المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيفية دراسة الفقه -محاضرة قيمة لشينا المحقق صالح بن عبدالله بن حمد العصيمي-حفظه الله



أهــل الحـديث
13-12-2012, 05:52 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



كيفية دراسة الفقه











محاضرة لفضيلة الشيخ



صالح بن عبدالله بن حمد العصيمي



حفظه الله




عناية



عبدالله بن الحميدي الدغيلبي



بسم الله الرحمن الرحيم



درس لفضيلة شيخنا



صالح العصيمي



عن كيفية دراسة الفقه.



غفر الله لشيخنا ونفع بعلمه .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله أجزل عطاءَه وأوسع هباته، نحمده حمد عبد مقر لا يجحد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، أما بعد :
فإني كنت أرجو أن نبتدئ الليلة في شرح آداب المشي إلى الصلاة ، إلا أنه عرض ما يؤخر ذلك إلى أمده بإذن الله عز وجل ، واختار الله أن نتكلم أو نتحدث عن أمر هو أنفع لكم وأنتم إليه أحوج , وطالما رجوت أن أغتنم فرصة أوحى إليكم بمزورة في نفسي حتى صير الله عز وجل هذا الوعد الموجب للوفاء به فكان , الوفاء مقتضياً تزويدكم بهذا الأمر وهو كيفية دراسة الفقه , فإن الأمر كما قال ابن القيم رحمه الله في " الفوائد " : والجهل بالطريق وآفاتها والمقصود مما يؤخر حصوله ا.هـ فالإنسان إنما يتأخر حصوله على مراده بأحد ثلاثة أمور:
أحدها: جهله بمقصوده في طلبه.
والثاني: جهله بالطريق الموصل إلى ذلك المقصود .
والثالث : جهله بالآفات التي تعرض له .
وهذا الأمر عام في المطلوبات العلمية والعملية ، فإذا لم يتحقق الإنسان المعرفة به اغتالته الغوائل فانقطع عن الوصول إلى مطلوبه ، فأيما أمر أردت أن تصل إليه فتفقد هذه الأمور الثلاثة:
وأولها : معرفة المراد منه .
وثانيها : معرفة الطريق الموصل إليه .
وثالثاً : معرفة الآفات التي تعرض في ذلك الطريق .
فإنها ربما أضعفت أو أنهكت أو صرفت الإنسان بالكلية عن مطلوبه ،ومن جملة المطلوبات الشرعية علم الفقه . وحقيقة الفقه كما هو معلوم : الأحكام الشرعية الطلبية المستنبطة من الأدلة التفصيلية ، فالفقه عند أهل العلم مخصوص بالحكم الشرعي الطلبي ليس غير , وخرج بهذا الحكم الشرعي الخبري ؛ فإن الحكم الشرعي الخبري بابه علوم العقائد والإيمان , وأما الحكم الشرعي الطلبي فبابه علوم الفقه والأحكام , وهذا العلم كما يشعر به حد حقيقته مبني على أدلة تفصيلية ، فإن الله سبحانه و تعالى تعبدنا بشرع أنزله على محمد e وبعثه إلينا , فأخبر النبي e عن كيفية التعبد , ومن جملة ذلك الأحكام الشرعية الطلبية , وكان خبره e عن ربه: إما بما يتلقاه من القرآن , أو بما يرشد إليه النبي e من الأحكام، فنشأ بهذا البلاغ الأول مصدران عظيمان للأحكام هما : القرآن الكريم والسنة النبوية ،وكلاهما وحي من الله ، كما قال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله في " وسيلة الحصول واللؤلؤ المكنون " :


