المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : {{ مَـقـالـةٌ في أدبِ الـنّـفـوسِ ... مِـنْ أجـمل مَـا أنتَ قارئ . أنـصحكَ أن تَـتـأملَ بـها . }}



أهــل الحـديث
25-02-2013, 09:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الإنسان العاقل يجبُ أن يسعى لِـتهذيـبِ نـفْسـهِ ومُـراجـعتها بين الحين والآخر ، فإنّ الإنسان : جسدٌ وروحٌ ، ولا بدّ لنا أن نساويَ بَينهما في الإطعام ، فإنّ الروح تجوع كما يـجوع الجسد ، وسُـكون الجسدِ بالطعامِ والشراب المادّيينِ ، وسكونُ الروح بالطعامِ والشراب المعنويينِ وحسبكَ ذكر الله .

وإنّ غلـبـةَ أيّ واحدٍ منهـما عَلى الآخر يسبّبُ للإنسان مشاكل عويصة ، فغلبةُ الروح توقع في الرهبة ، وغلبة الجسدِ تسيرُ بالإنسانِ نحو الغابةِ ، وهُـناكَ لا شريعةَ سوى شريعة الغاب ، ولقد جاء الشرعُ الحنـيـفُ واضعًا الجسدَ في كفة والروح في كفةِ الميزانِ الأخرى ليشعرَ الإنسانَ إذا غلب أحدهما الآخر ، وكذلك يبقى يعمل على توازنِ الميزان بالتساوي ، مع تفاوت في الأنبياء والصالحين ؛ لأنّهم صفوة خلق الله من خلقه – جلعنا الله من الصالحينِ المصلحينِ - فقد وفقهم الله إلى سبر أغوار الروح حتى يحسنوا التعامل معها ، وقد ضربَ الله في كتابه أمثلة على من غلّب الجسد على الروح وهو قارون ، فاقرأ ما قد قال الله فيه : (( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا . )) لكن لم يرعها سمعُهُ ، ولم يعقلْـها قلبُـه ، فأكبّه الله على وجهِهِ في النّـار ، وخسرَ الدُّنيا والآخرة ذلك المسكين .

وإذا نظرنا إلى السنّةِ على صاحبها صلوات الله وسلامه ، فقد روى البخاري – عليه رحمات ربي الباري - في كتاب الرقائق :
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ . ))
فيا أخي : انظر بعينِ قلبكَ .
كم يَـلْبـثُ الغريـبُ في موطنِ ؟؟!!
وكم يـحمـلُ المسافرُ من متاع ؟؟!!!

ولا أريدُ أنْ أطيل هذه المُقدّمةِ وليسَ همُّ كاتبِ هذه السطور أن يكتبَ في أدب النّفوس بل كانت النيّةُ في نقل مقالةِ الشيخ الإمام الذي سأحكي لكم خبرها وقد جاء هذا الكلام فيضَ خاطر .

كنتُ أقرأ في مجلة الأصالة العدد ( 48 ) ، وإذ بي أقرأ عنوانًا لمقالةٍ ( أدب النّفوس للعلامة الشيخ جمال الدّين القاسمي ) فقرأتُها المرة الأولى ثمّ عاودتُ الكرّة ثم ثالثة ، فقد ذقتُ حلاوة حروفها ومن ذاق عاد ، ولأنّ لكم في قلب راقـمِ هذه الكلمات محبّة أحببتُ أن أنقلها لكم ، ومن ذاق عرف ، ومن قرأ أعاد الكرّة .
وقُـمتُ بترتيبها وتنسيقها .

