أهــل الحـديث
24-02-2013, 10:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
سامحوني على أن وضعت هذا الموضوع من قبل و لم أكمله و ذلك ل...
فالآن حاولت أن أجمع شيئا ما مع تعليقات يسيرة . و هذا هو الجزء الأول وان شاء الله سأضع اجزء الثاني إن وفقني الله
تجارب الأعيان في استغلال الزمان
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله الذي أنار بعلمه الأكوان، وتعالى وصفه أن يلحقه النسيان، فكل شيء أقامه على البرهان، و كل صنف وضع له المكان و الزمان، وأكد على اغتنامهما في كل أوان، ليكون الإنسان منهما على بال، وأن لا يهدرهما على أي حال. و الصلاة والسلام على الرسول الأمين ، و على الصحابة الطاهرين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن أعظم ما يتفكر فيه الإنسان هو : أن ينخلع عن كل الأفكار الداهية، والخواطر الخالية ، و ينشغل بالأمور العالية ، والأوقات الباقية ، فإن الساعات دقائق ، والدقائق تحمل في طياتها جمع الحقائق ، والثواني نبضات ، تُغفل صاحبها عن أداء الطاعات ، فثورته طول الحسرات ، و لا ينفع مع ذلك الآهات ...
" فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور و الأيام و الساعات ، و تقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات ... "
فإياك و أن تنام مع أهل البطالة ، فتصبح من أهل الخسارة ، فتقول : ياليتني .. وحينها لا تنفع الندامة . يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : " رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا ، إن طال الليل فبحديث لا ينفع ، أو بقراءة كتاب فيه غزاة و سمر ، و إن طال النهار فبالنوم ، و هم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق ... " فما أكثر الأوقات التي تضيع ، و ما أكثر الدعاوي التي تشيع... إننا محتاجون – ورب الكعبة – إلى حفظ أوقاتنا ، فلا تدع الأيام تسير مسير القافلة التي تمشي في وضح النهار و الرُّحال نائمون ،فلا تنم، وإياك أن تقول إني لا أفهم . . .
أخي : أدعوك دعاء صدق، فهلا أجبت و انتفعت .. لا تكن ممن خاب سعيه ، وانقضى عمره ، و لم يؤد في حق الله شيئا فضلا عن أمته ، فكن حريصا ، فإن كنت كذلك فزد ، و إن غبت عن هذا فجٍدَّ .. ف"يا من سوّد كتابه بالسيئات . قد آن لك بالتوبة أن تمحوا، يا سكران القلب بالشهوات. أما آن لفؤادك أن يصحوا
يا نَدَامَايَ صَحَا القلب صحَا فَاطْرُدُوا عني الصِبا و المَرَحَا
زجر الوعظ فؤادي فارْعَوَى و أفاق القلب مني و صحا
هزم العزم جنودا للهـــــوى فاسدي لا تعجبوا إن صحا
بادروا التوبة من قبل الردى فمناديه يناديـــنا الـــــــوَحا "
" يقول الوليد الباجي :
إذا كنت أعلم علما يقينا بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها و أجعلها في صلاح و طاعه "
فها أنا أسطر لك صفحات من حياة أهل العلم الذين كانوا حريصين على دقائق أوقاتهم - التي بحفظها - أخرجوا لنا الكنوز.. و أخص منهم في هذه الرسالة المعاصرين و ذلك لسببين :
أولا : أنهم من أهل عصرنا و عاشوا في الفتن التي تعم بلداننا ، و مع ذلك غنموا و سعدوا و فازوا و أفلحوا
ثانيا : أن جل من ألف في الوقت جاء بكلام السلف فيكون هذا جديدا و إغناء لمن سبقني ، و لكن لا يمكن أن نحيذ عنهم فهم الأصل
و من هنا أستعين بالله أن يوفقني لهذا العمل قصد إحياء النفوس من جديد في المبادرة إلى الخيرات ، و الناظر في هذه الرسالة سيعلم أنها مستفادة من كتب معاصرة و بعض كلام أهل العلم من الشرائط أو نقل مستفاد من بعض طلبة العلم لأنها مظان هذا البحث و لا غنى عنه . و الله المستعان
********
إشــــــراق
كان من العيب - كم أشرت إلى ذلك – أن أملأ هذه الورقات بأحوال علمائنا الأفاضل المعاصرين و أنسى من كان لهم السبق في العلم و العمل، و منهم استفاد علمائنا
و هم سلفنا الصالح، فأشير لك ببعض أحوالهم و أقوالهم فتحمل معك هذا الأصل العظيم ، تتأسى به ، ثم تستروح نفسك بأحوال من في عصرنا لكي لا تورد عليَّ قول قائلهم : إنهم عاشوا في عصر لا فتن فيه . فهذا القول في ظاهره صحيح
و لكن إذا أمعنت النظر علمت أن لكل قوم فتنة، و إن كنا نعد عصرنا أكثر العصور فتنا . فحاول جاهدا بعد الاستعانة بالله أن تتشبه بهؤلاء القوم، فكما قال القائل:
فتشبهوا إن لكم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
إن سلفنا الصالح كانوا أشد الناس حرصا على استغلال الزمان بل أشحاء على ضياع طرف صغير منه
الآتي: ومما يروى في ذلك
عَلَامَ يندمُون
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي"
واعجباه
قال أبو بكر بن عياش: "أحدهم لو سقط منه درهم لظلَّ يقول: إنا لله ذهب درهمي، وهو ذهب يومه ولا يقول: ذهب يومي ما عملت فيه"
الوقت عند سليمان التيمي
قال حماد بن سلمة: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عزَّ وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً جنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل"
كل يوم يذهب بعضك
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ابن آدم! إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك
ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ ولدتك أمك
عقوبة
عن المنكدر بن محمد عن أبيه قال: إن تميماً الداري رضي الله عنه نام ليلة لم يقم بتهجد، فقام سنةً لم ينم فيها عقوبة للذي صنع
الليل والنهار
قال يحي بن معاذ: الليل طويل فلا تقصّره بمنامك، والنهار نقّي فلا تدّنسه بآثامك
لا تفرح
قال بعض السلف: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته
الشحّ المحمود
قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه
نداء الليالي والأيام
قال بكر المزني: ما مرَّ يومٌ أخرجه الله تعالى إلى أهل الدنيا إلا ينـادي: ابن آدم! اغتنمني، لعله لا يوم لك بعدي
ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعدي
ليل الشافعي
قال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام"
أمسك الشمس
!!" قال رجل لعامر بن عبد قيس: "قف أكلمك فقال: أمسك الشمس
حسرات
قال الحسن: "يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكلُّ ساعة لم يحدث فيها خيراً، تقطعت نفسه عليها حسرات
الفراغ
قال ابن مسعود:" إني لأكره الرجل أراه فارغاً، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة"
اجتهاد حتى الموت
قال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي فقال: يا بني دعني فإني في وردي السادس ودخلوا على بعض السلف عند موته وهو يصلي، فعاتبوه فقال: الآن تُطوى صحيفتي
احفظ الله يحفظك
قال ابراهيم بن شيبان: "من حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيّعها بما لا رضى لله فيه، حفظ الله عليه دينه ودنياه"
خزانتان
عن مالك بن دينار: "إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما" وكان يقول: "اعملوا لليل لما خلق له، واعملوا للنهار لما خلق له"
أعظم الخطر
عن الحسن قال: "ابن آدم: إنك بين مطيتين يوضعانك! يوضعك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلّماك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرًا؟ "
الشيخ ابن باز .. تاج من تيجان الوقت
"أدرك الشيخ شرف الزمان، فوزع وقته في وجوه البر و الإحسان. و هذه أعظم عَلَامَة ، على بلوغه درجة الإمامة "
لم يبلغ الشيخ هذه الدرجة التي فاح عبيرها إلا بجهد جهيد ، و عزم من حديد ، في جمع الأنفاس على اغتنام أعز الأوقات فرحمه الله رحمة واسعة و هاك برنامجه اليومي و قد ذكره الشيخ العفاني في كتابه زهرة البساتين 6/144 نقلا عن كتاب إمام العصر مختصرا و لكن وجدت في موقعه الرسمي كلاما مثله و زيادة أخرى فيه ، وحاول أن تتأمل كيف يمضي يومه – رحمه الله – و ليس ضروريا أن تكون مثله ، ولكن اعتبر و طبق القاعدة ولا تغُص في المثال:
يقوم سماحة الشيخ رحمه الله قبل الفجر بساعة تقريباً؛ لأداء صلاة التهجد؛ حيث يصلي إحدى عشرة ركعة كلها خشوع، وتضرع، ودعاء كثير، وكان يكثر في ذلك الوقت من الذكر ، وقراءة القرآن ، والدعاء للمسلمين وولاة أمورهم ، ويختم بالاستغفار.
وبعد أذان الفجر أو قبله يذهب إلى المسجد بسكينة ووقار وذل لله ، فإذا خرج من المنزل قال الدعاء المأثور ، ثم إذا وصل المسجد قدم رجله اليمنى ، ودعا بما ورد ، ثم صلى السنة الراتبة ، وأكثر من الأدعية ، ثم يؤدي صلاة الفجر ، وبعدها يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلاة ، ثم يمكث طويلاً لورده اليومي من الأدعية والأذكار الصباحية.
وبعد ذلك يبدأ الدرس المعتاد الذي ربما زاد وقته على ثلاث ساعات؛ حيث تُقرأ عليه الكتب المتعددة المتنوعة ، وبعد ذلك يجيب على الأسئلة الكثيرة بكل عناية ودقة ، ثم ينصرف بعد ذلك إلى منزله.
وإذا لم يكن عنده درس انصرف إلى منزله بعد أن يأتي بورده اليومي الصباحي
ثم يجلس في المنزل ما يقارب الساعتين؛ حيث تعرض عليه بعض المعاملات المهمة ، أو تقرأ عليه بعض الكتب أو البحوث ، وفي ذلك الوقت - أيضاً - يقوم سماحته بالنفث والرقية في بعض أواني المياه ، أو قوارير الزيت ، أو العسل التي أتى بها أصحابها؛ ليقرأ فيها سماحته.