وسـنة النـبي وحـي ثـاني عـليها قـل : أطـلق الـوحيان

فابتدأ بيان الفقه بذكر الأحكام الشرعية الطلبية بما أنزل على النبيe من القرآن, وبما بينه النبيe في سنته من الأحكام , وتلقى أصحاب النبيe عنه هذه الأحكام الطلبية الشرعية ثم تلقى التابعون عنهم , واستجد في زمن الصحابة رضي الله عنهم أشياء تكلموا فيها بالاستخراج والاستنباط ، وكذلك استجد في زمن التابعين أشياء تكلموا فيها بالاستنباط والاستخراج , فبدأت فروع الفقه تتكاثر ،ونشأ بعد هذا تدوين العلم ،فإن تدوين العلم كان أوله في زمن التابعين كما قال السيوطي رحمه الله في ألفيته " ألفية الحديث " :
أول جامع الحديث والأثر ابن شهـاب آمـراً له عمـر
يعني عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فَقَيَّد ابنُ شهاب- وهو محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزهري أحد فقهاء المدينة من صغار التابعين- قَيَّد المأثورَ من العلم عن النبيe وعن الصحابة رضي الله عنهم , ثم دونت المصنفات والموطآت والجوامع ، فصنف سفيان الثوري وحماد بن سلمة " الجامع " ، فلسفيان جامع ، ولحماد بن سلمة جامع ، وصُنفت الموطآت: كموطأ مالك بن أنس رحمه الله , وموطأ ابن أبي ذئب رحمه الله من أهل المدينة , وصنفت المصنفات : كمصنَّف عبد الرزاق بن همام الصنعاني رحمه الله ، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة رحمه الله ، ثم في إبّان هذا جُردت الفروع عند بعض فقهاء الأمة كأبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله ، فإنه كان في زمن أتباع التابعين ، ولم يثبت أنه لقي أحداً من أصحاب النبيe ، فتكلم أبو حنيفة في الفقه بما تلقاه من إرث مدرسة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان إمام أهل الكوفة, وله أصحاب كُثر حملوا عنه علمه منهم: علقمة بن قيس ، ومسروق بن الأجدع ، والأسود بن يزيد ، وعبد الرحمن بن يزيد ، في آخرين من كُبراء أهل الكوفة ، وكان أكثر بلاد المسلمين فقهاً هم أهل الكوفة من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقد تأثل هذا العلم عنهم إبراهيم النخعي خاصة, ثم حمل عنه حماد بن أبي سليمان ،ثم حمل أبو حنيفة النعمان بن ثابت هذا الفقه عن حماد بن أبي سليمان ، ودُوِّنَ كلام أبي حنيفة في فروع الفقه وهي الأحكام الشرعية الطلبية ، فكانت تلك المدونات هي بَواكير المدونات الفقهية المجردة ، وقارنها في المدينة الفروع التي قيدها الإمام مالك رحمه الله في كتاب الموطأ ، ثم نشأ في المسلمين من انتفع بمدرسة الكوفة والمدينة وهو محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله, فإنه أخذ عن أبي حنيفة النعمان وأخذ عن مالك بن أنس ، وكتب كتباً في الفقه ككتاب "الأصل" ، و"الحجة على أهل المدينة", و"الآثار" وغيرها ، ثم أخذ عن محمد بن الحسن الشيباني جماعة منهم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ، فانتفع به في مبادئ أمره ، ونظر في كتب فقهاء المذهب العراقي الكوفي- وهم أصحاب أبي حنيفة- ووصله بما تلقاه عن "مالك" من السنة, وكان له نظر دقيق في السنة, وله سعة في معرفتها أكثر من أهل الكوفة؛ لأنه انتفع من أهل الحجاز واليمن ، ثم تلقى عن محمدِ بنِ إدريسِ الشافعي أحمدُ بن محمد بن حنبل رحمه الله ، فاستفاد منه ، وكان مع نزول إسناد الشافعي يلزمه ، ولما عاب عليه يحيى بن معين ذلك قال : "إن فاتك إسناد وجدته عند آخر وإن فاتك علم هذا الرجل لم تجده عند غيره " فَقَيَّد الإمامُ الشافعي رحمه الله كتاب "الأم" ،وكتاب "الرسالة" وغيرها من الكتب في الصنعة الفقهية ، واستفاد منه فئام منهم أحمد بن حنبل ، ورجع فقه الأمة إلى هؤلاء الأربعة الذين مَرَّ ذكرهم وهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، ثم مالك بن أنس الأصبحي المدني إمام دار الهجرة ، ثم محمد بن إدريس الشافعي ، ثم أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمهم الله ، فصار عماد الفقه الموجود في الأمة عُظْمُهُ وعامته يرجع إلى المأخوذ عن هؤلاء ، وإن كان يوجد في زمانهم وقبلهم أُممٌ شهروا بالفقه وصار لهم أتباع كسفيان الثوري ، وأبي عمرو الأوزاعي ، والليث بن سعد الفهمي المصري ، ومحمد بن جرير الطبري ، إلا أن قيام أصحاب الأربع بهم في الفقه وفروع الأحكام الشرعية الطلبية كان أعظم من قيام أصحاب غيرهم بهم، فرجع فقه الأمة إلى هؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم الله، وهم أئمة المذاهب المتبوعة التي بقيت إلى يومنا هذا ، وانتقل الفقه في الأمة طبقة بعد طبقة بما وُرِثَ عن علم هؤلاء الأربعة من المقيدات التي صنفها أصحابهم ثم أصحاب أصحابهم ثم أصحاب أصحاب أصحابهم على اختلاف طبقات كل مذهب إلى أن انتهت إلى زماننا هذا ، فإن أبا حنيفة كان له أصحاب- كأبي يوسف الأنصاري و محمد بن الحسن الشيباني- وأخذ عن هؤلاء أصحابٌ لهم, وقُلْ مثل هذا في مالك والشافعي وأحمد، وتناقل المسلمون فقه هؤلاء الأئمة في طبقات الأمة وقرونها على اختلاف بلدانها ، وصارت ثمة أمور تؤثر في انتشار مذهبٍ ما وانحساره في بلد أو زمن بحسب ما يُقضيه الله من الأسباب القدرية ، ففقه الأمة عماده الموجود اليوم هو فقه المذاهب الأربعة .
وحصول الفقه له طريقان اثنان :
أحدهما : التفقه بالدلائل .
والآخر: التفقه بالمسائل .
والمراد بالتفقه بالمسائل: أي تفهمه من الكتب التي قُيدت فيها فروعُ الفقه ، والمراد بالتفقه بالدلائل: أي تفهم أحكام الفقه من الكتب التي جمعت الدلائل ، فالتفقه له هذان الطريقان ، ولا يوجد طريق ثالث سواهما . فإما أن يكون الأخذ من كتب المسائل ، وإما أن يكون الأخذ من كتب الدلائل ، وكتب المسائل كما سلف هي الكتب التي حوت فروع الفقه ، والموجود بأيدينا مضبوطاً هي الكتب التي اعتنت بفقه الأئمة الأربعة ، وكتب الدلائل هي الكتب التي اعتنت بجمع دلائل الأحكام- كالكتب المصنفة في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام أو الإجماع - فإنها جميعاً من جملة الدلائل، وبين هذين الطريقين فرقٌ له أثر عظيم في حصول الفقه ، والفرق بينهما أن التفقه بكتب المسائل يَسهل معه تصورها ، وأما التفقه بكتب الدلائل فيصعب معه تصور المسائل التي تتعلق بها تلك الدلائل .
فتحصيل الفقه من كتب المسائل له أربع مراتب :
الأولى : تصور المسألة.
الثانية : معرفة دليلها.
الثالثة : استنباط الحكم من الدليل.
الرابعة : معرفة كيفية الاستنباط التي أوصلت إلى الحكم .

