المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحث بعنوان : فضل العلم {حديث من سلك طريقا..} منطلَقا



أهــل الحـديث
24-02-2013, 10:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


مقـدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد : فقد حدت بِيَ الرغبة إلى إنجاز بحث بعنوان : « فضل العلم (حديث : مـن سلك طـريقـا..) منطلَقاً» قياما بما يُطلب منا القيام به لكل طالب من إنجاز بحث في إطار تخصصه ، دُرْبةً ومِراناً على منهج البحث والتأليف ، وتجشما لعقباته ، واستشرافا لمستقبل مسيرته العلمية . فإنه ما من شك أن مشاكل وصعوبات تكتنف سبيل الطالب المبتدئ وهو يخطو خطوات نحو الأحسن والأفضل، ولذا فإن الطالب في هذه المرحلة ـ بل وفي مراحل لاحقة ـ لا يمكن أن نسمي إنجازاته إلا محاولاتٍ تدريبيةً يعتريها الصواب والخطأ ، بل لربما كان الخطأ فيها أكثر من الصواب . ولا يَضِيره ذلك ألبتة مادام يحاول ويحاول ، ويستفيد من أخطاء الماضي ليتلافاها في المستقبل . فقديما قيل : من "سار على الدرب وصل" وقيل : "عند الصباح يَحْمَد القوم السُرَى".
الحقَّ أقول : إن الطالب المبتدئ مثلي لا يمكن أن يضيف إلى موضوع العلم شيئا يُذكر ، فغاية ما هنالك الجمع والترتيب والتنسيق ، والمواضع العلمية التي تستأهل الثناء والشكر ، وتستحق الاحترام والتقدير ؛ يجب أن تكون ذات صبغة جديدة في المحتوى والمضمون تأسيسا وتأصيلا ، أو على الأقل في الأسلوب والمنهج . أضف إلى ذلك ؛ أن باب العلم بالأساس قد قُتِل بحثا وتأليفا من قِبَل الأقدمين والمعاصرين ذوي الأهلية والجدارة ، ولذا حينما نتأمل موضوع التأليف والتصنيف في الإسلام نجد أن شمسه قد بزغت مبكرا.
بيد أنه لا هذا ولا ذاك ؛ يمنع الطالب الراغب من أن يحاول ، وأن يُعيد الكرة بعد الكرة ، على حسب مُكْنته واستطاعته ، فقاعدة : " ما ترك الأول للآخِر شيئا " قاعدة باطلة بالأساس يلجأ إليها البطالون والكسالى الذين أقعدتهم همهم الدنية عن مواكبة ومسايرة الركب العلمي ، فكم ترك الأول للآخِر.
ولَأَنْ ينتظم المرء في سلك العلماء والباحثين ـ تَشَبُّهاً وتَقَفِّياً ـ ولـو بتكرير مـا قـرروه ، أو بإعادة ما حرروه ، لشرف عظيم ، ولهدف جليل ، تشرئب إليه العزائم السامية ، وتتطلع إليه الهمم العالية ، ففضل العلم وشرفه لا يماثله شيء ألبتة ، إذ لو تصفَّحْنا الفضائلَ لنَعرفَ منازلَها في الشَّرف، ونتبيَّنَ مواقِعَها مِن العِظَم ؛ ونَعلم أيٌّ أحقٌّ منها بالتّقَديم ، وأسبقُ في استيجابِ التعَّظيم ، وجَدْنا العِلمَ أَولاها بذلك ، وأوَّلها هنالك ؛ إذ لا شَرفَ إلاَّ وهو السّبيلُ إليه ، ولا خيرَ إلاَّ وهو الدَّليلُ عليه ، ولا مَنْقَبةَ إلاَّ وهو ذِروتها وسَنامها ، ولا مَفْخرةَ إلاَّ وبهِ صحَّتُها وتمَامُها ، ولا حسنةَ إلاَّ وهو مِفتاحُها ؛ ولا مَحْمَدةَ إلا ومنه يَتَّقدُ مصباحُها ، وهو الوفيُّ إذا خانَ كلُّ صاحبٍ ، والثقةُ إذا لم يُوثَق بناصحٍ ، لولاهُ لَما بانَ الإنسانُ من سائِرِ الحيوانِ إلا بتخطيط صُورتِه، وهيئةِ جسمِهِ وبنيته ، لا ، ولا وجَدَ إلى اكتسابِ الفضلِ طريقاً ، ولا وجَد بشيءٍ منَ المحاسنِ خليقا . ولذلك كان من محض الحِكم ، ومنخول المقال ، الذي سارت بها الركبان ، والذي عُيِّر بمعيار الشرع ، وقيس بمقياس الدين ؛ قولُ الأقدمين :
{تعلم فليس المرء يولدُ عالـما "" وليس أخو العلمِ كمن هو جاهـلُ}
وقولـهم :
{وإن كبير القوم لا علـم عنــده "" صغير إذا التفت عليـه المحافل}
{وإن صغير القوم إن كان عالما " فأكثـرهم يرضون مـا هـو قـائل}
ورحم الله زمانا معالمه خفت بل عفت ، كانت مقادير الناس تُعَيَّر فيه رفعة وضعة على أساس العلم والمعرفة ، حتى لقد كان الأمراء والخلفاء لا يرون كبير رفعة ولا مكانة في كل ما بأيديهم من متاع الدنيا وزخرفها ما لم يتوج ذلك بسلطان العلم والمعرفة. « عن يَحْيَى بْن أَكْثَمَ قَالَ : قال لِي الرَّشِيدُ : مَا أَنْبَلُ الْمَرَاتِبِ قُلْت : مَا أَنْتَ فِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : فَتَعْرِفُ أَجَلَّ مِنِّي ؟ قُلْت: لَا قَالَ : لَكِنِّي أَعْرِفُهُ رَجُلٌ فِي حَلْقَةٍ يَقُولُ : حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : هَذَا خَيْرٌ مِنْك وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلِيُّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ نَعَمْ وَيْلَك هَذَا خَيْرٌ مِنِّي ، لِأَنَّ اسْمَهُ مُقْتَرِنٌ بِاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمُوتُ أَبَدًا ، وَنَحْنُ نَمُوتُ وَنَفْنَى وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ»1
ومحاولةً منا لاستحثاث النفوس على طلب العلم ، وإشاعة محاسنه في الورى ، فإننا نقف مع حديث نبوي شريف هو من أعظم الأحاديث التي لا يخلو منها مصنف من مصنفات العلم والمعرفة، إنه الحديث الذي رواه الترمذي في سننه حيث قال : « حدثنا محمود بن خداش البغدادي حدثنا محمد بن يزيد الواسطي حدثنا عاصم ابن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي ؟ فقال حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما جئت لحاجة قال لا قال أما قدمت لتجارة قال لا قال ما جئت إلا في طلب هذا الحديث قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ».

