المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الْقَوْلُ النَّفِيسُ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ دَعْوَى أَهِلَّ التَّفْوِيضِ والتجهيل



أهــل الحـديث
19-02-2013, 04:30 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




بسم الله الرحمن الرحيم



الْقَوْلُ النَّفِيسُ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ دَعْوَى أَهِلَّ التَّفْوِيضِ والتجهيل





إِنَّ الْحَمْدَ لله نُحَمِّدُهُ ونستعينه وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنَفْسُنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعُمَّالَنَا مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمِنْ يُضَلِّلُ فَلَا هَادِي لَهُ وَأَشْهَدَ أَنْ لَا إله إلّا
اللهِ وَحْدِهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدَ أَنْ مُحَمَّدَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ .{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }.{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خلقَكُمْ مِنْ
نَفْسُ وَاحِدَةٍ وَخلقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالَا كَثِيرَا وَنِسَاءً وَاِتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقيبَا }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلَا سَدِيدَا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمِنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَا عَظِيمَا}
أَمَا بَعْدَ ..


فَإِنَّ الْعلمَ ، بِمُقْتَضى أَسْمَاء اللَّهِ وَصَفَّاتِهُ ، أَسَاسَ الدِّينُ ، وَخَلاَصَةً دَعْوَةَ الإنبياء وَالْمُرْسَلَيْنِ ، كَمَا اِنْهَ أَفَضْلَ مَا أَدَرَكَتُهُ الْعُقُولَ ، وأنطوت عَلَيه الْقَلُوبَ . وَهُوَ أَوَّلَ مَا
يَسْأَلُ عَنْه الْعَبْدَ فِي قَبْرِه ، فَيُقَالُ لَهُ :( مِنْ رَبِّكَ ؟). وَالْجهلَ بِهِ سُبْحَانَه ، يُورِدُهُ النَّارَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :} وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعَيْنَ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ {[ الأعراف : 179 ] وَأُشِدُّ مِنْ الْجَهْلِ خَطَرَا ، التجهيل ؛ وَذَلِكَ بِسَدِّ
بَابِ الْعَلْمِ بِاللهِ وَدَعْوَةَ الْكَافَّةِ إِلَى قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ التدبر فِي مَعَانِي أَسْمَاء اللَّهِ وَصَفَّاتِهُ ، وَحَسْبَهَا أَلِفَاظَا جوفاءَ ، لَا تَتَضَمَّنُ مُعَنّى يَمِّكُنَّ إدراكه ، بَلْ هى بِمَنْزِلَةِ الْكَلاَمِ الأعجمي !!
وَقَدْ سَمَّى دُعَاةُ التجهيل هَذَا الْمَذْهَبَ الْمُنْحَرِفَ بإسم مُلَطَّفَ ، وَهُوَ :( التَّفْوِيضَ )، وَحَقِيقَهُ ( التجهيل ) وَزادَ الأمر خُطُورَةَ أَنْ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ ؛ إِمَّا جَهِلَا
وَأَوِّ ظَلَمَا وَعَدَوْانَا ، ترويجاً لِمُذَهَّبِهُمْ الآخر ، مَذْهَبَ الْخِلْفِ وَهُوَ ( التحريف ) الَّذِي سُمُوَّهُ تَزِينَا وَتَزْوِيقَا ب ( التأويل !)،
فَقَالَ قَائِلِهُمْ :

وَكُلَّ نَصَّ أَوَهُمْ التشبيها *** أَوَلَهُ أَوْ فَوَّضَ وَرَمُ تَنْزِيهَا !

