المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترتيب شرح العقيدة الطحاوية



أهــل الحـديث
12-02-2013, 01:10 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




شَرْحِ الْعَقِيدَةِ الطحاوية



فَضِيلَةِ الشَّيْخُ الدكتور سَفَرٍ بن عَبْد الرَّحْمَن الْحَوَالِي



تَرْتِيبِ وتنسيق



أَبِي الْحَسَنُ الْعِرَاقِيُّ الْأَثَرِيُّ





بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنُ الرَّحِيمِ



مُقَدَّمَة الشَّرْحِ


إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديه ونستغفره، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنُفْسِنَا ومِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، اللَّهُمَّ عَلِمْنَا مَا يَنْفَعُنَا ، وانفعنا بِمَا عَلَّمْتَنَا ، وَارْزُقْنَا مَنْ كَرَمِك وَإِحْسَانُك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مَنْ عِلْمِ لاَ يَنْفَعُ ، وَمَنٍّ قُلِبَ لاَ يَخْشَعُ ، وَمَنٍّ عَيْنٍ لاَ تَدْمَعُ ، وَمَنٍّ دَعْوَةُ لاَ يُستجابُ لَهَا .
نَبْدَأُ بعونِ اللَّه فِي موضوعِ شَرحِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْقِيمَةِ الْمُبَارَكَةِ ، عَقِيدَةِ الإِمَام أَبِي جَعْفَرٍ الطحاويّ الْأَزْدِيُّ الْمِصْرِيُّ الْحَنَفِيُّ .



عِبْرَة مَنْ حَيَاةِ الطَّحَاوِيُّ




الإِمَام الطّحاويّ كَانَ ابْنَ أُخْتِ الْمُزَنِيّ صَاحِبُ الشَّافِعِيّ، وَنَفَعَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَمَعْ ذَلِكَ لَمَّا بَدَا لَهُ أن الْحَقَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَارَ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَمَعْ ذَلِكَ أيضاً لَمْ يَكُنْ متقيداً بِكُلِّ مَا وَرَدٌّ فِي الْمَذْهَبِ ؛ بَلْ كَانَ يُفتي بِخِلَافِهِ.
وَلَمًّا سُئل: لِمَاذَا تُفْتِي بِخِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَنْت عَلَى مَذْهَبِهِ ؟!!
قَالَ: (وَهَلِ مَنْ مُقَلِّدٌ إلَّا غَبِيٌّ ) .
يَعْنِي أن رائده الْعِلْمُ وَهَدَفِهِ هُوَ الْبَحْثِ عَنْ الدَّلِيلُ ، وَاتِّبَاعَ الْحَقَّ مَعَ أَيّ إمَامُ كَانَ ، وَتَحْتِ أَيّ شِعَارَ ، وُفِّيَ أَيّ كُتَّابِ .
وَلِهَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مُؤَلَّفَاتِ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى سَعَتِهِ فِي الْعِلْمُ .
وَقَدَ كَتْبِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ لِيُبَيِّنَ عَقِيدَةِ الإِمَام أَبَى حَنِيفَةَ وتلميذيه أَبِي يُوسُف ومُحَمَّد بن الْحَسَنُ ، وَلِيَقُولَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْحَنَفِيَّةِ - وَهْمٍ أَكْثَرِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أتباعاً -:
إن الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ هِيَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أياً كَانَ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ الإِنسَانُ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أن يَعْتَقِدُ إلَّا هَذِهِ الْعَقِيدَةِ .ثُمَّ بَعْدُ ذَلِكَ تَبْقَى أَحْكَامِ الْفِقْهِ -وَخَاصَّةً الِاجْتِهَادِيَّةِ مِنْهَا أَوْ النَّظَرِيَّةِ الْمَحْضَةِ - فَلاَ حَرَجَ عَلَى أَحَدُ أن يَتَّخِذَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ متمشياً مَعَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأُصُولُ الْعَامَّةِ مَادَامَ أهلاً لأَنَّ يَجْتَهِدَ .