وانطلاقا من هذا الحديث النبوي الشريف فقد بنينا هذا البحث على مباحث عشرة كالتالي:
المبحث الأول : وفيه مطلبان.
المطلب الأول : مفهوم العلم لغة.
المطلب الثاني : مفهوم العلم اصطلاحا.
المبحث الثاني : تخريج حديث البحث.
المبحث الثالث : ترجمة رواة الحديث.
المبحث الرابع : شرح مفردات الحديث.
المبحث الخامس : طلب العلم سبيل الجَنَّة.
المبحث السادس : الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.
المبحث السابع : العالم يستغفر له أهل السماوات الأرض.
المبحث الثامن : فضل العالم على العابد.
المبحث التاسع : العلماء ورثة الأنبياءِ ، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما.
المبحث العاشر : دخول كل علم ذي منفعة في فضل حديث البحث.




المبحث الأول : مفهوم العلم لغة واصطلاحا.
المطلب الأول : مفهوم العلم لغة.
جاء في مختار الصحاح : «عَلِمَ الشَّيْءَ بِالْكَسْرِ يَعْلَمُهُ عِلْمًا عَرَفَهُ . وَرَجُلٌ عَلَّامَةٌ أَيْ : عَالِمٌ جِدًّا وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ . وَ اسْتَعْلَمَهُ الْخَبَرَ فَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ»
وفي المصباح المنير : «الْعِلْمُ الْيَقِينُ يُقَالُ عَلِمَ يَعْلَمُ إذَا تَيَقَّنَ وَجَاءَ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ أَيْضًا كَمَا جَاءَتْ بِمَعْنَاهُ ضُمِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعْنَى الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مَسْبُوقًا بِالْجَهْلِ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ كَسْبٍ فَذَلِكَ الْكَسْبُ مَسْبُوقٌ بِالْجَهْلِ . وَفِي التَّنْزِيلِ : {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} أَيْ : عَلِمُوا . وَقَالَ تَعَالَى : {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} أَيْ : لَا تَعْرِفُونَهُمْ اللَّهُ يَعْرِفُهُمْ »
وفي اللسان : «علم مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ العَلِيم والعالِمُ والعَلَّامُ ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ : {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} وَقَالَ : {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} فَهُوَ اللهُ العالمُ بِمَا كَانَ وَمَا يكونُ قَبْلَ كَوْنِه ، وبِمَا يكونُ ولَمَّا يكُنْ بعْدُ قَبْل أَنْ يَكُونَ ، لَمْ يَزَل عالِماً وَلَا يَزالُ عَالِمًا بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خافيةٌ فِي الأَرض وَلَا فِي السَّمَاءِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، أحاطَ عِلْمُه بِجَمِيعِ الأَشياء باطِنِها وظاهرِها دقيقِها وجليلِها عَلَى أَتَمِّ الإِمْكان . وعَليمٌ ، فَعِيلٌ : مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ . وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ للإِنسان الَّذِي عَلَّمه اللهُ عِلْماً مِنَ العُلوم عَلِيم ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ للمَلِك : {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} »





المطلب الثاني : مفهوم العلم اصطلاحا.
اعلم أن العلماء مختلفون في العلم هل يُحَدّ أم لا ؟ فقال جماعة منهم : العلم لا يحدّ لعسره ، وهو قول إمام الحرمين الجويني والغزالي وغيرهما ، وقال أكثر العلماء : بل العلم يحدّ . وعلى القول بأنه يحد فإن أقوال أهل العلم لم تتفق على حد واحد ، بل تعددت أقوالهم فـي ذلك نوردهـا كمـا يلي :
الحد الأول : لإمام الحرمين (ت 478 هـ) «معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ»
الحد الثاني : « وجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها»
الحد الثالث : للرَّاغِبُ الأصفهاني (ت 502 هـ) «العِلْمُ : إدْراكُ الشَّيءِ بِحَقيقَتِه . وذلك ضرْبان : إدراكُ ذاتِ الشَّيءِ ، والثَّاني : الحُكْمُ على الشَّيءِ بوُجودِ شَيءٍ هو مَوْجودٌ له ، أو نَفْيُ شَيءٍ هو مَنْفِيُّ عَنْه»9
الحد الرابع : « إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما . كإدراك أن الكل أكبر من الجزء ، وأن النية شرط في العبادة.
فخرج بقولنا: (إدراك الشيء) ؛ عدم الإدراك بالكلية ، ويسمّى (الجهل البسيط) مثل أن يُسأل : متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول : لا أدري.
وخرج بقولنا : (على ما هو عليه) ؛ إدراكه على وجه يخالف ما هو عليه ، ويسمّى (الجهل المركب) مثل أن يُسأل : متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول : في السنة الثالثة من الهجرة.
وخرج بقولنا : (إدراكاً جازماً) ؛ إدراك الشيء إدراكاً غير جازم ، بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه ، فلا يسمى ذلك علماً . ثم إن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظنٌّ ، والمرجوح وَهْم، وإن تساوى الأمران فهو شك..» 
وقد اختار أَبُو يعلى القاضي (ت 458 هـ) التعريف الأول بعد أَن عرض بعض التعاريف وناقشها مُبينًا عدم صِحَّتهَا وَأَن هَذَا التَّعْرِيف هُوَ الصَّحِيح . وَذَلِكَ أَن هَذَا الْحَد كَمَا قَالَ القَاضِي أَبُو بكر : « يحصره على مَعْنَاهُ وَلَا يدْخل فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَلَا يخرج مِنْهُ شَيْئا هُوَ مِنْهُ . وَالْحَد إِذا أحَاط بالمحدود على هَذَا السَّبِيل وَجب أَن يكون حدا ثَابتا صَحِيحا (..) وَقد ثَبت أَن كل علم تعلق بِمَعْلُوم فَإِنَّهُ معرفَة لَهُ وكل معرفَة لمعلوم فَإِنَّهَا علم بِهِ ، فَوَجَبَ تَوْثِيق الْحَد الَّذِي حددنا بِهِ الْعلم»
المبحث الثاني : تخريج الحديث.
خرَّج حديثَ البحث أكثرُ من إمام من أئمة الحديث ، وقد اختلفت بعض ألفاظ رواياته المتعددة، لكنها في غالبها ألفاظ مختلفة اللفظ ؛ متفقة المعنى ، وفي ما يلي ثلاث روايات لأئمة ثـلاثة : الترمذي و ابن ماجة و أبي داود :
أولا : { رواية الترمذي ( ت 805 هـ ) : 2682}
« حدثنا محمود بن خداش البغدادي حدثنا محمد بن يزيد الواسطي حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال قَدِم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال : ما أقدمك يا أخي ؟ فقال : حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أما جئت لحاجة ؟ قال لا . قال أما قدمت لتجارة ؟ قال لا. قال ما جئت إلا في طلب هذا الحديث . قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سلك طريقا يبتغي فيه علما ، سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»
ثانيا : { رواية ابن ماجة ( ت 275 هـ ) : 223}
« حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا عبد الله بن داود عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال : كنت جالسا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال : يا أبا الدرداء أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال فما جاء بك تجارة ؟ قال لا. قال ولا جاء بك غيره ؟ قال لا . قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».