فَـمعَ المَـقالةِ الجَـميلـة الحُلـوةِ العَـذبـةِ :


*********************

أدبُ الـنّـفوسِ للعلامَـةِ الشيخِ جمالِ الدّيـنِ القاسمي – عليه رحمة الله -

كُـلُّ مَـن أعارَ الوجودَ نظرة البصير؛ عَلِمَ أنَّ حاجـةَ المرءِ إلى تأديب نفسه لا تفوقها حاجة ؛ لأنّ الإنسانَ إلى الشـرَّ أميلُ مِـنـه إلى الخيرِ، وإلى الشَّهواتِ النـفـسيّة مِنه إلى الكمالاتِ الروحيّة ، فكانَ من المُحتَّـمِ العناية بتهذيب خلقه، وتحليتِـهِ بالمحاسِـنِ والفضائلِ ، وتطهيرِ نفـسِـهِ مِـنَ الـمَـساوئ والرذائل، فيصبحُ مَحمود الأقوال والأفعالِ ، مثالاً للفضيلة والكمال.

وهاك شذرة مِمّـا يَـلزمُكَ أن تتخلّـقَ بـهِ مِـن آدابِ نَـفسـكَ :
عاملِ النَّاس بما تحبُّ أن يُـعاملوك بِـهِ .
لا تستهنْ بفاضل شريف، لا تميلنّ إلى سخيف.
لا تقولن هجراً لئلا يسقط قدرك ، لا تفعلن نكراً لئلا يقبح ذكرك .

إيّـاك وفضول الكلام فإنّـه يُظهـرُ مِـن عيوبِـكَ ما بَـطن، ويُـحرك مِـن عَـدوّكَ ما سَكن ، فكلام الإنسان بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصر على الجـميلِ ، واقتصر مِـنه على القليل، وإيّـاك وما يُـستقبحُ مِـن الكَـلام ، فإنّه يـنفـرُ عنك الكرام ، ويوثب عـليك اللئام.

إيّاك واللجاج فإنه يوغر القلوب، وينتجُ الحُـروب، فاقتصر من الكلام على ما يُـثبت حُجتـكَ، ويُـبلغكَ حاجتك ، ومن قال بلا احترام أُجَـيبَ بِلا احتشام، لا تعوّد نفسك إلا ما تحظى بأجره، وتحمد على ذكره، وإياك ومحاجة من يملك قهره، وينفذ فيك أمره.

يُـستدل على رَزانةِ الرّجلِ بِـقلّة نطقِـهِ ومَقالِـهِ ، وعَلى فَـضلهِ بفضلِ عِـلـمهِ واحتمالِـهِ ، فأكرمْ إخوانكَ ، وأكثرْ خِلّانكَ ، واكفهم لسانَـكَ ، فطعنُ اللسانِ أنفـذُ مِـن طعنِ السنانِ .

تعامَ عمّا تسوؤك رؤيته، وتغابَ عمّا تضرك معرفته، ولا تُشِرْ على ما لا يقبل منك .
ولا تجب عمّا لا تسأل عنه .
وإذا عاتبت فاسْتَبْقِ .
وإذا صنعت معروفاً فاستره، وإذا صُنع إليك فانشره .
وإذا أذنـبـتَ فاعتذر، وإذا أُذنب إليك فاغتفر، فالمعذرة بيان العقل، والمغفرة بيانُ الفضل .

ولا تزهد في رجلٍ عُرفَ فضله ، وجُرب عقلُـه .
ولا تعن قوياً على ضعيفٍ .ولا تؤثر دنيا على شريف، ولا تشر بما يعقب الوزر والإثم، ولا تفعل ما يقبّح الذكر والاسم.

كرّم نفسك وعرضك من مضاحكة المُجَّان والمساخرِ، ولا يبالي بما يقابل من ضروب الاستخفافات التي تلحقه، فهو من شرار الناس، واحفظ لسانك من المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس؛ فإنّ ذلك يُريق ماء الوجه، ويسقط المهابة، ويستجر من الوحشة، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللجاج والغضب
والتقاطع، ويثير الحقد في القلوب .

القَ صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير مذلة ولا هيبة منهما، وتوقر من غير كبر، وتواضع من غير مذلّة .

ليكن ضالة عقلك التي ينشرها، ونجعته التي يرتاده : الحق، فاحكم به ولو على نفسك ، ولا تكن ممن تأخذه العزّة بالإثم، فلا يصغي إلى الحق لكونه صدر عمن هو أدنى على ما يعتقد، بل العاقلُ يَـأخذُ الحكمة حيث وجدت، وليس في الحق صغير ولا كبير، ولا تحابِ صديقك في الحق؛ بل الحقّ أجدرُ بالصداقة منه.