عِبْرَةمَنْ حَيَاةِ ابْنَ أَبِي الْعِزِّ



وَمَنٍّ الْعِبَرِ الَّتِي يَنْبَغِي أن نكتسبها مَنْ حَيَاةِ الإِمَام ابْنَ أَبِي الْعِزِّ : أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاهَدَ فِي اللَّه جهاداً كبيراً مَنْ أَجَلٍ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ ، وَقَدَ أَدَّى تَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي شَرْحِهَا إِلَى أن يضطهد وَيُسْجَنُ ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى " قَاضِيٌّ الْقُضَاةِ " أَيّ أَكْبَرُ الْقُضَاةِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ لاَ يَجُوزُ أن يُسمى بِهِ .
وولي قَضَاء مِصْرَ فَكَانَ الْقَاضِي الْأَكْبَرِ فِي دُولَةً الْمَمَالِيكِ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُ أُمَرَاءِ الْمَمَالِيكِ فَقَالَ قَصِيدَةٍ -إمَّا أَنَّهُ قالها أَوْ أَنَّهَا قِيلَتْ لَهُ - وكان فِيهَا شِرْكٌ وَغُلُوٌّ ،، وُفِّيَ الْقَرْنِ الثَّالِثُ وما قُبُلِهِ وَبُعْدِهِ كَثَرٍ الْغُلُوِّ فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّرْكِ فِي كَلَام الشُّعَرَاءِ ، فَأَنْكَرَ الإِمَام الْقَاضِي ابْنَ أَبِي الْعِزِّ مَا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَنْ الشِّرْكِ ، وَلَمَّ يُبَالِ بِأَنَّ قَائِلِهَا مَنْ الْأُمَرَاءِ وَالْأَسِرَّةِ الْحَاكِمَةَ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، وُفِّيَ الْحَدِيثَ ((إن مَنْ أَعْظَمُ الْجِهَادِ كَلِمَة حَقٌّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ))[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه]، فَلَمَّا قَالَ كَلِمَة الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وبيّن مَا فِيهَا مَنْ الشِّرْكِ ؛ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أن يَعْزِلَ مَنْ مَنْصِبِهِ ويضطهد وَيَفْقِدَ الْجَاهِ .
ولكنه - وَهَذًّا هُوَ الْأَهَمُّ - لَمْ يُفْقَدُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَى مَا يَمْلِكُ الإِنسَان، فَمَهْمَا فَقَدْ مَنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا ومناصبها وَمَتَاعِهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ بفاقدٍ حقيقةً، إلَّا إِذَا فَقَدْ الْعَقِيدَةِ الْحِقَّةِ الَّتِي يَدِينُ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا .


شُبُهَات حَوْلَ تَعْيِينِ شَارِحُ الْكِتَابَ


وَقَدَ أُثِيرَ سُؤَالِ وَهْوَ أَنَّهُ يُقَالَ: إن شَارِحُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مَجْهُولٌ ؟
وَالْحَقِيقَةَ أن هُنَاكَ لبساً حَصَلَ فِي نِسْبَةَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ ، سَبَبِهِ أن بَعْضٍ مخطوطاتها لَمْ يَكُنْ مكتوباً عَلَيْهَا اسْمَ الْمُؤَلِّفُ .
وَالشَّيْخَ أَحْمَدَ شَاكِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ طَبْعَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ -الطَّبْعَةُ الْقَدِيمَةِ - بِنَاءً عَلَى نُسْخَةٍ عَثَرَ عَلَيْهَا فِي مكتبة الْحَرَمِ فِي مَكَّةَ الْمَكْرُمَةِ ، وَلَمَّ يَكُنْ عَلَيْهَا اسْمَ الْمُؤَلِّفُ ، لَكِنْ الْعَقِيدَةِ نَفْسِهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا لِلْإِمَامِ ابْنَ أَبِي الْعِزِّ ، وَأَنَّهُ الَّذِي شَرْحِهَا شرحاً سلفياً.



الْأَدِلَّةِ عَلَى أن مُؤَلَّفٌ شَرْحِ الطحاوية هُوَ ابْنَ أَبِي الْعِزِّ

أن الزُّبَيْدِيِّ فِي شَرْحِ إحْيَاءِ عُلُومِ الدّيْن " نُقِلَ قسماً كبيراً مَنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَنَسَبَهَا إِلَى ابْنَ أَبِي الْعِزِّ ، وَالزُّبَيْدِيُّ مَنْ أَكْبَرُ الْعُلَمَاءِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ إحَاطَةِ وعلماً بِالرِّجَالِ وبالمخطوطات - لاَ سِيَّمَا وَقَدَ كَانَ فِي مِصْرَ ، حَيْثُ اجْتَمَعَ لَهُ أَكْبَرُ قَدَرٍ مَنْ المخطوطات - وَهَذًّا كَانَ قُبُلٌ قُدُومُ الحملات الاستعمارية الَّتِي نُهِبَتْ مكتباتنا وثرواتنا الْعِلْمِيَّةِ ، وَأَوْدَعَتْهَا فِي خَزَائِنِ ومكتبات أوروبا. واعتماداً عَلَى هَذَا رَجَّحَ الشَّيْخُ أَحْمَدَ شَاكِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا لِهَذَا الشَّارِحُ .
وممن أَثَارَ ضِدُّ هَذَا الشَّارِحُ الشُّبُهَاتِ الْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ تَعَرَّضَ لَهُمْ ، فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ كالصوفية وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ ، فَكَانَ طبيعياً أن يَنْشُرُ هَؤُلاءِ أن هَذِهِ الْعَقِيدَةِ لَيْسَتْ ذَاتٌ أَهَمِّيَّةِ لأَنَّ مُؤَلِّفِهَا مَجْهُولٌ .
وجدت المخطوطات فِي تُرْكِيًّا -النَّسْخِ التُّرْكِيَّةِ - مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا اسْمَ الْمُؤَلِّفُ بِوُضُوحِ .


