المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التخريج الأصولي لظاهرة اهدار المال العام



أهــل الحـديث
04-01-2013, 06:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


التخريج الأصولي لظاهرة اهدار المال العام
المتأمل للأدلة الشرعية من الوحيين في أبواب المعاملات المالية ، يتبين له عناية الشريعة بضرورة حفظ المال بنوعيه : الخاص والعام . والمقصود بالمال العام : مداخيل الدولة والثروات الظاهرة والباطنة ، والمؤسسات العمومية والقروض الخارجية والمِنح والضرائب ، وكل مال منقولٍ أو ثابتٍ لم تحزه يدٌ خاصة .
والمقصود بهدر المال العام : الاستيلاء والاختلاس والسرقة والاغتصاب والنَّهب للأموال والممتلكات التي هي حقٌ شائع لأفراد الدولة المسلمة ، وثبتت ملكيتها للعامة بالأدلة النصية والعرفية . ويضاف إلى ذلك : الاستئثار بأموال الرعية وتبديدها في المصالح الشخصية من جانب القائمين على المال العام .

وإذا كان الله تعالى قد توعَّد الكانزين للذهب والفضة بالعذاب الأليم وهم قد أخذوه بحقه ، فكيف بعذاب الناهبين للمال العام ، وهم قد أخذوه بغير حقه ؟! .
والتطبيق العملي الشائع لهدر المال العام يتمثل في : الاختلاس والنهب . والفرق بينهما أن الانتهاب : هو أخذ الشيء قهراً ، فالانتهاب ليس فيه استخفاء مطلقاً ، في حين أن الاختلاس يُستخفى في أوله ، ويكون باستغفال ومخادعة .
وبالنظر إلى التخريج الأصولي في ضوابط المعاملات المالية ، تتكشف كثيرٌ من القواعد والضوابط المهمة التي تكون رادعة للنفوس الضعيفة ، التي تسعى إلى التربُّح والكسب غير المشروع من المال العام ، ويسهل التعرُّف على مأخذ ما نصَّ عليه العلماء وأصَّلوه في باب المعاملات المالية ، واستنباط الأحكام التي لم ينصَّ عليها العلماء ، وردِّ الأحكام الفقهية الى قواعدها الأصولية .

1- الأصل في الآدمي الظُّلم والجهالة . لقول الله تعالى في شأن الامانة : "وحملها الانسان إنه كان ظلوماً جهولا"( الاحزاب: 72 ) . وقد قرَّرت القاعدة الاصولية أنه يجب العملُ بالظن الراجح . وعليه فيجب التحرُّز عند حفظ أموال الناس أن تقع بيد من لا يراعي حقوق الله فيها . فلا تُناط أموال الناس إلا على عاتق من يعرف حقوقها وواجباتها ويحاسب نفسه على التقصير فيها . والفساد المالي من أنواع الظلم التي تقع في حقوق الآدميين والتي هي مبنية على المشاحَّة . وقد قال سبحانه : " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ( الحشر: 7 ) . وإذا غلب على الظن الراجح خيانة من يقوم على أموال الناس ، فيجب الأخذ على يده وتعزيره وعزله . وقد عزل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن اللتبيَّه حين علم بتعدِّيه على المال العام . وقد استدل الأصوليون بهذا الشاهد النبوي على حجية الطَّرد والعكس ، وهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف . ويستنبط منه أيضا أن الغالب في وكلاء الأموال التقصير والتفريط إلا من رحم الله .

2- كل حيلة تضمنت اسقاط حق أو استحلال محرم فهي محرمة . هذه القاعدة الأصولية يعمل بنقيضها في استحلال المال العام بوسائل وطرق غير مباشرة . كتجييِّر الشيكات المالية العامة الى أرصدة أو حسابات شخصية ،أو ترسية المشاريع النظامية على مؤسسات خاصة غير قادرة على أعباء العمل المعقود عليه ، أو التهرُّب من سداد فواتير الخدمات العامة عن طريق منافع متبادلة في الدوائر الحكومية مقابل امتيازات معينَّة . وقد تقرر في قواعد الشريعة أن الأمر بالتصرف في أموال الغير باطل .

3- لا يجوز اكتساب الأموال العامة بالتقادم .فمن وضع يده على مال عام وأصبح من أملاكه ودخل في حيازته، فإن طول الوقت لا يشفع له في دعوى التملك . والمال العام يجب نزعه من مُغتصبه واعادته الى مورده الأصلي .وإذا حَرُم اكتساب المال بالتقادم ، فيحرم أيضا بالالتصاق المجاور لأرضه أو بنيانه . ويُستثنى من ذلك الأرض البور التي يُحييِّها الفرد في مكان بعيد .

4- على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه . فكل من نهب أو اغتصب أو أهدر مالاً عاماً ، فإن ذمته مشغولة بما استولى عليه وتسبَّب في ضياعه من أموال المسلمين المنقولة والثابتة ،حتى يعيدها إلى بيت مال المسلمين . وقد نصت القاعدة الفقهية على أن المباشر ضامن وإن لم يتعمَّد .فيضمن كل من أخذ مالاً عاماً وإن كان بحسن نية . وتكون ذمته بريئة إذا أعاد الحق لأصحابه . وقد تقرَّر في قواعد الشريعة أن الاضطرار لا يبُطل حق الغير . فمن اضطر لوضع يده على مال عامٍ تحت تصرفه ،لزمه تسليمه .