وكذلك تحصيل الفقه من كتب الدلائل له أربع مراتب :
الأولى: معرفة الدليل.
الثانية : استنباط الحكم منه.
الثالثة : معرفة كيفية الاستنباط.
الرابعة : تصور المسألة .
ومن المعلوم أن المقصود في أخذ العلوم تصور مسائلها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فلا يتأتَّى الحكم على أمرٍ ما حتى يُتصور ذلك الأمر, فيعُلم بهذا أن الاشتغال بتصور المسائل في العلوم أولى من طلب أدلتها ؛ لأن الدليل لا يمكن معه لأول نظرة معرفةُ المسألة معرفة تامة وتصورها كما ينبغي .
وقد ذكر أهل العلم- تبعاً لهذا الأصل- أن الطالب المبتدئ هو الذي يتصور المسألة, وأن الطالب المتوسط هو الذي يتصور المسألة مع معرفة دليلها ، وأن الطالب المنتهي هو الذي يتصور المسألة مع معرفة دليلها والرد على غيره ، فمراتب الطلبة ثلاث :
الأولى : مرتبة المبتدئ وهو المتصور لمسائل العلم .
الثانية : مرتبة المتوسط وهو المتصور لمسائل العلم بأدلتها .
الثالثة : المنتهي وهو المتصور لمسائل العلم بأدلتها مع الرد على ما يخالفها.
فكلُّ علمٍ إذا أردتَ أن تعرف قدركَ فيهِ فانظر إلى حظك من هذا ، فالذي يدرس متناً ما -كثلاثة الأصول- ويكون له إلمام بالمسائل التي فيه دون استحضار أدلتها فهذا يكون مبتدئاً ، والذي يزيد عليه بمعرفة الأدلة يكون متوسطاً ، والذي يزيد عليهما بالرد على ما يخالف المسألة التي المستدَلُّ عليها يسمى منتهياً .
وحاصل هذا التقرير أنْ تعلمَ أنَّ المقدَّم في أخذ العلوم هو تصور المسائل لا معرفة الدلائل ، ولهذا فإن الفقه إما أن يكون بالفعل ، وإما أن يكون بالقوة ، والمراد بالفعل أن يكون متصوِّراً للمسألة, عارفاً لدليلها مع الرد على ما يخالفها, أو له قوة على معرفة الأدلة والرد على ما يخالف, لكن يوجد عنده تصور للمسألة وإن غاب عنه دليلها ، وإذا سلك طريق أخذ الفقه من كتب الدلائل غوَّر ذلك الفهم, وصعب الإدراك للفقه, بخلاف أخذه من كتب المسائل, وأنا أضرب لكم مثلاً يستبين به المقال : فإنكم تعرفون ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث t أن النبي e قال: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " هذا دليل ، المرتبة الأولى : معرفة الدليل ، عرفت هذا الدليل الآن ، وحفظته ، المرتبة الثانية : استنباط الحكم منه ، الحكم هو أن الصدقة لا تجوز لآل محمد ، المرتبة الثالثة : كيفية استنباط الدليل ، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والمقريزي في "تجريد التوحيد" أن هذا التركيب "لا ينبغي ولا تنبغي " موضوع في الشرع للممنوع قَدَرَاً أو شرعًا ﭧ ﭨ ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﭼ يس: ٦٩أي: ممتنع قَدَراً ومحرم قدراً علم الشعر على النبيe ، وهذا الحديث " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " تدل على الممتنع شرعاً, يعني: محرم، يدل على الحرمة ، بعد هذا تصور المسألة ، وهو أنه لا يجوز دفع الصدقة إلى آل محمد وهم بنو هاشم وأزواجه e, انظروا إلى أن وصلنا إلى تصور المسألة وأيضاً يبقى التصور أن له فروعاً ، يقال: موالي آل محمد , يدخلون أو ما يدخلون ؟ هذا التفقه عن طريق الدلائل ، قال في "زاد المستقنع" في كتاب الزكاة فيما يتعلق بإخراج الزكاة وأهلها قال:"ولاتدفع لهاشمي ومطلبي ومواليهما" ارجعوا إلى المراتب الأربع ، المرتبة الأولى : تصور المسألة ، الآن تصور المسألة " لا تُدفع " يعني هذا نهي عن دفعها ، وكان يتكلم عن أهل الزكاة ، ثم قال: " ولا تدفع لهاشمي ..." وذكر من تمنع عنهم الزكاة فقال : " ولا تدفع " أي: يحرم دفعها قال:" لهاشمي ولا مطلبي" ، بيَّن مَن هم آل محمد ، بخلاف الدليل ، ولذلك يقول الشيخ حافظ في السبل السوية :
وحرمت نصاً على آل النبي وهم بنو هاشم والمطلب
فبين من هم آل محمد ، الشوكاني لما كان فقيهاً ترك طريقته التي اختطها لنفسه في "الدر البهية" عند هذا الموضع ، "الدرر البهية في المسائل الفقهية" ، اشترط الشوكاني على نفسه ألا يذكر فيه إلا مسألة ورد النص عليها في الدليل ، فلما جاء هنا ذكر عدم جواز دفعها "لهاشمي" ولم يذكر "لآل محمد" ، مع أنه على طريقته كان يلزمه أن يذكر "آل محمد" ولا يذكر "هاشمي"؛ لأن النص جاء بآل محمد ولم يأت بهاشمي ، لكن صنعة الفقه عنده حملته على مخالفة أصله الذي اختطه ؛ لأن قولك: "آل محمد" لا يتبين به المراد . ثم قال بعد ذلك في الزاد: " ومواليهما " يعني: لا تدفع إلى بني هاشم ولا بني المطلب- وهما ابنا عبد مناف من قريش- ولا إلى مواليهما ، الآن تصور المسألة ، بعد ذلك معرفة الدليل ، فأنت إذا تصورت المسألة احتجت إلى دليل يدل على صدق هذه المسألة المذكورة في كتب الفقهاء ، فكان الدليل هو حديث عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " والمرتبة الثالثة : استنباط الحكم من الدليل وهو على الوجه الذي ذكرنا فيما سلف يدل على الحرمة . ثم الرابعة : كيفية الاستنباط ، وذلك أن " لا تنبغي " موضوعة في الخطاب الشرعي للدلالة على الممنوع قدراً أو شرعاً ، فتكون دالة على التحريم. فالتفقه من كتب المسائل أسلم جادة وأوثق طريقاً من التفقه من كتب الدلائل ؛ لأن كتب الدلائل تحتاج إلى آلة لفهم المسائل المذكورة ، ولا يترشح لفهم ذلك جمهور الخلق حتى الأذكياء ؛ لأن الفهم صار يحتاج إلى آلة : فهو محتاج إلى آلة من أصول الفقه ، ومحتاج إلى آلة من قواعد الفقه ،ومحتاج إلى آلة من العربية ، فيحتاج الإنسان إلى آلات عدة ليستعين بها على استنباط الأحكام من الدلائل مما يضعف تصوره المسائل ويغور فهمه ، ولا يجود ملكته الفقهية لصعوبة الطريق ، ومن المقطوع به عقلاً أن الطريق الشاق يترتب منه تعب كثير بخلاف الطريق الأوضح الأجلى ، فإنه تحصل به المنفعة مع سهولة ويسر .

فإذا كان الأمر على ما تقرر من تفضيل التفقه بكتب المسائل على كتب الدلائل انتقلنا إلى أمر بعد هذا وهو كيفية تحصيل الفقه .
ذكر أبو العباس ابن تيمية الحفيد رحمه الله تبعاً لجماعة من قدماء الفلاسفة أن العقل له قوتان :
إحداهما: قوة حفظ .
والأخرى: قوة فهم.
فلا تدرك المطلوبات العلمية إلا بوجود هاتين القوتين ، ولما كان الفقه مطلوباً عقلياً فإن الإنسان لا يمهر في الفقه ولا يدرك مسائله إلا بفهم وحفظ ، فأما الفهم فيكون بالتفقه في مذهب من المذاهب المتبوعة حسب الكتب المرتبة عند أربابه ، فتتفهم الفقه بهذا الطريق, فتعمد إلى مذهب متبوع-المختار منها هو مذهب أهل بلدك- فتتفقهه بالترتيب الذي دأبوا عليه, فلو قدر مثلاً أن امرأً منكم شافعيَّ المذهب باعتبار بلده الذي نشأ فيه- كأهل مصر في كثير من محاله- فإنه يتفقه بدراسة الفقه حسب الكتب المرتبة في المذهب ، فهو يقرأ أولاً "سفينة الصلاة" ثم "سفينة النجاة" ، ثم "متن أبي شجاع" ثم "المقدمة الحضرمية" ثم "عمدة السالك" ، ثم "منهاج النووي" ثم "منهج زكريا الأنصاري" ، فإذا قرأ على هذا الترتيب صار متفهماً للفقه, سالكاً الطريق المأمون في تفقهه ومعرفته بمسائل الفقه المقررة عند الفقهاء ، واتخذ واسطة لذلك وهي دراسته للفقه الشافعي وهو مذهب بلده حسب الترتيب المعروف في بلده ، ومما ينبه إليه أنه مع ضعف الفقه في البلاد الإسلامية انحلت عرى الترتيب الفقهي في الأخذ ممن أراد أن يسلك صراطاً سوياً, فهو ينظر إلى ما كان عليه الناس قبل مائة سنة في البلاد الإسلامية عامة فيجمع مذهبه, كالشافعي مثلاً, فينظر كيف يتفقه الشافعية في اليمن, أو كيف يتفقهون في مصر وكيف يتفقهون في بلاد أفريقيا ، ويجمع كتبها بعضها إلى بعض, ويلاحظ ترتيبها, ويتفقه بهذا الطريق, وهذا الترتيب هو الترتيب الأوفق الذي ذكرناه ، وربما يخل بعض أهل بلد بواحد من هذه الكتب, وربما جعلوا نظماً محله, والأولى هو هذا النسق كما ذكرنا على مذهب الشافعية رحمهم الله .
وأما الحفظ فإن المتفقه يحتاج إلى نوعين من الحفظ :
الأول : حفظ متون المسائل.
والثاني : حفظ متون الدلائل .
فأما متون المسائل فالمراد بها المتون المعتمدة للحفظ في مذهب ما من المذاهب الأربعة ، فتحفظ المتون المعتمدة عند أهل مذهبك في بلدك، وأما متون الدلائل فإن عمادها ثلاثة أشياء هي: آيات الأحكام, وأحاديث الأحكام, والإجماع ، فيحتاج المتفقه أن يكون من محفوظاته من متون الأدلة ما يكون حاوياً لآيات الأحكام, وما يكون حاوياً لأحاديث الأحكام, وما يكون حاوياً للإجماع ؛ لأن هذه الثلاثة- وهي القرآن والسنة والإجماع- هي جماع الأدلة التي اتفق عليها الفقهاء ؛ فإن الفقهاء في كل مذهب يرون أن القرآن والسنة والإجماع أدلة محتج بها , ووقع الخلافُ فيما وراء ذلك من القياس, وقول الصحابي, والاستصحاب, وشرع من قبلنا, وسائر الأدلة التي يذكرها الأصوليون في كتبهم ، إذا تقرر هذا فإن نعت ما يحفظ من متون الدلائل والمسائل يختلف باختلاف البلدان لاختلاف المذاهب ، فيلاحظ المرء ما يكون عليه أهل بلده ،فيتفقهه في حفظه للفقه بما جروا عليه ، وباعتبار هذا البلد : فالأصل فيه مذهب الحنابلة ،فمن كان حنبلياً فإن المختار له ما سنذكره ، فنختار له فيما سيأتي ما يحفظه ويفهمه مما يرجع إلى هذين الأصلين .