وبعد ذلك يتوجه سماحته إلى داخل منزله ، لأخذ قسط من الراحة ، وقد يجلس على سريره دون نوم - كما يقول ذلك هو
وبعد الساعة الثامنة ينهض ، ويتهيأ للإفطار ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ، ثم يتوجه إلى المكتب بسكينة وعزيمة وهمة
وفور ركوبه السيارة تُعْرَض عليه بعض القضايا ، أو تقرأ عليه بعض الكتب ، وإذا وصل المكتب وتَرَجَّل ماشياً عرضت عليه - أيضاً - بعض الكتابات ، أو القضايا إلى أن يصل إلى مكتبه.
وإذا استقر في مكتبه واصل القيام بالأعمال العظيمة التي لا يقوم بها الجماعة الكثيرة من الرجال الأقوياء الأشداء؛ حيث تعرض عليه القضايا ، ويستقبل الوفود ، ويجيب على السائلين ، ويؤدي الأعمال المنوطة به في المكتب ، ويأتيه المطلقون إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره..
وهكذا يستمر عمله إلى الساعة الثانية والنصف أو بعدها بقليل ، حيث يكون آخر من يخرج من العمل.
وبعد ذلك يتوجه إلى منزله ، وفي الطريق إلى المنزل يُواصَل عَرْضُ القضايا أو قراءة الكتب عليه ، وكثيراً ما كان يستمع إلى أخبار الثانية والنصف ظهراً عبر المذياع وهو في الطريق إلى منزله ، وإذا لم يكن معه من يقرأ عليه قطع الطريق بالذكر ، وقراءة القرآن
وإذا وصل إلى منزله وجد الجموع الغفيرة من الأجناس المتعددة ومن ذوي الحاجات المتنوعة بانتظاره؛ فهم ما بين مستفت ومُسَلِّمٍ ، ومطلِّق ، وطالب حاجة، وفقير ، ومسؤول ، وزائر من قريب أو بعيد
وبعد أن يصل إليهم يلقي السلام عليهم ، ويدعوهم إلى تناول طعام الغداء على مائدته ، ثم يقوم الحاضرون إلى الغداء ، ويجلس سماحته بينهم يتناول طعام الغداء ، ويباسطهم ، ويسأل عن أحوالهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، وإذا انتهى من الغداء تأنى قليلاً؛ كيلا يعجلهم ، وإذا قام قال: كلٌّ براحته ، لا تعجلوا
وإذا قام لغسل يديه بدأت الأسئلة ، تلقى عليه وهو في الطريق إلى المغسلة ، ومن بعدها يعود إلى المجلس
وإذا كان الوقت متأخراً ووقت صلاة العصر قد اقترب توضأ ، وتابع المؤذن ، ثم توجه إلى المسجد وإذا كان في الوقت متسع رجع إلى المجلس ، وتناول الشاي مع الضيوف ، وتطيب معهم ، ثم توجه إلى داخل المنزل قليلاً ، ثم يخرج وقت أذان العصر وبعد ذلك يتوجه إلى المسجد ويؤدي الصلاة ، وبعد ذلك يقرأ الإمام ما تيسر من كتاب رياض الصالحين للنووي ، أو الوابل الصيب لابن القيم ، أو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أو غيرها من الكتب ، ثم يشرع سماحته بشرح ما قرئ ، ثم توجه إليه الأسئلة ، فيجيب عليها ، ثم يرجع إلى منزله؛ لأخذ بعض الراحة ، وفي الطريق إلى المنزل يجيب على ما تيسر من أسئلة الجموع الغفيرة المحيطة به وقبل المغرب يتوضأ سماحته ، ويذهب لصلاة المغرب ، وبعد الصلاة يأتي للمنزل ، ويؤدي السنة الراتبة ، ثم يجلس للناس جلسته المعتادة إذا لم يكن لديه محاضرة ، أو تعليق على ندوة، وفي مجلسه المعتاد يؤدي من الأعمال العظيمة ما قد لا يخطر على بال كما سيأتي بيان ذلك في صفة مجلسه. وإذا أُذِّن بصلاة العشاء تابع المؤذن ثم قام للصلاة ، وترك جميع الأعمال ، وإذا دخل المسجد وأدى تحية المسجد بدأ الإمام يقرأ بعض الأحاديث ، ثم يشرع سماحة الشيخ في شرحها ، وإيضاحها ، ثم تنهال عليه الأسئلة بعد ذلك ، فيجيب على ما تيسر منها.
وبعد صلاة العشاء يعود إلى منزله إذا لم يكن لديه موعد خارج المنزل أو محاضرة، أو إجابة دعوة خاصة ، أو وليمة زواج ، أو زيارة مريض ، أو نحو ذلك
وإذا رجع للمنزل جلس لقراءة بعض المعاملات عليه ، أو راجع بعض الكتب ، وربما كان لديه اجتماع أو أكثر داخل المنزل ، وربما كان لديه ضيوف ، وربما كان لديه موعد تسجيل إذاعي ، أو محاضرة يلقيها عبر الهاتف لأناس خارج المملكة
وبعد ذلك يتناول طعام العشاء مع ضيوفه ، وموظفي مكتب المنزل ، ومن حضر عموماً
وبعد تناول العشاء؛ يعود لإكمال ما شرع فيه من عمل قبل العشاء ، أو يكمل الجلوس مع ضيوفه ، أو يجلس لقراءة بعض الكتب ، أو إنهاء بعض المعاملات حتى ساعة متأخرة؛ إما الحادية عشرة أو الثانية عشرة ، ثم ينصرف بعد ذلك إلى داخل منزله ، ويمشي على قدميه مدة نصف ساعة تقريباً ، ثم يأوي إلى فراشه
وهكذا كان يقضي سحابة يومه في عمل وهمة ونشاط وأنسٍ يسري منه إلى من حوله. " اهـ
فانظر- رحمك الله - إلى علو همة هذا الرجل الذي ما كان عنده شيء اسمه الفراغ قيام ثم ذكر ثم تعليم و اجتهاد و تضرع و بكاء فأين نحن من هذا اليوم العظيم ؟؟ إن الناظر حقا في هذه التجربة ليجد التوفيق ساريا في كل نبضاته ، فكم من واحد منا يستعد ليومه و يُبرمج له ، ثم لا يجد نفسه في عمل يرتضيه ، و لا يجد من نفسه إلى دناءة الهمة ، التي خربت علينا أيامنا و ساعاتنا ، فوالله ما منا إلا البكاء و الرجوع إلى الله ، يتصور أحدنا أن يعيش هذه الحياة ثم يذهب إلى الله هنيئا ، لا.. لا فإياك أن تملأ وقتك مما لا ينفع ، فإن الدنيا غرَّارَة ماكرة تضحك لها و هي تضحك عليك ...
تمر الساعات و تتلوها الدقائق و ما نعمل شيئا ، و إن عملنا رائينا – إلا من رحم الله - ...
إن الوقت ليس كلاما يكتب ، وقواعد تُقرَّر ، و تجارب تُحكى ..
إنه حياتك.. يقول إبن القيم - رحمه الله - : " فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت ، وإن ضيعه لم يستدركه أبدا .. فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة ، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم ، وهو يمر أسرع من مر السحاب، فما كان من وقته لله و بالله فهو حياته و عمره ، و غير ذلك ليس محسوبا في حياته ، وإن عاش فيه عاش عيش البهائم ، فإن قطع وقته في الغفلة و الشهوة و الأماني الباطلة ، و كان خير ما قطعه بالنوم و البطالة ، فموت هذا خير له من حياته . و إذا كان العبد - و هو في الصلاة – ليس له من صلاته إلا ما عقل مها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله و لله " اهـ
******
الشيخ ابن عثيمين .. الوقت الثمين
و هذا إمام من أئمة الزمان ، من ذا الذي لا يعرفه ؟؟ شغل الناس بالعلم ، وطارت فتاويه في الآفاق، وأزال الشبه و الإفتراءات ، وعاش ذابا عن هاته الشريعة الغراء ، عمّر وقته بالعلم و العمل و الإخلاص - نحسبه كذلك و الله حسيبه –
لا تجد متنا صعبا إلا و سهّله – رحمه الله - ، و لا قاعدة إلا أنزلها موضعها
لقد عاش لله ، أوقاته لا تعرف اللهو و الخوض فيما لا يعني ،أوقاته في النفع و البذل والخير ، فتعال معي نتعرف على يومه كيف كان ؟ وعن ساعاته كيف تمضي ، لعلك تمضي قُدما إلى همة عالية تسير بك على الدرب- وفقنا الله و إياك-
" قال الشيخ عبد الرحمان الريس مؤذن الجامع الكبير بعنيزة :
أما الفترة الصباحية :
فإما أن يكون عنده تدريس في الجامعة في كلية الشريعة و أصول الدين . وإما أن يكون في بيته للنظر في رسائل و خطابات الناس و طلباتهم و الرد على بعض الفتاوي خطيا ، و الرد على بعض المكالمات الهاتفية الخاصة "
قلت : فتأمل دقة فهمه، وحكمته ، أنه إذا لم يكن عنده شغل في الجامعة ظل يكتب الرسائل.. و هذا بخلاف كثير من الناس يشتغل في مكان ،أو يكون عنده حصص في المدرسة أو الجامعة ، فإذا كانت عنده إجازة ظل نائما و يُمضي الوقت في أي شيء تافه يقول إبراهيم بن أدهم : إذا كنت بالليل نائما ، و بالنهار هائما (أي : تائها ضائعا) ، وفي المعاصي دائما ، فكيف ترضى من هو بأمورك قائما ؟؟
" أما فترة بعد الظهر :
فهي مخصصة للرد على الأسئلة عبر الهاتف حتى وقت الغداء، فإنه كان يرد على أسئلة الناس. ثم إن كان هناك وقت قبل العصر ارتاح قليلا وإن لم يكن هناك وقت استمر ، وإن كان عنده ضيوف جلس معهم ليُؤنسهم ، وليستفيدوا من علمه - رحمه الله – وليتعرف هو رحمه الله على أحوال البلاد التي جاءوا منها ، و نحو ذلك...
أما فترة العصر :
فإنه بعد صلاة العصر يقوم بشرح حديثين أو ثلاثة على جماعة المسجد في مدة أقصاها ربع ساعة
و كان لهذا الحديث طعم خاص لخفته و قصر مدته ، وفوائده العظيمة جدا
ثم بعد ذلك يجلس للرد على أسئلتهم و طلباتهم الخاصة بهم ، وغير ذلك ..
