المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المعاني العوالي لتأصيل نازلة مالي



أهــل الحـديث
24-01-2013, 05:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


المعاني العوالي لتأصيل نازلة مالي
من محاسن الموافقات ومؤلم المناسبات ما قيَّده المؤرخون سنة (586 هـ ) ، أنَّ امرأة من الفِرنجة في زمن الحروب الصليبية ، سُرق منها طفلها الذي يبلغ من العمر ثلاثة شهور، وبيع في السوق ، فنصحها الفِرنجة بالتظلُّم لصلاح الدِّين الأيوبي رحمه الله تعالى (ت : 589 هـ ) ، فأمر صلاح الدين باستعادة الطفل من ماله الخاص لأُمِّه، وأعادها إلى مُخيَّمِها ! .

هذه الرواية التاريخية استسغتُ أن تكون مُقدِّمة للحديث عن نازلة دولة مالي المسلمة التي أحزنت المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها . وهي من الفتن التي تدور رحاها وينشغل المسلمون في الغالب بها عن فقهها ومُسبِّباتها .

والسياسة الشرعية تُوجب النظر الى هذه النازلة على الميزان الشرعي من زاوية الأقطاب الثلاثة : العلماء والأمراء وأهل الثغور ، ثم تُستخلص الأحكام الشرعية المناسبة للنازلة ويُثبَّت حكمها في واقع الناس . فالعلماء يعرفون الفتنة إذا أقبلت, وغيرهم يعرفها إذا أدبرت ! . وقد قال عبد الله بن المبارك (ت:181هـ )رحمه الله تعالى ، وهو من أهل الجهاد ومن مُعظِّميه : "من استخفَّ بالعلماء ذهبت آخرته ، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ، ومن استخف بالاخوان ذهبت مرؤته " ! .

وبعض من قعَّدوا الأحكام الشرعية لنازلة مالي بدون اعتبار لما تقدَّم ، لم يُحسنوا اقامة الدليل ، لأنَّ الله تعالى أمر بالردِّ عند التنازع إلى من بيده أهلية الأمر كُلٌّ بحسبه . والخلاف والخطأ إذا كانا ناشئين عن تحرِّي قصد الدليل ، قد يكون لهما اعتبار في الشريعة ، أما إذا كانا ناشئين عن هوى النفس وارضاء الأقران والأصحاب ، فإنهما يكونا مردودين وغير صحيحين .

وبعض الناس يُفتي في النوازل المدلهمة كنازلة مالي بأعلى الواجبات ،أو بأدناها بدون النظر الى الاعتبارات المحكمة التي تقوم عليها الادلة والقرائن القوية والمصالح الراجحة التي يجب الوقوف عندها ، وقد قيل : كِلا طرفي قصد الأمور ذميم .

ومنهم من يتجاوز العلماء ممن أفنوا أعمارهم في النظر إلى العلوم وفهم الأدلة فيتقدَّم عليهم في الفتوى ويستبق رؤيتهم ،وقد يصفهم بِقصر النظر وضعف الفهم للواقع . وقد نُقل عن أحد التابعين أنه قال لأحد تلاميذه بعد أن أثقل عليه : " اتق الله في المشايخ ، فربما اُستجيبت فيك دعوة " ! .

وأضحت هذه الخُلَّة عادةً عند الشباب الاسلامي إلا من رحم الله ، بسبب قِلة العلم والاستئثار بالرأي . وقد تسبب ذلك – في بعض البلاد - في سفك الدماء المحرمة وتنافر القلوب والخلط في الأولويات . وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا ترجعوا بعدي كُفَّاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض " أخرجه الشيخان .

وقد قرَّر كثير العلماء أن وزر العمل الذي ليس على السنة لا ينقطع ولو بعد مئتي سنة ، بخلاف المعصية الخاصة فإنها تموت بموت صاحبها أو بتوبته .

وقد ثبت في الأصول الشرعية وجوب الالتفات الى السبب والمُسبِّب ، سواء في النوازل أو الوقائع ، وإذا لم تُفعل الاسباب الشرعية ولا استكملت شرائطها ولم تنتفي موانعها فلا تقع مسبباتها ، شاء المُكلَّف أو أبى .

ومن نواقص السياسة الشرعية الاعتراض على أهل العلم وأهل الثغور ممن ظهر لهم دليل ، بدون النظر إلى المرجِّحات والمسبِّبات والعواقب ، وفي القرآن المجيد ما يُقرِّر هذه القاعدة المستنبطة كقصة موسى مع الخضر عليهما السلام ، واشتراطه أن لا يسأله عن شي حتى يُحدث له منه ذِّكرا ، فكان ما قصَّه الله تعالى من قوله : " هذا فراقُ بيني وبينك " ( الكهف: 78 ) . وقد تقرر عند الأصوليون أنه لو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد .

وإذا اتفق العلماء على رأي بعينه وجب عليهم ارشاد من لهم شوكة للعمل بما تقتضيه الأدلة الراجحة ، ولا تُفوَّت على المسلمين مصلحة راجحة من المصالح المعتبرة .

وحصيلة هذه النازلة من الفقه ما يلي :
1- أنَّ الحق لا ينتصر لمجرد أنه حقٌّ؛ بل لابد من قوة تسنده، وفئة تعاضده، وأنصارٌ يقومون به . كما في قول الله تعالى : "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط " (الحديد: 25) ؛ ولهذا كان قِوام الدين بالمصحف والسيف .