فأما المختار حفظه فهو شيئان اثنان :
الأول : متون الدلائل .
والمختار للحفظ فيها أربعة :
أحدها : الإتمام بجمع آيات الأحكام .
وثانيها : عمدة الأحكام .
وثالثها : بلوغ المرام .
ورابعها : الإجماع .
وأما الشيء الثاني: وهو متون المسائل.
والمختار للحفظ فيها أربعة متون :
أحدها : شروط الصلاة وأركانها وواجباتها .
وثانيها : آداب المشي إلى الصلاة .
وثالثها : منسك الحج .
ورابعها : زاد المستقنع.
ونعود عليها بياناً : فأما متون الدلائل فذكرنا أن المختار للحفظ فيها أربعة محفوظات: أولها : الإتمام بجمع آيات الأحكام ، وسبق أن ذكرت لكم أن المشتغل بصنعة الفقه إما أن يكون حافظاً للقرآن أو لا يكون ، فهو على كل حال محتاج إلى مزيد نظر في ضبط آيات الأحكام وفهمها ، والأوفق أن تكون مُرَتَّبة على أبواب الفقه وليس على سور القرآن ، فإن ترتيبها على سور القرآن يتعلق بصنعة التفسير، وأما صنعة الفقه إنما يتعلق بها ترتيبها على أبواب الفقه ، ولأحد علماء الحنابلة المتأخرين جهد مبارك في ذلك- وهو العلامة ابن قاسم العاصمي - فإنه صنف كتاب "أصول الأحكام" مرتباً على أبواب الفقه, وافتتح الأبواب بالآي قبل الأحاديث , فكان يذكر في كل باب ما يدل عليه من آيات إن وجدت تلك الآيات ، فالاستفادة من كتابه نافعة جداً ، وهذا أصل مُغَّيبٌ في تلقي الفقه مع أن الأوائل صنفوا كما تعرفون في أحكام القرآن ، ككتاب "أحكام القرآن" للشافعي, وكتاب "أحكام القرآن" للبيهقي, و"أحكام القرآن" للجصاص وغيرهم - وقد كنت أتمنى- كما ذكرت لكم في تفسير آيات المناسك، فإننا استفدناها من طريق الشيخ لو تذكرون ، كنت أتمنى أن يتهيأ ذلك ، وقد تهيأ ذلك ولله الحمد ، فجمعت هذا الكتاب " الإتمام بجمع آيات الأحكام " مستفيداً من جهد الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمة الله عليه, وقد طبع هذا الكتاب في جائزة الأمير سلطان الدولية لحفظ القرآن الكريم ، فهو يوزع لديهم ، الذي له معرفة أو يتقدم للشئون الدينية للقوات المسلحة ويطلب منهم نسخة من هذا الكتاب ليستعين بها على المقصود من حفظ هذا الكتاب وفهمه ، هذا الكتاب أولَ ما ابتدئ به كتابُ الطهارة ثم باب المياه ثم قال: الآية الأولى ﭧ ﭨ ﭽ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭼالأنفال: ١١الآية الثانيةﭧ ﭨ ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼالنساء: ٤٣بعده باب: فروض الوضوء وصفته, بعده باب: نواقض الوضوء, باب:....., الأبواب فيها آية ، وبعضها فيها آيتان, وبعضها فيه ثلاث آيات, وبعضها أكثر من ذلك ، إلى أن ينتهي إلى آخر ترتيب الفقه عند الحنابلة، فهذا الكتاب الحاجة إليه داعية لضبط آيات الأحكام والاستعانة بها على فهم تلك الآيات على ما ذكرته لكم في تفسير آيات المناسك, وأرجو أن يكون له برنامجه الخاص به في مستقبل الأيام بمشيئة الله تعالى .
وأما "عمدة الأحكام" وهي المحفوظ الثاني: فهو كتاب عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى ، وأما الكتاب الثالث: فهو "بلوغ المرام" للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى .



وهنا يرتفعُ سؤالٌوهو: ألا يُغني حفظ "البلوغ" عن حفظ "العمدة" ؟
والجواب: لا , لا يغني عن ذلك؛ لأمرين اثنين :
أحدهما: أن أهل العلم درجوا على ترتيب المختصرات مع إمكان المطولات حفظاً للوقت وجمعاً للقوة؛ فإن الإنسان قد يوجد له وقت وقوة على الحفظ فأن ينفذها في شيء متكامل ولو قل خير من أن يمضيها في بعض شيء يخل ، فإن الإنسان قد يحفظ "عمدة الأحكام" في ثلث المدة التي يحفظ فيها بلوغ المرام ، وهو بهذا الحفظ يحفظ أدلة في أكثر أبواب الفقه ، بخلاف لو ارتقى إلى كتاب بلوغ المرام ثم حفظ في مثل هذه المدة ثم انقطع فكان انقطاعه إلى كتاب الزكاة فلم يحفظ شيئاً بعده من الأحكام ، فأهل العلم رتبوا العلم على هذا ، مع إمكان ما فوقه لأجل هذا المقتضى الذي ذكرت لكم ، ومن خلال العُدول عنه ، بل هو جهل محض واغترار بالنفس وقلة اعتدال بمن مضى .
وثانيهما : أن "عمدة الأحكام" تشتمل على مائة وتسعين حديثاً ليست في "بلوغ المرام" ، فالذي يحفظ "بلوغ المرام" يكون قد ترك من شريف الأحاديث النبوية في الصحيحين تسعين ومائة من أحاديث الأحكام لم يحفظها ، فيحفظ الطالب "عمدة الأحكام" ثم "بلوغ المرام" ، وهناك عمل يساعد على الحفظ- من الأعمال التي كتبتُ فيها وتساعد على الحفظ - أنني كتبت كتاباً اسمه " جامع المعاد من أحاديث العمدة والبلوغ " جمعت فيه الأحاديث التي وجدت في "العمدة" و"البلوغ" ، فيكون الإنسان بحفظه قد حفظ قدراً ينتفع به بتسهيل الحفظ عليه, ومعرفة أن هذه الأحاديث توجد في شروح العمدة والبلوغ ثم كتبت كتاباً ثانياً اسمه " الدرع السبوغ في زوائد العمدة على البلوغ " فإذا حفظ الإنسان هذين الكتابين يكون قد استتم حفظ العمدة على مرحلتين, وهذا أنفع في التلقي كما هو معروف عند أهله ، ثم جمعت كتاباً ثالثاً اسمه " حصن المعدة في زوائد البلوغ على العمدة " وترتيبه على هذه المراحل أنفع وأجمع في الحفظ والتلقي، والحمد لله: كتاب العمدة والبلوغ موجودة بأيدي الناس فللإنسان أن يحفظ منها مباشرة حتى يأذن الله ما يشاء.
وأما المحفوظ الرابع ، فهو كتاب "الإجماع" ، والذي بأيدي الناس مما ينصح به – العبارات احترازية الذي بأيدي الناس – الذي نجده متوفراً للناس وينتفع به وقد يأذن الله بغيره ، لكن مما ينتفع به الإنسان في حفظه كتاب "الإجماع" لابن المنذر ، ولا يليق بطالب العلم ألا تكون له معرفة بالإجماع ، ومن الغلط في أخذ العلم عدم العناية بإجماعات الفقهاء ، فإذا لم يحفظ الإنسان المسائل المجمع عليها لا يكمل فقهه، والإجماع دليل متفق عليه فينبغي أن يحفظ الإنسان كتاب "الإجماع" لأبي بكر ابن المنذر رحمه الله.
وأما متون المسائل مما يختار حفظه فقد ذكرنا أربعة: أحدها: شروط الصلاة وأركانها وواجباتها ، وثانيها : آداب المشي إلى الصلاة ، وثالثها : منسك الحج، وهذه الثلاثة كلها لإمام الدعوة الإصلاحية الشيخ محمد عبد الوهاب ، وألحق منسك الحج المفرد له رحمه الله بها للحاجة إليه.
فإن كتاب "آداب المشي إلى الصلاة" يشتمل على الصلاة والزكاة والصيام ، فالأليق إلحاق شيء من الحج به, والأوفق هو "منسك الحج" وهو منسك صغير ، والمحفوظ الرابع هو: "زاد المستقنع" للحجاوي, وهذا الكتاب فضل على غيره لوفرة شروحه, وكثرة الإقبال عليه، وإلا فإن "دليل الطالب" ينافسه, بل هو كما قال في أوله: "وبالغت في إيضاحه رجاء الغفران", فهو كتاب أوضح من كتاب "زاد المستقنع" ، لكن "زاد المستقنع" عليه شروح وحواشي, وتلك الشروح على بعضها حواشي وهذا نافع جداً ، وهو من الأشياء التي يقدم بها كتاب على كتاب في أخذ العلم ، فقد يقدم كتاب على آخر لأن اشتغال أهل العلم به أكثر, فحينئذ يكون الانتفاع به أكبر ، فإنك إذا غمض عليك معنى, أو أشكلت عليك مسألة, أو عرضت لك فيه معضلة, وجدت في شروحه وحواشيه وحواشي تلك الشروح ما يعينك على حل الإشكال ودفع الإعضال فيقدم لأجل هذا المعنى ، زد على هذا أنه هو الكتاب المقرر في الدراسة النظامية في المعاهد العلمية, وفي الدراسات الجامعية في كلية الشريعة في هذه البلاد فيكون تقديمه أولى .
وإذا فرغنا مما يختار للحفظ نتبعه بإذن الله بما يختار للفهم وهو ستة كتب :
أولها : أحكام الصلاة.
ثانيها : شروط الصلاة وأركانها وواجباتها .
وثالثها : آداب المشي إلى الصلاة, وكلها لإمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ورابعها : أخصر المختصرات للبعلي.
وخامسها : دليل الطالب لمرعي الكرمي .
وسادسها : زاد المستقنع للحجاوي .
فهذه الكتب الستة هي التي تختار للفهم ، فيتفهم المتفقه مسائل الفقه من هذه الكتب الستة ، وإذا علم المختار من الحفظ والفهم بقي وراء ذلك مسألة أعظم مما تقدم وهي: كيفية حفظ الفقه وفهمه.
ونبتدئببيان كيفيةالحفظ ثم نتبعها ببيان كيفية الفهم .
فأما كيفية الحفظ : سبق أن ذكرت لكم ما يُختار حفظُه من متون الدلائل ومتون المسائل ، والكيفية المناسبة للحفظ هو أن تقسم المحفوظ إلى مقادير حسب وسعك ، ثم تحفظ مقداراً في اليوم, وتعتني بتكرار ذلك المقدار - فمثلاً لو أتينا إلى كتاب شروط الصلاة ، قد يقسمه الأكثر إلى أربعة مقادير، فيجعل منه جملة مقداراً أولياً ثم جملة أخرى هي المقدار الثاني ثم جملة ثالثة هي المقدار الثالث ثم جملة رابعة هي المقدار الرابع ، فيكون قد قسمه إلى مقادير- وهذه المقادير قد رتبها أهل المغرب في المحاضر العلمية قديماً فيما بقي عند أهل الصحراء العربية( شنقيط) بما يسمى: أقفاف, والمراد بالأقفاف:المقدار المعين الذي ينتهي بقول المعلم للمتعلم: قف! فهم قد جعلوا متن خليل بن إسحاق في الفقه ستين وثلاثمائة "قف" أي: ثلاثمائة وستين موضوع يقف عندها الطالب في حفظه كل موضع ، وشروط الصلاة إذا قدرتها أربعة مقادير حفظت يوم السبت المقدار الأول ، ثم إذا جاء يوم الأحد حفظت المقدار الثاني وراجعت المقدار الأول ، ثم إذا جاء يوم الاثنين حفظت المقدار الثالث وراجعت الأول والثاني أو أعدته, الصواب أعدت المقدار الأول والثاني فإذا جاء يوم الثلاثاء حفظت المقدار الرابع وأعدت المقدار الأول والثاني والثالث ، فإذا جاء يوم الأربعاء