حتى إني أحيانا أحضر لأذان المغرب و هو يخرج من المسجد من بعد صلاة العصر ، كل هذه المدة جالس لقضاء حوائجهم. حتى إن المرأة ليأتي هو نفسه إليها خارج المسجد و يجيب على سؤالها إن كان لديها سؤال، أو يقضي حاجتها إن كان لها حاجة
أما بعد صلاة المغرب :
فهو الوقت المخصص للدرس اليومي حسب جدول معين، وبعد أذان العشاء كذلك درس آخر لمدة نصف ساعة، ثم يُصلي العشاء "
قلت : وقد يتعقب أحد القراء ويقول : إن وقته يمضي في التعليم ونحن لسنا إلا سالكين للعلم أو طلاب علم فأقول : عليك أن تحمل الأصل الذي قررته قبل هذا وهو: خذ القاعدة و مِن عندك المثال فهو إن كان وقته في التعليم فليكن وقتك في التعلم و هكذا ..
و المقصود أن تعلوَ همتك و تنتهج برنامجا خاصا لك ، فافهم
" و بعد صلاة العشاء :
إما أن يكون لديه اجتماع مع بعض الجمعيات الخيرية مثل : جماعة تحفيظ القران الكريم الخيرية بعنيزة ...
أو يزور أقربائه، أو يجيب دعوة، ويحرص على النوم مبكرا ليقوم الليل
و يمشي في الطريق بعد صلاة الفجر إلى البيت و بعد الظهر و يلقي دروسا يومية و هو يسير ماشيا "
فانظر كيف توزَّع وقته في أوجه الخير، من صلة و دعوة ... حتى في مشيه
" و عنده برنامج في المشي أيضا : يقول تلميذه خالد بن صالح النزّال :
و كان يذهب إلى المسجد ماشيا ، ويرجع إلى بيته ماشيا كذلك ، والمسجد يبعد عن بيته كيلا واحدا تقريبا ، فهذه عشرة أكيال يقطعها - رحمه الله – يوميا ماشيا
و نادرا ما نراه إلا و معه عدد من طلبة العلم يسألونه ، أو يقرِؤون عليه متونا ، ولقد قرأت عليه مما قرأت و هو يمشي أكثر من مائة قاعدة فقهية، جمعتها و أخي الشيخ مازن الغامدي و شرحها ...و ربما كان البرد شديدا ، وكاد يعقد لساني من البرد وهو لا يأبه لذلك و لا يهتم صابرا محتسبا لله .."
و عنده -رحمه الله- حرص شديد على نَفس من أنفََََاس وقته فكان لا يتخلف عن ورده من القرآن و في هذا عجب واقتداء بالسلف وكأنه قُذف من زمانهم ، علَّمنا ثم مضى إلى ربه .
" يقول الشيخ المنجد :
و كان - رحمه الله – مداوما على قراءة ورده من القرآن باستمرار ، يقرأه و هو ماش إلى الصلاة ، لا يركب ، و لا يقبل أن يقاطعه أحد و هو ذاهب إلى المسجد لأن هذا وقت الورد – ورد القرآن – فإذا اضطر إلى كلام صاحب الضرورة و تأخر شيئا ما في الورد ، ووصل إلى المسجد و لم يتم ورده ، وقف عند باب المسجد ، ولم يدخل حتى ينهي ورده ، فيستغرب بعض الذي يرونه . الشيخ واقف و ما معه أحد ، ماذا يفعل ؟ و في الحقيقة أنه يتم ورده
و انظر إلى هذا الصنيع العظيم ، وما هو إلا نسخة نادرة من سلفنا رحمهم الله فالخطيب كان يمشي و في يده جزء يطالعه " و ذكر العسكري في الحث على طلب العلم : أن أبا بكر الخياط – العلامة النحوي محمد بن أحمد البغدادي – ت320
كان يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، و كان ربّما سقط في جُرف أو خَبَطَته دابة... أقول : و ممن شهدناه على هذا الحال في القراءة عليه و استفتائه و هو يمشي شيخنا و شيخ مشايخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى فقد كان ذلك ديدنه وهِجِّيْراه بنفس منشرحة ووجه طلق ، فجزاه الله عن العلم وأهله خيرا.
فهكذا كان علمائنا لا يضيعون أوقاتهم ، و لهذا كان بعض السلف يوصي تلاميذه أن لا يذهبوا مجتمعين لأنهم يتكلمون و يلهيهم ذلك عن قراءة القرآن . و الله المستعان و لا حول و لا قوة إلا بالله
*****
الشيخ الألباني ، أيام في التضحية و التفاني
لم يعرف هذا الإمام هزلا في الوقت و لا ضياعا ، ولم يعرف خوضا فيما لا ينفع ، انتفع به القاصي و الداني ، قلما تجد كتابا محققا ، إلا وفي حاشيته صححه الألباني . ضعفه الألباني...
إن عمره أبى إلا أن يكون للعلم و العمل و الذب عن سنة رسول الله صلى الله عله و سلم ، كان يعرف الجد و العزيمة .. كان جبلا قلما يصعد له أحد
كان وحده يساوي جامعة برمتها ، أنجز ما لم ينجزه غيره في زمانه ، ومن صلب موضوعنا سندخل في ذلك ، لكي تعلم قدر هذا الشيخ الجليل.
يقول الشيخ مشهور - حفظه الله – في إحدى أجوبته :
وكم كانت الفرحة لما يسر الله عز وجل، وأن علمت أن الشيخ الإمام إمام هذا العصر في علم الحديث، أبو عبدالرحمن محمد ناصر الدين بن نوح الألباني، لما جاء الأردن في سنة 1978- 1979، وكان يتردد إلى الأردن، و كنت في الثانوية، ومن الله علي فجلست في تلك الفترة في مجالسه ووجدت جنتي، وجدت رجلاً تعجب منه، له المهابة و البساطة؛ يعيش في حياة لا يعرف فيها إلا العلم، فالعلم يملأ وقته، وينشغل في ليله ونهاره، وفي حله وترحاله بالعلم
ودخلت على مكتبة كان الشيخ ينزل فيها، وكم دعوت ربي أن أرزق مثلها، ولله الحمد مكتبتي الآن مثلها أو أحسن منها، وغبطت الشيخ غبطة عظيمة لما رأيت في المكتبة فرشة ووسادة، هذه غبطة عظيمة دخلت في نفسي، كان الشيخ رحمه الله يواصل الليل بالنهار، وكان لا يعرف الملل ولا التعب لما يعيش بين الكتب، حتى أنه لما كان يدخل في المكتبة الظاهرية كان ينسى نفسه، فكان يقول للقائمين على المكتبة: اخرجوا وأغلقوا علي الباب وارجعوا غداً، مما اضطرهم أن يبنوا له غرفة في المكتبة، فكان يسكن رحمه الله في السدة، وحدثني القائم على المكتبة العامة في حي الزاهر في مكة، قال: جاء الشيخ للعمرة، وكان بحاجة أن يراجع بعض المسائل، فدخل المكتبة العامة، وكانت زاخرة ومليئة بالكتب، قال: فدخل فانتهى الوقت، فقلت: يا شيخ نريد أن نغلق، قال: أغلق علي وارجع غداً
وهذا حقيقة أمر شاهدناه ولو لم يستفد من شيخنا شيئاً إلا حرصه على الوقت، وحبه للعلم، لكان في ذلك خير عظيم وفرق بين ما تسمع وبين ما ترى . اهـ
وقال أيضا :
إن شيخنا إمام هذا العصر في الحديث الشيخ أبو عبدالرحمن محمد ناصر الدين بن نوح الألباني، رحمه الله، وطيب ثراه، ورفع درجته في عليين، لو لم يكن من حسنات اللقاء به إلا معرفة أهمية الوقت لكفى ذلك، ونقرأ عن أهمية الوقت عند العلماء، لكن الفرق بين الخبر والمعاينة، فكان الشيخ إذا سئل في مكتبته عن شيء، فعين عند السائل والأخرى في الكتاب، وما رأيت أحداً أشح بوقته منه، وهذا من علامة نبوغه ومن توفيق الله له، ومن أسباب تقدمه، ولو أن الشيخ فتح بابه لكل طارق، وجرس هاتفه لكل طالب لما نبغ النبوغ الذي كان عليه، ولذا لا بد للطالب أن يفوته شيء من خير، ولكن ينبغي أن يكون فقيهاً، وأن يعرف الأولويات.