سَبَبٌ إخْفَاءُ اسْمَ الْمُصَنِّفُ

وَالنَّسْخِ الَّتِي لَمْ يُوجَد عَلَيْهَا اسْمَ الْمُؤَلِّفُ يُمْكِنُ تَفْسِيرِهَا عَلَى ضَوْءِ الْمِحْنَةِ الَّتِي حَدَثَتْ لَهُ ؛ لأنَّ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -مثلاً- سُجن مِراراً ومات فِي السِّجْنِ ، وَكَثِيرِ مَنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ لمقاومة الشِّرْكِ ذهبوا ضَحِيَّةٌ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةِ وَذَلِكَ الْجِهَادِ ، فَكَانَ هُنَاكَ اضطهاد أَوْ نَوْعٍ مَنْ الاضطهاد لِمَنْ يَدِينُ بالعقيدة الصَّحِيحَةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مَنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ أولاً، وَمَنٍّ السَّلَاطِينِ ثانياً. فَنَتِيجَةٌ لِذَلِكَ لاَ يُستغرب أن تُوجَدُ نُسِخَ مَنْ الْعَقِيدَةِ لَيْسَ مكتوباً عَلَيْهَا اسْمَ الْمُؤَلِّفُ ، لأَنَّهُ فِي فَتْرَةٌ الاضطهاد الَّتِي يَتَعَرَّضْ لَهَا بَعْضٍ الْعُلَمَاءِ تَحْمِلُ كُتُبَهُمْ ، ولا يَكْتُبُ عَلَيْهَا أَسْمَاؤُهُمْ ، وهذه الْحَالُ حَصَلَتْ لِبَعْضِ كَتْبِ شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَيَكْفِيَ طَالِب الْعِلْمُ الَّذِي حَوَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أن يَقْرَأْهَا وَإِنْ كَانَ لاَ يَعْرِفْ مَنْ هُوَ مُؤَلِّفِهَا ، وَالشَّاهِدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أن لاَ نغفل الْوَاقِعِ الَّذِي كَانَ يُعِيشُهُ الْعَالِمُ أَثْنَاءِ كِتَابَته لِلْعِلْمِ ، وَالظُّرُوفِ الَّتِي كَانَتْ تَلُمْ بِهِ وما يَتَعَرَّضْ لَهُ مَنْ الْأَذَى فِي كِتَابَته أَوْ فِي وصول عِلْمِهِ إلَيْنَا .
وَمَنٍّ الْأَدِلَّةِ عَلَى أن الْمُؤَلِّفُ هُوَ ابْنَ أَبِي الْعِزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أن السَّخَاوِيُّ - وَهْوَ الإِمَام الْمُؤَرَّخِ وَالْمُحْدِثِ الْمَعْرُوفِ - كَتْبِ ذيلاً عَلَى تَارِيخِ الإِسْلاَم لِلْإِمَامِ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ ذَيْلِ تَارِيخِ الإِسْلاَم ، وكمَّل الشَّخْصِيَّاتِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدُ وَفَاةُ الذَّهَبِيُّ أَوْ تُوُفِّيَتْ قريباً مَنْ وَفَاتُهُ ، فَأَكْمِلْ أَسْمَاءِ هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءِ وأرَّخ لَهُمْ ، ومنهم الإِمَام ابْنَ أَبِي الْعِزِّ .
وهذه الصُّورَةِ مَنْ كُتَّابِ السَّخَاوِيُّ مَوْجُودَةٌ فِي نُسْخَةٍ مُقَدَّمَةٌ الْكِتَابَ مَنْ تَحْقِيقِ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَاصِرُ الدّيْن الألباني. يَقُوْل : "وُفِّيَ ذي الْقَعْدَةِ الْعَلَامَةُ -يَعْنِي تُوُفِّيَ الْعَلَامَةُ - الصَّدْرِ عَلَيَّ بن الْعَلَاءِ عَلَيَّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَبِي الْعِزِّ الدِّمَشْقِيِّ قَاضِيهَا -يَعْنِي قَاضِيٌّ دِمَشْقَ - الْحَنَفِيُّ شَارِحُ عَقِيدَةِ الطحاويّ ".
وبذلك لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ أَيّ شُبْهَةٌ يَصِحُّ أن تُثَارُ حَوْلَ مُؤَلَّفٌ الْكِتَابَ ، عَلَى أَنَّنَا نَعْلَمُ جميعاً أن الَّذِي يهُم فِي أَيّ كُتَّابِ هُوَ محتواه وَمَضْمُونِهِ ، لَكِنْ الْمُبْتَدِعَةِ قَدْ يشككون فِي الْمُؤَلِّفُ لِيُصَلُّوا بِذَلِكَ إِلَى التَّشْكِيكِ فِي الْكِتَابَ نَفْسَهُ ، وَإِلاَّ فالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ أَيّ رَيْبَ فِي أن هَذَا هُوَ الْمُؤَلِّفُ .
وَمَنٍّ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ نِسْبَةَ الْكِتَابَ أَنَّهُ فِي بَعْضٍ الْمَوَاضِعِ -وستأتي مَعَنَا إن شَاءَ اللَّه - يَقُوْل : وَقَالٍ شَيْخُنَا الْحَافِظُ ابْنَ كَثِير ، وَمَعْرُوفٌ أن ابْنَ أَبِي الْعِزِّ كَانَ مَنْ الْخُلَّصِ وَالْخِيَرَةُ فِي تَلَامِيذُ الْحَافِظُ ابْنَ كَثِير رَحِمَهُ اللَّهُ -صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ -وكذلك النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وشَيْخِ الإِسْلامِ ابنُ الْقَيِّمُ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُشِرْ إلَيْهِمَا ، وَالشَّيْخَ عَبْدٌ الرَّزَّاقِ عفيفي اطَّلَعَ وأكَّد بَعْضٍ هَذِهِ الْإِحَالَاتِ .