ثالثا : { رواية أبي داود ( ت 275 هـ) : 3641}
« حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة . قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
قال أبو عيسى الترمذي في سننه عقب إيراده هذا الحديث : «ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل هكذا ، حدثنا محمود بن خداش هذا الحديث ، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش ورأي محمد بن إسماعيل ـ يعني البخاريَّ ـ هذا أصح».











المبحث الثالث : ترجمة رواة الحديث.
ـ محمود بن خداش البغدادي : هو « محمود بن خداش الطالقاني ، أَبُو مُحَمَّد نزيل بغداد . رَوَى عَن : أَحْمَد بْن حنبل وهو من أقرانه ، وسَعِيد بْن زكريا المدائني ، وسفيان بن عُيَيْنَة ، وسيف بن مُحَمَّد الثوري . [وخلق كثير] عن يحيى بْنِ معين : «ثقة ، لا بأس بِهِ» وذكره ابنُ حِبَّان فِي كتاب (الثقات) . مات سنة : (250) خمسين ومائتين ، وهو ابن تسعين سنة»
ـ محمد بن يزيد الواسطي : «قال نعيم بن حماد سمعت وكيعا يقول : إن كان أحد من الأبدال فهو محمد بن يزيد الواسطي . وقال أبو حاتم : صالح الحديث . وقال علي بن حجر : نِعم الشيخ كان . وذكره بن حبان في (الثقات) وقال : مات سنة : (188) ثمان وثمانين ومائة»
ـ نصر بن علي الجهضمي : هو « نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي الْأَزْدِيّ من أهل الْبَصْرَة كُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرو جد نصر بْن عَليّ الْجَهْضَمِي يروي عَن النَّضر بن شَيبَان الْحدانِي ، روى عَنهُ أبُو نعيم وَأهل الْبَصْرَة مَاتَ فِي إمرة أبي جَعْفَر»
ـ مسدد بن مسرهد : هو « مسدد بن مسرهد بن مسربل البصري الأسدي أبو الحسن الحافظ روى عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير وهشيم (..) وخلق . روى عنه البخاري وأبو داود وروى له أبو داود أيضا والترمذي والنسائي (..) مات سنة : (228) ثمان وعشرين ومائتين..»
ـ عاصم بن رجاء بن حيوة : هو « عاصم بن رجاء بن حيوة الكندي الفلسطيني . ويقال: الأزدي ، روى عن أبيه والقاسم بن عبد الرحمن وداود بن جميل وربيعة بن يزيد وعروة بن رويم وأبي عمران الأنصاري ومكحول الشامي وقيس بن كثير إن كان محفوظا وغيرهم (..) ذكره ابن حبان في الثقات»
ـ داود بن جميل : هو « دَاوُد بن جميل وَقَال بعضهم : الْوَلِيد بن جميل. رَوَى عَن: كثير بْن قيس وقيل: كثير بْن مرة ، وقيل: قيس بْن كثير. رَوَى عَنه : عاصم بْن رجاء بْن حيوة . ذكره ابنُ حِبَّان فِي كتاب (الثقات) وفي إسناد حديثه اختلاف»
ـ كثير بن قيس : هو « كثير بن قيس ويقال : قيس بن كثير ، شامي روى عن أبي الدرداء في فضل العلم . وعنه داود بن جميل . جاء في أكثر الروايات أنه كثير بن قيس على اختلاف في الإسناد إليه . وتفرد محمد بن يزيد الواسطي في إحدى الروايتين عنه بتسمية قيس بن كثير وهو وهم..»
ـ عبد الله بن داود : هو « عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني ثم الشعبي أبو عبد الرحمن المعروف بالخريبي ـ بضم المعجمة وفتح الراء ـ كوفي الأصل (..) روى عن إسماعيل بن أبي خالد وسلمة بن نبيط والأعمش [وخلق كثير] كان ثقة عابدا . (..) مات سنة : إحدى عشر ومائتين (211) وقيل سنة : (213) ثلاث عشرة ومائتين..»
تنبيه : انفردت رواية الترمذي بذكر (قيس بن كثير) في حين ذكرت روايتا ابن ماجة وأبي داود (كثير بن قيس) ، وقد اعتبر غير واحد من علماء الجرح والتعديل ذلك وهْمًا من محمد بن يزيد الواسطي .





المبحث الرابع : شرح مفردات الحديث.
ـ فما جاء بك تجارة : بتقدير حرف الاستفهام .
ـ يبتغي : البُغية مَا يُبتغى يُقَال : ليكن بغيتك ثَوَاب الْآخِرَة وَليكن الْحق بغيتك .
ـ طريقا : حسية أو معنوية ونكَّره ليتناول أنواع الطريق الموصلة إلى تحصيل أنواع العلوم.
ـ يلتمس : أي يطلب ، فاستعار له اللمس .
ـ علما : أي كل علم ولذا نكره ليشمل كل علم وآلته ، ويندرج فيه ما قل وكثر.
ـ بحظ وافر : أي بنصيب تام .
ـ ليلة البدر : امتلاء الْقَمَر وَحسنه وكماله .
ـ لتضع أجنحتها : مجازا عن التواضع ، تعظيما لحقه ، ومحبة للعلم .
ـ رضا : مفعول له أي : إرادة رضا.