وكانت رحلات الشيخ تكون بعد مضي جهد وتعب، وحبس للنفس في المكتبة، التي كان يقضي فيها قبل مرض موته، كان يقضي فيها بعض الأحايين، أكثر من ثماني عشرة ساعة، لا يخرج إلا لطعام يسير أو صلاة، فما كان يخرج لذات الرحلة، وإنما كان يخرج ليتقوى ويرتاح من ضغط ما هو فيه، وليستفيد من الوقت، وكان خروجه غالباً يكون مع طلبة علم فيخرج ليفيد، وما يعرف إلا الجلوس للسؤال والجواب، وإذا كان خروجه في النهار لا ينسى القيلولة، ويقيل في السيارة فيستعين بهذه المدة اليسيرة من النوم،وكان الشيخ كالجواد كلما ركض جد واجتهد، فكان يجلس المجالس الطويلة، التي تمتد أكثر من ثماني ساعات والشباب الجالسون يتعبون من السماع والشيخ يقول: أنا معكم إلى حيث شئتم. فالمسائل العلمية كانت هي مبحثه وحادثه في جلوسه، وكما قالوا قديماً: كل شيء إن أنفقت منه فإنه ينقص إلا العلم فإنك إن أنفقته زاد
وكنت في أول تعرفي على الشيخ لا أستغرب من معلوماته لكن كنت أستغرب من شيء ظهر لي فيما بعد سره، فكان الشيخ إن استشكل عليه الجواب ما رأيته تلكأ مرة في رد الشبهة التي تطرأ عليه، وكثيراً ما يكون الجالسون طلبة علم، وأناس معروفون ومرموقون ومحققون ممن يشار إليه بالبنان، بل بعض كبار العلماء وهو من هيئة كبار العلماء لما تباحثنا وإياه في بعض المسائل، لما كان عندنا هنا في الأردن، وكان يقول: الشيخ يقول كذا، ويستشكل علي كذا قلنا له الشيخ قريب فما المانع أن تجلس معه؟ فكان يقول: نتكلم من وراء الشيخ، أما أمام الشيخ فللشيخ مهابة لا تأذن لنا أن ننطق بكلمة، فكان رحمه الله له هيبة
وكان حريصاً على وقته يخرج ليرتاح ويستعين فيما بعد على مواصلة الطلب من جهة وفي الجلوس تكون فائدة المباحثة وإيراد الاستشكالات من الطلبة فكان لا يتلكأ في استشكال إلا ويرده، وظهر لي السر فيما بعد، وكان السر في أشياء
الأول: أن الشيخ متفنن ومتقن لأكثر من فن، فليس كمن لا يعرفه يقول إن الشيخ حديثي، فالشيخ بدأ فقيهاً، وتعلم الفقه الحنفي على أبيه، وكان أبوه فقيهاً حنفياً مرموقاً، وله تلاميذ كثر معروفون درسوا عليه الفقه، وكان للشيخ أيضاً نصيب جيد من علم أصول الفقه، ولا زلت أذكر أن الشيخ اتصل بي مرة وقال لي: دون عندك، أنا أحفظ في كتاب (التحرير) لابن همام أنه يقول كذا وكذا، وأملى علي فقرة وقال: أريد أن توثقها من كتاب (التحرير) وأن تتصل بي وتقرأ علي عبارة التحرير، فكادت العبارة التي في ذهنه تتطابق تماماً مع العبارة الموجودة في كتاب التحرير، ويقول الشيخ: حفظتها أكثر من خمسين سنة، فكان رحمه الله يعرف علم الأصول معرفة جيدة
والثاني: كانت مجالس الشيخ فيها المستفيدون فرأيت مع مضي الزمن أن جل الشبه التي كانت تطرح عليه ما كانت تلقى عليه لأول مرة، ويكون له فيها سالف ذكر، فكانت هذه المسائل عنده الجواب عليها تحصيل حاصل، لأنه كان لا يعرف إلا البحث والعلم.
لذا نصيحتي إلى طلبة العلم أن لا ينشغلوا عن العلم بغيره، فإن العلم من أنفس ما تصرف فيه الأعمار، وهو من أقرب الطرق إلى تحصيل رضى الله، وإلى دخول الجنان، نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا..اهــ
فانظر إلى جِده واجتهاده حتى في المباح ، لا يعرف إلا السهر في العلم و التعليم.
أين مثل الشيخ الألباني؟. ما عدنا نراهم إلا في الكتب أو نسمع من هنا و هناك. لقد كان هذا الإجتهاد منذ صغره فقد قال -رحمه الله:
و من توفيق الله تعالى و فضله عليّ أن وجهني منذ أول شبابي إلى تعلم هذه المهنة، ذلك لأنها حرّة لا تتعارض مع جهودي في علم السنة، فقد أعطيت لها من وقتي كل يوم – ما عدا الثلاثاء و الجمعة – ثلاث ساعات زمنية فقط.
و هذا القدر يمكنني من الحصول على القوت الضروري لي و لعيالي و أطفالي على طريقة الكفاف طبعا ، فإن من دعائه عليه الصلاة و السلام " الله اجعل رزق آل محمد قوتا " رواه الشيخان.
و سائر الوقت أصرفه في طلب العلم ، و التأليف ودراسة كتب الحديث ، وخاصة المخطوطات منها في المكتبة الظاهرية ، ولذلك فإني ألازم هذه المكتبة ملازمة الموظفين فيها لها ويتراوح ما أقضيه من الوقت فيها ما بين ست ساعات و ثماني ساعات يوميا على اختلاف النظام الصيفي و الشتوي في الدوام فيها "
فهذه همة الشيخ فما رأيك ؟ تريد الكسب و الحياة ويكون لك ذلك ، ولكن همتك في الكسب أكبر بكثير من همتك في العلم و العمل. فراجع نفسك.
إن هذا الرجل يعلمك من تنظيم وقته شيئا نفيسا ، إنه لا يعلمك البرنامج الذي يصرفه في القرآن والعلم و التعليم فقط، بل يعلمك الهمة العالية التي يحقق بها برنامجه ، فإن كثيرا من الناس يَعرف أنه إذا حفظ كذا آية كل يوم فسينتهي من الحفظ في سنوات معدودة ، ويعلم أنه إذا اشترى كتابا فسيعلم علما مفيدا ، ويعلم أنه إذا حضر مجلسا فسيستريح قلبه ، و يعلم أنه إذا ... كان له كذا.. و لكن أين هي الهمة التي ستصرف إلى هذا المعمول فيعمل به
أقولها حقا : لقد أصبح العلم في ناحية و العمل في ناحية أخرى لا تُعرف ..
هم أحدنا أن يتعلم ليعلّم وأنى له ذلك ؟؟، أو يحفظ ليقول الناس سيؤمنا هذا العام في التروايح ، أو يتعلم بدون نية ... قد افتقدنا الإخلاص
والهمة العالية اللذين يصرفان في العمل لا العلم لذاته ، فقد كان سلفنا مضربا للمثل في العمل بالعلم ، فكما قلت سالفا – و من الكلام ما يحسُن تَكراره – لابد من همة عالية في العلم و العمل ، والثاني أعلى ، فهو حياتك و سر خاتمتك..
قل لي بالله عليك هل ما يُراد من العلم إلا الخشية ؟؟ فأين ذلك في حياتنا ، فالله الله في الهمة العالية التي تُصرف في العلم و العمل ،فالشيخ – رحمه الله- كان ذا همة عالية في العلم ، و ما نحسبه و الله حسيبه إلا ذا همة عالية في الإخلاص والعمل أيضا وصبره دليل عليه ، وليس هنا محل بسط ذلك ، فالعمل العمل ، أنظر إلى سلفنا في ذلك تجد عجبا هذا بعد همة عالية في تحصيل العلم ، والتنافس فيه ، وتعليم الناس الخير
عن علي – رضي الله عنه - أنه ذكر فتناً في آخر الزمان. فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال: (إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة)
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا".
وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: (إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت)
وقال الخطيب البغدادي: (ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة. والعمل ثمرة. وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً.. والعلم يراد للعمل كما يراد العمل للنجاة، فإن كان العمل قاصراً عن العلم كان العلم كلاّ على العالم. ونعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غُلاّ.
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضي الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا . . وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤ لنفسه وليغتنم وقته فإن الثواء [ كأنه يعني المَقام في هذه الدنيا ] قليل والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب والخطر عظيم، والناقد بصير. والله – تعالى – بالمرصاد. وإليه المرجع والمآب ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)).
وقال بعض العلماء: (العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولو لا العلم لم يطلب عمل. ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه)
وقال الزرنوجي – رحمه الله -: (وإنما شرف العلم بكونه وسيلة إلى البر والتقوى الذي يستحق بها المرء الكرامة عند الله، والسعادة الأبدية . . فينبغي للإنسان ألا يغفل عن نفسه، ما ينفعها وما يضرها في أولها وآخرها، ويستجلب ما ينفعها، ويجتنب ما يضرها، كي لا يكون عقله وعلمه حجة عليه، فيزداد عقوبة، نعوذ بالله من سخطه وعقابه)
وقال ابن الوردي وهو عمر بن مظفر المتوفى سنة (746هـ) من اللامية المنسوبة إليه:
أطلب العلم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهـل الكسل
واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بـذل
لا تقل قد ذهبت أربابـه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العِدَا وجمال العلـم إصلاح العمل
ففخر كبير أن يجرنا هذا الإمام إلى العمل بالعلم ، الذي إليه تشخص أبصار العلماء مع الإخلاص لله عز وجلّ .
وأختم هذا الجزء بشيء آخر من علو همته في الوقت، إلى جزء آخر فيه أعلام أخرى نتأسى بهم. -إن شاء الله -
من ذلك أنه ".. لما اشترى قطعة أرض رخيصة الثمن و كان ذلك على قدر طاقته – ليبني عليها منزلا ، كانت تلك الأرض الرخيصة بعيدة عن المكتبة الظاهرية التي كان يتردّد عليها ، وكان المشي إلى المكتبة على قدمه سيأخذ منه وقتا طويلا ، فضلا عن التّعب ، فكَّر – رحمه الله – في الأمر فقال : " اشتريت درّاجة لأركبها ، و كان - لأول مرة – الدمشقيون يَرون مثل هذا المشهد : أن شيخا معمّماً يركب دراَّجة . فلذلك تعجبوا من ذلك المَشهد ، وكان هناك مجلة تسمى"المضحك المبكي" يُصدرها رجل نصراني، فذكر هذا المشهد ضمن النكت الظراف ، و كنت لا أبالي بهذه الأمور الصغيرة ، فكلُّ الذي يهمني هو الوقت "
فانظر إلى اغتنام الوقت العامر بحب العلم .
و قال صحاب المصدر المشار إليه في الحاشية ومما كتب إليَّ و حدثني به الأخ سامي خليفة قال : " وضع الشيخ كشَّافا متصلا بالكهرباء موَجَّها إلى موضع يده عند الكتابة ليستعمله مُباشرة حال انطفاء الكهرباء" اهـ
قلت : وهذه حكمة بليغة من الشيخ لكي لا يضيع عليه وقته ، لأنه بعض الأحيان يكون الإنسان منغمسا في بحث ينسى نفسه ، فإذا حدث مثل هذا نسي تلكم المتعة حتى يجدها بعد مدة
و قال أيضا ناقلا عنه: و كان رحمه الله قد جعل وقتا لاستقبال الاتصالات الهاتفية من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشرة، فاتصل عليه أحدهم قبل الساعة التاسعة بدقيقة فقال له الشيخ: هذا الوقت لي، اتصل بعد دقيقة. اهــ
وهناك غير هذا في حرصه على الوقت و كذلك كان العلماء رحمهم الله جميعا ، فاللهم اغفر لهم و ارحمهم و اجمعنا بهم في جناتك.
فهذا جهد مقل في حق هؤلاء ، مع إعتذاري الكامل إن أسأت أو زللت أو قصرت فذلك مني لا محالة ، وسبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا الله و أستغفره و أتوب إليه . انتهى الجزء الأول وجمعه أفقر عباد الله بسلا – بطانة
13ربيع الثاني 1434
سامحوني على أن وضعت هذا الموضوع من قبل و لم أكمله و ذلك ل...
