المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : والعافين عن الناس



الاهلي الراقي
07-01-2013, 08:10 PM
http://www10.0zz0.com/2011/04/06/10/785970326.gif (http://www.0zz0.com/)


العفو :
هو كما قال الخليل : (تركُ إنسانٍ استوجب عقوبةً فعفوتَ عنه) وقال الجوهري :يقال:{عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه } وقل الكفوي : {هو كف الضر مع ألقدرة عليه وكل من يستحق عقوبة فتركها فهذا الترك عفو } نظرة النعيم 7/2890 - 2891

وهو من صفات عباد الله المتقين:
• هذا الخلق العظيم ذكره الله سبحانه وتعالى في سياق ذكر صفات عباده المتقين فقال:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدة للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )آل عمران 133ــ134

الثواب المترتب عليه:
• قال تعالى :{وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين } الشورى 40 وهذا من أبلغ الجزاء حيث قال تعالى فأجره على الله فتُِرك الجزاءُ لكرمه سبحانه وتعالى ومن أكرم من الله جل في علاه نسأل الله من فضله. وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} [التغابن:14].
وقال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}[النور: 22] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ دعاه الله -عز وجل- على رُءُوس الخلائق حتى يخيِّره الله من الحور ماشاء). [أبو داود والترمذي وابن ماجه].

وهو سبب للعز والرفعة في الدنيا والآخرة:
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله ) [مسلم 2588]
فالعفو صفة من صفات رب العالمين وهو من صفات الأنبياء والمرسلين و عباد الله الصالحين من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين ومن نهج نهجهم وسار على طريقهم إلى يوم الدين ..

وإليك بيان ذلك:

1- ربّ العزة سبحانه وتعالى:
• قال ابن الأثير :{من أسماء الله تعالى {العفو} وقال الغزالي :فالعفو صفة من صفات الله تعالى } نضرة النعيم 7/2891
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم :{ما أحد اصبر على أذى سمعه من الله يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم } البخاري ـ الفتح 13[7378] مسلم [2804] واللفظ له
وكان من الدعاء الذي أرشد اليه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني) فعن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال قولي :[اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ] رواه الترمذي[3513 ] وقال هذا حديث حسن صحيح قال الشيخ الألباني : صحيح

2- يعقوب ويوسف عليهما السلام:
• فالعفو خلق نبوي كريم كما أسلفنا فهذا يعقوب عليه السلام رغم ما فعله أبنائه به من التحايل عليه وحرمانه ممن تعلق قلبه به وأحبه أشد ما يحب أبٌ ابنه ، فلم يتوعدهم بالقتل أو الضرب أوالويل والثبور ، ولم يقاطعهم أو يقسم أن لا يكلمهم ما داموا على قيد الحياة !!
أبدا لم يفعل شيئاً من ذلك ولا أقل منه وإنما قال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
ثم جاءوا إلى أبيهم : {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف : 97] فما كان جوابه إلا أن : {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف : 98] ويوسف عليه السلام ورغم ما عاناه بسبب هذا الفعل من أخوته وبعد أن آثره الله عليهم ما كان منه إلا أن قال: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) سبحان الله ليس عفو فحسب ولكن دعاء أن يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم.، ففعل كما فعل أبوه من قبل ! وهكذا تكون القلوب الزكية !! ولك أن تتصور هذه القلوب الرحيمة إذا كانت بهذه المثابة مع من ظلمها وآذاها وجرحها !!! فكيف سيكون حالها مع الأخرين !!!!!!

3- محمد صلى الله عليه وسلم :
• وقد ضرب نبينا أروع الأمثلة في هذا الباب فيتجلى عفو الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام، ولكن أهلها رفضوا دعوته، وسلَّطوا عليه صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم يؤذونه صلى الله عليه وسلم هو ورفيقه زيد بن حارثة، ويقذفونهما بالحجارة حتى سال الدم من قدم النبي صلى الله عليه وسلم. فنزل جبريل -عليه السلام- ومعه ملك الجبال، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في هدم الجبال على هؤلاء المشركين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وقال لملك الجبال: (لا بل أرجو أن يُخْرِجُ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا) [متفق عليه].
ومع ما فعل قومه به من الأذى والتشريد ومحاولة القتل والحروب المتعددة فقد مكنه الله تعالى منهم يوم الفتح الأكبر فدخل الكعبة وتجول في نواحيها وكبر وصلى ركعتين ثم خرج وقد احتشدت قريش في المسجد الحرام تنتظر الأمر منه صلى الله عليه وسلم وتترقب نزول العقاب ! فاخذ بعضدتي الباب وقام فخطب خطبة بليغة بيّن فيها كثيراً من الأحكام ثم قال : يا معشر قريش ماذا ترون إني فاعل بكم قالوا : خيرا أخٌ كريم وابن أخٍ كريم قال : ( لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء ) لا إله إلا الله أي قلب أنقى وأطهر من هذا القلب صلوات ربي وسلامه عليه .

