهؤلاء فابتسمت ابتسامة أسى فكل محاولات ادماج المعوقين في المجتمع تصطدم بشدة بمواقف غير مسؤولة مثل هذه.

إنها فئة مضطهدة في مجتمعنا حتى من أصحاب الرسالة العلمية والثقافية ومن مؤسسة مثل الجامعة التي يفترض أن تكون مؤسسة سباقة وقدوة للمجتمع، احساس بالظلم صار يتصاعد في صدري وقلت في نفسي لابد ان اتحدث مع مسؤول القبول في تلك الجامعة وافهم منه الموضوع وليتني لم افعل، اذ انني عندما هاتفته وفتحت الموضوع معه أجابني دون اكتراث: أنت تقصد تلك الفتاة، قلت له نعم، فرد علي وماذا تريدنا أن نفعل فقد شكلنا لجنة من عضوات هيئة التدريس وأكدوا أن مباني الجامعة غير مهيئة لاستقبال هذه الطالبة، وليس لدينا استعداد ان نقبل طالبة تسبب لنا مشاكل، ورغم صدمتي من اجابته التي جعلتني اسأل عن رسالة الجامعة ودورها الحقيقي في المجتمع قررت الدخول معه في حوار حتى النهاية.

رددت عليه بحدة ان هذا ليس من حق الجامعة وان هذه الطالبة طالما ينطبق عليها شروط القبول يجب ان توفر الجامعة لها المكان المناسب، فهذا ليس مشكلتها بل مشكلة الجامعة، وذكرته بان هناك مناسبات غير مهمة تصرف عليها اموال طائلة فكيف لا تقومون بصرف بضعة الاف على تجهيز المبنى لاستقبال طالبة تستحق منا التشجيع والدعم في مجتمع يحث على التكافل والعمل الانساني، فكيف بطالبة تستحق القبول ولم تقبلها الجامعة لمجرد انها معوقة، قلت له يااخي العزيز ان الموضوع برمته لا يتعدى توفير صاعدات Ramps لحركة الكرسي المتحرك ودورة مياه والدولة وفرت لمثل هؤلاء من يساعدهم ويرافقهم وهو ما يجعل الجامعة لا تتحمل مسؤولية كبيرة "رغم ان تحمل هذه المسؤولية أحد واجباتها" فأصر ان الامر ليس بيده وان هذا قرار الجامعة فقلت له انها مسؤولية جماعية فهذه الفتاة ليس امامها الا الدراسة وان الجامعة تحكم عليها بالموت البطيء وليس عندها فرص اخرى وأن هذا من حقها طالما انها ترغب وهي مؤهلة.

قال لي لا تكن عاطفيا فالأمر لا يحل بالعواطف وهو ما أثارني بشدة فكان ردي له في صوت مرتفع ان هذه الفتاة لا تحتاج مني اي شفقة فهذا حقها وهو ما يجب أن تعيه جيدا وتعيه الجامعة ووزارة التعليم العالي وكل مؤسسات المجتمع كما انك مسؤول عن هذا الامر امام الله قبل الناس، وان الجامعة يجب ان لا تبحث عن الحلول السهلة، فعدم قبول طالبة لأنها معوقة هو قمة الظلم وتكريس الدور السلبي للجامعة في المجتمع، واذا كانت الجامعة غير قادرة ماليا على تأهيل مبانيها لاستقبال المعوقين فان هناك الكثير من رجال الخير في هذا البلد الذين لن يترددوا ابدا في التبرع لتأهيل هذه المباني على أن صاحبنا لم يعلق واكتفى بان الامر ليس بيده.

شعرت ان حوارا مثل هذا لا يفيد اذ يبدو انه ضاع وسط أدراج البيروقراطية التي أصبحت الجامعات السعودية تتفنن فيها اكثر من المؤسسات الأخرى، فحديثي مع مسؤول القبول ليس لأنني كنت أطمح أن يغير رأيه، إذ يبدو أن القرار لم يكن قراره بل هو سياسة الجامعة للتنصل عن مسؤولياتها، ولكنني كنت أطمح أن اسمع أسبابا مقنعة تجعلني أجد بعض العذر للجامعة ولكني عندما سمعت تلك الأسباب الواهية لم اتمالك نفسي، من الغضب والحزن اذ انني لم أتصور أن مؤسسة ثقافية يفترض منها أن تقوم المجتمع وتعلمه تدفع فتاة ابتليت باعاقة إلى أن تبحث عمن يساعدها بأي شكل من الأشكال، أحسست بفداحة الكارثة التي نعيشها وقلت في نفسي كيف يمكن أن يحدث هذا في مجتمع مثل مجتمعنا ولا أحد يتدخل.

الأمر أكثر فداحة هو أنني حاولت أن أبين لذلك المسؤول ان الطالبة لا تحتاج لأحد أن يساعدها أو يشفق عليها فهي متفوقة دراسيا وهو ما يجعلها تستحق القبول فقال لي: وما يدريك انها فعلا حققت هذه الدرجات العالية بنفسها وان المدرسة التي تخرجت منها لم تتعاطف معها، أصابتني الكلمات بالغثيان وقلت له يا"دكتور" ومن يعطيك الحق في التدخل في نوايا الناس، وتحكم عليها، إنك تشكك في مؤسسة من مؤسسات الدولة لتجد مبررا لقرار لا يمكن تبريره، وهو ما ينطبق على الجامعة التي تعمل بها فالآخرون يستطيعون التشكيك في نواياكم بل ويستطيعون التشكيك في شهاداتكم وقدراتكم طالما انك تشكك فيهم وتتهمهم بانهم تعاطفوا و"أشفقوا" على تلك الفتاة واعطوها فوق ما تستحق، لتقنع نفسك بقرار خاطئ ولترضي ضميرك ولكن بخطأ أكثر فداحة، على انني توصلت إلى قناعة ان الاستمرار في مثل هذا الحديث لن يؤدي إلى نتيجة وقلت له انني سأترك الموضوع له وإني أثق في ضميره الحي وانتهى الحديث بيننا، وحتى هذه اللحظة لا أعلم ما حدث بعد ذلك.

عندما بثثت لأحد الزملاء بعض حزني أجابني ان هذا الأمر عادي فهناك جامعة سعودية لا تقبل الطالبات المعوقات حركيا لأن قاعات الدراسة في الطابق الثاني والمبنى لا يوجد به مصعد، وأن هناك عددا كبيرا من الطلاب المصابين بأمراض واعاقات طفيفة يدفعون ثمن اللامبالاة من قبل مسؤولي واساتذة الجامعات سنوات طويلة وضغوطا نفسية هائلة وصدمت من الحكايات التي سمعتها من الزميل وقلت له بالله عليك يكفي لا أريد سماع المزيــد فقــد شــعــرت أن المجتـمـع الذي يتحـدث عنــه غريب لا أعرفه ولا انتمي اليه ولكن لمَ لا وأنا لم اخرج بعد من هول الصدمة التي مررت بها مع تلك الفتاة التي ليس لها إلا الله بعد أن فقد من يفترض فيهم المبادرة والمساعدة كل احساس بالمسؤولية.