تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : من أخطاء بعض الدعاة مع العوام



أهــل الحـديث
14-01-2013, 06:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.

فابتداءً أحب أن أوضح أنّ ما أعنيه بلفظ " العوام" هم من لا ينتمون إلى حركة إسلامية معينة، أو اتجاه فِكري معين، كما أنهم لا ينشغلون بطلب العلم الشرعي، ولا أقصد من هذه اللفظة تنقصأ أو احتقارًا، ولولا اشتهارها وعدم دلالة غيرها على مفهومها لتركتها اتقاء اللبس، ولكن يكفيني توضيحي هذا.

أما عن موضوعنا فالموضوع مقتصر على الأخطاء التي قد تخفى على بعض الدعاة، أما الأخطاء الجلية كالقسوة والعنف...إلخ فلن أُعرج عليها؛ فشهرتها تغني عن ذكرها.

ولعدم الإملال فلا أرى نفسي مضطرًا إلى ذكر مقدمة عن فضل الدعوة وأهميتها، فمثل هذا لا يخفى، ومصادر الحديث عن هذا كثيرة متنوعة.

وفيما يلي تفصيل الكلام مُقسمًا إلى عناصر:

1 – الإغراق في مسائل الاعتقاد:

بعض الدعاة يخلطون بين أهمية البداءة بالتوحيد في دعوة الناس، وبين الإغراق في مسائل العقيدة التي لم يتناولها العلماء إلا ليردوا على أهل الأهواء والضلال، ولولا أن أهل الأهواء خاضوا فيها لما خاض فيها العلماء.

فمن ثمّ عرْض هذه المسائل على من لم تبلغهم الشبهة أصلًا أمرٌ غير مشروع:

وقد عد الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى مخاطبة العوام في مثل هذه الأمور من البدع الإضافية:

قال في الاعتصام:

" ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه و لا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها؛ فسامعها إما ان يفهمها على غير وجهها – وهو الغالب – وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، وإلى العمل بالباطل، وإما لا يفهم منه شيئًا وهو أسلم، ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون، بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله".

وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في قواعد الأحكام ج2 ص402:

" و لا يجوز إيراد الإشكالات القوية بمحضر من العامة، لأنه تسبب إلى إضلالهم وتشكيكهم، وكذلك لا يتفوه بالعلوم الدقيقة عند من يقصر فهمه عنها، فيؤدي ذلك إلى ضلالته، وما كل سر يذاع، و لا كل خبر يشاع".



وعندما طعن بعض الناس في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله،وكان من جملة ما شنعوا به عليه؛ أنه يحدث الناسَ بدقائق المسائل؛ فردّ رحمه الله عن نفسه هذه الفرية قائلًا:

"وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ: فَأَنَا مَا فَاتَحْت عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلْمُسْتَرْشِدِ الْمُسْتَهْدِي؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ( البقرة: 159). وَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ." ( انظر مجموع الفتاوى ج5 ص266)
ففرّق رحمه الله بين المفاتحة وبين إجابة السائل، فالأصل أن العامي لا تُطرح عليه مثل هذه المسائل إلا إذا استشكل أو سأل.


وقال رحمه الله:

" وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ: أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةَ الِاعْتِقَادِ وَقَدْ تَجِبُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَعَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ؛ وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ لِطَائِفَةِ أَوْ فِي حَالٍ كَالْأَعْمَالِ سَوَاءً. وَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهَا مُضِرَّةً لِبَعْضِ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ تَعْرِيفُهُ بِهَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ ". وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} . الْآيَةَ فَقَالَ: مَا يُؤَمِّنُك أَنِّي لَوْ أَخْبَرْتُك بِتَفْسِيرِهَا لَكَفَرْت؟ وَكُفْرُك تَكْذِيبُك بِهَا. وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} هُوَ يَوْمٌ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ؛ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عَنْ السَّلَفِ". ( مجموع الفتاوى ج6 ص59)


وانظر أيضًا ج3 ص311

لذلك فنصيحتي لإخواني الدعاة إذا ما أرادوا أن يُدرسوا للناس كتابًا في العقيدة أن يجتهدوا في اختياره، وأن يختاروا الكتب التي عنيت بتقديم العقيدة الصحيحة دون سرد للأقوال الكلامية، والمذاهب الفلسفية.

وأجمل من هذا أن يعمدَ الداعيةُ إلى كتاب الله عز وجل فيٌخْرجَ منه الآيات التي تناولت العقيدة الإسلامية، ثم يقومَ بتفسيرها مُبَيِّنَا ما بها من معاني الإيمان، ويعمدَ أيضًا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجمعَ منها أحاديث العقيدة، فيُجليَها للناس مُوَضِّحًا إياها بأسلوب يفهمهونه..

فإنّ هذا سيكون أوقعَ في قلوبهم، وسيصرف عنهم ما قد يُشَوِّش عليهم من بدعِ الآراء الكلامية وشَطَحاتِها.

أيضًا نصيحة غالية إلى إخواني الدعاة والمدرسين أن يَعلموا أن التوحيد ليس مادة تدرس بين مواد أخرى، بل التوحيد يا سادة هو روح كل مادة وجوهرها، ولحمة سداها.

حين ندرس للطلاب أصول الفقه مثلًا – وما أجمده من علم! – قد نربط هذا بالتوحيد.

فجوهر التوحيد هو طاعة الله عز وجل في كل حركاتنا وسكناتنا، وحتى نطيعه سبحانه وتعالى، لا بد من امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ولن يتسنى لنا ذلك إلا بمعرفة القواعد والأصول التي نستطيع من خلالها الاهتداء إلى حكم الله تعالى، ومن ثم فعلم أصول الفقه داخل تحت علم التوحيد.

حين ندرس لهم مصطلح الحديث علينا أيضًا أن نربطه بالتوحيد، فالتوحيد كما قلنا يتلخص في طاعة الله عز وجل، وقد أمرنا سبحانه وتعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى نطيعه صلى الله عليه وسلم علينا أن نميز أخباره صحيحها من سقيمها، فانظروا كيف حولنا هذا العلم الذي يفتقد إلى روح إيمانية – في كثير من فروعه – حولناه بفضل الله تعالى إلى علم له ارتباط وثيق بتوحيد الله عز وجل.

وعلى هذا المنوال فانسج أخي المعلم، فلا نريد أن نجني طلبة علم يتسمون بالجمود القلبي، بل نريد أن نرى الجيل القادم يحمل علمًا جمًا، يحركه وقود من الإيمان العميق.


يتبع إن شاء الله.