ثَمَّ لَمْ يُتَوَقَّفْ الْقُوَّمُ عَنْ هَذَا الأمر الْفَظِيعَ الرديئ وَحَسْبَ ، بَلْ نَسَبُوا قُبْحَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ هَذَا إِلَى السَّلَفِ وَطَرِيقَتَهُمْ ، وَقَسْمَ آخر مِنْهُمْ أَسَّسَ مَقُولَةُ أبليسية !
وَقَالَ :( طَرِيقَةَ السِّلْفِ أَسَلْمَ ، وَطَرِيقَةً الْخِلْفِ أَعلمَ وَأَحْكَمَ !!) هَكَذَا قَالُوا وَزَعَمُوا ..!
قَالَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنَ تيمية :
[ وَأَمَا عَلَىِي قَوْلَ أَكَابِرَهُمْ : إِنَّ مَعَانِي هَذِهِ النُّصُوصِ الْمُشْكِلَةِ الْمُتَشَابِهَةِ لَا يُعْلِمُهُ إلّا اللهِ ، وَأَنْ مَعَنَاهَا الَّذِي أَرَادَهُ اللهِ بِهَا هُوَ مَا يُوجِبُ صَرْفُهَا عَنْ ظَواهِرِهَا
فَعَلَيِي قَوْلَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ الأنبياء وَالْمُرْسِلُونَ لَا يُعْلِمُونَ مَعَانِي مَا أَنُزُلُ اللهِ عَلَيهُمْ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ ، وَلَا الْمَلاَئِكَةَ ، وَلَا السَّابِقُونَ الأولون ، وحينئذ فَيَكُونُ مَا
وَصْفُ اللهِ بِهِ نَفْسُه فِي القرآن ، أَوْ كَثِيرَ مِمَّا وَصْفُ اللهِ بِهِ نَفْسُه ، لَا يُعْلِمُ الأنبياء مَعَنَاهُ ، بَلْ يَقُولُونَ كَلاَمَا لَا يُعْقِلُونَ مَعَنَاهُ ، وَكَذَلِكَ نُصُوصِ الْمُثَبِّتِينَ لِلْقِدْرِ عِنْدَ طَائِفَةٍ ، وَالنُّصُوصَ
الْمُثَبِّتَةَ للأمر وَالنَّهْي وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ عِنْدَ طَائِفَةٍ ، وَالنُّصُوصَ الْمُثَبِّتَةَ لِلْمَعَادِ عِنْدَ طَائِفَةٍ . وَمَعْلُومُ أَنْ هَذَا قَدَحَ فِي القرآن والأنبياء ، إِذْ ' كَانَ اللَّهُ ' أَنُزُلُ القرآن ، وَأَخْبَرَ
أَنَّه جُعَلُهُ هَدَّي وَبَيَانَا لِلْنَاسِ ، وَأُمِرُّ الرَّسُولُ أَنْ يَبْلُغَ الْبلاغُ الْمُبِينُ ، وَأَنْ يُبِينُ لِلْنَاسِ مَا نُزُلُ إِلَيهُمْ وَأُمِرُّ بِتَدَبُّرِ القرآن وَعَقْلَهُ ، وَمَعَ هَذَا فَأَشْرَفَ مَا فِيه وَهُوَ مَا أَخَبَرُ بِهِ
الرَّبَّ عَنْ صِفَاتِهُ ، أَوْ عَنْ كَوْنِهُ خَالَقَا لَكُلَّ شَيْءَ ، وَهُوَ بِكُلَّ شَيْءَ عَلِيمِ ، أَوْ عَنْ كَوْنِهُ أَمرَّ وَنَهْي ، وَوَعْدَ وَتَوَعُّدَ ، أَوْ عَمَّا أَخَبَرُ بِهِ عَنْ الْيَوْمِ الْآخَرلَا يُعْلِمُ أَحَدَّ مَعَنَاهُ
، فَلَا يُعْقِلُ وَلَا يَتَدَبَّرُ ، وَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ بَيْنَ لِلْنَاسِ مَا نُزُلُ إِلَيهُمْ ، وَلَا بَلَّغَ الْبلاغُ الْمُبِينُ .)[ درء التَّعَارُضَ 1 / 204 ]
وَقَالَ :( فَتَبَيُّنَ أَنْ قَوْلَ أَهِلَّ التَّفْوِيضِ الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلَسْنَةٍ وَالسَّلْفَ مِنْ
شَرِّ أَقَوَّالَ أَهْل الْبِدَعِ والإلحاد .)[ درء التَّعَارُضَ 1 / 205 ]