المبحث الخامس : طلب العلم سبيلُ الجَنَّة.
لما كان الهدف الأساس من هذه الدنيا السعيَ حثيثا لنيل رضوان الله وجنته ، فقد عُدَّ طلب العلم المضمار الذي تنافس فيه المتنافسون ، وفي حلبة سباقه تسابق المتسابقون من أجل نيل هذا الهدف ، ولذا علق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تحقيق المشروط على تحقيق الشرط. « من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل اللَّه به طريقا إلى الجَنَّةِ» ولما كان سبيل الجنة محفوفا بالمكاره والمشاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : {حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ..} فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله مُيَسِّرٌ على سالكي طريق العلم طريق الجنة. «..وهذا فيه أن الجزاء من جنس العمل ، فكما أن الإنسان سالك طريق العلم فجزاؤه أنه يُسهل له طريق الجنة ، والجزاء من جنس العمل ، فالعمل هو : سلوك طريق يوصل إلى العلم ، والجزاء هو : تسهيلُ وتيسيرُ طريقٍ يوصل إلى الجنة ، فهذا يدل على فضل العلم ، وأن شأنه عظيم ، وفضله كبير ، وأن من سلك الطريقة الموصلة إلى العلم فإنه يجازى على ذلك بأن ييسر له السبيل التي توصله إلى الجنة..» وفي (دليل الفالحين) : «..{سهل اللَّه به طريقاً إلى الجنة} أي : يرشده إلى طلب الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة ، وليس ذلك إلا بتسهيله تعالى ، وإلا فبدون لطفه لا ينفع علم ولا غيره : أو بأنه يجازيه على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بأن لا يرى من مشاقّ الموقف ما يراه غيره، وهذا أقرب لظاهر الحديث . واستفيد منه مع ما قبله أن الجزاء يكون من جنس العمل ثواباً وعذاباً ، التنفيس بالتنفيس ، والستر بالستر ، والعون بالعون ، ونظير ذلك كثير في أحكام الدنيا والآخرة ، وهذا يُؤْذِنُ بعظيم فضل السعي في طلب العلم ، ويَلزم منه عظم فضل الاشتغال به..» وفي (فتح القوي المتين) : «..فيه الحثُّ على طلب العلم الشرعيِّ ، وسلوك الطرق الموصلة إلى تحصيله ، سواء كان ذلك بالسفر لطلبه ؛ أو بالأخذ بأسباب تحصيله ، من اقتناء الكتب المفيدة وقراءتها والاستفادة منها ، وملازمة العلماء والأخذ عنهم وغير ذلك ، والجزاء على ذلك من الله تسهيل الطريق التي يصل بها طالب العلم إلى الجنَّة ، وذلك يكون بإعانته على تحصيل ما قصد ، فيكون بذلك محصِّلاً للعلم، ويكون أيضاً بإعانته على العمل بما عَلِمَه من أحكام الشريعة ، وذلك يفضي به إلى دخول الجنَّة»
إن المدرك لحقيقة هذا الأجر والثواب حقا لا يتفاجأ ألبتة بحجم الأدلة الشرعية بخصوص الترغيب في طلب العلم والمبثوثة في الكتاب والسنة . «..ففي نزول أوَّل آيةٍ في القرآن ، وهي قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} من الدَّلالات والمعاني ما لا يمكن حصرُه ، ثم جاءَ الأمرُ القرآني الآخر ، لتأكيد القضيّة والحث على طلب المزيد من العلم ، فقال الله تعالى : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما} قال ابن القيم (ت 751 هـ) : «وكفى بهذا شرفًا للعلم ، أنْ أمرَ نبيَّه أن يسأله المزيدَ منه» وقال ابن كثير (ت 774 هـ) في تفسيره «أي : زدني منك علمًا ، قال ابنُ عُيينة (ت 198 هـ) : ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتَّى توفَّاه الله عز وجل وقد قيل : ما أمرَ اللهُ رسولَه بطلبِ الزيادة في شيءٍ إلا في العلم» وقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} فَقَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ بِاسْمِ المَلَائِكَةِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْمَلَائِكَةِ بِاسْمِهِ ، وَكَمَا وَجَبَ الْفَضْلُ لِلْمَلَائِكَةِ بِمَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْفَضْلُ لِلْعُلَمَاءِ بِمَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ مِنْ مِثْلِهِ ، وَقَالَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فَأَبَانَ أَنَّ خَشْيَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ ، وَقَالَ : {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ : {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} وَقَالَ : {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءَ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وَقَالَ : يُرِيدُ مَنْ أَسْلَمَ بِالْعِلْمِ ، وَقَالَ : {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} »
وقد حَدَتْ هذه النصوص وأمثالها بطلبة العلم ـ على مر العصور وتوالي الدهور ـ إلى تجشم الصعاب ، وقطع الفيافي والقفار في سبيل العلم ، يرحلون من بلاد إلى بلاد ، خائضين في العلم كل واد ، شُعث الرؤوس ، خلقان الثياب ، خمص البطون ، ذبل الشفاه ، شحب الألوان ، نحل الأبدان ، قد جعلوا لهم هما واحدا ، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً ، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظماء، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء . مائزين الأثر : صحيحَه من سقيمه ، وقويَّه من ضعيفه ، بألباب حازمة ، وآراء ثاقبة ، وقلوب للحق واعية ، فأمِنَت تمويه المموهين ، واختراع الملحدين ، وافتراء الكاذبين . لقد عاش أهل العلم في سالف الدهر وآنِفِه عِيْشةَ الكفاف ، فلم يكن همهم جمع المال ولا طلب الدنيا ، ورُزقوا من القناعة ما أورثهم غِنَى النفسِ ، فكان أحدهم غنيًّا من غير مال ، عزيزًا من غير حَمِيَّة ولا عَشِيرة ، وكانت تلك المعيشة خير مُعِينٍ لهم على الانجماع في طلب العلم وعدم الالتفات إلى غيره ، لأنه لا يقبل الشركة. وقد ضُمِّنت كتب التراجم والسير عطر سيرهم بهذا المعنى ؛ مما يجعل الجاهل بموارد العلم أنه نسج من خيال ، بل شيء محال ، ولنجعل مسك ختام هذا المبحث ذِكرَ ثلاث قصص من قصص هؤلاء الأفذاذ :
ذكر أبو محمد محيي الدين الحنفي ( ت 775 هـ) في (الجواهر المُضِيَّة) في ترجمة إبراهيم بن الجراح التميمي قال : «أتيته أعوده ، فوجدته مغمًى عليه ، فلما أفاق قال لي : يا إبراهيم أيُّهما أفضل في رمي الجمار ، أن يَرْميَها الرجلُ راجلاً أو راكبًا ؟ فقلت : راكبًا . فقال : أخطأتَ ! قلتُ : ماشيًا . قال : أخطأتَ ! قلت : قل فيها يرضى الله عنك . قال : أما ما يوقف عنده للدعاء ، فالأفضل أن يرميه راجلاً ، وأما ما كان لا يوقف عنده ، فالأفضل أن يرميه راكبًا . ثم قمت من عنده ، فما بلغتُ بابَ داره حتى سمعتُ الصُّرَاخَ عليه ، وإذا هو قد مات رحمه الله تعالى»
وقال العلامة عبد الحي الكَتَّاني ( ت 1382 هـ ) في (فهرس الفهارس والأثبات) في ترجمة العلامة اللغوي المحدِّث محمد مرتضَى الزَّبيدي (ت 1205 هـ) : «ومع كثرة شيوخ المترجَم له كثرةً مَهُوْلَةً بالنسبة إلى مشايخه ومُعاصِريه كان غير مُكْتَفٍ بما عنده ، بل دائم التطلّب والأخذ ، ومكاتبة من بالآفاق ، حتى إني رأيتُ بخطِّه في كناشة ابن عبد السلام الناصري استدعاءً كتبَه لمن يلقاه ابنُ عبد السلام المذكور (وذكر نصَّه ، وفيه : استجازة كل من يلقاه من الشيوخ والعلماء بتاريخ : (1197). قال الكتاني : وإن تعجب فاعجب لهذه الهمة ، والحِرص من هذا الحافظ العظيم الشأن، وعدم شَبَعه ، وكثرة نَهَمِه ، فإنه عاش بعدما كتب هذا الاستدعاء نحو الثمان سنوات»
وقال الذهبي (ت 748 هـ) : «وهذا العلامة المتفنِّن ، صاحب التصانيف ، أبو الفرَج ابن الجوزي (ت 567 هـ) يقرأ في آخر عمره وهو في الثمانين القراءات العشر على ابن الباقلاني ، مع ابنه يوسف»
فاتعظ ـ أخي ـ بهذه الهِمم العَلِيَّة ، وابْكِ على تقصيرك ودُنُوِّ هِمَّتك ، واستدرك ما فرط من أمرك بالجدِّ والعمل ، ومداومة الدرس والنظر ، فمن سار على الدرب وصل ، وعند الصباح يَحْمَد القوم السُرَى.