حَقِيقَةً الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ



هَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ -عَقِيدَةِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- عَقِيدَةِ إجْمَاعِيَّةٌ لَيْسَتْ عَقِيدَةِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولا عَقِيدَةِ ابْنَ الْقَيِّمُ ولا أَحْمدُ بُن حَنْبَل؛ بَلْ هِيَ عَقِيدَةِ الصَّدْرِ الْأَوَّلَ ، عَقِيدَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ جميعاً.
وَلَكِنَ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ جَمَعَ كثيراً مَنْ النُّقُولِ ، وهذَّب ورتَّب وَخَاضَ فِي قضايا كَلَامِيَّةٌ حَدَثَتْ بَعْدُ الصَّدْرِ الْأَوَّلَ ، فَأَجَادَ فِي رَدَّ الشُّبُهَاتِ وَعَرْضُ الْمَسَائِلِ .
وَتَكُون الْمَسْأَلَةِ هِيَ عَقِيدَةِ السَّلَفِ مَنْ قَدِيمُ ، لَكِنْ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ يُحسن عَرْضُهَا ويُحسن الدِّفَاعِ عَنْهَا بِعَرْضِ الشُّبُهَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ نَقْضِهَا شُبْهَةٌ شُبْهَةٌ ، وكذا ابْنَ الْقَيِّمُ .
فَنَتِيجَةٌ لِلْعَصْرِ وَالضَّغْطُ الَّذِي كَانَ يُعَانِيهِ ابْنَ أَبِي الْعِزِّ لَمْ يَكُنْ مَنْ الْمَصْلَحَةِ أن يُشِيرُ إلَيْهِمَا .
فالمبتدعة يَنْظُرُونَ إِلَى أن أَيّ كَلَام يَقُولُهُ ابْن تَيْمِيَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَهَذًّا مَنْ أَكْبَرُ الْجَهْلِ وَأَرْذَلُ أَنْوَاعِ التَّعَصُّبِ.
فَكَانَ إِذَا قَيْلَ قَالَ ابْن تَيْمِيَّةَ ... رَدُّوهُ ، وَإِذَا رَأَوْا كتاباً مَنْ كَتْبِ ابْن تَيْمِيَّةَ ... لَمْ يَقْبَلُوهُ إطلاقاً؛ بِحَيْثُ أَنَّك لَوْ جِئْت إِلَى مَسْأَلَةِ وَلَمَّ تَذَكَّرَ ابْن تَيْمِيَّةَ.
فَقُلْت : قَالَ بَعْضٍ الْمُحَقِّقِينَ ؛ لَوَجَدْت قبولاً وَلَقِيلَ : هَذَا التَّحْقِيقِ جَيِّدٌ .
فَهُنَا تَجَلَّتْ مَهَارَةً الشَّيْخُ الْقَاضِي ابْنَ أَبِي الْعِزِّ ، بِأَنَّهُ رَاعَى جَانِبِ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الْأَمَانَةِ الْعِلْمِيَّةِ مَنْ الْعَزْوِ إلَيْهِمَا .


سَبَب اخْتِيَارُ عَقِيدَةِ السَّلَفِ

عقيدةُ السَّلَفِ أَوْ عقيدةُ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لاَ يَخْتَارُهَا طَالِب الْعِلْمُ تشهياً، وَإِنَّمَا هِيَ الْعَقِيدَةِ الَّتِي يَجِبُ أن تَعْتَقِدُ ، ولا يَجُوزُ أن يَتَعَبَّدُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِغَيْرِهَا .
نَقُولُ ذَلِكَ واثقين؛ لأَنَّ هَذَا الْحُكْمُ شَرْعِيٍّ قَطْعِيُّ لاَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أن يُخالف فِيْهِ ، وَلَدَيْنَا مَنْ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مَا هُوَ كافٍ -بِإِذْنِ اللَّه - لإزالةِ كَلّ شُبْهَةٌ ، وَدَحْضِ كلِ افْتِرَاءٌ ، فَهَذِهِ الْعَقِيدَةِ لَهَا مَنْ المميزاتِ الْعَظِيمَةِ مَا يؤهلها وَيَجْعَلَهَا الْعَقِيدَةِ الوحيدة، الَّتِي لاَ يَجُوزُ أن نَتَعَبَّدْ بِغَيْرِهَا ولا يُعتقد غَيْرِهَا .