وَقَالَ فِي مَوْضُوعِ أَخَرَّ ، معدداً الطَّوَائِفَ الَّتِي حَادَّتْ عَنْ الْحُقِّ فِي فَمِ أَسْمَاء اللَّهِ عَزَّ وَجَلِ وَصَفَّاتِهُ :
( وَأَمَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمْ أَهْلُ التَّجْهِيلِ فَهُمْ كَثِيرٌ
مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ وَاِتِّبَاعِ السَّلَفِ . يَقُولُونَ : إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرِفْ مَعَانِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيه مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَلَا جِبْرِيلُ يَعْرِفُ
مَعَانِي الْآيَاتِ وَلَا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ عَرَفُوا ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ : إِنَّ مَعْنَاهَا لَا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ مَعَ أَنْ الرَّسُولَ تَكَلَّمَ بِهَا ابْتِدَاءً فَعَلَى
قَوْلِهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلاَمِ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ .)[ مَجْمُوعَ الْفَتَاوَى 5 / 35 ]
قَالَ اِبْنِ الْقِيَمِ :( وَالصِّنْفَ الثَّالِثَ : أَصِحَابُ التجهيل الَّذِينَ قَالُوا نُصُوصِ الصِّفَاتِ أَلِفَاظَ لَا تَعَقُّلَ مَعَانِيِهَا وَلَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللهُ وَرَسُولَهُ مِنْهَا وَلَكُنَّ نَقْرَأُهَا
أَلِفَاظَا لَا مَعَانِي لَهَا وَنُعْلِمُ أَنْ لَهَا تأويلا لَا يُعْلِمُهُ إلّا اللهُ وَهِي عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ :{ كهيعص }[ مريم1 ] و { حَمُ عسق }[ الشورى2 , 1 ] و { الْمَصَّ }[ الأعراف1 ] فَلَوْ وَرْدُ
عَلَينَا مِنْهَا مَا وَرْدُ لَمْ نُعْتَقَدْ فِيه تَمْثيلَا وَلَا تَشْبِيهَا وَلَمْ نُعَرِّفُ مَعَنَاهُ وَنُنْكِرُ عَلَى مِنْ تَأَوَّلَهُ وَنِكْلَ عَلْمِهُ إِلَى اللهُ وَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْ هَذِهِ طَرِيقَةَ السَّلَفِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُكَوَّنُوا يُعَرِّفُونَ حقائقَ
الأسماء وَالصَّفَّاتِ وَلَا يُفْهِمُونَ مُعَنّى قَوْلِهُ :{ لَمَّا خَلَقْتُ بِيَدَيّ }[ ص75 ] وَقولَهُ { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[ الزمر67 ]
وَقولَهُ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى }[ طه5 ]
وأمثال ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ . وَبَنَوْا هَذَا الْمَذْهَبَ عَلَى أَصِلِّينَ : أَحَدُّهُمَا أَنْ هَذِهِ النُّصُوصِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لِلْمُتَشَابِهِ تأويلا لَا يُعْلِمُهُ إلّا ا
للهُ فَنَتَجَ مِنْ هَذَيْنِ الأصلين استجهال ' السَّابِقِينَ الْأَوَّلِين ' مِنْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحسان وَأَنَّهُمْ
كَانُوا يقرأون :{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى }[ طه5 ] و { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِِ }[ المائدة64 ]
وَيَرْوَوْنَ " يُنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيا " وَلَا يُعَرِّفُونَ مُعَنّى ذَلِكَ
وَلَا مَا أُرِيدُ بِهِ وَلاَزِمَ قَوْلِهُمْ إِنَّ الرَّسُولُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ وَلَا يُعْلِمُ مَعَنَاهُ ثَمَّ تَنَاقَضُوا أَقُبْحَ تَنَاقُضِ فَقَالُوا تَجْرِي عَلَى ظَواهِرِهَا وتأويلها مِمَّا يُخَالِفُ الظَّواهِرُ بَاطِلَ وَمَعَ ذَلِكَ
فَلَهَا تأويل لَا يُعْمِلُهُ إلّا اللهُ فَكَيْفَ يُثْبِتُونَ لَهَا تأويلا وَيَقُولُونَ تَجِرُ عَلَى ظَواهِرِهَا وَيَقُولُونَ الظّاهِرَ مِنْهَا غَيْرَ مرادِ وَالرَّبَّ مُنْفَرِدَ بِعَلْمِ تأويلها وَهَلْ فِي التَّنَاقُضِ أَقُبْحَ مِنْ هَذَا .
وَهَؤُلَاءِ غَلَّطُوا فِي الْمُتَشَابِهِ وَفِي جَعَلَ هَذِهِ النُّصُوصِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَفِي كَوْنَ الْمُتَشَابِهِ لَا يُعْلِمُ مَعَنَاهُ إلّا اللهُ فأخطأوا فِي الْمُقَدِّمَاتُ الثُّلاثُ وَاِضْطَرَّهُمْ إِلَى هَذَا التخلص
مِنْ تأويلات الْمُبْطَلَيْنِ وَتَحْرِيفَاتِ الْمُعَطَّلِينَ وَسَّدُوا عَلَى نُفُوسِهُمْ الْبَابَ وَقَالُوا لَا نَرْضَى بالخطأ وَلَا وَصُولَ لَنَا إِلَى الصَّوَابِ فَهَؤُلَاءِ تَرَكُوا التدبر المأمور بِهِ والتذكر وَالْعَقْلَ
لَمَعَانَي النُّصُوصَ الَّذِي هُوَ أَسَاسَ الإيمان وَعَمُودَ الْيَقِينِ وَأَعْرَضُوا عَنْه بِقُلُوبِهُمْ وَتَعَبَّدُوا بالألفاظ الْمِجْرَدَةَ الَّتِي أَنْزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهَا أَنْزَلَتْ لِلْتِلاوَةِ والتعبد بِهَا دُونَ
تَعَقُّلِ مَعَانِيِهَا وَتَدَبُّرَهَا والتفكر فِيهَا .)[ الصَّواعِقَ الْمُرْسِلَةَ 2 / 422 وَمَا بَعْدَهَا ]