كنت حافظاً للمتن ، فإن كان لك قدرة على إعادته كاملاً أعدته كاملاً وإلا قسمته على يومين ، فأعدت الأول والثاني في يوم الأربعاء, وفي يوم الخميس أعدت الثالث والرابع ، فإذا استحكمت منهما في هذه القسمة سردته كاملاً يوم الخميس ثم أتبعته بيومين آخرين تسرده كاملاً ثلاث مرات, وقل مثل هذا في كل محفوظ من هذه المحفوظات ، والأَوْلى أن تتخذ أيام السبت والأحد والاثنين و الثلاثاء و الأربعاء والخميس أيام حفظ وإعادة, ويوم الجمعة يكون إعادة لمحفوظ هذا الأسبوع فمثلاً لو قدرنا أن "زاد المستقنع" كان ستين وثلاثمائة " قف" ، فأنت يوم السبت تحفظ المقدار الأول, والأحد تحفظ المقدار الثاني وتعيد الأول ، والاثنين تحفظ المقدار الثالث وتعيد الأولين, والثلاثاء تحفظ المقدار الرابع و تعيد الثلاثة الأُول, ويوم الأربعاء تحفظ المقدار الخامس و تعيد الأربعة الأُول, ويوم الخميس تحفظ المقدار السادس وتعيد الخمسة الأول, ويوم الجمعة لا تحفظ وإنما تعيد محفوظ هذا الأسبوع, وإذا أمكنك أن تعيده أكثر من مرة فهو أنفع لحفظك, ثم إذا جاء الأسبوع الآخر وابتدأت من السبت وحفظت المقدار السابع فإنك تعيد المقادير السابقة ما عدا الأول فتسقطهُ ، ثم إذا جاء الأحد تعيد المقادير السابقة وتسقط الأول والثاني وهكذا ، فأنت تزيد وتسقط حتى إذا أكملت حفظ "زاد المستقنع" قسمتهُ حسب قدرتك على الحفظ إلى عشرة مقادير كبرى تعيدها ، فتقسمها وتعيده كاملاً في عشرة أيام كل يوم عُشر حتى تكمله, ثم بعد ذلك ترتفع إلى أن تقسمه إلى ثمانية, ثم ترتفع إلى أن تقسمه إلى ستة, إلى أن تقسمه إلى أربعة, ثم إلى اثنين ثم إلى أن تسرده في واحد مرة واحدة, وهذا ممكن يا إخوان وليس صعباً, ولكن مع التؤدة والصبر, وأخذ العلم كما ينبغي يدرك الإنسان هذا ، وقد أدركت أحد الأشياخ الذي بقي بضع عشرة سنة لما أكمل حفظ متن "الزبد" وهو متن منظوم ألفيٌ في فقه الشافعية ، بقي بضع عشرة سنة كل ليلة إذا انصرف الناس من المسجد وضع يده على اسطوانة المسجد فسرد المتن من أوله إلى آخره ، كل ليلة, ولذلك كان مع كبر سنه "الزبد" عنده كواحد زائد واحد عند الصغار من كثرة جريانه على لسانه, والعز بن عبد السلام رحمه الله كان يذكر يقول: " كنت لا أنام حتى أمر فروع الفقه بين ناظري ثم أنام " فبهذا يحصِّل الطالب العلم ، فهذا هو الطريق الأمثل في كيفية حفظ الفقه, ولا شك أنه مما ينبغي أن تعتني به تصحيح النسخ وتجويدها, فينبغي أن تصحح نسختك ولو كان على إنسان يجيد علم النحو والعربية لئلا تحفظ غلطاً في بناء الكلام في أقل ذلك,والفقه فيه ألفاظ و حشية عن سائر العلوم, يعني: تختص به. فإذا حفظها الإنسان على وجه يخطئ فيه وعَلَقَتْ بقلبه لم يمكنه أن يغيرها ولا تستبين له, فلابد أن يصحح حفظه حتى يتمكن من الحفظ الصحيح.
وأماكيفية الفهم: فهي تحتاج إلى شيخ مفقه وطالب متفقه. لا تقولوا ما في مشايخ نقرأ عليهم الفقه, ترى المشايخ يقولون: ما فيه طلبة متفقهين. النقض يوجد عند الطلاب والمشايخ ، فإن من أراد أن يحرز الفقه لابد أن يكون ثَمَّ شيخٌ يفقهُهُ ، ولا بد أن يكون هو ملازماً لطريقة التفقه التي سنذكرها فيما يستقبل ، ولكننا نذكر أولاً ما ينبغي أن يعتنى به في الفهم والتفقيه بالنسبة للأشياخ ، فإن الفقه لا ينال بل العلم لا ينال بدون شيخ يرشد ويدل .
والعمود الذي يقوم عليه فهم الفقه هو شيئان:
أحدهما: أصلي.
والآخر : تابع .
فأما الأصلي فمرده إلى شيئين :
أحدهما: بيان الحقائق الفقهية.
وثانيهما : تصوير المسائل .
أما التابع فهو ما زاد عن ذلك: كذكر الراجح, وبيان الدليل, ومن قال به, والإشارة إلى المذاهب الأربعة, والرد على أدلة المخالفين .
فهذه أمور تابعة زائدة عن القدر الأصلي ، وهو القدر اللازم الذي ينبغي التعويل عليه في دراسة أي كتاب فقهي, وهما بيان الحقائق الفقهية و تصوير المسائل ، وأنا أضرب مثالاً لكل واحد منهما : فمثلاً : يمر بكم عند ذكر شروط الصلاة وغيرها ذكر "التمييز" فهو حقيقة فقهية لابد من بيانها, والفقه منه ما استغنى به الفقهاء عن البيان لانطباعه في نفوسهم فلما ضعف العلم احتيج إلى بيانه ، فإن أهل العلم رحمهم الله قد يتركون الشيء للعلم به ، لكن لما ضعفت أفهام الناس احتيج إلى هذا البيان ، وقد ذكر ابن حجر فائدة لطيفة قال: وكان الرافعي أعلم بالحديث من النووي إلا أنه ترك عزو الحديث؛ لأن أهل العلم يعرفون أن مظان ذلك هو علم الحديث لا الفقه، الرافعي لما صنف في الفقه لم يعزو الأحاديث ،وجاء النووي بعده واشتغل بعزو الأحاديث عند الشافعية ،والرافعي أعلم بالحديث من النووي ،وله في ذلك "الأمالي" ، وشرح مسند الشافعي وغيرهما ، لكن ترك ذلك لأنه متقرر عندهم أن الحديث من أراده يرجع إلى كتبه, وهذا في الفقه أيضاً, فإن من حقائق الفقه أشياء كانت في نفوس الفقهاء ثم لما ضعف العلم يحتاج الناس إلى بيانها ومن ذلك "التمييز"، ولو أردنا الآن- وأنتم درستم في كلية الشريعة أو المساجد- أن تُعَرِّفوا لي "التمييز" ، ما هو التمييز ؟ الجواب دوماً يا إخوان رتبوا أذهانكم حتى تفهموا في العلم ، أنتم الآن لو استذكرتم الآيات التي تحفظونها وجدتم الله يقول ﭽ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼالأنفال: ٣٧ما معنى يميز؟ يفصل بين الخبيث والطيب ، ما العلاقة بين الخبيث والطيب ؟ العلاقة التي بينهما علاقة مقابلة ، فالتمييز : هو الفصل بين المتقابلات ، هذه المتقابلات من آكدها المضار والمنافع ، فإن آكد المتقابلات هي المضار والمنافع ، فلذلك العوام يقولون: الصبي إذا عرف التمرة من الجمرة ميز ، ما المقياس الذي جعلوه؟ التمرة والجمرة, هذا الأصل وهو الفصل بين المنافع والمضار، هو التمييز ، وجدنا من السلف من أرشد إليه ، فقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " يُعَّلم الصبيُّ الصلاةَ إذا عرف يمينه من شماله ", قال الدَّمِيرِي والرمْلِّي الصغير كلاهما من الشافعية ، قالا : ومعناه أن يعرف ما يضره وينفعه, وهذا أحسن ما قيل في "التمييز" بناءً على ما أرشد إليه ابن عمر رضي الله عنهما .