فالآن حاولت أن أجمع شيئا ما مع تعليقات يسيرة . و هذا هو الجزء الأول وان شاء الله سأضع اجزء الثاني إن وفقني الله
تجارب الأعيان في استغلال الزمان
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله الذي أنار بعلمه الأكوان، وتعالى وصفه أن يلحقه النسيان، فكل شيء أقامه على البرهان، و كل صنف وضع له المكان و الزمان، وأكد على اغتنامهما في كل أوان، ليكون الإنسان منهما على بال، وأن لا يهدرهما على أي حال. و الصلاة والسلام على الرسول الأمين ، و على الصحابة الطاهرين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن أعظم ما يتفكر فيه الإنسان هو : أن ينخلع عن كل الأفكار الداهية، والخواطر الخالية ، و ينشغل بالأمور العالية ، والأوقات الباقية ، فإن الساعات دقائق ، والدقائق تحمل في طياتها جمع الحقائق ، والثواني نبضات ، تُغفل صاحبها عن أداء الطاعات ، فثورته طول الحسرات ، و لا ينفع مع ذلك الآهات ...
" فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور و الأيام و الساعات ، و تقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات ... "
فإياك و أن تنام مع أهل البطالة ، فتصبح من أهل الخسارة ، فتقول : ياليتني .. وحينها لا تنفع الندامة . يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : " رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا ، إن طال الليل فبحديث لا ينفع ، أو بقراءة كتاب فيه غزاة و سمر ، و إن طال النهار فبالنوم ، و هم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق ... " فما أكثر الأوقات التي تضيع ، و ما أكثر الدعاوي التي تشيع... إننا محتاجون – ورب الكعبة – إلى حفظ أوقاتنا ، فلا تدع الأيام تسير مسير القافلة التي تمشي في وضح النهار و الرُّحال نائمون ،فلا تنم، وإياك أن تقول إني لا أفهم . . .
أخي : أدعوك دعاء صدق، فهلا أجبت و انتفعت .. لا تكن ممن خاب سعيه ، وانقضى عمره ، و لم يؤد في حق الله شيئا فضلا عن أمته ، فكن حريصا ، فإن كنت كذلك فزد ، و إن غبت عن هذا فجٍدَّ .. ف"يا من سوّد كتابه بالسيئات . قد آن لك بالتوبة أن تمحوا، يا سكران القلب بالشهوات. أما آن لفؤادك أن يصحوا
يا نَدَامَايَ صَحَا القلب صحَا فَاطْرُدُوا عني الصِبا و المَرَحَا
زجر الوعظ فؤادي فارْعَوَى و أفاق القلب مني و صحا
هزم العزم جنودا للهـــــوى فاسدي لا تعجبوا إن صحا
بادروا التوبة من قبل الردى فمناديه يناديـــنا الـــــــوَحا "
" يقول الوليد الباجي :
إذا كنت أعلم علما يقينا بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها و أجعلها في صلاح و طاعه "
فها أنا أسطر لك صفحات من حياة أهل العلم الذين كانوا حريصين على دقائق أوقاتهم - التي بحفظها - أخرجوا لنا الكنوز.. و أخص منهم في هذه الرسالة المعاصرين و ذلك لسببين :
أولا : أنهم من أهل عصرنا و عاشوا في الفتن التي تعم بلداننا ، و مع ذلك غنموا و سعدوا و فازوا و أفلحوا
ثانيا : أن جل من ألف في الوقت جاء بكلام السلف فيكون هذا جديدا و إغناء لمن سبقني ، و لكن لا يمكن أن نحيذ عنهم فهم الأصل
و من هنا أستعين بالله أن يوفقني لهذا العمل قصد إحياء النفوس من جديد في المبادرة إلى الخيرات ، و الناظر في هذه الرسالة سيعلم أنها مستفادة من كتب معاصرة و بعض كلام أهل العلم من الشرائط أو نقل مستفاد من بعض طلبة العلم لأنها مظان هذا البحث و لا غنى عنه . و الله المستعان
********
إشــــــراق
كان من العيب - كم أشرت إلى ذلك – أن أملأ هذه الورقات بأحوال علمائنا الأفاضل المعاصرين و أنسى من كان لهم السبق في العلم و العمل، و منهم استفاد علمائنا
و هم سلفنا الصالح، فأشير لك ببعض أحوالهم و أقوالهم فتحمل معك هذا الأصل العظيم ، تتأسى به ، ثم تستروح نفسك بأحوال من في عصرنا لكي لا تورد عليَّ قول قائلهم : إنهم عاشوا في عصر لا فتن فيه . فهذا القول في ظاهره صحيح
و لكن إذا أمعنت النظر علمت أن لكل قوم فتنة، و إن كنا نعد عصرنا أكثر العصور فتنا . فحاول جاهدا بعد الاستعانة بالله أن تتشبه بهؤلاء القوم، فكما قال القائل:
فتشبهوا إن لكم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
إن سلفنا الصالح كانوا أشد الناس حرصا على استغلال الزمان بل أشحاء على ضياع طرف صغير منه
الآتي: ومما يروى في ذلك
عَلَامَ يندمُون
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي"
واعجباه
قال أبو بكر بن عياش: "أحدهم لو سقط منه درهم لظلَّ يقول: إنا لله ذهب درهمي، وهو ذهب يومه ولا يقول: ذهب يومي ما عملت فيه"
الوقت عند سليمان التيمي
قال حماد بن سلمة: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عزَّ وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً جنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل"
كل يوم يذهب بعضك
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ابن آدم! إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك
ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ ولدتك أمك
عقوبة
عن المنكدر بن محمد عن أبيه قال: إن تميماً الداري رضي الله عنه نام ليلة لم يقم بتهجد، فقام سنةً لم ينم فيها عقوبة للذي صنع
الليل والنهار
قال يحي بن معاذ: الليل طويل فلا تقصّره بمنامك، والنهار نقّي فلا تدّنسه بآثامك
لا تفرح
قال بعض السلف: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته
الشحّ المحمود
قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه
نداء الليالي والأيام
قال بكر المزني: ما مرَّ يومٌ أخرجه الله تعالى إلى أهل الدنيا إلا ينـادي: ابن آدم! اغتنمني، لعله لا يوم لك بعدي
ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعدي
ليل الشافعي
قال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام"
أمسك الشمس
!!" قال رجل لعامر بن عبد قيس: "قف أكلمك فقال: أمسك الشمس
حسرات
قال الحسن: "يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكلُّ ساعة لم يحدث فيها خيراً، تقطعت نفسه عليها حسرات
الفراغ
قال ابن مسعود:" إني لأكره الرجل أراه فارغاً، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة"
اجتهاد حتى الموت
قال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي فقال: يا بني دعني فإني في وردي السادس ودخلوا على بعض السلف عند موته وهو يصلي، فعاتبوه فقال: الآن تُطوى صحيفتي
احفظ الله يحفظك
قال ابراهيم بن شيبان: "من حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيّعها بما لا رضى لله فيه، حفظ الله عليه دينه ودنياه"
خزانتان
عن مالك بن دينار: "إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما" وكان يقول: "اعملوا لليل لما خلق له، واعملوا للنهار لما خلق له"
أعظم الخطر
عن الحسن قال: "ابن آدم: إنك بين مطيتين يوضعانك! يوضعك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلّماك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرًا؟ "
الشيخ ابن باز .. تاج من تيجان الوقت
"أدرك الشيخ شرف الزمان، فوزع وقته في وجوه البر و الإحسان. و هذه أعظم عَلَامَة ، على بلوغه درجة الإمامة "
لم يبلغ الشيخ هذه الدرجة التي فاح عبيرها إلا بجهد جهيد ، و عزم من حديد ، في جمع الأنفاس على اغتنام أعز الأوقات فرحمه الله رحمة واسعة و هاك برنامجه اليومي و قد ذكره الشيخ العفاني في كتابه زهرة البساتين 6/144 نقلا عن كتاب إمام العصر مختصرا و لكن وجدت في موقعه الرسمي كلاما مثله و زيادة أخرى فيه ، وحاول أن تتأمل كيف يمضي يومه – رحمه الله – و ليس ضروريا أن تكون مثله ، ولكن اعتبر و طبق القاعدة ولا تغُص في المثال:
يقوم سماحة الشيخ رحمه الله قبل الفجر بساعة تقريباً؛ لأداء صلاة التهجد؛ حيث يصلي إحدى عشرة ركعة كلها خشوع، وتضرع، ودعاء كثير، وكان يكثر في ذلك الوقت من الذكر ، وقراءة القرآن ، والدعاء للمسلمين وولاة أمورهم ، ويختم بالاستغفار.
وبعد أذان الفجر أو قبله يذهب إلى المسجد بسكينة ووقار وذل لله ، فإذا خرج من المنزل قال الدعاء المأثور ، ثم إذا وصل المسجد قدم رجله اليمنى ، ودعا بما ورد ، ثم صلى السنة الراتبة ، وأكثر من الأدعية ، ثم يؤدي صلاة الفجر ، وبعدها يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلاة ، ثم يمكث طويلاً لورده اليومي من الأدعية والأذكار الصباحية.
وبعد ذلك يبدأ الدرس المعتاد الذي ربما زاد وقته على ثلاث ساعات؛ حيث تُقرأ عليه الكتب المتعددة المتنوعة ، وبعد ذلك يجيب على الأسئلة الكثيرة بكل عناية ودقة ، ثم ينصرف بعد ذلك إلى منزله.
وإذا لم يكن عنده درس انصرف إلى منزله بعد أن يأتي بورده اليومي الصباحي
ثم يجلس في المنزل ما يقارب الساعتين؛ حيث تعرض عليه بعض المعاملات المهمة ، أو تقرأ عليه بعض الكتب أو البحوث ، وفي ذلك الوقت - أيضاً - يقوم سماحته بالنفث والرقية في بعض أواني المياه ، أو قوارير الزيت ، أو العسل التي أتى بها أصحابها؛ ليقرأ فيها سماحته.