قال شارح الطحاوية[2/802-803]، في معرض كلامه عن طرق أهل البدع في التعامل مع الوحي:
( وَأَمَّا أَهْلُ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، الَّذِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ:
إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ، لَا يَعْرِفُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ! وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّصِّ تَأْوِيلٌ لَا
يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَعْلَمُهُ جَبْرَائِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقْرَأُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فَاطِرٍ: 10] . {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]
وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ! بَلْ مَعْنَاهَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى! ! وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ!!
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خِلَافُ مَدْلُولِهَا الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، كَمَا لَا يُعْلَمُ وَقْتُ السَّاعَةِ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا
وَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا!! وَمَعَ هَذَا، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَيَتَنَاقَضُونَ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَقَالُوا مَعَ هَذَا: إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهَؤُلَاءِ
مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مُشْكِلَةً أَوْ مُتَشَابِهَةً، وَلِهَذَا يَجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ الْمُشْكِلَ مِنْ نُصُوصِهِ غَيْرَ
مَا يَجْعَلُهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ مُشْكِلًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَعْلَمْ مَعَانِيَهَا أَيْضًا! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَعَلَى مَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ
تِلْكَ النُّصُوصِ! ! فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ أَوْ لَمْ يُعَلَّمْ، بَلْ نَحْنُ عَرَفْنَا الْحَقَّ بِعُقُولِنَا ثُمَّ اجْتَهَدْنَا فِي حَمْلِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عُقُولَنَا،
وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَقْلِيَّاتِ!! وَلَا يَفْهَمُونَ السَّمْعِيَّاتِ!! وَكُلُّ ذَلِكَ ضَلَالٌ وَتَضْلِيلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.)



الأدلة عَلَى بُطْلَانِ مُذَهَّبِ التَّفْوِيضِ سَمِعَا وَعَقِلَا.

اِعْلَمْ أَنَّه مَا مِنْ بِدْعَةٍ وَشِبْهُ يَأْتِي بِهَا الْمُبْطِلُونَ الضَّالُّونَ الْمُنْحَرِفَيْنِ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ، إلّا كَانَ فِي القرآن وَالسِّنَّةَ مَا يَرِدُهَا وَيَدْفَعُهَا وَيُبِينُ فسادُهَا ، فالأمر
كَمَا قَالُ تَعَالَى :{ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمِثْلُ إلّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }[ الْفُرْقَانَ : 33 ]
قَالُ اِبْنِ كَثِيرِ :({ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمِثْلُ } أَيُّ : بِحِجَّةِ وَشُبْهَةَ
{ إلّا جِئْنَاكَ بِالْحُقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرَا } أَيّ : وَلَا يَقُولُونَ قَوَّلَا يُعَارِضُونَ بِهِ الْحُقُّ ، إلّا أَجَبْنَاهُمْ بِمَا هُوَ الْحُقُّ فِي نَفْسُ الْأَمْرِ ، وَأُبِينُ وَأَوْضَحَ وَأَفْصَحَ مِنْ مَقَالَتِهُمْ .
قَالُ سَعِيدِ بُنِّ جبير ، عَنْ اِبْنِ عباسِ :{ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمِثْلُ } أََيُّ : بِمَا يَلْتَمِسُونَ بِهِ عَيْبَ القرآن وَالرَّسُولَ { إلّا جِئْنَاكَ بِالْحُقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرَا }
أََيُّ : إلّا نَزَلَ جبريل مِنْ اللهِ بِجَوَابِهُمْ .)[ تَفْسِيرَ ' الْقُرْآن الْعَظِيمَ 6 / 109 ]
فَقَدْ تَضَمَّنَتْ النُّصُوصُ الشُّرَّعِيَّةُ السّمعِيَّةُ مَا يَقْضِي عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ مِنْ أُصَوِّلُهَا ، وَيَجْتَثُّ قَوَاعِدُهَا مِنْ جُذُورِهَا ، وَتَنَوَّعَتْ
دَلالَةُ الْكُتَّابِ وَالسَّنَةِ فِي ذَلِكَ تَنُوعَا كَثِيرَا ، وَمِحَنَ هُنَا نَذَّكِرُ بَعْضُهَا ، وَمِنْ أَرَادَ الْمَزِيدُ فَعَلَيه بِتَدَبُّرِ القرآن
وَعَقْلَهُ جَيِدَا فَإِنَّ جَلَّهُ يَدِلُّ وَيَتَضَمَّنُ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنِيَّ :

أَوَلَا : النُّصُوصُ الدَّالَةُ عَلَى الْبَيَانِ :

قَالُ اللهِ عَزَّ وَجَلِ : }هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ{ [ آلِ عُمْرَانَ : 138 ]،} قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ {[ الْمَائِدَةَ : 15 ]،} وَنَزَّلْنَا عَلَيكِ الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لَكُلَّ شَيْءٍ وَهُدى وَرحمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {[ النَّحْلَ : 89 ]،}وَأَنْزَلْنَا إِلَيكِ الذّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {[ النَّحْلَ : 44 ]،
وَقَالَ :} ثَمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ {[ الْقيامَةَ : 19 ]

قَال فِي الصّحاحِ [ 5 / 2082 ، 2083 ]:

( وَالْبَيَانَ : الْفَصَاحَةُ واللَسَن ... وَالْبَيَانَ : مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءَ مِنْ الدَّلالَةِ وَغَيْرَهَا .
وَبَانُ الشَّيْءِ بَيَانَا : اِتَّضَحَ فَهُوَ بَيْنَ )

وَكَذَلِكَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ غَايَةٍ فِي الْفَصَاحَةُ وَالْبَلاغَةُ وَحَسَنَ الْبَيَانِ ، وَلَمْ يُسْتَثْنَ اللهُ تَعَالَى شِيئَا مِنْ
كُتَّابِهُ لَمْ يُتَحَقَّقْ فِيه وَصَفَّ الْبَيَانِ ، كَمَاأَنْ نبينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ وَصْفِ رَبِّهُ بِكَلاَمِ مُبِينِ لَمْ
يستشكله أَحَدَّ مِنْ أَصِحَابِهُ ، وَذِهِ يَدِلُّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى التَّفْوِيضِ .


ثَانِيَا : النُّصُوصُ الدَّالَةُ عَلَى تَعَقُّلِ القرآن بِوَصْفِهُ عربياً :

قَالُ اللهُ عَزَّ وَجَلِ :} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {[ يوسف : 2 ]

قَالُ اِبْنِ كَثِيرِ رحمَهُ اللَّهُ:( وَذَلِكَ لَأَنْ لُغَةَ الْعَرَبِ ' أَفصحَ اللُّغَاتِ وَأُبِينُهَا وَأَوْسَعَهَا ، وَأَكْثَرُهَا تأدية لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقَوُّمَ بِالنُّفُوسِ )[ 4 / 365 ] وَقَالَ –عز وجل- :}
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {[ الزُّخْرُفَ : 3 ] فَجَعَلَ كَوْنَهُ عربياً عَلَّةً وَسَبَبَا لِتَعَقَّلَهُ .
قَالُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تيمية -رحمَهُ اللَّهُ-:
( فَبَيْنَ أَنَّه أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا لَأَنْ
يَعْقِلُوا وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ )

[ مَجْمُوعَ الْفَتَاوَى 5 / 158 ]


ثَالِثَا : النُّصُوصُ الدَّالَةُ عَلَى تَيْسيرُ القرآن :

قَالُ تَعَالَى :} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {[ الْقمرَ : 17 ، 22 ، 32 ، 40 ]
قَالُ السَّعْدِيِ- رحمَهُ اللَّهُ-:( أََيُّ : وَلَقَدْ يُسْرَنَا وَسَهْلَنَا هَذَا الْقُرْآن
الْكَرِيمَ ، أَلِفَاظِهُ لِلْحُفَّظِ والأداء ، وَمَعَانِيَهُ لِلَفَّهُمْ وَالْعلمَ ، لِأَنَّه أَحَسَنَ الْكَلاَمِ لَفَظَا ، وَأَصْدَقَهُ مَعْنًى ، وَأُبِينُهُ تَفْسِيرَا ، فَكُلَّ مِنْ أَقْبَلَ عَلَيه يُسْرَ اللهُ عَلَيه مَطْلُوبَهُ غَايَةٍ
التَّيْسيرِ ، وَسَهْلَهُ عَلَيه ، وَالذّكرَ شَامِلَ لَكُلَّ مَا يَتَذَكَّرُ بِهِ الْعَامِلُونَ مِنْ الْحُلاَلِ وَالْحَرامِ ، وأحكام الأمر وَالنَّهْي ، وأحكام الْجَزَاءَ وَالْمَوَاعِظَ وَالْعِبَرَ ، وَالْعَقَائِدَ النَّافِعَةَ
والأخبار الصَّادِقَةَ )[ تَيْسيرُ الْكَرِيمِ الرحمن 1 / 825 ]

قَالُ اِبْنِ الْقِيَمِ - رحمَهُ اللَّهُ-:( وَأَخْبَرَ أَنَّه يُسْرُهُ لِلْذَكَرِ وَتَيْسيرَهُ لِلْذَكَرِ يَتَضَمَّنُ أنواعا مِنْ التَّيْسيرِ :
إحداها : تَيْسيرُ أَلِفَاظِهُ لِلْحُفَّظِ .