المبحث السادس : الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.
لابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام قيم بهذا المعنى نورده هاهنا للفائدة قال : «..والطريق التي يسلكها إلى الجنة جزاء على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصلة إلى رضا ربه ، ووضع الملائكة أجنحتها له تواضعا له وتوقيرا وإكراما لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه ، وهو يدل على المحبة والتعظيم ، فمن محبة الملائكة له وتعظيمه ؛ تضع أجنحتها له لأنه طالب لما به حياة العالَم ونجاته ، ففيه شَبَه من الملائكة ، وبينه وبينهم تناسب ، فإن الملائكة أنصح خلق الله ، وأنفعهم لبني آدم ، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى . ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم ؛ أنهم يستغفرون لمسيئهم ، ويثنون على مؤمنيهم ، ويعينونهم على أعدائهم من الشياطين ، ويحرصون على مصالح العبد أضعاف حرصه على مصلحة نفسه ، بل يريدون له من خير الدنيا والآخرة ما لا يريده العبد ولا يخطر بباله ، كما قال بعض التابعين : وجدنا الملائكة أنصح خلق الله لعباده ، ووجدنا الشياطين أغش الخلق للعباد..»
ويحضرني بهذا السياق قول بعض مشايخنا ـ وقد سئل في بعض مجالسه العلمية عن نظرة التندر والاستخفاف من قِبَل المجتمع لطلاب العلم الشرعيين ، بحيث إن العين لا تخطأ تلك النظرة الدونية لكل ما يمت للعلم الشرعي بصلة إلا لماما ، عكس تلك العناية المنقطعة النظير باللاعبين والممثلين والمغنيين ـ فكان مما قال : لَإِن ركب هؤلاء المراكب الفارهة التي يعتريها النقص ؛ فقد ركبتم أجنحة الملائكة الذين هم مخلوقات نورانية لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وكون الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم أمر غيبي ، شأن الإيمان به شأن الغيبيات التي أُمرنا بالإيمان بها على غرار الجنة والنار ، والعرض والحساب ، والنظر إلى وجه الله الكريم ، وغير ذلك من الغيبيات . ويقبح بالمرء المسلم الخوض في تفاصيلها ، والسير في متاهاتها ، فإن ذلك لا يفضي إلى خير ألبتة. في كتاب (المجالسة) لابن مروان المالكي (ت 333 هـ) : « عن زكريا بن عبد الرحمن البصري قال : سمعت أحمد بن شعيب يقول : كنا عند بعض المحدثين بالبصرة فحدثنا بحديث النبي صلى الله عليه و سلم : {إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم..} وفي المجلس معنا رجل من المعتزلة ، فجعل يستهزئ بالحديث . فقال : والله لأطرقن غدا نعلي بمسامير فأطأ بها أجنحة الملائكة ، ففعل ومشى في النعلين فجفت رجلاه جميعا ، ووقعت فيهما الأكلة . وقال الطبراني (ت 360 هـ) : سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال : كنا نمشي في بعض أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين ، فأسرعنا المشي وكان معنا رجل ماجن منهم في دينه ، فقال : ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها كالمستهزئ ، فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه»
المبحث السابع : يستغفر أهل السماوات وأهل الأرض للعالِم.
لا يخلو عبد مسلم في هذه الحياة إلا وقد ألَمَّ بشيء من الذنوب والمعاصي ما خلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم معصومون ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ} ولذا حث الإسلام أتباعه على التوبة في كل سانحة ، إذ التوبة وظيفة العمر ، وبداية العبد ونهايته ، وأول منازل العبودية ، وأوسطها ، وآخرها . قال تعالى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : {إن كنا لنَعُد لرسول الله صلى الله عليه و سلم في المجلس الواحد يقول رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة}
فإذاً للعالِم ـ باعتباره بشرا ـ حظٌّ من الذنب والمعصية ولا بُد ، وهو مدعوٌّ بهذا الاعتبار للتوبة والأوبة إلى الله تعالى . ولعظم منزلته وموقعه جعل الله أهل السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء يستغفرون له . ولا غرو «..فإنه ـ العالِم ـ لما كان سببا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات ، وكان سعيه مفطورا على هذا ، وكانت نجاة العباد على يديه ؛ جُوزي من جنس عمله ، وجعل من في السموات والأرض ساعيا في نجاته ؛ من أسباب المهلكات باستغفارهم له . وإذا كانت الملائكة تستغفر للمؤمنين فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم . وقد قيل إن من في السموات ومن في الأرض المستغفرين للعالِم عام في الحيوانات ، ناطقِها ، وبهيمها ، طيرها ، وغيره . ويؤكد هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {حتى الحيتان في الماء} فقيل: سبب هذا الاستغفار أن العالم يُعَلِّم الخلق مراعاةَ هذه الحيوانات ، ويُعَرفهم ما يَحل منها وما يَحرُم، ويُعرفهم كيفية تناولها واستخدامها وركوبها والانتفاع بها ، وكيفية ذبحها على أحسن الوجوه وأرفقها بالحيوان . والعالم أشفق الناس على الحيوان ، وأقومهم ببيان ما خلق له ، فاستحق أن تستغفر له البهائم..»
المبحث الثامن: فضل العالم على العابد.
لا يختلف اثنان ، ولا ينتطح عنزان ـ كما يقال ـ أن للعالِم فضلا على العابد ، وهذا هو عين ما يقرره الحديث الشريف الذي نحن بصدده ؛ {وإِن فضل العالمِ على العابِدِ كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب} وفي رواية أخرى: {فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ} وفي البخاري : «باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى : {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فبدأ بالعلم»
إن المرء حينما يتأمل مقتضيات الجهل ودواعيَه حتما يُدركْ أن هذه المفاضلة الحاصلة بين العالم والعابد لم تشبها شائبة المجاملة ولا المداهنة ، بل هي محض حق ، فكم من دواهٍ جرها الجهل والجاهلون على الناس ، سواء أتعلق الأمر بالأبضاع والأعراض والحلال والحرام ، أو غيرها مما يعود بالضرر على الفرد أو المجتمع ، ولذلك كان موقف الشرع من هذا حـاسما ، عَـنْ جَـابِرٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ : {قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ شَكَّ مُوسَى عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ}
فـانظر ـ رحمك الله ـ كيف عابهم عليه الصلاة والسلام وألحق بهم الوعيد ، بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قَتَلَة له. وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي أَنَّ نبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال : « كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ»
وفي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وإِن فضل العالمِ على العابِدِ كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب} «..تشبيه مطابق لحال القمر والكواكب ، فإن القمر يضيء الآفاق ، ويمتد نوره في أقطار العالم ، وهذه حال العالم . وأما الكوكب فنوره لا يجاوز نفسه أو ما قرب منه ، وهذه حال العابد الذي يضيء نور عبادته عليه، دون غيره ، وإن جاوز نور عبادته غيره فإنما يجاوزه غير بعيد، كما يجاوز ضوء الكوكب له مجاوزة يسيرة (..) وفي التشبيه المذكور لطيفة وهي : أن الجهل كالليل في ظلمته وجنسه ، والعلماء والعُبَّاد بمنزلة القمر ، والكواكب الطالعة في تلك الظلمة ، وفضل نور العالم فيها على نور العابد كفضل نور القمر على الكواكب ، وأيضا فالدين قوامه وزينته وإضاءته بعلمائه وعُبَّاده ، فإذا ذهب علماؤه وعُباده ذهب الدين ، كما أن السماء إضاءتها وزينتها بقمرها وكواكبها فإذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها أتاها ما توعد ، وفضل علماء الدين على العباد كفضل ما بين القمر والكواكب..»
فائدة : «إن قيل كيف وقع تشبيه العالِم بالقمر دون الشمس وهي أعظم نورا ، قيل فيه فائدتان إحداهما: أن نور القمر لما كان مستفادا من غيره كان تشبيه العالم الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس . الثانية: أن الشمس لا يختلف حالها في نورها ولا يلحقها محاق ولا تفاوت في الإضاءة ، وأما القمر فإنه يقل نوره ويكثر ويمتلئ وينقص ، كما أن العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلته ، فيفضل كل منهم في علمه بحسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه ، كما يكون القمر كذلك ، فعالم كالبدر ليلة تمامه ، وآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وما بعدها إلى آخر مراتبه وهم درجات عند الله..»