مَنْ خَصَائِصِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ


أَنَّهَا الْعَقِيدَةِ الوحيدة الرَّبَّانِيَّةِ -رَبَّانِيَّةٌ الْمَصْدَرِ - وُكِلَ عَقِيدَةِ غَيَّرَ عَقِيدَةِ السَّلَفِ تَجِدْ مَصَادِرِهَا إمَّا مَنْ كَلَام الْيُونَانِ ، وإما مَنْ كَلَام مَا يُسَمُّونَ بالحكماء الْقُدَمَاءِ ، وإما مَنْ كَلَام دُعَاةٌ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ ، إلَّا هَذِهِ الْعَقِيدَةِ فَإِنَّهَا نَقِيَّةً صَافِيَةً لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدُ ولا عَنْ بَشَرٌ إلَّا الْفَهْمِ الَّذِي يَفْهَمُهُ بَعْضٍ الْعُلَمَاءِ مَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ ، فمصدرها هُوَ الْوَحْيِ.
فَكَمَا أن الإِسْلاَم هُوَ الدّيْن الرَّبَّانِيِّ الْوَحِيدُ فِي الأَرْض الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَحْيِ ، وَلَكِنَ يَجْتَهِدَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّفْرِيعَاتِ فِي بَعْضٍ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ لِيُطَبِّقُوهَا عَلَى ضَوْءِ الْأُصُولِ الْمَنْزِلَةِ ، فَكَذَلِكَ عَقِيدَةِ السَّلَفِ هِيَ بِأُصُولِهَا الْعَامَّةِ ، عَقِيدَةِ رَبَّانِيَّةٌ مَصْدَرُهَا الْوَحْيِ ؛ لَكِنْ تَجِدْ بَعْضٍ الْمَسَائِلِ يُجتهد فِيهَا مَنْ خِلَالِ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ رَبَّانِيَّةٌ الْمَصْدَرِ .
وَلَهَذَا قَيْلَ: إن أَهْلٌ السُّنَّةِ فِي أَهْلٌ الإِسْلاَم مِثْلِ أَهْلٌ الإِسْلاَم فِي سَائِرِ الْمَلَّل، فالعقيدة السَّلَفِيَّةِ هِيَ كُتَّابِ اللَّه وَسُنَّةً رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَهِمَهُ الْجِيلُ الْأَوَّلَ ، فَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ حَقِيقَةً الإِسْلاَم ، فَكُلُّ ميزة مَنْ ميزات الإِسْلاَم فَهِيَ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ . وَهْيَ عَقِيدَةِ إجْمَاعِيَّةٌ. فَكُلُّ الْعَقَائِدِ الْأُخْرَى عَقَائِدِ أَشْخَاصٍ وَأَفْرَادُ ، فَالِاعْتِزَالُ يَعْرِفْ بِالتَّارِيخِ الْعَامِّ المحايد ؛ وَذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ مَن هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَنْشَأَ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وكذا الْأَشْعَرِيَّةِ ، بَلْ وَنَأْخُذُ الْقَضَايَا الْعِلْمِيَّةِ -مثلاً- فَنَعْرِفُ مَنْ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ، وَأُوِّلَ مَنْ قَالَ بِالْكَسْبِ فِي الْقَضَاءَ وَالْقَدَرُ ، فَنَعْرِفُ بِالتَّارِيخِ المحايد الْعَامِّ مَتَى بَدَأْت هَذِهِ الْعَقِيدَةِ ، إلَّا عَقِيدَةِ السَّلَفِ -والْحَمْدُ لِلَّهِ- لأَنَّهَا هِيَ نَفْسٍ القُرْآن وَالسَّنَةِ وَتَرْبِيَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَهْمُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّه عَلَيْهِمْ ، فَنَجِدُ هَذَا الْقَوْلَ فِي كُتَّابِ اللَّه وُفِّيَ سَنَةً رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولا يُوجَد بَيْنَ أُصُولِ مَذْهَبِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَيّ أَصْلِ أبداً حَدَثَ بَعْدُ هَذِهِ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ ، أَوْ حَدَثَ مَنْ غَيَّرَ الْكِتَابَ وَالسَّنَةِ ، فَهِيَ إذاً عَقِيدَةِ إجْمَاعِيَّةٌ.
أَمَّا غَيْرِهَا فَهِيَ عَقَائِدِ أَشْخَاصٍ وَأَفْرَادُ قَدْ يَكُون لَدَيْهِمْ مَنْ الذَّكَاءِ وَالِامْتِيَازُ الذِّهْنِيِّ وَالتَّعَمُّقِ الْعَقْلِيِّ الشَّيْءَ الْكَثِيرِ ، لَكِنْ يُخَالِفُهُمْ فِي عَقْلِهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلَهُمْ عقلاً وفهماً.
بَلْ كَثِير مَنْ مؤسسي الْعَقَائِدِ الْبِدْعِيَّةِ نشؤوا وماتوا مَقْهُورِينَ مُحْتَقَرَيْنِ ، فَإِن الْجَعْدِ بن دِرْهَمٍ الَّذِي جَاءَ بِبِدْعَةٍ نَفْيِ الصِّفَاتِ قَتْل .
وَقَالٍ خَالِدٍ بن عَبْدٌ اللَّه الْقَسْرِيُّ وَهْوَ مَنْ وُلَاةُ بَنِي أُمَيَّةَ: ((أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ انْحَرُوا ضَحَايَاكُمْ -تُقْبَلُ اللَّه مِنْكُمْ - فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بن دِرْهَمٍ ، فَإِنَّهُ أَنْكَرَ أن اللَّه كلَّم مُوسَى تكليماً)) ، وَذَبْحُهُ وَنَحَرَهُ يَوْم النَّحْرِ ، والْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ يَنْظُرُونَ ، وارتاحت صُدُورِهِمْ لِذَلِكَ. وَهَذًّا الرَّجُلِ أَصْلِ نَشْأَةً تَعْطِيلِ (نَفْيِ ) الصِّفَاتِ .
وَتِلْمِيذُهُ الْجَهْمِ بن صَفْوَانَ قُتِلَ كَمَا قُتِلَ الْجَعْدِ ، حَتَّى لَمَّا جِيءَ بِهِ إِلَى سَلَّمَ بن أحوز وكان عَلَى شَرْطَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فِي خُرَاسَانَ قَالَ: لاَ تَقْتُلْنِي أَرْجُوك ؟!!
فقَالَ: وَاَللَّه يَا جَهْمٍ مَا أَقْتُلُك لِأَنَّك ذو شَأْنِ فِي السِّيَاسِيَّةِ أَوْ الْمُعَارَضَةِ ضِدُّ الدَّوْلَةِ ، لَكِنْ بَلَغَتْنِي عَنْك أَقْوَالٍ أَقْسَمْت بِاَللَّهِ إن مَكَّنَنِي اللَّه مِنْك لأضربنَّ عُنُقَك .
وَهْوَ الَّذِي أُسِّسَ الْعَقِيدَةِ الْجَهْمِيَّةِ . وأيضاًعبد اللَّه بن سَعِيدٍ بن كِلَابٍ الَّذِي أُسِّسَ عَقِيدَةِ الْكِلَابِيَّةِ وَالْتَزَمَهَا الْأَشْعَرِيِّ فِي الْفَتْرَةِ الثَّانِيَةُ مَنْ حَيَاتِهِ قُبُلٌ أن يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وكذاالحارث الْمُحَاسِبِيُّ وكان لَهُ مَيْلُ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالْكَلَام ، أَمْرٌ الإِمَام أَحْمدُ بن حَنْبَل بهجرهما فهجرا ، وَلَمَّ يَكُنْ يَقْرَبْهُمَا مَنْ طُلَّابُ الْعِلْمُ إلَّا الْقَلِيلِ النَّادِرِ ؛ لِهَجْرِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ لَهُمْ ، وَعَلَى رَأْسَهُمْ الإِمَام أَحْمَد.
وكذلك عَمْرٍو بن عُبَيْدٍ وواصل بن عَطَاءٍ ، وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ أَسَّسُوا مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ ، اتَّفَقَتْ كَتْبِ الْجُرْحِ وَالتَّعْدِيلُ عَلَى الْقَدَحِ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ .
فَأَيُّ عَقِيدَةِ غَيَّرَ عَقِيدَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِنَّمَا هِيَ مُحْدَثَةٌ بَعْدُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا ، وكانت مُحْتَقَرَةٌ ومهجورة مَنْ عُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الدّيْن .