وبعد ذلك يتوجه سماحته إلى داخل منزله ، لأخذ قسط من الراحة ، وقد يجلس على سريره دون نوم - كما يقول ذلك هو
وبعد الساعة الثامنة ينهض ، ويتهيأ للإفطار ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ، ثم يتوجه إلى المكتب بسكينة وعزيمة وهمة
وفور ركوبه السيارة تُعْرَض عليه بعض القضايا ، أو تقرأ عليه بعض الكتب ، وإذا وصل المكتب وتَرَجَّل ماشياً عرضت عليه - أيضاً - بعض الكتابات ، أو القضايا إلى أن يصل إلى مكتبه.
وإذا استقر في مكتبه واصل القيام بالأعمال العظيمة التي لا يقوم بها الجماعة الكثيرة من الرجال الأقوياء الأشداء؛ حيث تعرض عليه القضايا ، ويستقبل الوفود ، ويجيب على السائلين ، ويؤدي الأعمال المنوطة به في المكتب ، ويأتيه المطلقون إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره..
وهكذا يستمر عمله إلى الساعة الثانية والنصف أو بعدها بقليل ، حيث يكون آخر من يخرج من العمل.
وبعد ذلك يتوجه إلى منزله ، وفي الطريق إلى المنزل يُواصَل عَرْضُ القضايا أو قراءة الكتب عليه ، وكثيراً ما كان يستمع إلى أخبار الثانية والنصف ظهراً عبر المذياع وهو في الطريق إلى منزله ، وإذا لم يكن معه من يقرأ عليه قطع الطريق بالذكر ، وقراءة القرآن
وإذا وصل إلى منزله وجد الجموع الغفيرة من الأجناس المتعددة ومن ذوي الحاجات المتنوعة بانتظاره؛ فهم ما بين مستفت ومُسَلِّمٍ ، ومطلِّق ، وطالب حاجة، وفقير ، ومسؤول ، وزائر من قريب أو بعيد
وبعد أن يصل إليهم يلقي السلام عليهم ، ويدعوهم إلى تناول طعام الغداء على مائدته ، ثم يقوم الحاضرون إلى الغداء ، ويجلس سماحته بينهم يتناول طعام الغداء ، ويباسطهم ، ويسأل عن أحوالهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، وإذا انتهى من الغداء تأنى قليلاً؛ كيلا يعجلهم ، وإذا قام قال: كلٌّ براحته ، لا تعجلوا
وإذا قام لغسل يديه بدأت الأسئلة ، تلقى عليه وهو في الطريق إلى المغسلة ، ومن بعدها يعود إلى المجلس
وإذا كان الوقت متأخراً ووقت صلاة العصر قد اقترب توضأ ، وتابع المؤذن ، ثم توجه إلى المسجد وإذا كان في الوقت متسع رجع إلى المجلس ، وتناول الشاي مع الضيوف ، وتطيب معهم ، ثم توجه إلى داخل المنزل قليلاً ، ثم يخرج وقت أذان العصر وبعد ذلك يتوجه إلى المسجد ويؤدي الصلاة ، وبعد ذلك يقرأ الإمام ما تيسر من كتاب رياض الصالحين للنووي ، أو الوابل الصيب لابن القيم ، أو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أو غيرها من الكتب ، ثم يشرع سماحته بشرح ما قرئ ، ثم توجه إليه الأسئلة ، فيجيب عليها ، ثم يرجع إلى منزله؛ لأخذ بعض الراحة ، وفي الطريق إلى المنزل يجيب على ما تيسر من أسئلة الجموع الغفيرة المحيطة به وقبل المغرب يتوضأ سماحته ، ويذهب لصلاة المغرب ، وبعد الصلاة يأتي للمنزل ، ويؤدي السنة الراتبة ، ثم يجلس للناس جلسته المعتادة إذا لم يكن لديه محاضرة ، أو تعليق على ندوة، وفي مجلسه المعتاد يؤدي من الأعمال العظيمة ما قد لا يخطر على بال كما سيأتي بيان ذلك في صفة مجلسه. وإذا أُذِّن بصلاة العشاء تابع المؤذن ثم قام للصلاة ، وترك جميع الأعمال ، وإذا دخل المسجد وأدى تحية المسجد بدأ الإمام يقرأ بعض الأحاديث ، ثم يشرع سماحة الشيخ في شرحها ، وإيضاحها ، ثم تنهال عليه الأسئلة بعد ذلك ، فيجيب على ما تيسر منها.
وبعد صلاة العشاء يعود إلى منزله إذا لم يكن لديه موعد خارج المنزل أو محاضرة، أو إجابة دعوة خاصة ، أو وليمة زواج ، أو زيارة مريض ، أو نحو ذلك
وإذا رجع للمنزل جلس لقراءة بعض المعاملات عليه ، أو راجع بعض الكتب ، وربما كان لديه اجتماع أو أكثر داخل المنزل ، وربما كان لديه ضيوف ، وربما كان لديه موعد تسجيل إذاعي ، أو محاضرة يلقيها عبر الهاتف لأناس خارج المملكة
وبعد ذلك يتناول طعام العشاء مع ضيوفه ، وموظفي مكتب المنزل ، ومن حضر عموماً
وبعد تناول العشاء؛ يعود لإكمال ما شرع فيه من عمل قبل العشاء ، أو يكمل الجلوس مع ضيوفه ، أو يجلس لقراءة بعض الكتب ، أو إنهاء بعض المعاملات حتى ساعة متأخرة؛ إما الحادية عشرة أو الثانية عشرة ، ثم ينصرف بعد ذلك إلى داخل منزله ، ويمشي على قدميه مدة نصف ساعة تقريباً ، ثم يأوي إلى فراشه
وهكذا كان يقضي سحابة يومه في عمل وهمة ونشاط وأنسٍ يسري منه إلى من حوله. " اهـ
فانظر- رحمك الله - إلى علو همة هذا الرجل الذي ما كان عنده شيء اسمه الفراغ قيام ثم ذكر ثم تعليم و اجتهاد و تضرع و بكاء فأين نحن من هذا اليوم العظيم ؟؟ إن الناظر حقا في هذه التجربة ليجد التوفيق ساريا في كل نبضاته ، فكم من واحد منا يستعد ليومه و يُبرمج له ، ثم لا يجد نفسه في عمل يرتضيه ، و لا يجد من نفسه إلى دناءة الهمة ، التي خربت علينا أيامنا و ساعاتنا ، فوالله ما منا إلا البكاء و الرجوع إلى الله ، يتصور أحدنا أن يعيش هذه الحياة ثم يذهب إلى الله هنيئا ، لا.. لا فإياك أن تملأ وقتك مما لا ينفع ، فإن الدنيا غرَّارَة ماكرة تضحك لها و هي تضحك عليك ...
تمر الساعات و تتلوها الدقائق و ما نعمل شيئا ، و إن عملنا رائينا – إلا من رحم الله - ...
إن الوقت ليس كلاما يكتب ، وقواعد تُقرَّر ، و تجارب تُحكى ..
إنه حياتك.. يقول إبن القيم - رحمه الله - : " فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت ، وإن ضيعه لم يستدركه أبدا .. فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة ، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم ، وهو يمر أسرع من مر السحاب، فما كان من وقته لله و بالله فهو حياته و عمره ، و غير ذلك ليس محسوبا في حياته ، وإن عاش فيه عاش عيش البهائم ، فإن قطع وقته في الغفلة و الشهوة و الأماني الباطلة ، و كان خير ما قطعه بالنوم و البطالة ، فموت هذا خير له من حياته . و إذا كان العبد - و هو في الصلاة – ليس له من صلاته إلا ما عقل مها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله و لله " اهـ
******
الشيخ ابن عثيمين .. الوقت الثمين
و هذا إمام من أئمة الزمان ، من ذا الذي لا يعرفه ؟؟ شغل الناس بالعلم ، وطارت فتاويه في الآفاق، وأزال الشبه و الإفتراءات ، وعاش ذابا عن هاته الشريعة الغراء ، عمّر وقته بالعلم و العمل و الإخلاص - نحسبه كذلك و الله حسيبه –
لا تجد متنا صعبا إلا و سهّله – رحمه الله - ، و لا قاعدة إلا أنزلها موضعها
لقد عاش لله ، أوقاته لا تعرف اللهو و الخوض فيما لا يعني ،أوقاته في النفع و البذل والخير ، فتعال معي نتعرف على يومه كيف كان ؟ وعن ساعاته كيف تمضي ، لعلك تمضي قُدما إلى همة عالية تسير بك على الدرب- وفقنا الله و إياك-
" قال الشيخ عبد الرحمان الريس مؤذن الجامع الكبير بعنيزة :
أما الفترة الصباحية :
فإما أن يكون عنده تدريس في الجامعة في كلية الشريعة و أصول الدين . وإما أن يكون في بيته للنظر في رسائل و خطابات الناس و طلباتهم و الرد على بعض الفتاوي خطيا ، و الرد على بعض المكالمات الهاتفية الخاصة "
قلت : فتأمل دقة فهمه، وحكمته ، أنه إذا لم يكن عنده شغل في الجامعة ظل يكتب الرسائل.. و هذا بخلاف كثير من الناس يشتغل في مكان ،أو يكون عنده حصص في المدرسة أو الجامعة ، فإذا كانت عنده إجازة ظل نائما و يُمضي الوقت في أي شيء تافه يقول إبراهيم بن أدهم : إذا كنت بالليل نائما ، و بالنهار هائما (أي : تائها ضائعا) ، وفي المعاصي دائما ، فكيف ترضى من هو بأمورك قائما ؟؟
" أما فترة بعد الظهر :
فهي مخصصة للرد على الأسئلة عبر الهاتف حتى وقت الغداء، فإنه كان يرد على أسئلة الناس. ثم إن كان هناك وقت قبل العصر ارتاح قليلا وإن لم يكن هناك وقت استمر ، وإن كان عنده ضيوف جلس معهم ليُؤنسهم ، وليستفيدوا من علمه - رحمه الله – وليتعرف هو رحمه الله على أحوال البلاد التي جاءوا منها ، و نحو ذلك...
أما فترة العصر :
فإنه بعد صلاة العصر يقوم بشرح حديثين أو ثلاثة على جماعة المسجد في مدة أقصاها ربع ساعة
و كان لهذا الحديث طعم خاص لخفته و قصر مدته ، وفوائده العظيمة جدا
ثم بعد ذلك يجلس للرد على أسئلتهم و طلباتهم الخاصة بهم ، وغير ذلك ..
