المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قناة الدولة العثمانية !



أهــل الحـديث
01-02-2013, 12:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قناة الدولة العثمانية !
ليس من عادة الناس وإيلافهم بقاء بعض الأعمال المادية أو الحسية مئات السنين ، ولا تندثر أو تضمحل رغم تعاقب القرون والأمم ! ومما يزيد العجب أن تلك الماديات قد أُنشئت بأيدي حُرة وزهيدة ، وفي وقت يعاني الناس فيه شظف العيش وشدَّته . والاستدراك على هذا التعجب أورده الله تعالى في محكم التنزيل : "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ "(الرعد: 17) .

لكن المعنى لا يتضح إلا بسرد الأمثلة وتقريب المعاني الكاشفة .
فمناط الدوام هو النفع العام للخلق بغض النظر عن ملة أو مذهب صاحبه ، فالفؤوس والرماح والأقواس أبقى الله نفعها وأدام الحاجة إليها ، بعد أن تسبَّب الإنسان في وجودها في الأرض قبل الآف السنين ، بل قبل ميلاد عيسى عليه السلام .

والفراعنة خلَّفوا السدود والقنوات المائية لتحجيم مياه الأنهار والامطار ، والصينيون خلَّفوا الورق والطباعة ، والاغريق خلَّفوا الالآت الزراعة البدائية . والمسلمون الأوائل خلَّفوا أعمال البناء والفَلك والهندسة والكيمياء .

وقد قام عباس بن فرناس(ت: 271هـ ) رحمه الله تعالى ، بتجربة الطيران الأولية بأجنحة صناعية ، وقام الحسن بن الهيثم (ت: 430هـ ) رحمه الله تعالى ، بتأسيس علم التصوير الضوئي ، وقد أبقى الله النفع بكل ما تقدم ، وسهَّلت على كثير من البشر شؤون حياتهم وقضاء مصالحهم .
وقد استفاض في الشرع أن كل عمل اقترنت به نية طيبة، فإن الله تعالى يبقيه لمئات بل أُلوف السنين ، لأن الله تعالى لا غالب له ولا رادَّ لأمره ، ولا يُضيع أجر من أحسن عملا .

وقد قال الامام السيوطي(ت:911هـ ) رحمه الله تعالى :
إذا مات ابنُ آدم ليس يجري عليه من فِعال غير عشرِ
علومٌ بثَّها ودعاء نَجْلِ وغرس النخل والصدقات تجري
وراثةُ مصحفٍ ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراءُ نهرِ
وبيتٌ للغريب بناه يأوي إليه أو بناءُ محلِ ذكر ِ .

وقبل أيام تناقلت الصحف خبراً عن قناة مائية ( عبَّاره) أنشأها العثمانيون في مدينة تبوك سنة (1325هـ) قبل قرن وزيادة ، وهي تعمل إلى اليوم بكامل طاقتها لتصريف مياه الأمطار ، بينما المشاريع المائية الحديثة ضعفت وبان عوارها عند جريان السيول ! .
وقد شُقَّت القناة العثمانية أسفل الطريق الذي يربط وصول الحجاج من دمشق إلى المدينة النبوية مروراً بتبوك . وأضحت هذه القناة المائية مِثالا على الاخلاص في العمل والدِّقة في الجودة والاتقان .

وفي القناة العثمانية اشارة خفية الى أسباب طول مدة حكم العثمانيين ومنها أمران مهمان : العدل والأمانة . فبالعدل أقاموا الأحكام ونشروا تعاليم الاسلام . وبالأمانة أنفقوا الاموال على مستحقيها وراقبوا الولاة والعمال على أماناتهم .

وقد أبقى الله تعالى تلك القناة العثمانية لتكون شاهداً على اتقان الأعمال وتجويدها ، وهي من الأوقاف التي حرص العثمانيون على العناية بها وصارت عُرفًا شرعياً واجتماعياً يُعلَّم ويُطبَّق .
ومن القواعد التي يستشهد بها العثمانيون لتأسيس ديمومة الوقف قاعدة : شرط الواقف كشرع الشارع ، ولهذا شاع الوقف وذاع عندهم حتى لا يكاد يوجد زُقاق إلا وبه أوقاف حُبِّس أصلُها وسُبِّلت منفعتها .