وَمُنْذُ الْقَرْنِ الثَّالِثُ تقريباً إِلَى الْيَوْمِ ، يَتْبَعُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وبطبيعة الْحَالُ فَإِن الشَّافِعِيّ وَالْمُزَنِيُّ والأسفرائيني وَالْأَصْبَهَانِيّ الَّذِي أَلْفَ كُتَّابِ بَيَانُ الْحُجَّةُ ، عُلَمَاءِ وَرَاءٍ عُلَمَاءِ ، وَطَبَقَاتِ وَرَاءٍ طَبَقَاتٍ ، فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ، كلهم عَلَى مَذْهَبِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وكذلك تَجِدْ الإِمَام أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وكان مُحَمَّد بن الْحَسَنُ الشَّيْبَانِيِّ وأبو يُوسُف كَذَلِكَ ، ثُمَّ جَاءَ الإِمَام أَبُو جَعْفَرٍ الطّحاويّ الَّذِي وَضَعْ مَتْنِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَهْوَ مَنْ الْحَنَفِيَّةِ .
وهكذا كَثِير مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهْمٍ مَنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ هُمْ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ .
ثُمَّ مَذْهَبِ الإِمَام مَالِكٌ وَهْوَ إمَامُ أَهْلٌ الْأَثَرِ جميعاً ، وَهْوَ عَلَى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الْحَمْدُ - وتلاميذه كَابْنٍ الْقَاسِمِ وَابْن الْحَسَنُ وَأَمْثَالِهِمْ ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ كَابْنٍ عَبْدٌ الْبَرِّ وَهْوَ مَنْ أَكْبَرُ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ وَكَتْبِهِ مَعْرُوفَةٌ وَمَشْهُورَةٌ ، كانوا كلهم عَلَى مَذْهَبِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. ثُمَّ الإِمَام أَحْمَد -إمَامُ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وكذلك أَتْبَاعِهِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَنْهَجِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى الْقَرْنِ الْعَاشِرُ وَرُبَمَا إِلَى الْيَوْمِ .
وهكذا نَجِدُ الإِمَام الشَّوْكَانِيِّ و الصنعاني وَابْن الْوَزِيرُ وَأَمْثَالِهِمْ مَنْ عُلَمَاءِ الزَّيْدِيَّةِ ، لَمَّا تَوَسَّعُوا فِي الْعِلْمُ وتبحروا، انْتَقَلُوا مَنْ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ .
فَالشَّاهِدُ أن هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إجْمَاعِيَّةٌ مَنْ عِدَّةِ نَوَاحِي :
أ- أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ غَيْرِهَا فِي الْقُرُونِ الأُوْلَى ، وما وَجَدٌّ فِي تِلْكَ الْقُرُونِ مَنْ عَقِيدَةِ فَاسِدَةٌ فَإِنَّهَا مرذولة مَرْدُودَةٌ ؛ لأَنَّ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ كَأَصْحَابِ الْأُمَّهَاتِ السِّتِّ ، حَتَّى أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الْكِبَارِ كانوا عَلَى مَذْهَبِ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الْحَمْدُ -.
ب- وَلَأَنَّهَا الْعَقِيدَةِ الوحيدة الَّتِي يُمْكِنُ أن يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَالَّتِي يَجِبُ أن يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ شرعاً وديناً ولا يَقْبَلُ غَيْرِهَا ، كَمَا لاَ تَزَالُ هِيَ الْعَقِيدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ آخراً كَمَا جُمِعَتْ أولاً ، كَمَا قَالَ الإِمَام مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: "لاَ يَصْلُحُ آخَر هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا " فَآخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إن أَرَادُوا الِاجْتِمَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمَكُّنُ وَالِاسْتِخْلَافُ فِي الأَرْض ، الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَنْ الْجِيلُ الْأَوَّلَ ، فَعَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ نَفْسِهَا ، فَإِنَّهَا -بِإِذْنِ اللَّه - هِيَ الوحيدة الكفيلة بِذَلِكَ ولا شَيْءَ غَيْرِهَا .
ج- وَهْيَ عَقِيدَةِ فِطْرِيَّةٌ سَلِيمَةً -ولله الْحَمْدُ - فَكُلُّ مُسْلِمٌ يَقْرَأُ كُتَّابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُؤْمِنُ بِهَا بِالْبَدَاهَةِ وَبِالْفِطْرَةِ ، فالعقيدة السَّلَفِيَّةِ -عَقِيدَةِ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - فِي الْإِيمَانِ ، تَكْتَفِي بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ . وَهَذًّا الْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ يَحْصُلُ لِمَنْ يَقْرَأُ القُرْآن أَوْ يَسْمَعْهُ بِالْبَدَاهَةِ وَالْفِطْرَةُ ، لأَنَّهُ دِينِ الْجَمِيعِ وَقَدَ أَنْزَلَهُ اللَّه لِجَمِيعِ الْبَشَرِ ، فَلَمْ يُنْزِلُهُ لِعُلَمَاءِ الْكَلَامُ الْمُتَعَمِّقِينَ الْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْأَوْرَاقِ والصفحات الَّتِي لاَ يَفْهَمُهَا أَحَدُ ، وَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى لِكُلِّ النَّاسَ ، لِلْبَدْوِيِّ الْجَاهِلِ الَّذِي فِي الصَّحْرَاءِ ، وَلِلْعَالِمِ الكيميائي أَوْ الفلكي الْمُتَخَصِّصُ ، فَيُلَبِّي حَاجَةٍ الْفِطْرَةِ وَيَتَّفِقُ مَعَهَا .
ومما يَدُلَّ عَلَى وضوحها أن أَعْدَاءِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ يُنْكِرُونَ قضايا فِي الصِّفَاتِ وُفِّيَ الْمَبَاحِثِ الْمُهِمَّةِ ويدَّعون غُمُوضِهَا وَهْيَ وَاضِحَةً لِلْعَوَامِّ فمثلاً إِذَا قرأ الْعَامِّيِّ أَوْ سَمِعَ الْقُرْآنِ: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه: 5]
وَتَقُولَ لَهُ : هَلْ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ ؟
فَسَيَقُولُ : نَعَمْ .
ولا يَخْطِرُ عَلَى بَالُهُ اسْتَوْلَى أبداً.
وَأَعْقِدَ مَنْ ذَلِكَ ، أَنَّهُ لاَ يَخْطِرُ عَلَى بَالُهُ أن يَقُوْل : إنَّهُ لاَ دَاخِلٌ الْعَالِمُ ولا خَارِجَهُ ولا يَمِينِهِ ولا شِمَالِهِ ولا خَلْفَهُ ولا قُدَّامِهِ كَمَا هِيَ عَقِيدَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ .
وُفِّيَ قَضِيَّة الْإِيمَانِ تَقُولُ الْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجُ معاً: إن الْإِيمَانِ لاَ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ ؛ ولذلك تَقُولُ الْخَوَارِجِ مَنْ ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةِ كَفِّرْ ، لأَنَّهُ مَادَامَ أَنَّهُ نَقَصَ مَنْ الْإِيمَانِ شَيْءَ فَقَدْ ذُهِبَ كُلّه .