5- تصرف الحاكم في المال إنما يكون بالنيابة لا بالأصالة .فالحاكم نائب عن المسلمين في تقسيم المال العام .وقد ميَّز الفقهاء بين المال العام وبين مال الحاكم الخاص به، فأجازوا له التصرف في ماله بما شاء، فله أن يعطي ويمنع كما يشاء، وأجازوا له التصرف في ماله بغير الأصلح كما يجوز لغيره، بخلاف المال العام، فلم يبيحوا له التصرف فيه وفق مشيئته، بل أوجبوا عليه فعل الأصلح، فدلَّ ذلك على عدم ملكه المال العام؛ لأنه لو كان كذلك لكان حكمه حكم ماله الخاص .

6- تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الأموال كان على جهة الحفظ والقسم لا على جهة الادِّخار والاستئثار . وقد ثبت في المرفوع :" ما أعطيكم، ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم، أضع حيث أُمرت " أخرجه البخاري .وفي لفظ: "إن أنا إلا خازن " . أخرجه أبو داود باسناد صحيح .
وقد دلَّ الحديث على عدم ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم المال العام بنفيه ملك إعطاء أحد أو منعه، وأن وظيفته فيه الحفظ والقسم؛ إذ لو كان ملكه ،لملك حق الإعطاء والمنع كسائر المالكين . ويستنبط من هذا الشاهد النبوي أن الحاكم في شأن الأموال لا يجوز له التملك فوق كفايته .

7- الغُرم بالغنم . أحكام الغرامات المالية تَلزم مَن وضع يده على مالٍ عام .فكل غنيمة محرمة يقابلها غرامة محددة .وفي المرفوع : "لا يأخذنَّ أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردَّها عليه" أخرجه الترمذي باسناد صحيح . فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بردِّ العصا المأخوذة عدواناً ، فيكون غيرها من أموال المسلمين العامة أوجب وألزم . وصفة الردِّ أن المثلي يُردُّ بمثله والقيمي يرُدُّ بقيمته . وقد تقرَّر في القواعد الفقهية أن الخراج بالضمان . فكل من ملك شيئا ،فقد وجب عليه ما يكون من ضروراته .

8- صفة الغلول في المال العام ، تكون بإنفاقه من القائم عليه في الملذات الخاصة ، والتصرف فيه بدعوى الحيازة والغلبة ، ووضع اليد على ممتلكات الغير، بدعوى اقامتها على أراضي نظامية . ولم يكن الرعيل الأول ينفقون على أنفسهم من بيت المال إلا ما كان مقرَّرا لهم . فقد ثبت في المرفوع : " لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتين ، قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين يدي الناس " .أخرجه الامام أحمد باسناد صحيح . وقد تقرر عند الأصوليين أن دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر ، ومفهوم الحديث يُحرِّم على القائم على الأموال الترفُّه في النفقة منها . ويستنبط من مفهوم الحديث أن المبالغة في صرف مخصصات عالية تفوق حدَّ الكفاية من المنكر البيِّن .

9- لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان . وهذه قاعدة مهمة للردِّ على من يزعم أن القائم على المال العام إن جاز له التصرف في المال فإنه لا يضمنه . والحكم المستنبط من مفهوم القاعدة : أن خازن المال ولو كان مُخوَّلا بحفظ المال وتنميته فإنه يضمن ما ينفق وما ينقص منه . وقد حفظ الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد روي عن عمر رضي الله عنه : ""إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلة اليتيم، إن استغنيتُ منها استعففتُ، وإن افْتَقرتُ أكلتُ بالمعروف" . فقد ضمن كفَّ يده عن مال المسلمين مع أحقيِّته في جواز التصرف في المال . وإذا كان الراعي في غنمه مسؤول عن زيادة غنمه بغير وجه حق ، فكيف بخازن المال إن استأثر بالمال دون من له حق فيه .

10- إن الله إذا حرم الانتفاع بشيء حرَّم الاعتياض عنه . فتحرم المعاوضة بدل اهدار المال . وما يقوم به بعض القائمين على أموال الرعية من أخذ العِوض من بيت المال ، أو ما يقابل ذلك من الاحتيال والتربُّح والاستيلاء عن طريق المعاوضة في الدوائر النظامية ، فإنه يُعدُّ من أكل أموال الناس بالباطل . وفيه مشابهة لِحيل اليهود لمَّا حرَّم الله عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا أثمانها ! .

وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اضاعة المال ، واستبراء الدِّين والعِرض يكون باتقاء الشبهات عند استخراج الأموال وانفاقها . وصح عنه أيضا : "من منع فضل مائه ، منعه الله فضلَه يوم القيامة" .أخرجه الامام أحمد باسناد صحيح . فيستنبط من هذين الحديثين نصَّا ومفهوماً : وجوب الورع في قسمة المال العام، وبذله لمستحقيه بمصارفه الواردة في آية الحشر ، والترهيب من الاستئثار فيه ، لأنَّ من يغلُل يأتي بما غلَّ يوم القيامة . والتخريج الأصولي يستلزم النظر في السبب والشرط والمانع المقتضي لهذه الظاهرة في المعاملات المالية . وقد قال الله تعالى :" واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين " ( هود : 116 ) فقد وضَّحت الآية الكريمة أن الترف سببٌ للظلم في الأموال وشرط لحصوله ومانع من العدل في قسمتها .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

المصادر :
1- الاستخراج / لابن رجب / 40 – وما بعدها .
2- الأحكام السلطانية / للماوردي / 33 .
3- المنثور في القواعد / للزركشي / 76 .
4- القواعد الأصولية / لابن اللحام / 34 .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
http://lojainiat.com/main/Author/2083