والواجب على أهل الثغور نصرة اخوانهم المكلومين وقهر العدو الذي يتربَّص بهم ،لكن بشرط عدم الافتئات على من لهم شوكة وقدرة ومنعة ممن يهمهم أمر المسلمين ، لأن عدم الحذف أولى من إثبات الحذف، من أجل أن لا يطمع العدو في تفرُّق المسلمين .

2- أنَّ سنة الله تعالى اقتضت أن التمكين لا يحصل إلا بعد الابتلاء والتمحيص .

3- أن الأمة الاسلامية ليست بعيدة عن نصر الله تعالى ، بسبب الظلم والطغيان الذي يظهر في نواحيها من مكر الأكابر . وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن أمر من فروض الكفايات كما في قوله :" لا تأمرنَّ على اثنين ، ولا تولينَّ مال يتيم " . أخرجه مسلم . فكيف يكون إثم من قصَّر في واجب من أعظم الواجبات ، كنصرة المستضعفين والمضطهدين ممن أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ؟! . ويجب أن يعلم أن النصرة للمسلمين سواء في مالي أو في غيرها فرض على جميع أفرادهم ،كما أن الاعتصام بحبل الله فرض على جميع أفرادهم . قال الله تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ( آل عمران : 103 ) وقال سبحانه : " وإن استنصروكم في الدِّين فعليكم النصر " ( الأنفال : 72 ) .

والنصر يكون من العلماء والأمراء وأهل الثغور ، كل بحسبه وقدره وخصوصيته . وإن لم يحصل السعي في النصر ، فأقل القليل كفُّ اللسان عن أعراضهم . وقد نصَّت القاعدة الاصولية على أنَّ الترك فعل لحديث : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " أخرجه الشيخان .
وقد اقتنص الغرب الكافر هذه الفجوة بين العلماء والأمراء وأهل الثغور ، لاستئصال البلاد المسلمة والقضاء على شبابها وعلمائها وعامتهم وخاصتهم .

4- أنَّ مُظاهرة المشركين على المسلمين هي من أسباب الذُّل الذي يعاني منه المسلمون منذ مئات السنين ، وفي المرفوع : "ما من امرئٍ يخذل مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عِرضه ويُنتهك فيه من حرمته ، إلا خذله الله في موطنٍ يُحب فيه نصرته ، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عِرضه ويُنتهك فيه من حُرمته ، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته " . أخرجه الهيثمي باسناد حسن .

5- أن استعداد الامة الاسلامية لكسر شوكة الأعداء هزيل ومُخجل من الناحية المادية . وقد أمر الله بالعدة والقوة على حسب مقتضى الحال ، لكن كما قيل : المرعى أخضر والعنز مريضة ! .

6- أن أعداء الاسلام يسعون جاهدين لاحداث الفوضى في بلاد المغرب العربي وزعزعة أمنها ونهب ثرواتها .

7- أنَّ الكفار ليس لديهم صداقة أو مودة إلا من أجل المصالح المادية التي هي غايتهم .قال تعالى : " لا يرقبون في مُؤمنٍ إلَّا ولا ذِمَّة "( التوبة : 10 ) .

8- أن فتاوى العلماء في النوازل لا بُدَّ أن تكون جلية وواضحة بلا مواربة أو تردُّد ، لأنَّ حاجة الأمة إليها ماسة وشديدة للاستعداد لما هو قادم .

9- أنَّ أذى الكفار لن ينقطع عن المسلمين الا باتباع أديانهم ، وعليه فيجب دفع أذاهم على حسب القدرة والمصلحة . ولا يخفى أن من قواعد السياسة الشرعية أنه ليس من شرط دفع المهمات امكان دفع سائرها . فالمقصود وجوب دفع كل ما يمكن دفعه مما هو واجب الدفع والرفع ، وأنَّ ما عسُر دفعه ورفعه ليس مانعاً من دفع ورفع ما تيسر دفعه ورفعه ،بل يُدفع كل ما أمكن دفعه ويُترك ما عُجز عنه .

وهذا ما قرَّره الامام ابن تيمية ( ت: 728هـ) رحمه الله تعالى حين قال :" فهذا طريق الموازنة والمعادلة ، ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان ، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ،وتعطيل المفاسد وتقليلها " .

والمقصود أنَّ رفع هذه النازلة منوطٌ بصلاح العلماء والأمراء وأهل الثغور، وتعاضدهم وشدُّ أزر بعضهم لأزر بعض ،في سبيل كشف الغُمَّة التي اتسع لهيبها على أُمة الاسلام وإن استقل أحدهم عن الآخر، فسيظهر الخلل في صفوف الأمة ويفسد حالها ومآلها .

10- أنَّ الضعفاء الشُّعث الغُبر المؤمنين في الصحارى ،هم ممن يُستجلب بهم نصر الله تعالى، وقد بوَّب بعضُ أصحاب السنن رحمهم الله تعالى لهذه المسألة باباً أسموه : الانتصار برذل الخيل والضعفة . وقد قال سبحانه :" قل مايعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم "( الفرقان : 77 ) .فكم في الفلوات من قانتٍ ومخلص ؟! . والله المستعان .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
http://lojainiat.com/main/Author/2083