وبالمقابل قالت الْمُرْجِئَةِ : مَادَامَ أن الزَّانِي يَزْنِي وَيُبْقَى مؤمناً ، فَالْإِيمَانُ لاَ يَنْقُصُ إلَّا بِالْكُفْرِ .
وَأُمَّا أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ وَيُنْقَصُ ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُ الْعَوَّام يَقْرَأُ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا)) [المدثر:31] , ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)) [محمد:17] فبالبداهة وَالْفِطْرَةُ دُوْنَ أن يُلَقَّنُ مَنْ ذَلِكَ شَيْءَ ، سَيَقُولُ : الْإِيمَانِ يَزِيدُ .
وكذلك الْقَدْرِ -وَهْوَ مَنْ أَكْبَرُ الْمَبَاحِثِ الَّتِي يَخُوضُ فِيهَا النَّاس مَنْ كَلٌّ مَذْهَبِ وَيُؤَلِّفُ فِيهَا الْمُؤَلَّفَاتِ الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةُ الَّتِي لاَ تُسَمَّنُ ولا تُغْنِي مَنْ جُوعٍ - كَلٌّ إنْسَانٌ يَقْرَأُ قَوَّلَهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان: 30] إِذَا سُئِلَ هَلْ أَنَا لِي مَشِيئَةِ وَإِرَادَةَ ؟
فَسَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَقُوْل تَعَالَى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )) [الإِنسَان: 30] ، فَأَنْتَ لَك مَشِيئَةِ وَاَللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَشِيئَةِ .
وَمَنٍّ هُنَا نَقُولُ :إن آيَاتٍ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ وَأُصُولٍ الْعَقِيدَةِ جُمْلَةِ ، لَيْسَتْ مَنْ الْمُتَشَابِهِ ؛ بَلْ هِيَ مَنْ الْمُحْكَمِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ .وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضُهَا مَا قَدْ لاَ يَفْهَمُهُ إلَّا أُولُو الْعِلْمُ أَوْ بَعْضٍ طَلَبَةُ الْعِلْمُ ، لَكِنَّهَا بِالْجُمْلَةِ مَنْ الْمُحْكَمِ ، وَأُمَّا الْفَهْمِ فَتَتَفَاوَتُ الْأَفْهَامِ بِمَا يَقْدِرُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِكُلِّ إنْسَانٌ مَنْ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالْأَهْلِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ .
فَهَذِهِ المميزات وَغَيْرهَا تَجْعَلْنَا جميعاً نَدِينُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ دُوْنَ غَيْرِهَا ، ونتعلمها وَنَتَعَبَّدُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَا دُوْنَ غَيْرِهَا ، وَإِنْ تَعَلَّمْنَا غَيْرِهَا فَمَنْ بَابِ مَعْرِفَةِ الْبَاطِلِ لِيَجْتَنِبَ لاَ مَنْ بَابِ مَعْرِفَتِهِ لِيَعْتَقِدَ .