الثَّانِي : تَيْسيرُ مَعَانِيِهُ لِلَفَّهُمْ .

الثَّالِثُ : تَيْسيرُ أوامره وَنَوَاهِيَهُ للإمتثال .

وَمَعْلُومُ أَنَّه لَوْ كَانَ بألفاظ لَا يُفْهِمُهَا الْمُخَاطِبِ لَمْ يَكِنْ مُيَسَّرَا لَهُ بَلْ كَانَ مُعْسِرَا عَلَيه فَهَكَذَا
إذاً أُرِيدُ مِنْ الْمُخَاطِبِ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ أَلِفَاظِهُ مَا لَا يَدِلُّ عَلَيه مِنْ الْمَعَانِي أَوْ يَدِلُّ عَلَى خِلاَفِهُ
فَهَذَا مِنْ أَشَدِّ التعسير وَهُوَ مناف لِلْتَيْسيرِ )[ الصَّواعِقَ الْمُرْسِلَةَ : 331-332]

أَدَلَّةً بطلانه عَقِلَا :

وَفِي هَذَا الْمَوْضِعَ نَكْتَفِي بِذَكَرِ دَليلِ عُقُلِي واحدَ ، يُدَلِّلُ عَلَى فسادِ وَكَسَادَ هَذَا الْمُذَهَّبِ وبطلانه ،
وَيُبَنْ مُدًى جَهْلِ وَتُعَنِّتُ الْقُوَّمُ وأتباعه ..!
وَهُوَ ان : اِسْتِحَالَةُ كَوْنِهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ تَرِكُ تَعْلِيمُ أَمْتَهُ أَسْمَاء اللَّهِ وَصَفَّاتِهُ : إِنَّ حَجَرَ الأساس فِي مُذَهَّبِ أَهِلَّ التجهيل هُوَ مَنْعُ اِعْلَمْ بِدَلالَةِ أَسْمَاء
اللَّهِ وَصَفَّاتِهُ ، وَلَمَّا كَانَ الْعَلْمُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَنَالُ بِطْريقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ بِوَصْفِهُ رَسُولَ رُبَّ الْعَلْمِينَ ، وَمَعْلَمَ الأمة الأول ، فَقَدْ دَرَّجُوا عَلَى الْقَوْلِ
بِأَنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ قَدْ تَرِكُ هذ الْبَابَ دُونَ بَيَانِ ، وَاِكْتَفَى بإبلاغ تلأمة لَفْظَ الْقُرْآنِ ، وَحَدَثَ مَا حَدَثُ بِهِ مِنْ صِفَاتٍ الْبَارِي جَلا وَعلا دُونَ أَنْ يَفْهَمَ النَّاسُ
بِأَنْ مُرَادَهُ الإثبات ، بَلْ هى نُصُوصَ تَعَبُّدِيَّةٍ تَلَقَّتْهَا الأمة مِنْه كَمَا تَلَقَّتْ أَعِدَادَ الرُّكَّعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وأنصاب الزَّكاةَ وَنَحْوَهَا ، ثَمَّ أَنْ أَصِحَابِهُ رِضْوَان اللَّهِ عَلَيهُمْ
لَمْ يُثْبَتُوا لَهَا مَنْعًى مَعْلُومَا كَمَا أَنَّهُمْ بِزَعْمِهُمْ لَمْ يُسْأَلُوا عَنْهَا لإعتقادهم بِأَنَّه لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ أَصْلًا ..!
وَقَدْ سَلَّكَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ اِبْنِ تيمة –رحمَهُ اللَّهُ -مَسْلَكَا عقلياً فِي إبطال هَذِهِ الدَّعْوَى ، بِذَكَرِ جُمَلَةٍ مِنْ ( المُحلات الْعَقْلِيَّةَ )
الَّتِي تُحِيلُ هَذِهِ الدَّعْوَى نَقْتَطِفُهَا مِنْ كَلاَمِهُ:
(فَمِنْ الْمُحَالِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنْ يَكُونَ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ الَّذِي أَخْرَجَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى سَبِيلِهِ بِإِذْنِهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ - مُحَالٌ مَعَ هَذَا وَغَيْرِهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَابَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ بِهِ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا
وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُ الْهِدَايَةِ وَأَفْضَلُ وَأَوْجَبُ مَا
اكْتَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ وَحَصَّلَتْهُ النُّفُوسُ وَأَدْرَكَتْهُ الْعُقُولُ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَذَلِكَ الرَّسُولُ وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ لَمْ يُحْكِمُوا هَذَا الْبَابَ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا.
وَمِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ وَقَالَ: {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ}
وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا: {مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ} .
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا.
وَقَالَ {عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ؛ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ
حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمُحَالٌ مَعَ تَعْلِيمِهِمْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ - وَإِنْ دَقَّتْ - أَنْ يَتْرُكَ تَعْلِيمَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي رَبِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي مَعْرِفَتُهُ غَايَةُ الْمَعَارِفِ وَعِبَادَتُهُ أَشْرَفُ الْمَقَاصِدِ وَالْوُصُولُ إلَيْهِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ.
بَلْ هَذَا خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَزُبْدَةُ الرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ إيمَانٍ وَحِكْمَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ
بَيَانُ هَذَا الْبَابِ قَدْ وَقَعَ مِنْ الرَّسُولِ عَلَى غَايَةِ التَّمَامِ) [مجموع الفتاوى 5/ 6]