المبحث التاسع : العلماء ورثة الأنبياءِ، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما.
في قوله صلى الله عليه و سلم : {العلماء ورثة الأنبياء} «..أعظم المناقب لأهل العلم . فإن الأنبياء خير خلق الله ، فورثتهم خير الخلق بعدهم . ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء ؛ كانوا أحق الناس بميراثهم ، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم ، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث ، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة . والله يختص برحمته من يشاء . وفيه أيضا إرشاد وأمر للأمة بطاعتهم واحترامهم وتعزيزهم وتوفيرهم وإجلالهم ، فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة ، وخلفاؤهم فيهم ، وفيه تنبيه على أن محبتهم من الدين ، وبغضهم مناف للدين كما هو ثابت لموروثهم ، وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم (..) وفيه تنبيه للعلماء على سلوك هدى الأنبياء وطريقتهم في التبليغ من الصبر والاحتمال ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان والرفق بهم واستجلابهم إلى الله بأحسن الطرق ، وبذل ما يمكن من النصيحة لهم فإنه بذلك يحصل له نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره ، الجليل خطره..» إن العلماء في الأمة هم خيارها تقوم الأمة نحوهم بواجب التقدير، ويقومون بواجب التوعية وواجب النقد والتصحيح والتجديد، ولذلك يجب أن يكون مكانهم في أمنع المواقع بعيداً عن الأذى ، وإن غياب هؤلاء عن مركز القرار ورسم السياسات أضر كثيراً بالعالم الإسلامي.
ويؤسفني أن أسجل هاهنا في ختام هذا المبحث أن منزلةً ـ منزلةَ العلم ـ بهذا المستوى، ورفعة بهذه المثابة ، لم تُثْنِ المتعالمين كل المتعالمين في زماننا هذا عن الطعن والنيل من العلماء ، فكم رأينا ممن تَزَبَّب قبل أن يتحصرم ، وممن لا يعرف كوعه من كرسوعه ، يزعم أنه أعرف من العلماء الراسخين في الدين ، أو مثلهم ، وأنه جدير بالقول والحكم والاجتهاد . قال مالك بن نبي ( ت 1393 هـ) : « والحقيقة أنَّنا قبل خمسين عاماً كنَّا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه ، هو الجهل والأميَّة ، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو : (التعالُم) وإن شئت فقل: الحرفيَّة في التعلُّم؛ والصعوبة كل الصعوبة في مداواته..» إن الخطأ ملازِم للبشر ؛ لا يعرَى عنه مخلوق مهما اجتهد واحتاط لنفسه في تحرى الحق ، فليس من الإنصاف أن يُعَيَّرَ المرء به إذا وقع منه ، لا سيما إن كان أهلا للنظر ، ولو أراد أحد أن لا يخطئ في شيء من العلم ، للزمه أن يموت وعلمه في صدره ، فليس إلى العصمة من الخطأ سبيل إلا بتفضل رب العالمين على عبده ، ويرحمُ الله ابن القيمِّ إِذ قال : « ومن له علم بالشرع والواقع ، يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ ، وآثار حسنةٌ ، وهو من الإسلام وأهله بمكانٍ ، قد تكون منه الهفوة والزلَّة ، هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهاده ، فلا يجوز أن يتبع فيها ، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامتُهُ في قلوب المسلمين»
المبحث العاشر : دخول كل علم ذي منفعة في فضل الحديث.
صحيح أن الحديث الشريف الذي نحن بصدده يدل بالأصالة على أن المقصود بالعلم الذي ندب إليه وحث عليه هو علم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم ، بيد أن هذا لا يمنع دخول أي علم بالتَّبَع من شأنه أن يعود على الأمة بالنفع في عاجل أيامها أو آجلها ، في دنياها أو أخراها ، فقوله صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم {من سلك طريقاً} أي : طريقا لعلم الهندسة ـ مثلا ـ ليبني لنا بيوتاً تؤينا ، أو سلك طريق علم الزراعة لينبت لنا طعاماً يقيتنا ، أو سلك طريق الدفاع والسلاح لينتج سلاحاً يقينا العدو ، أو أي مجال سلكه لله ولرسوله ولأمة المسلمين ، ما دام يبتغي بذلك وجه الله . بل إن علوما من هذا القبيل من فروض الأعيان التي يجب أن تتوافر في الأمة ولو أهملته الأمة لأثمت.
ولا تعارض بين ما ذكرناه هنا وقول الغزالي (ت 505 هـ) كمـا فـي الإحياء حيث قـال : « اعلم أن التسوية بينهما ـ يعني بين علم الدين وعلم الدنيا ـ غير لازمة بل بينهما فرق ، وأن الفقه أشرف منه من ثلاث وجوه :
أحدهما : أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع.
الثاني : أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة ألبتة لا الصحيح ولا المريض ، وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون .
الثالث : أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب». اهـ فإن هذا من حيث الأفضليةُ كما لا يخفى إذ شرف المتعلِّق من شرف المتعلَّق به. بدليل قوله فيما بعد : «..إن تقرير حقيقة أفضلية علم الآخرة على بقية العلوم لا يلغي أهمية العلوم الأخرى وحاجة المسلمين كافة إليها..»
والمفاضلة هذه حاصلة حتى بين علوم الشرع نفسها إذ العلم بالله ـ مثلا ـ أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ، وذلك لأسباب عدة يذكرها ابن جماعة (ت 733 هـ) كما يلي :
ـ أن العلم يعم نفعه لصاحبه وللناس ، والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها.
ـ أن العلم مصحح لغيره من العبادات ومفتقرة إليه ولا يتوقف هو عليها.
ـ أن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه بينما تنقطع النوافل بموت صاحبها.
ـ في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة .
ـ أن طاعة العالم واجبة على غيره فيه..»
وبهذا يُعلم أن العلوم الدنيوية واردة في التصور الإسلامي ، بل لا أعدو الحق إن قلت : إن الإسلام هو المؤسس لكثير من هذه العلوم الدنيوية ، ولولا ما في الخلاف الحاصل بين العلماء ، من القول باشتمال القرآن على علوم الدنيا والدين من عدمها لجزمنا باشتماله عليها ، بيد أننا في من مندوحة من هذا. والله أعلم.
إن مقتضى الحال يدعو إلى أن يكون للمسلمين باع في كل علم من العلوم المفيدة وأن يكون لدى جماعة المسلمين الخبراء والمختصون في مختلف المجالات لكي يكونوا في قوة ومنعة ، ويستغنوا بإمكانيتهم عن الأعداء ، قال تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} فوجود الهيئات المتخصصة والعلماء البارعين في مختلف المجالات النافعة أمر هيأته الشريعة ، ويسرت سبله عن طريق حرية العلم للأفراد ، يقول أحد التربويين المعاصرين: « وحين تتعقد المواقف والمشكلات ـ خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطارـ وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات والخبرات العميقة ومناهج التفكير الحكيم فإن القرآن يوجه إلى وجوب إقامة هيئة متخصصة في دراسة هذا النوع من المواقف والمشكلات».
إن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهم أنموذج هذه الأمة لم يكونوا ذوي توجه واحد ، فمنهم العالم بالقرآن ، والعالم بسنة المصطفى عليه السلام ، واللغوي ، والشاعر ، والقاضي ، ومنهم القائد المحنك الخبير بفنون الحرب ، والتاجر المتمرس بالتجارة ، والعالم بالفرائض ، والعالم بالحلال والحرام . وقد ورد في سيرة المصطفى القولية والفعلية ما يدل على تشجيعه وإقراره لكل منهم على المجال الذي برع فيه ، أو العلم الذي اختاره ، من ذلك ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر وأصدقها حياء عثمان ، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤها لكتاب الله أبي ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ، ولكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح}
وروى البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت : {اهج المشركين فإن جبريل معك»
لقد أخطأ ـ وأمعن في الخطأ ـ من يظن أن العلوم الدنيوية لا دخل للشرع فيها ، كعلوم الاجتماع ، وعلوم السياسة ، وعلوم الاقتصاد ، وعلوم التاريخ ، والحضارة ، وسائر العلوم الإنسانية ، وأنها إنما تحكم بقواعدها عند المتخصصين ، وهذا خطأ فادح انبنى عليه في العصر الحاضر أخطاء كثيرة في مفاهيم المسلمين وأعمالهم دولاً وشعوباً ، وترتب عليه أخطاء قد يصعب علاجها إلا بعد سنين ، وسبب ذلك عزل العلوم الإنسانية عن علوم الشرع.