• وتعال إلى موقفه صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي رأس المنافقين الذي قال في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع عند المشلل: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يَأكُلك، يقول هذا في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول أيضاً ظاناً أن خزائن السماوات والأرض بيده: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} [سورة المنافقون: 7] يقول أنتم الذين آويتموهم وأطعمتموهم فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم عن مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم، ثم قذف النبي صلى الله عليه في عرضه في قصة الأفك ولم يترك سبلا في أذية الرسول صلى الله عليه إلا سلكه، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لما مات ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه -صلى الله عليه وسلم- ليكفن به، وقام على قبره يستغفر له حتى نهاه الله -عز وجل- عن ذلك، ولما نهاه الله بقوله: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر لهم لفعلت)) أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، هذا في رجل لطالما آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآذى المؤمنين، فهو الذي أفَك الإفك وسعى به، وتولى كبره، واتهم عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبشع تهمة، وقال أقبح القول، ومع ذلك يعفو عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلي عليه، ويدفع قميصه لابنه ليكفن به، ثم يقوم على قبره يستغفر له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم حاله، وهذا لا يفعله إلا القلوب الرحيمة الكبيرة الواسعة، وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء والبراء فهي أصلٌ ثابت كما ذكرت في أول هذا الكلام، لكن ينبغي أن نفرق بين أمرين بين شأن الولاء والبراء وبين حظ النفس، فالولاء والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك ولا تنتصر لها ولا تقف عندها؛ فالكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم..
من محاضرة قيمة للدكتور خالد السبت بعنوان اخلاق الكبار وقصة صلاته صلى الله عليه وسلم على رأس المنافقين هي في صحيح البخاري1/459الحديث رقم 1300

• وموقف أبي سفيان لا يقل عجباً عن هذا الموقف! فمع ما لقيه منه من الأذى يأتي يوم الفتح إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه فيقول: اشفع لي عند رسول الله فيقول أبو بكرٍ رضي الله عنه: ما أنا بفاعل! ثم أتى عمر فأبى وشدد في الكلام ! فأتى علياً فامتنع فقال: أشر علي قال: ادخل عليه وقل تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين.. ففعل! ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) [يوسف 92]
روضة الأنوار 188
فأنشد أبو سفيان أبياتاً يقول فيها:


لعمرك إني يوم أحمل رايــــــةً --- لتغلب خيل اللات خيل محـــمد
لكلمدلج الحــيران اظــلم ليـــله --- فهذا أواني حين أهــدى فأهتدي
هدابي هادٍ غير نفســــي ونالني --- مع الله من طردت كل مطـــرد
أَصـــُدُّ وأنأى جاهداً عن محمدٍ --- وأدعى وإن لم انتسب من محمد
هــمُ ماهمُ من لم يقل بهواهـــم ُ --- وإن كان ذا رأي يُلَمْ ويفنـــــــّـد
أريد لأرضيهم ولست بلائـــطٍ --- مع القوم ما لم أُهد في كل مقعد
فقــــــل لثقيفٍ لا أريـــد قتالها --- وقل لثقيفٍ تلك غيري أو عـدي
فما كنت في الجيش الذي نال عامر --- وما كان عن جرّا لساني أو يدي
قبائــل جائت من بلاد بعيــــدة --- نزائع جائت من تهامٍ وســــردد

تهذيب سيرة ابن هشام 220

• وفي البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول رب أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون) رواه البخاري (الفتح 12/6929) ، ورواه مسلم 1792

• ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في العفو ما رواه مسلم عن انس ابن مالك رضي الله عنه قال : (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه من خلفه جبذة حتى رأيت صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أثرت به حاشية البرد من شدة جبذته فقال يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه النبي صلى الله عليه و سلم فضحك ثم أمر له بعطاء) رواه مسلم

• وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال : ((قد لقيت من قومي وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرية الثعالب فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت منهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) [رواه البخاري ومسلم].