وإى هذا الحد ثبت امتناع كونه صلى الله عليه وسلم ترك تعليم أمته أسماء الله وصفاته، فكيف لم يقع
هذا العلم للأمة، ثم هل يمكن أن يكونالصحابة رضوان الله
عليهم قد قصروا في هذا الباب؟ يجيب شيخ الإسلام متابعاً:
(ثُمَّ إذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ: فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ أُمَّتِهِ
وَأَفْضَلُ قُرُونِهَا قَصَّرُوا فِي هَذَا الْبَابِ زَائِدِينَ فِيهِ أَوْ نَاقِصِينِ عَنْهُ. ثُمَّ مِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ - الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - كَانُوا غَيْرَعَالِمِينَ وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ لِأَنَّ ضِدَّ ذَلِكَ إمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَإِمَّا اعْتِقَادُ نَقِيضِ الْحَقِّ وَقَوْلِ
خِلَافِ الصِّدْقِ. وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ
مَطَالِبِهِ؛ أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ لَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ. وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ الصَّحِيحَةُ إلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ
بِالْفِطْرَةِ الوجدية فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا الْمُقْتَضِي - الَّذِي هُوَ مَنْ أَقْوَى الْمُقْتَضَيَاتِ - أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ السَّادَةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ هَذَا
لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي أَبْلَدِ الْخَلْقِ وَأَشَدِّهِمْ إعْرَاضًا عَنْ اللَّهِ وَأَعْظَمِهِمْ إكْبَابًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَكَيْفَ
يَقَعُ فِي أُولَئِكَ؟ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ فِيهِ غَيْرَ الْحَقِّ أَوْ قَائِلِيهِ: فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمٌ
وَلَا عَاقِلٌ عَرَفَ حَالَ الْقَوْمِ) [ مجموع الفتاوى 5/159]

بَعْضُ لَوَازِمِ هَذَا الْمَهَبِّ الْخَبِيثِ !

* يُلْزِمُ مِنْ مُذَهَّبِ التَّفْوِيضِ لَوَازِمِ بَاطِلَةٍ ، مِنْهَا :
1-الْقَدْحَ فِي الرَّبِّ جَلَّ وَعلا , وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيمَ, وَفِي الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونُ اللهُ تَعَالَى أَنَزَلَ كَلاَمَا لَا يُفْهِمُ ،
وَأُمِرُّ بِتَدَبُّرِ مَا لَا يَتَدَبَّرُ ، وَبِعُقُلِ مَالَا يُعْقِلُ ، وَأَنْ يَكُونُ القرآن الَّذِي هُوَ النَّوَرُ الْمُبِينُ وَالذَّكَرُ الْكَرِيمُ سَبَبَا لأنواع الْاِخْتِلاَفَاتِ وَالضَّلاَلَاتِ ،
بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَكَأَنَّه بِغَيْرَ لُغَتَهُمْ ، وَأَنْ يَكُونُ الرَّسُولُصَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ لَمْ يُبْلَغْ الْبلاغُ الْمُبِينُ ، وَلَا بَيْنَ لِلْنَاسِ مَا نُزُلُ إِلَيهُمْ ، وَبِهَذَا
تَكَوُّنَ قَدْ فَسَدَتْ الرِّسَالَةُ ، وَبَطُلَتْ الْحِجَّةُ ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُتَجَرَّأْ عَلَيه صناديدَ الْكَفْرِ .