وَحَسْبُنَا مَا فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ ، فَإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أحمد لَمَّا رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَحِيفَةٍ مَنْ التَّوْرَاةِ قَالَ: ((أَوْقَدَ فَعَلْتُمُوهُ ، وَاَللَّه لَوْ كَانَ مُوسَى بن عِمْرَانَ حياً مَا وسعه إلَّا اتِّبَاعِي))[رَوَاهُ أَحْمَدَ وَغَيَّرَهُ وَهْوَ حَسَنٌ] ، وَلَمًّا فَتْحِ سَعْدِ بن أَبِي وَقَاصَّ الْمَدَائِنِ -مَدَائِنِ كَسْرَى - وَجِدُّوا مَنْ الْكُتُبِ الضَّخْمَةُ الَّتِي كَانَ كَسْرَى يَحْتَفِظْ بِهَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَر رِضَى اللَّه عَنْهُ وَقَالُوا: هَلْ تَرَى أن نَنْقُلَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ أن نَسْتَفِيدُ مِنْهَا ؟
فقَالَ:(( أحرقوها أَوْ أَغْرَقُوهَا . فَمَا كَانَ فِيهَا مَنْ شَرٌّ فليرحنا اللَّه مِنْهُ ، وما كَانَ فِيهَا مَنْ خَيْرٌ فَقَدْ أَغْنَانَا اللَّه بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، والْحَمْدُ لِلَّهِ)).
فَلاَ نَحْتَاجُ فِي مَصْدَرٌ دِينِنَا ، وُفِّيَ مَعْرِفَةِ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن نَتَلَقَّى مَنْ غَيَّرَ مَا كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه يَأْخُذُونَهُ ، وَهْوَ الْوَحْيِ .
فَالْمَسْأَلَةُ خَطِيرَةٌ ، لأَنَّهَا لَيْسَتْ قَضِيَّة رَأْيِ وَعَقْلٍ يُفَكِّرُ بِهِ الإِنسَان وَيَخْتَارَ ؛ بَلْ هِيَ قَضِيَّة اتِّبَاعُ وَتَسْلِيمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَرَادَ الْحَقَّ ، وَالدِّينَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْحَقِّ فَعَلَيْهِ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ ، الَّتِي لاَ يَجُوزُ الْخُرُوجِ عَلَيْهَا .وَإِلاَّ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ))[النساء:115] ، فَهَذِهِ الْآيَةَ مَنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ -كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءِ - وَأَنْ اتِّبَاعُ غَيَّرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ التَّفَرُّقِ عَنْ الدّيْن الْقَوِيمِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153] .