• وقد ذكر ابن سعد في الطبقات أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في (غزوة غطفان) أصاب رسول الله وأصحابه مطر، فنزع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثوبيه ونشرهما ليجفا وألقاهما على شجرة واضطجع، فجاء رجل من العدو يقال له دعثور بن الحارث ومعه سيف حتى قام على رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الله! ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام ونزلت هذه الآية فيه: ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (الآية 11من سورة المائدة) ذكرها ابن سعد في الطبقات 2/35 وأصل القصة في صحيح البخاري مختصرة باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة. الحديث رقم (2910) وفي صحيح مسلم باب توكله صلى الله عليه وسلم وعصمة الله له الحديث رقم (6090)

4- أم المؤمنين صفية رضي الله عنها.
قال بن عبد البر: روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود. فبعث عمر يسألها. فقالت: أما السبت، فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة ; وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت ؟ قالت: الشيطان: قالت: فاذهبي، فأنت حرة
" الاستيعاب في معرفة الأصحاب " 13 / 65

5- عمر ابن الخطاب رضي الله عنه:
• وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً فقال عينه لابن أخيه يأبن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال هيه يابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الأعراف 199 وان هذا من الجاهلين والله ماجا وزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافاً عند كتاب الله .
البخاري الفتح 8\4516،موسوعة نظرة النعيم 7/2907

6- أبو ذَرّ رضي الله عنه وعمر والشاب القاتل:
• قال الأتليدي في كتاب أعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس : قال شرف الدين حسين بن ريان : أغرب ما سمعته من الأخبار ، وأعجب ما نقلته عن الأخيار ، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب ، أمير المؤمنين ، ويسمع كلامه قال : بينما الإمام جالس في بعض الأيام ، وعنده أكابر الصحابة ، وأهل الرأي والإصابة ، وهو يقول في القضايا ، ويحكم بين الرعايا ، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب ، يكتنفه شابان من أحسن الشبان ، نظيفا الثياب ، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ، ولبباه . فلما وقفوا بين يديه ، نظر إليهما وإليه ، فأمرهما بالكف عنه . فأدنياه منه وقالا : يا أمير المؤمنين ، نحن أخوان شقيقان ، جديران باتباع الحق حقيقان . كان لنا أب شيخ كبير ، حسن التدبير ، معظم في قبائله ، منزه عن الرذائل ، معروف بفضائله ، ربانا صغاراً ، وأعزنا كباراً ، وأولانا نعماً غزاراً ، كما قيل : لنا والدٌ لو كان للناس مثله . . . أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقب خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها ، ويقطف يانع ثمارها ، فقتله هذا الشاب ، وعدل عن طريق الصواب . ونسألك القصاص بما جناه ، والحكم فيه بما أراك الله . قال الراوي : فنظر عمر إلى الشاب وقال له : قد سمعت ، فما الجواب ؟ والغلام مع ذلك ثابت الجأش ، خال من الاستيحاش ، قد خلع ثياب الهلع ، ونزع جلباب الجزع ، فتبسم عن مثل الجمان ، وتكلم بأفصح لسان ، وحياه بكلمات حسان ثم قال : يا أمير المؤمنين ، والله لقد وعيا ما ادعيا ، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى ، وعبرا بما ترى ، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك : اعلم ، يا أمير المؤمنين ، أني من العرب العرباء ، أبيت في منزل البادية ، وأصبح على أسود السنين العادية ، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد ، فأفضت بي بعض طرائقها ، إلى المسير بين حدائقها ، بنياق حبيبات إلي ، عزيزات علي ، بينهن فحل كريم الأصل ، كثير النسل ، مليح الشكل ، حسن النتاج ، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج . فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها ، فتناولته بمشفرها ، فطردتها من تلك الحديقة .
فإذا شيخ قد زمجر ، وزفر ، وتسور الحائط ، وظهر وفي يده اليمنى حجر ، يتهادى كالليث إذا خطر ، فضرب الفحل بذلك الحجر ، فقتله وأصاب مقتله . فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب ، توقدت في جمرات الغضب ، فتناولت ذلك الحجر بعينه ، فضربته به ، فكان سبب حينه ، ولقي سوء منقلبه ، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة ، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين ، فأمسكاني وأحضراني كما تراني . فقال عمر : قد اعترفت بما اقترفت ، وتعذر الخلاص ، ووجب القصاص ، ولات حين مناص . فقال الشاب : سمعاً لما حكم به الإمام ، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام ، لكن لي أخ صغير ، كان له أب كبير ، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل ، وذهب جليل ، وأحضره بين يدي ، وأسلم أمره إلي ، وأشهد الله علي ، وقال : هذا لأخيك عندك ، فاحفظه جهدك ، فاتخذت لذلك مدفناً ، ووضعته فيه ، ولا يعلم به إلا أنا ، فإن حكمت الآن بقتلي ، ذهب الذهب ، وكنت أنت السبب ، وطالبك الصغير بحقه ، يوم يقضي الله بين خلقه ، وإن أنظرتني ثلاثة أيام ، أقمت من يتولى أمر الغلام ، وعدت وافياً بالذمام ، ولي من يضمنني على هذا الكلام . فأطرق عمر ، ثم نظر إلى من حضر ، وقال : من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه ؟ قال : فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين ، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين ، وقال : هذا يكفلني ويضمنني . قال عمر : يا أبا ذر ، تضمنه على هذا الكلام ؟ قال : نعم ، أضمنه إلى ثلاثة أيام . فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر . فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال ، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر ، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر . فقالا : أين الغريم يا أبا ذرّ ؟ كيف يرجع من فر ، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا . فقال أبو ذَرّ : وحق الملك العلام ، إن انقضى تمام الأيام ، ولم يحضر الغلام ، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي ، وبالله المستعان .
فقال عمر : والله ، إن تأخر الغلام ، لأمضين في أبي ذرّ ، ما اقتضته شريعة الإسلام . فهمت عبرات الناظرين إليه ، وعلت زفرات الحاضرين عليه ، وعظم الضجيج وتزايد النشيج ، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية ، فأصرا على عدم القبول ، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول . فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر ، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال : قد أسلمت الصبي إلى أخواله ، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله . ثم اقتحمت هاجرات الحر ، ووفيت وفاء الحر . فعجب الناس من صدقه ووفائه ، وإقدامه على الموت واجترائه . فقال : من غدر لم يعف عنه من قدر ، ومن وفى ، رحمه الطالب وعفا ، وتحققت أن الموت إذا حضر ، لم ينج منه احتراس ، كيلا يقال : ذهب الوفاء من الناس . فقال أبو ذَرّ : والله ، يا أمير المؤمنين ، لقد ضمنت هذا الغلام ، ولم أعرفه من أي قوم ، ولا رأيته قبل ذلك اليوم . ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال : هذا يضمنني ، فلم أستحسن رده ، وأبت المروءة أن تخيب قصده ، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس ، كيلا يقال : ذهب الفضل من الناس . فقال الشابان عند ذلك : يا أمير المؤمنين ، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا ، فبدل وحشته بإيناس ، كيلا يقال : ذهب المعروف من الناس . فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه ، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه ، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف ، وأثنى عليهما أحسن ثنائه . وتمثل بهذا البيت :