2- أَنْ يَتَسَلَّطَ المتأولة عَلَى الْمُفَوَّضَةِ فَيَنْسُبُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِلَى السَّلَفِ ، فَيَكُونُ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَخيارَ التَّابِعِينَ بِمَنْزِلَةِ الأميين الَّذِينَ لَا يُعْلِمُونَ
الْكِتَابَ إلّا أماني ، شُغْلَهُمْ الْجِهَادَ وَفَتْحَ الْبِلادِ عَنْ التدبر فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَقْلَهُ وَفَهِمَهُ ، فَقَالَ المتأخرون قَوْلَتَهُمْ المشئومة :
(طَرِيقَةُ السَّلَفُ أَسَلْمَ وَطَرِيقَةً الْخَلَفَ أَعلمَ وَأَحْكَمَ )، بَلْ طَرِيقَةُ السَّلَفُ أَسَلْمَ وَأَعْلَمَ وَأَحْكَمَ ، وَمَا أَمْتَازُ عَنْهُمْ المتأخرون إلّا بالتكلف وَالْاِشْتِغالَ بالأطراف الَّتِي
كَانَتْ هِمَّةُ الْقُوَّمِ مُرَاعَاةَ أُصَوِّلُهَا وَضَبْطَ قَوَاعِدِهَا ، وَشَدَّ معاقدها ، وَهِمَمَهُمْ مشمرة إِلَى الْمُطَالِبِ الْعَالِيَّةِ فِي كُلَّ شَيْءَ فالمتأخرون فِي شأن ، وَالْقَوْمَ فِي شأن
آخر ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُلَّ شَيْءَ قَدِرَا .
3-اِسْتِطالَةَ نفاةِ الْمَعَادِ – وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمَلاَحِدَةِ – عَلَى الْمُفَوَّضَةِ فَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ : الْحُقُّ فِي نَفْسُ الْأَمْرِ مَا عَلْمَتُهُ برأيي وَعَقْلَي ، وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ
مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ ، لَأَنْ تِلْكَ النُّصُوصِ مُشَكَّلَةً وَمُتَشَابِهَةً لَا يُعْلِمُ أَحَدَّ مَعَنَاهَا ، وَمَا لَا يُعْلِمُ مَعَنَاهُ لَا يَجُوزُ الاستدلال بِهِ ، فَيَبْقَى هَذَا الْمُذَهَّبُ ( التَّفْوِيضِ )
سداً لُبَابَ الْهُدى وَالْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ الأنبياء ، وَفَتَحَا لُبَابَ مِنْ يُعَارِضُهُمْ مِنْ أَهَلِّ الضَّلاَلَاتِ مِنْ الْفَلاَسِفَةِ , وَالْمَلاَحِدَةَ الْباطِنِيَّةَ ، وأصحاب الأذواق
والمواجيد والتأويلات الشَّنِيعَةَ .
وَبِهَذَا علمُ بِطَانِ مُذَهَّبِ الموضة الَّذِينَ يُفَوِّضُونَ علمَ مَعَانِي نُصُوصِ الصِّفَاتِ ، وَيَدْعُونَ أَنْ هَذَا مُذَهَّبِ السَّلَفُ
، وَالسَّلْفَبريئون مِنْ هَذَا الْمُذَهَّبُ ، كَيْفَ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُمْ الإقوال بإثبات الْمَعَانِي لِهَذِهِ الصِّفَاتِ
إجمالاً وَتَفْصِيلَا أحيانً ، وَتَفْوِيضَهُمْ الْكَيْفِيَّةَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلِ ، كَمَا قَدْ سَبَّقَتْ
الإشارة إِلَى ذَلِكَ .
هَذَا وَاللهُ أَعلمَ وَصَلَى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدَ وَعَلَى آله وَصَحْبَهُ وَسَلْمَ



وَكُتُبُهُ / أَبُو يَعْلَى بُنُّ بِكْرِ الْمَقْدِسِيِّ



_______________المراجع_______________

1/ درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الدكتور: محمد رشاد سالم.

2/ مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية

3/ الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لشيخ الإسلام ابن القيم، تحقيق الدكتور: على الدخيل الله، ط دار العاصمة.

4/شرح الطحاوية، لإبن ابي العز الحنفي، ط دار الرسالة

5/ تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ، تحقيق سامي سلامة، ط دار طيبة.

6/ تفسير السعدي، ط دار الرسالة

7/ -مختصر- كتاب مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات، للدكتور أحمد القاضي، ط دار ابن الجوزي.

8/ منهج الإستدلال على مسائل الإعتقاد ، للشيخ عثمان حسن، ط مكتبة الرشد.

9/ القواعد المثلى للشيخ محمد بن صالح العثيمن، مع شرحه للشيخ البراك، ط دار التدمرية.