خاتمــة :
وبالجملة فإنه يمكن القول : إن حديثا نبويا شريفا بمنزلة حديث {من سلك طريقا..} يمكن أن يستوعب معانـيَ أخرى مما لم يُذكر هاهنا ، لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، وما لا يدرك كله ؛ لا يترك جُلّه ، وحَسْب المستقلَّ مثلي من طلاب العلم ، أن يحاولوا التشبه بشيوخهم وأساتذتهم ممن لهم قصب السبق في هذا الميدان ، متمثلين قول القائل :
{ تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم "" إن التشبه بالكرام فلاح }
هذا وما كان من خطأ في هذا الجمع فمني ومن الشيطان ، والله بريء منه ورسوله والله المستعان ، وعليه التكلان . ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.


جمع وترتيب : أفقر الخلق إلى مولاه الغنيِّ علي بن أحمد أكجيم


تم الفراغ منه بحمد الله وتوفيقه يوم :
الاثنين 24 صفر 1434 هـ الموافق لـ 07 يناير 2013 م


المراجع و المصادر :
1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ السنة النبوية الشريفة .
3 ـ مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية. مطبعة: دار الكتب العلمية بيروت.
4 ـ محاسن التأويل للقاسمي مطبعة: دار الكتب العلمية بيروت.
5 ـ شعب للبيهقي مطبعة: دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى، 1410هـ
6 ـ شروط النهضة لمالك بن نبي مطبعة: دار الفكردمشق سورية ، 1986 م
7 ـ سير أعلام النبلاء للذهبي مطبعة: دار الحديث القاهرة ، 2006 م
8 ـ إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية مطبعة: دار الكتب العلمية بيروت الطبعة: الأولى، 1991 م
9 ـ النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي مطبعة: أضواء السلف الرياض الطبعة: الأولى، 1419هـ / 1998م
10 ـ مختار الصحاح للرازي مطبعة: المكتبة العصرية الدار النموذجية، بيروت الطبعة: الخامسة ، 1420هـ / 1999 م
11 ـ الجوهر المضية لأبي محمد محيي الدين الحنفي: مير محمد خانه ، كراتشي.
12 ـ فهرس الفهارس والأثبات للكتاني مطبعة: دار الغرب الإسلامي ، بيروت الطبعة: الثانية 1982 م
13 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأحمد بن محمد بن علي الفيومي مطبعة: المكتبة العلمية ، بيروت.
14 ـ لسان العرب لابن منظور مطبعة: دار المعارف.
15 ـ العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى بدون ناشرالطبعة: الثانية 1410هـ 1990 م
16 ـ تاج العروس من جواهر القاموس لمرتضى، الزَّبيدي مطبعة: دار الهداية .
17 ـ الأصول من علم الأصول لابن عثيمين مطبعة:دار ابن الجوزي طبعة عام 1426هـ
18 ـ تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للقاضي أبي بكر الباقلاني مطبعة: مؤسسة الكتب الثقافية ، لبنان الطبعة: الأولى 1407هـ /1987م
19 ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال لأبي الحجاج القضاعي مطبعة: مؤسسة الرسالة ، بيروت الطبعة: الأولى 1400هـ/1980 م
20 ـ تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني مطبعة: دائرة المعارف النظامية ، الهند الطبعة: الطبعة الأولى، 1326 هـ
21 ـ الثقات لابن حبان مطبعة: دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند الطبعة: الأولى ، 1393 هـ / 1973 م
22 ـ شرح سنن أبي داود لعبد المحسن العباد موقع الشبكة الإسلامية
23 ـ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لمحمد علي البكري مطبعة: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ، لبنان الطبعة الرابعة، 1425 هـ /2004 م
24 ـ فتح القوي المتين للنووي وابن رجب لعبد المحسن البدر مطبعة: دار ابن القيم، الدمام المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003 م
25 ـ المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر بن مروان مطبعة: دار ابن حزم بيروت 1419 هـ

فهرس الآيات والأحاديث :
1 ـ مما عرفو من الحق.......................................... .... ..............4
2 ـ لا تعلمونهم الله يعلمهم...................................... ...... .............4
3 ـ عالم الغيب والشهادة.................................. ........ .................4
4 ـ علام الغيوب...................................... ...... ........................4
5 ـ إني حفيظ عليم.......................................... .... ...................5
6 ـ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ...................................... ...... ..........14
7 ـ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ................................14
8 ـ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ...............................1 5
9 ـ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.......................... ............ ........15
10 ـ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ............................ ......15
11 ـ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ........................ ............. ........15
12 ـ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءَ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.............................15
13 ـ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ........................15
14 ـ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ..........................20
15 ـ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا...............................20
16 ـ فاعلم أنه لا إله إلا هو.............................................. .. .......22
17 ـ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به..............................28
18 ـ من سلك طريقاً...................................... ...... ....................2
19 ـ كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ...................... ..........20
20 ـ فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ............................ .......22
21 ـ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا.............................. .........2 2
22 ـ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا...........................23
23 ـ أرحم أمتي أبو بكر............................................ ... ...........28
24 ـ اهج المشركين فإن جبريل معك............................................ ..3 1






فهرس الموضوعات :
ـ مقدمة وضمنتها الإشادة بالعلم...................................... ...... ........1
ـ إيراد حديث البحث........................................ ..... ....................2
ـ ذكر محاور البحث........................................ ..... ....................3
ـ المبحث الأول : مفهوم العلم لغة واصطلاحا.................................. .....4
ـ مفهوم العلم عند الراغب الأصفهاني................................ ......... ......5
ـ المبحث الثاني : تخريج حديث البحث........................................ ..... .7
ـ كلام أبي عيسى الترمذي روايات حديث البحث.....................................9
ـ المبحث الثالث : ترجمة رواة الحديث...................................... ...... 10
ـ المبحث الرابع : شرح مفردات الحديث...................................... .....1 2
ـ المبحث الخامس : طلب العلم سبيل الجنة........................................ 13
ـ نصوص شرعية في فضل العلم........................................ ..... .....14
ـ ذكر ثلاث قصص في طلب العلم........................................ ..... .....16
ـ المبحث السادس : الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم...........................18
ـ المبحث السابع : يستغفر أهل السماوات وأهل الأرض للعالِم.....................20
ـ المبحث الثامن : فضل العالم على العابد...................................... ....22
ـ لطيفة........................................ ..... ...............................24
ـ المبحث التاسع : العلماء ورثة الأنبياءِ................................ ......... ..25
ـ المبحث العاشر : دخول كل علم ذي منفعة في فضل الحديث.....................27
ـ خاتمة........................................ ..... ..............................31