من يصنع الخير لم يعدم جوائزه . . . لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما . فقالا : إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم ، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى .
من كتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس للأتليدي 1/13

7- زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله تعالى-:
ريحانة العابدين زين العابدين علي بن الحسين -رحمه الله- من أكابر التابعين، كان في مجلسه وعنده أصحابه من العلماء والأشراف والوجهاء وجميع طبقات المجتمع في مجلس حافل لأنه رجل عالم وهو أبو الفقراء، يصدع للناس في نوائبهم، فكان جالساً وكان بينه وبين بن عم له وهو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب شيء مما يكون بين الناس، فلم يتمالك حسن بن حسن نفسه، وخرج عن طوره، وجاء يبحث عن زين العابدين، فوجده جالساً مع أصحابه في المسجد، فجاء إليه وما ترك شيئاً إلا قاله في حقه من الشتم وقبيح القول، وعلي بن الحسين ساكت لا يرد بشيء، فلما تشفى منه انصرف، ثم ذهب علي بن الحسين بعد أن أكمل مجلسه إلى بيته، فلما كان الليل ذهب زين العابدين إلى بيت حسن بن حسن، وفي مثل هذه المواقف المتوقع أنه يخفي تحت ثيابه ما يؤدبه به، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل جاء إلى بيته، وطرق عليه الباب، فلما خرج حسن بن حسن قال له: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم، وتركه، فهشمت هذه الكلمات العداوة المستحكمة في نفس حسن بن حسن، ولم يتمالك مشاعره، فتحولت مشاعر العداوة والبغض والكراهية والغضب إلى مشاعر أخرى معاكسة، فجعل يتبعه ويجري خلفه، والتزمه من خلفه، وجعل يبكي حتى رثي له، ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال له علي بن الحسين: وأنت في حل مما قلت لي. من محاضرة قيمة للدكتور الفاضل خالد السبت بعنوان أخلاق الكبار والقصة في: (1) تهذيب الكمال 12/380 سير أعلام النبلاء 5/332 تاريخ الإسلام 6/436