إذا عرفنا أن "التمييز" يرجع إلى المضار والمنافع على القوانين الاصطلاحية نقول : التمييز هو وصف قائم بالإنسان يُمكنهُ به معرفة المنافع من المضار ، الآن صار واضح التمييز, واضح! صارت الحقيقة الآن واضحة ، فهذه معرفة الحقائق ، تصوير المسائل, الفقهاء من الحنابلة وغيرهم إذا عدوا نواقض الوضوء قالوا: والخارج الفاحش النجس من الجسد سوى السبيلين ، هذا ناقض آخر ، والناقض الأول : الخارج من السبيلين ، الثاني عندهم هذا ، تصوروا هذه المسألة " الخارج الفاحش النجس من الجسد سوى السبيلين " الآن عندما قالوا: الخارج ماذا يقابله؟ الداخل,لو أن إنساناً دخلت فيه شوكة: هذا داخل أم خارج؟ وانكسرت فيه لا يمكن إزالتها ، فالداخل له حكم غير الخارج ، وهذا الداخل حتى ولو كان نجساً قُدر أن إنساناً أكل نجاسة (مغلوب) هل تنقض وضوءه؟ لا تنقض, هذا الأمر الأول ، ثم بعد ذلك النجس يشترط أن يكون نجساً ثم بعد ذلك أن يكون فاحشاً أي كثيراً ثم تقدير الكثرة هذه هل هي لكل أحد حسب ما يكون في نفسه أو بحسب ما يكون في أوساط الناس؟على اختلاف الفقهاء رحمة الله عليهم ،ثم من سوى السبيلين يعني من غير السبيلين ، يخرج من أنفه يخرج من فهمه يخرج من جانب أضلاعه أو من غيرها من الأماكن التي قد يخرج منها شيء نجس فاحش من سوى السبيلين ، هذا تصوير المسألة ، هذا أهم ما ينبغي أن يعتنى به في الفقه ، التابع زائد عنه ، والإنسان ينبغي أن يكون اعتناؤه بالأصل أعظم من اعتنائه بالتابع ، ومما يؤسف له أن الناس صاروا يعتنون بالتابع أكثر من اعتنائهم بالأصل, فهو يسأل عن الراجح قبل أن يفقه المسألة ، لا يتصور المسألة, ولا يتصور الحقيقة الفقهية المعلقة بها, بل همه الراجح والدليل ، وهذا شيء تابع في فهم الفقه وليس شيئاً أصلياً؛ لأن الفقه معرفة الأحكام ، ومعرفة الأحكام لا تكون إلا بفهم الحقائق الفقهية وتصور المسائل التي يذكرها الفقهاء في كتب الفروع ، فمن أدرك هذا الأصل أدرك الفقه ولو لم يدرك التابع ، فإن الله عز وجل يميز بين الخلق باعتبار التابع ليس كل الناس يستطيعون الترجيح ، يعني نسبة 99.9 % لا يستطيعون الترجيح ، لا يغرك في الدراسات الأكاديمية أن يقول لك: والراجح كذا وكذا ، هو إما: ينقل راجحاً للشيخ ابن باز, أو راجحاً للشيخ ابن عثيمين, أو راجحاً لابن تيمية, عندنا نحن الحنابلة في البلد ،لكن الذي يتمكن من الاجتهاد والفهم والإدراك قلة من الناس ، فلا ينبغي أن يكون همك الشيء الذي لا يصل إليه إلا القلة ولكن ليكن همك فهم الحقيقة الفقهية وتصور المسألة المعلقة بهذه الحقيقة ، فإنك إذا فهمت الحقائق الفقهية وتصور المسائل أدركت الفقه ، أما الأمر التابع فهذا يختلف من شخص إلى شخص ، إذا تقرر هذا وأنك تدرس في الفقه ونصب عينيك الاهتمام بفهم الحقائق الفقهية وتصور المسائل نذكر الآن ما ينبغي أن يكون عليه ما زاد عن ذلك بحسب الكتب المرتبة التي ذكرناها .
الكتاب الأول : وهو أحكام الصلاة ينبغي أن يدرس بذكر الراجح مع دليله ، ومن قال به عند الإغراب . الآن انتهينا من الشيء الأصلي موجود في كل ما يأتي لا نحتاج إلى إعادته – لكن الشيء الزائد – عندنا الآن معرفة الراجح بدليله ، ومن قال به عند الإغراب معرفة الراجح بدليله واضح لكن ما معنى من قال به عند الإغراب – يعني إذا رجح المفقه قولاً يُستغرب يُستحسن له أن يَذكر من قال به ، والقول المُغَرب هو الذي يخالف المذهب المعمول به في البلد أو الفتوى الشائعة، فإن هذا يكون مغرباً ، فهو يحتاج أن يذكر من قال به لماذا؟ ليعتاد الآخذون عنه أن العلم مبني على التلقي, وأنه ليس فيه شيء مستأنف لا يُؤثر عن أحد ، ثم في ذلك تطمين لقلوبهم لأنه ليس منفرداً بهذا القول ، لأن التفرد ولاسيما في المسائل الفقهية عن شيء لم يقل به الأولون شر محض ، فإنه يُقطع أنه لا ينفرد أحد في هذه القرون بشيء لم يقل به أحد من الفقهاء المتقدمين في مسألة مقررة عندهم دون النوازل أو الفتاوى الواقعة المتعلقة بأعيان الناس . فمثلاً إذا شرح الفقيه المُفهم للفقه أحكام الصلاة, فمر فيه في شروط الصلاة سترُ العورة, وذكر في بيانه من العورات الكلامَ على عورة الأمة وقال: إن عورة الأمة في الصلاة جميع بدنها إلا وجهها ويديها وقدميها وعنقها وشعرها فهذا قول مغرب؛ لأنه مخالف للمذهب المعمول به في البلد، فالمذهب: عورة الأمة كالرجل من السرة إلى الركبة ، فإذا ذكر مثل هذا يذكر من قال به , أهم شيء يذكر من قال به من يذكر ؟ هو الآن يشرح متن على مذهب الحنابلة فيقدم أولاً وجود رواية في المذهب ، فإذا كان هذا القول رواية في المذهب وذكره يقول: وهو رواية في المذهب؛ فإن هذا أوثق في الفقه من غيره ، فيقدم أولاً الرواية في المذهب ثم بعد ذلك المذاهب المتبوعة وهي الحنفية والشافعية والمالكية بالإضافة إلى الحنابلة .
ثم بعد ذلك الصحابة والتابعين وسائر أئمة المذاهب المندثرة كالأوزاعي والثوري ثم يذكر المحققين كأبي العباس بن تيمية عند الحنابلة, أو النووي عند الشافعية, أو ابن هُمَامٍ عند الحنفية, أو ابن عبد البر عند المالكية, أو غيرهم, لكنه يعتني بهذا الترتيب وإنما أُخر ذكر قول الصحابة والتابعين عن المذاهب؛ لأن المذاهب حفظت وضبطت وقيدت بخلاف أقوال الصحابة والتابعين فهي صارت محوية في المذاهب الأربعة ، فإذا وجدت رواية في المذهب تكتفي بها, وهو رواية المذهب, إن لم تجد ووجدت في المذاهب الأربعة ، تقول:وهو مذهب أبي حنيفة مثلاً – النجاسة في مذهب الحنابلة لا تزال إلا بماء طهور – لكن عند الحنفية بكل ما يزيلها من ماء وغيره فأنت تقول وهو مذهب الحنفية ، فإن لم يوجد تفزع إلى أقوال الصحابة وبعدهم التابعين وبعدهم أئمة المذاهب المندثرة ثم أئمة التحقيق .