اجتهد في محو الخرافات، والأوهام، والتصورات الباطلة، فإنها تفسد الملكات، وتدلّ على الجهل بحقائق الأمور .

واطرح المبالاة بكل الناس لما تتوخاه من الحق ، فإنّ السلامةَ من طعن الناس غاية لا تدرك ، ومن راضَ نفسه على السكون إلى الحق، وتبين أنّ ألمه في أول صدقه كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد من اغتباطه بمدحهم له، ومن لا عدو له لا خير فيه ، ولا منزلة أسقط ممن لا عدو له؛ لأنها منزلة من ليس لله –تعالى- عنده نعمة يُحسد عليها، عافانا الله.

لا تقبل سلطة فكرة إلا بعد فحص دقيق، فإنّ كلّ ما أُبطل ببرهان ضروري فليس بحق، وكلّ ما ثبت ببرهان فمعارضته شغب فاجتنبها ، وليكن مرجعك إلى الحق، وفزعك إلى الصدق، فمن أضعفَ الحقَّ وخذله أضعفه الباطلُ.

عليك بالنشاط في العمل، وترك البطالة والكسل، ولا تكن كَلاً على غيرك، فإنّ الرجل كل الرجل من يأكل من كسبه، ويشرب من وِرْده.

أقدمْ على جلائل الأعمال مع الصبر والثبات، واحمل نفسك على معالي الأمور، والتشبث بأحسن الأعمال والأمور العظام والتهاون لنيلها بالآلام، فإنّ الكسل من النقائص التي توجب الخسائس والشرور، وتدلّ على ضعف في إدراك صاحبها وحطة في نفسه، ومن رضي بالدون التحف بالخمول، وفاتته معالي الأمور، وَآذَنَ لصبر نفسه، وقصد همته، وضعف غريزته، وقد قيل: «إذا رقدت النفس في فراش الكسل، استغرقت في بحر الحرمان».

لا ترغب في سرعة العمل وارغب في إتقانه، ولا تؤخرنّ عملاً عن وقته، فإنّ الوقت الذي تؤخره له عمل، ولستَ تطيقُ ازدحام الأعمال؛ فإنّـها إذا ازدحمت دخلها الخلل ، ولتكن أوقاتك عندك كلها ربيعًا، فالوقتُ من أسمى مواهب الخالق التي لا يمكن استعادتها متى فاتت؛ فلا تتصرف فيه بما يؤسفك على فواته.

من هُم أقلّ منك معرفـةً وأدنى درجة فينبغي أن لا تكثر معهم اللجاجة ، ولا تخالطهم إلا بقدر الحاجة ، احذر من صحبة الفارغ فإنه يفتك بوقتك ولا فتك الوباء، فالمخالطة تؤثر ، والطبع سراق، فاصحب الأخيار، وما وراء كثير من العفو إلا إضاعة الوقت سدى، وقطع مراحل الحياة على غير هدى.

الوقت الذي تمضيه في أداء الواجبات الاجتماعية ليس بوقت ضائع؛ لأنّ حبّ الغير، ومعاونته، والعمل على نشر العلم، وتقليل وطأة الفاقة كلها من دلائل السعادة.

احرص على سعادة غيرك ، فإنّ اجتهادك في إسعاد غيرك إسعاد لنفسك، وقصر جهدك على إسعادك لنفسك إشقاء لها؛ لأنه إذا سعى كلٌّ لنفع غيره توفر النفع للجميع، وإذا سعى كلٌّ لمجرد نفع نفسه أضرّ بغيره، فتوفر الضرر للجميع.