حتى إني أحيانا أحضر لأذان المغرب و هو يخرج من المسجد من بعد صلاة العصر ، كل هذه المدة جالس لقضاء حوائجهم. حتى إن المرأة ليأتي هو نفسه إليها خارج المسجد و يجيب على سؤالها إن كان لديها سؤال، أو يقضي حاجتها إن كان لها حاجة
أما بعد صلاة المغرب :
فهو الوقت المخصص للدرس اليومي حسب جدول معين، وبعد أذان العشاء كذلك درس آخر لمدة نصف ساعة، ثم يُصلي العشاء "
قلت : وقد يتعقب أحد القراء ويقول : إن وقته يمضي في التعليم ونحن لسنا إلا سالكين للعلم أو طلاب علم فأقول : عليك أن تحمل الأصل الذي قررته قبل هذا وهو: خذ القاعدة و مِن عندك المثال فهو إن كان وقته في التعليم فليكن وقتك في التعلم و هكذا ..
و المقصود أن تعلوَ همتك و تنتهج برنامجا خاصا لك ، فافهم
" و بعد صلاة العشاء :
إما أن يكون لديه اجتماع مع بعض الجمعيات الخيرية مثل : جماعة تحفيظ القران الكريم الخيرية بعنيزة ...
أو يزور أقربائه، أو يجيب دعوة، ويحرص على النوم مبكرا ليقوم الليل
و يمشي في الطريق بعد صلاة الفجر إلى البيت و بعد الظهر و يلقي دروسا يومية و هو يسير ماشيا "
فانظر كيف توزَّع وقته في أوجه الخير، من صلة و دعوة ... حتى في مشيه
" و عنده برنامج في المشي أيضا : يقول تلميذه خالد بن صالح النزّال :
و كان يذهب إلى المسجد ماشيا ، ويرجع إلى بيته ماشيا كذلك ، والمسجد يبعد عن بيته كيلا واحدا تقريبا ، فهذه عشرة أكيال يقطعها - رحمه الله – يوميا ماشيا
و نادرا ما نراه إلا و معه عدد من طلبة العلم يسألونه ، أو يقرِؤون عليه متونا ، ولقد قرأت عليه مما قرأت و هو يمشي أكثر من مائة قاعدة فقهية، جمعتها و أخي الشيخ مازن الغامدي و شرحها ...و ربما كان البرد شديدا ، وكاد يعقد لساني من البرد وهو لا يأبه لذلك و لا يهتم صابرا محتسبا لله .."
و عنده -رحمه الله- حرص شديد على نَفس من أنفََََاس وقته فكان لا يتخلف عن ورده من القرآن و في هذا عجب واقتداء بالسلف وكأنه قُذف من زمانهم ، علَّمنا ثم مضى إلى ربه .
" يقول الشيخ المنجد :
و كان - رحمه الله – مداوما على قراءة ورده من القرآن باستمرار ، يقرأه و هو ماش إلى الصلاة ، لا يركب ، و لا يقبل أن يقاطعه أحد و هو ذاهب إلى المسجد لأن هذا وقت الورد – ورد القرآن – فإذا اضطر إلى كلام صاحب الضرورة و تأخر شيئا ما في الورد ، ووصل إلى المسجد و لم يتم ورده ، وقف عند باب المسجد ، ولم يدخل حتى ينهي ورده ، فيستغرب بعض الذي يرونه . الشيخ واقف و ما معه أحد ، ماذا يفعل ؟ و في الحقيقة أنه يتم ورده
و انظر إلى هذا الصنيع العظيم ، وما هو إلا نسخة نادرة من سلفنا رحمهم الله فالخطيب كان يمشي و في يده جزء يطالعه " و ذكر العسكري في الحث على طلب العلم : أن أبا بكر الخياط – العلامة النحوي محمد بن أحمد البغدادي – ت320
كان يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، و كان ربّما سقط في جُرف أو خَبَطَته دابة... أقول : و ممن شهدناه على هذا الحال في القراءة عليه و استفتائه و هو يمشي شيخنا و شيخ مشايخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى فقد كان ذلك ديدنه وهِجِّيْراه بنفس منشرحة ووجه طلق ، فجزاه الله عن العلم وأهله خيرا.
فهكذا كان علمائنا لا يضيعون أوقاتهم ، و لهذا كان بعض السلف يوصي تلاميذه أن لا يذهبوا مجتمعين لأنهم يتكلمون و يلهيهم ذلك عن قراءة القرآن . و الله المستعان و لا حول و لا قوة إلا بالله
*****
الشيخ الألباني ، أيام في التضحية و التفاني
لم يعرف هذا الإمام هزلا في الوقت و لا ضياعا ، ولم يعرف خوضا فيما لا ينفع ، انتفع به القاصي و الداني ، قلما تجد كتابا محققا ، إلا وفي حاشيته صححه الألباني . ضعفه الألباني...
إن عمره أبى إلا أن يكون للعلم و العمل و الذب عن سنة رسول الله صلى الله عله و سلم ، كان يعرف الجد و العزيمة .. كان جبلا قلما يصعد له أحد
كان وحده يساوي جامعة برمتها ، أنجز ما لم ينجزه غيره في زمانه ، ومن صلب موضوعنا سندخل في ذلك ، لكي تعلم قدر هذا الشيخ الجليل.
يقول الشيخ مشهور - حفظه الله – في إحدى أجوبته :
وكم كانت الفرحة لما يسر الله عز وجل، وأن علمت أن الشيخ الإمام إمام هذا العصر في علم الحديث، أبو عبدالرحمن محمد ناصر الدين بن نوح الألباني، لما جاء الأردن في سنة 1978- 1979، وكان يتردد إلى الأردن، و كنت في الثانوية، ومن الله علي فجلست في تلك الفترة في مجالسه ووجدت جنتي، وجدت رجلاً تعجب منه، له المهابة و البساطة؛ يعيش في حياة لا يعرف فيها إلا العلم، فالعلم يملأ وقته، وينشغل في ليله ونهاره، وفي حله وترحاله بالعلم
ودخلت على مكتبة كان الشيخ ينزل فيها، وكم دعوت ربي أن أرزق مثلها، ولله الحمد مكتبتي الآن مثلها أو أحسن منها، وغبطت الشيخ غبطة عظيمة لما رأيت في المكتبة فرشة ووسادة، هذه غبطة عظيمة دخلت في نفسي، كان الشيخ رحمه الله يواصل الليل بالنهار، وكان لا يعرف الملل ولا التعب لما يعيش بين الكتب، حتى أنه لما كان يدخل في المكتبة الظاهرية كان ينسى نفسه، فكان يقول للقائمين على المكتبة: اخرجوا وأغلقوا علي الباب وارجعوا غداً، مما اضطرهم أن يبنوا له غرفة في المكتبة، فكان يسكن رحمه الله في السدة، وحدثني القائم على المكتبة العامة في حي الزاهر في مكة، قال: جاء الشيخ للعمرة، وكان بحاجة أن يراجع بعض المسائل، فدخل المكتبة العامة، وكانت زاخرة ومليئة بالكتب، قال: فدخل فانتهى الوقت، فقلت: يا شيخ نريد أن نغلق، قال: أغلق علي وارجع غداً
وهذا حقيقة أمر شاهدناه ولو لم يستفد من شيخنا شيئاً إلا حرصه على الوقت، وحبه للعلم، لكان في ذلك خير عظيم وفرق بين ما تسمع وبين ما ترى . اهـ
وقال أيضا :
إن شيخنا إمام هذا العصر في الحديث الشيخ أبو عبدالرحمن محمد ناصر الدين بن نوح الألباني، رحمه الله، وطيب ثراه، ورفع درجته في عليين، لو لم يكن من حسنات اللقاء به إلا معرفة أهمية الوقت لكفى ذلك، ونقرأ عن أهمية الوقت عند العلماء، لكن الفرق بين الخبر والمعاينة، فكان الشيخ إذا سئل في مكتبته عن شيء، فعين عند السائل والأخرى في الكتاب، وما رأيت أحداً أشح بوقته منه، وهذا من علامة نبوغه ومن توفيق الله له، ومن أسباب تقدمه، ولو أن الشيخ فتح بابه لكل طارق، وجرس هاتفه لكل طالب لما نبغ النبوغ الذي كان عليه، ولذا لا بد للطالب أن يفوته شيء من خير، ولكن ينبغي أن يكون فقيهاً، وأن يعرف الأولويات.