ومن الحقائق والظواهر التي استفاضت عندهم : أن الرجل يولد في منزل وقفي (رباط)، وينام في مهد وقفي، ويأكل ويشرب من أموال الأوقاف، ويقرأ من كتب الأوقاف، ويُدرَّس في مدرسة وقفية، ويتسلَّم راتبه من إدارة الوقف، ويوضع في تابوت وقفي حين يموت، ويدفن أيضًا في مقبرة وقفية ! .

ويمكن الافادة من خبر القناة العثمانية لتأصيل بعض القواعد :
1- اتقان العمل فريضة ، وهو من دلائل قدرة الله في خلقه ، ليُشهد العباد على عظمته وتدبيره . كما قال سبحانه : " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، فارجع البصر هل ترى من فطور "( الملك : 3-4 ) .

2- العمل الكامل المُتعدِّي نفعه لا يضيع أجره في الدنيا ، ولو كان صاحبه فاسقا . وكل صنعة ينتفع بها الناس فلا يُعدم صاحبها خيرا ، ويجب على الناس الفرح بها وتقديمها على رغباتهم إذا كان نفعها مُتعدِّيا ، وقد نصت القاعدة الفقهية على تقديم ما كان فيه حق الله وحق العبد على ما كان فيه حق الله وحده .

3- بعض أنواع الخير لا تظهر إلا بعد ألوان البلاء ، وكم لله من محن في طياتها مِنح . وفي قصص الانبياء اشارات نافعة لتأصيل هذا الجانب، كما في قصة موسى عليه السلام عند زواجه بابنة شعيب ، وفي قصة الخضر عليه السلام عند فِراق موسى .

4- من سنن الله تعالى الكونية أن كل أمر ثبت نفعه ، فإن الله تعالى يُبقيه ما شاء ، ليُشهد العباد على عدله واحسانه وكمال علمه . قال تعالى : " لتعلموا أن الله على كل شيٍ قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شي علما " ( الطلاق: 12 ) .

5- العمل الذي يُقصد به القربة الى الله تعالى لا ينقطع ثوابه بعد موت صاحبه ،وفي حديث أبي طلحة المشهور ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بخٍ مالٌ رابح " متفق عليه . وبهذا يتبين معنى قول الفقهاء : الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث .

6- أكلة المال الحرام لا يُبارك لهم فيه ،ولو انتفعوا به دهراً ، وطول الأمد سبيل الى السخط . قال تعالى : " إنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين " (آل عمران :178 ) .وقال سبحانه : " فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم "( الحديد : 16 ) .

7- الاحتساب على العمال والصُنُّاع مشروع ، ويكون ذلك بمراقبة أعمالهم وتذكيرهم بأماناتهم المنوطة بهم . وقد ثبت عن عليِّ رضي الله عنه أنه كان يقضي بتضمين الصُناَّع ويقول : "لا يُصلح الناس إلا هذا " .

8- السياسة الشرعية مع العمال تقتضي الاحسان إليهم ،ليجتهدوا في الامور الموكلة اليهم . ولا يخفى أن التصرف على العمال منوط بالمصلحة ، والمصالح العليا هي التي يكون نفعها متعدِّيا ، وفيها ضمان معايش الناس .

9- من سنن الله تعالى الكونية اظهار الامور المحتقرة عند الناس ، ليتفطن الناس لقدرة الله وبديع صنعه وأنه سبحانه لا يعجزه شي في الارض ولا في السماء ،وآية الرعد خير شاهدٍ على ذلك .

10- ظهور الفساد في البرِّ والبحر من الأدلة المادية على ظلم الانسان وطغيانه وفسقه ، إما بسبب تمرده على شرع الله وسننه ، أو بسبب فتنة المال الذي سخره الله بين يديه . ومن آثار الفساد الكساد وتعطُّل المنافع والمصالح ،وقد قرَّرت القاعدة القرآنية أن اظهار وجوه الفساد بين المسلمين من واجبات التمييز بين المؤمنين وغيرهم .قال تعالى : " وكذلك نُفصِّل الآيات ولتستبينَ سبيلُ المجرمين " ( الأنعام : 55) . ولهذا كان حذيفة رضي الله عنه يقول :" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشرِّ مخافة أن يُدركني" متفق عليه .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
http://lojainiat.com/main/Author/2083