عليك بترتيب أعمالك وأوقاتك، فإنّ الترتيب فضيلة تحمل صاحبها على الاهتمام والعمل بما وثبه لنفسه، وهي تنشط النفوس وتريح البال، ويكون صاحبها مستجمعاً لفكرته، محافظاً على وقته.
عليك أن تنام باكراً وتستيقظ في وقت السحَر فتؤدي العبادة المفروضة، وتأخذ في التهيؤ للدرس بالمطالعة والحفظ، ولا تشتغل بالمباحث التي لا شيء فيها إلا الحيرة، واعتمد بفحص كل الأمور صغيرها وكبيرها، لا تفرح إلا بما تأتيه من جليل الأعمال، فإنّ النفس إذا كبرت استشعرت الخلود، فعملت من الجميل ما يبقي على الأزمنة المتطاولة، وإذا نقص لم تحفل بما سيقبل من الأزمنة، ولا بجميل من الفعل، فآثرت عاجل الانتفاع على آجل الذكر.

صُنْ الحكمة عن بثها لمن لا يدريها، وصُنْ درر المعاني عن ابتذالها؛ فإنّ ما تألفه ألسنة الغوغاء يذهب منه رونقه.

القَ عدوك وصديقك بوجه طلق ، وأعط كل ذي منصب حقه من التعظيم، ولا تعظم جاهلاً ؛ فإنّ تعظيم الجاهل تقوية له على الجهل ، ولا تحضر مجلساً يُبخس فيه حقّ الكريم، ويكرم اللئيم، ولا ترضَ بأن تُنزل منزلة لست بها بأهل، فإنه ليس شيء أضرّ على الدين والدنيا من تصدّر غير الأهل في مكان الأهل.

ليكن مجلسك هادئًا ، وحديثُـكَ موزونًا مرتبًا ، وإذا جلستَ فلا تستوفز، وتحفّظ من تـشـبيك أصابعكَ وفرقعتها والعبث بشاربيك ولحيتكَ وخاتمك ، وتخليل أسنانك ، وإدخال إصبعك في أنفك، وكثرة لعابك، وتنحنحك، والتمطي، والتثاؤب في وجوه الناس في الصلاة وغيرها.

أصغِ إلى الكلام الحق ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط، ولا تسأله إعادته، واسكت عن المضاحك والحكايات، لا تحدِث عن إعجابك بولدك، وشعرك، وكلامك، وتصنيفك، وسائر ما يخصك، إذا خاصمت فتوقّر وتحفّظ من جهلك، وتفكر في جهتك.

لتكن سهل اللقاء والبشاشة ولو في حال المرض، وبادر بالتحية والبشر من تلقاه، واكتم بؤسك، واجعل شكواك لمن يقدر على غناك، ولا تحضر منازعة؛ فإنك لا تخلو من قسط من أذاها، ولو بالمطالبة بأداء الشهادة.

إياك والانبساط فإنه عورة من عوراتـكَ ، فلا تبذله إلا لمأمون عليه حقيق به ، لا تتصنع تصنع المرأةِ في التزين، ولا تتبذل تبذل العبد .
ولا تلح في الحاجات .
ولا تشجع أحداً على ظلم .
لا تُعْلِم أحداً من أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم مقدار مالك، فإنهم إن رأوه قليلاً هنت عليهم، وإن رأوه كثيراً لم تبلغ رضاهم قط ، واجفهم من غير عنف، ولِنْ لهم من غير ضعف، ليكن لك فضل عزلة، فإنّ كثرة الخلطة مجلبة الابتذال.

أصغ لمن ينتقد عليك، واهجر لمن يطريك بما ليس فيك، فإنّ من أظهر عيبك أراد تهذيبكَ ، ومن عرّفك نقصك أرشدك للفضيلة، ولا تغتر بمن يطريك ولمّا تبلغ الكمال، إذا يئست من التغلب على مناوئك فاسلك معه سبيل المحاسنة دفعاً للشر بالمحاسنة، فليس من الحزم أن تصارع القوي وأنت ضعيف، وتكافح المُسَلّحَ وأنت أعزل، وتعاكس مجرى الظروف، وطبيعتها ما تري .
اهـ .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــ

رحمة الله على الأديب الفذ الشيخ جمال الدين القاسمي . فقد أبدع أيّما إبداع .