وكانت رحلات الشيخ تكون بعد مضي جهد وتعب، وحبس للنفس في المكتبة، التي كان يقضي فيها قبل مرض موته، كان يقضي فيها بعض الأحايين، أكثر من ثماني عشرة ساعة، لا يخرج إلا لطعام يسير أو صلاة، فما كان يخرج لذات الرحلة، وإنما كان يخرج ليتقوى ويرتاح من ضغط ما هو فيه، وليستفيد من الوقت، وكان خروجه غالباً يكون مع طلبة علم فيخرج ليفيد، وما يعرف إلا الجلوس للسؤال والجواب، وإذا كان خروجه في النهار لا ينسى القيلولة، ويقيل في السيارة فيستعين بهذه المدة اليسيرة من النوم،وكان الشيخ كالجواد كلما ركض جد واجتهد، فكان يجلس المجالس الطويلة، التي تمتد أكثر من ثماني ساعات والشباب الجالسون يتعبون من السماع والشيخ يقول: أنا معكم إلى حيث شئتم. فالمسائل العلمية كانت هي مبحثه وحادثه في جلوسه، وكما قالوا قديماً: كل شيء إن أنفقت منه فإنه ينقص إلا العلم فإنك إن أنفقته زاد
وكنت في أول تعرفي على الشيخ لا أستغرب من معلوماته لكن كنت أستغرب من شيء ظهر لي فيما بعد سره، فكان الشيخ إن استشكل عليه الجواب ما رأيته تلكأ مرة في رد الشبهة التي تطرأ عليه، وكثيراً ما يكون الجالسون طلبة علم، وأناس معروفون ومرموقون ومحققون ممن يشار إليه بالبنان، بل بعض كبار العلماء وهو من هيئة كبار العلماء لما تباحثنا وإياه في بعض المسائل، لما كان عندنا هنا في الأردن، وكان يقول: الشيخ يقول كذا، ويستشكل علي كذا قلنا له الشيخ قريب فما المانع أن تجلس معه؟ فكان يقول: نتكلم من وراء الشيخ، أما أمام الشيخ فللشيخ مهابة لا تأذن لنا أن ننطق بكلمة، فكان رحمه الله له هيبة
وكان حريصاً على وقته يخرج ليرتاح ويستعين فيما بعد على مواصلة الطلب من جهة وفي الجلوس تكون فائدة المباحثة وإيراد الاستشكالات من الطلبة فكان لا يتلكأ في استشكال إلا ويرده، وظهر لي السر فيما بعد، وكان السر في أشياء
الأول: أن الشيخ متفنن ومتقن لأكثر من فن، فليس كمن لا يعرفه يقول إن الشيخ حديثي، فالشيخ بدأ فقيهاً، وتعلم الفقه الحنفي على أبيه، وكان أبوه فقيهاً حنفياً مرموقاً، وله تلاميذ كثر معروفون درسوا عليه الفقه، وكان للشيخ أيضاً نصيب جيد من علم أصول الفقه، ولا زلت أذكر أن الشيخ اتصل بي مرة وقال لي: دون عندك، أنا أحفظ في كتاب (التحرير) لابن همام أنه يقول كذا وكذا، وأملى علي فقرة وقال: أريد أن توثقها من كتاب (التحرير) وأن تتصل بي وتقرأ علي عبارة التحرير، فكادت العبارة التي في ذهنه تتطابق تماماً مع العبارة الموجودة في كتاب التحرير، ويقول الشيخ: حفظتها أكثر من خمسين سنة، فكان رحمه الله يعرف علم الأصول معرفة جيدة
والثاني: كانت مجالس الشيخ فيها المستفيدون فرأيت مع مضي الزمن أن جل الشبه التي كانت تطرح عليه ما كانت تلقى عليه لأول مرة، ويكون له فيها سالف ذكر، فكانت هذه المسائل عنده الجواب عليها تحصيل حاصل، لأنه كان لا يعرف إلا البحث والعلم.
لذا نصيحتي إلى طلبة العلم أن لا ينشغلوا عن العلم بغيره، فإن العلم من أنفس ما تصرف فيه الأعمار، وهو من أقرب الطرق إلى تحصيل رضى الله، وإلى دخول الجنان، نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا..اهــ
فانظر إلى جِده واجتهاده حتى في المباح ، لا يعرف إلا السهر في العلم و التعليم.
أين مثل الشيخ الألباني؟. ما عدنا نراهم إلا في الكتب أو نسمع من هنا و هناك. لقد كان هذا الإجتهاد منذ صغره فقد قال -رحمه الله:
و من توفيق الله تعالى و فضله عليّ أن وجهني منذ أول شبابي إلى تعلم هذه المهنة، ذلك لأنها حرّة لا تتعارض مع جهودي في علم السنة، فقد أعطيت لها من وقتي كل يوم – ما عدا الثلاثاء و الجمعة – ثلاث ساعات زمنية فقط.
و هذا القدر يمكنني من الحصول على القوت الضروري لي و لعيالي و أطفالي على طريقة الكفاف طبعا ، فإن من دعائه عليه الصلاة و السلام " الله اجعل رزق آل محمد قوتا " رواه الشيخان.
و سائر الوقت أصرفه في طلب العلم ، و التأليف ودراسة كتب الحديث ، وخاصة المخطوطات منها في المكتبة الظاهرية ، ولذلك فإني ألازم هذه المكتبة ملازمة الموظفين فيها لها ويتراوح ما أقضيه من الوقت فيها ما بين ست ساعات و ثماني ساعات يوميا على اختلاف النظام الصيفي و الشتوي في الدوام فيها "
فهذه همة الشيخ فما رأيك ؟ تريد الكسب و الحياة ويكون لك ذلك ، ولكن همتك في الكسب أكبر بكثير من همتك في العلم و العمل. فراجع نفسك.
إن هذا الرجل يعلمك من تنظيم وقته شيئا نفيسا ، إنه لا يعلمك البرنامج الذي يصرفه في القرآن والعلم و التعليم فقط، بل يعلمك الهمة العالية التي يحقق بها برنامجه ، فإن كثيرا من الناس يَعرف أنه إذا حفظ كذا آية كل يوم فسينتهي من الحفظ في سنوات معدودة ، ويعلم أنه إذا اشترى كتابا فسيعلم علما مفيدا ، ويعلم أنه إذا حضر مجلسا فسيستريح قلبه ، و يعلم أنه إذا ... كان له كذا.. و لكن أين هي الهمة التي ستصرف إلى هذا المعمول فيعمل به
أقولها حقا : لقد أصبح العلم في ناحية و العمل في ناحية أخرى لا تُعرف ..
هم أحدنا أن يتعلم ليعلّم وأنى له ذلك ؟؟، أو يحفظ ليقول الناس سيؤمنا هذا العام في التروايح ، أو يتعلم بدون نية ... قد افتقدنا الإخلاص
والهمة العالية اللذين يصرفان في العمل لا العلم لذاته ، فقد كان سلفنا مضربا للمثل في العمل بالعلم ، فكما قلت سالفا – و من الكلام ما يحسُن تَكراره – لابد من همة عالية في العلم و العمل ، والثاني أعلى ، فهو حياتك و سر خاتمتك..
قل لي بالله عليك هل ما يُراد من العلم إلا الخشية ؟؟ فأين ذلك في حياتنا ، فالله الله في الهمة العالية التي تُصرف في العلم و العمل ،فالشيخ – رحمه الله- كان ذا همة عالية في العلم ، و ما نحسبه و الله حسيبه إلا ذا همة عالية في الإخلاص والعمل أيضا وصبره دليل عليه ، وليس هنا محل بسط ذلك ، فالعمل العمل ، أنظر إلى سلفنا في ذلك تجد عجبا هذا بعد همة عالية في تحصيل العلم ، والتنافس فيه ، وتعليم الناس الخير
عن علي – رضي الله عنه - أنه ذكر فتناً في آخر الزمان. فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال: (إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة)
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا".
وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: (إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت)
وقال الخطيب البغدادي: (ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة. والعمل ثمرة. وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً.. والعلم يراد للعمل كما يراد العمل للنجاة، فإن كان العمل قاصراً عن العلم كان العلم كلاّ على العالم. ونعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غُلاّ.
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضي الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا . . وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤ لنفسه وليغتنم وقته فإن الثواء [ كأنه يعني المَقام في هذه الدنيا ] قليل والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب والخطر عظيم، والناقد بصير. والله – تعالى – بالمرصاد. وإليه المرجع والمآب ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)).
وقال بعض العلماء: (العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولو لا العلم لم يطلب عمل. ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه)
وقال الزرنوجي – رحمه الله -: (وإنما شرف العلم بكونه وسيلة إلى البر والتقوى الذي يستحق بها المرء الكرامة عند الله، والسعادة الأبدية . . فينبغي للإنسان ألا يغفل عن نفسه، ما ينفعها وما يضرها في أولها وآخرها، ويستجلب ما ينفعها، ويجتنب ما يضرها، كي لا يكون عقله وعلمه حجة عليه، فيزداد عقوبة، نعوذ بالله من سخطه وعقابه)
وقال ابن الوردي وهو عمر بن مظفر المتوفى سنة (746هـ) من اللامية المنسوبة إليه:
أطلب العلم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهـل الكسل
واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بـذل
لا تقل قد ذهبت أربابـه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العِدَا وجمال العلـم إصلاح العمل
ففخر كبير أن يجرنا هذا الإمام إلى العمل بالعلم ، الذي إليه تشخص أبصار العلماء مع الإخلاص لله عز وجلّ .
وأختم هذا الجزء بشيء آخر من علو همته في الوقت، إلى جزء آخر فيه أعلام أخرى نتأسى بهم. -إن شاء الله -
من ذلك أنه ".. لما اشترى قطعة أرض رخيصة الثمن و كان ذلك على قدر طاقته – ليبني عليها منزلا ، كانت تلك الأرض الرخيصة بعيدة عن المكتبة الظاهرية التي كان يتردّد عليها ، وكان المشي إلى المكتبة على قدمه سيأخذ منه وقتا طويلا ، فضلا عن التّعب ، فكَّر – رحمه الله – في الأمر فقال : " اشتريت درّاجة لأركبها ، و كان - لأول مرة – الدمشقيون يَرون مثل هذا المشهد : أن شيخا معمّماً يركب دراَّجة . فلذلك تعجبوا من ذلك المَشهد ، وكان هناك مجلة تسمى"المضحك المبكي" يُصدرها رجل نصراني، فذكر هذا المشهد ضمن النكت الظراف ، و كنت لا أبالي بهذه الأمور الصغيرة ، فكلُّ الذي يهمني هو الوقت "
فانظر إلى اغتنام الوقت العامر بحب العلم .
و قال صحاب المصدر المشار إليه في الحاشية ومما كتب إليَّ و حدثني به الأخ سامي خليفة قال : " وضع الشيخ كشَّافا متصلا بالكهرباء موَجَّها إلى موضع يده عند الكتابة ليستعمله مُباشرة حال انطفاء الكهرباء" اهـ
قلت : وهذه حكمة بليغة من الشيخ لكي لا يضيع عليه وقته ، لأنه بعض الأحيان يكون الإنسان منغمسا في بحث ينسى نفسه ، فإذا حدث مثل هذا نسي تلكم المتعة حتى يجدها بعد مدة
و قال أيضا ناقلا عنه: و كان رحمه الله قد جعل وقتا لاستقبال الاتصالات الهاتفية من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشرة، فاتصل عليه أحدهم قبل الساعة التاسعة بدقيقة فقال له الشيخ: هذا الوقت لي، اتصل بعد دقيقة. اهــ
وهناك غير هذا في حرصه على الوقت و كذلك كان العلماء رحمهم الله جميعا ، فاللهم اغفر لهم و ارحمهم و اجمعنا بهم في جناتك.
فهذا جهد مقل في حق هؤلاء ، مع إعتذاري الكامل إن أسأت أو زللت أو قصرت فذلك مني لا محالة ، وسبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا الله و أستغفره و أتوب إليه . انتهى الجزء الأول وجمعه أفقر عباد الله بسلا – بطانة
13ربيع الثاني 1434