الكتاب الثاني : شروط الصلاة ويُبين فيه – الراجح بدليله مع من قال به مطلقاً- ليس عند وجود الإغراب فقط – بل مطلقاً حيث ذكرت راجحاً تذكر من قال به . وعلى ما قدمنا – تقدم الرواية في المذهب ثم الأئمة الأربعة لأنها هي المضبوطة – إن لم تجد تنتقل بعدها إلى ما بعدها – ولا تستوفي أن تذكر كل أحد هذا ليس صنعة الفقه في التعليم, أما في التأليف في علم الخلاف فهذا واسع, لكن يأتي إنسان ويدرس الفقه ثم يقول وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة وجماعة من الشيعة و الإباضية من الخوارج ، هذا ليس فقهاً – هذا لعبٌ – هذا محلهُ تقييد كتب الخلاف – الخلاف العالي مع النظر في نقل غير المذاهب المنصورة عند أهل السنـة – لكن ليس محله التفقيه و التعليم .
ما الفرق بين هذه المرتبة و المرتبة السابقة؟
الفرق أن هناك يذكر من قال به عند إغراب, و هنا يذكر من قال به مطلقاً, كلُّ ما رجح بدليله يذكر من قال بهذا القول.
الآن تزيد ملكة الطالب الفقهية في معرفة القائلين بالراجح أو لا تزيد؟
تزيد لأنهُ هناك كان مخصوصاً بالمسائل التي أغرب فيها مُفقهُهُ تبعاً لمخالفة المذهب أو الفتوى الشائعة في البلد.
و كل هذا فوق الأصلي, الأصلي متقرر عندنا.
الكتاب الثالث : آداب المشي إلى الصلاة ويَدْرِسُه بتحرير المذهب, وذِكْر الراجح بدليله ومن قال به مطلقاً – ماذا تزيد هذه المرتبة عن سابقتها ؟ تزيد بتحرير المذهب ، يعني ضبط مذهب الحنابلة في هذه المسألة ؟ ما هو مذهب الحنابلة في هذه المسألة بشروطه؟ فمثلاً : الفقهاء الحنابلة في هذه المسألة- قد يمر معك في المختصرات- يقولون في نواقض الوضوء " لمس الذكر " عند الحنابلة قيد, يقولون: لمس الذكر بيده لابظفره ، فلو لمسه بظفره لا يكون ذلك ناقضاً؛ لأن الظفر في حكم المنفصل لا المتصل ، هذا يتحرر عندك المذهب وتتصور المذهب تصوراً صحيحاً.
الكتاب الرابع : أخصر المختصرات ، ويزاد فيها على ما سبق ذكر المذاهب الأربعة ، يعني تشير إلى مذهب الأربعة – هناك كتاب مصفوف والله يَقضي: إما أنا أنشره أو أحد الإخوان ينشره اسمه " المُربع " ما معنى المربع؟ الأئمة الأربعة, هذا الفقيه على البيومي رحمه الله أخذه من كتاب لابن شهبه كما ذكر, يأتي إلى الباب فيقول مثلاً " باب صفة الصلاة" اتفقوا على كذا وكذا وكذا, يعدد المسائل التي اتفق عليها الأربعة ، ثم يقول: وذهب الثلاثة إلى كذا وكذا, وذهب احمد أو ذهب أبو حنيفة إلى كذا وكذا ، ثم الاثنين ثم يذكر قول الواحد مرتباً على هذا الترتيب, فهو نافع في معرفة المذاهب الأربعة ومعرفة أقوالهم على هذا النسق ، والمذاهب الأربعة هي أولى الأقوال الفقهية التي ينبغي العناية بها لأجل ما ذكر سابقاً .
الكتاب الخامس :"دليل الطالب" ويزاد فيه بيان دليل المذهب, الآن عندنا فيه تحرير المذهب, وبيان دليل المذهب, وذكر المذاهب الأربعة, وبيان الراجح مع الدليل ومن قال به مطلقاً .
الكتاب السادس : "زاد المستقنع" ويزيد على ما سبق ذكر أدلة الأقوال الأخرى والرد عليها . كل مرة يزيد المتفقه درجة عما سبق ، وهكذا هو العلم ، العلم لا يكون جملة واحدة – لابد أن يؤخذ شيئاً فشيئاً حتى يكتمل عند الإنسان وهذا هو الأوفق في دراسة الفقه - .
بقي بعد الشيخ المفقه من ؟ – الطالب المتفقه – كيف يتفقه الطالب ؟
حتى يتفقه الطالب لابد له من عملين :
أحدهما: عملٌ قبل الدرس .
والآخر: عملٌ بعد الدرس .
فأما الذي قبل الدرس فهو أن يقرأ ما يراد شرحه ويتفهمه دون مراجعة شرح . يعني " مَرَّ معنا قول "الزاد" – ولا تدفع لهاشمي ولا لمطلبي ومواليهما – يتفهم معنى لا تدفع, وش معنى لا تدفع ؟ هاشمي يعني ايش ؟ مطلبي وش معنى مطلبي هاشمي يعني بنو هاشم مطلبي نسبة لعبدالمطلب – مواليهما – هل معنى مواليهما يعني جيرانهم الموالين لهم ؟ يتفهم ربما يقع في ذهنه هذا.
فهو إذا عود نفسه على التفهم: إما أن يكون تفهُمهُ صحيحاً وإما أن يكون خاطئاً ، فإن كان صحيحاً زاده بيانُ شيخه ثبوتاً ، وإن كان خاطئاً زاده بيان شيخه نفياً لأنه ينفيه عنه, يقول هذا المعنى الذي فهمته خطأ كما أنه إذا غمض عليه شيء مما يفهمه يمكنه أن يسأل عنه شيخه لأنه قرأ قبل ذلك .
وأما العمل الذي يكون بعد الدرس ، فهو أن يرجع فيراجع شرح شيخه على ما قرأ عليه ويتحفظه ويتفهمه, فإذا فرغ منه طالع ما يقدر عليه من شرح على المتن نفسه دون غيره ، فمثلاً لو أن إنساناً قرأ على أحد المشايخ شروط الصلاة وأركانها وواجباتها ، ففعل هذا قبل الدرس, وبعد الدرس هناك مثلاً شرح للشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله, وشرح للشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله ، يراجع هذه الشروح على المتن نفسه دون غيره ، لا يراجع شرح الزاد ولا الروض المربع ، بحجة أنه تقوي ملكته الفقهية ، تفسد لأنك تشوش على نفسك ، لكن ترجع إلى شروح هذا المتن حتى تستحكم فهم كلام شيخك ثم ما في هذه الشروح: إما أن يكون موافقاً لكلام شيخك تزيده ثبوتاً, وإما أن يكون زائداً عنه فتستفيد فائدة أخرى ، أو مخالفاً لكلام شيخك فتعرضه على الشيخ ، هذه الفائدة تعرض على الشيخ قد تنبه الشيخ ، الشيخ قد يخطئ , وقد يكون صاحب الكتاب أخطأ , وقد تكون طبعة الكتاب خطأ فبمثل هذا تصل هذه الفائدة .
إذا أخذ الناس الفقه بهذا الطريق صاروا فقهاء, وإذا عدلوا عن هذا الطريق لم يصيروا فقهاء ، وهذا الطريق يحتاج إلى صبر ، ينبغي أن يصبر الإنسان على أخذه، وأن يتأنى في طلبه ، وأن يتئد في سيره كي تعظم منفعته من التفقه ، ومعرفتك للطريق أعظم عون على سلوكه ، والجهل بالطريق أعظم شيء في الصد عنه ، فكم من مبتغ للفقه ملتمس له لا يتمكن منه, لأنه لا يعرف الطريق الموصل إليه، وأنت قد عرفت الطريق الذي يوصل إليه فخذ به ، وإذا تهيأ لك من الشيوخ من يفقهك على هذا النحو ، فهذا أولى ما تشد عليه اليد ، وتحرص على ملازمته والانتفاع به لأنه يوصلك إلى مأمنك في الفقه.
وإذا أردت أن تقرأ على شيخ فاعرض عليه هذا, واستأذنه في أن تقرأ بهذا الطريق, وأن يرشدك إلى كلُ مأخذ ومتعلق من متعلقاته في كل مرتبة من مراتبه ، وإذا استوفى الإنسان هذا أمكنه أن يصعد إلى قراءة كشاف القناع شرح الإقناع, وشرح المنتهى ، وما فوق ذلك كالمغني والشرح الكبير وغيرها من الكتب المطولة وبهذا يحصل الانتفاع بالفقه ، هذا ما رمتُ بيانهُ, وهو أمر عظيم ينبغي أن تعيدوا النظر فيه مرة بعد مرة ، وتقرؤوا ما كتبتموه, والإخوان الذين سجلوا يحرصوا أن يفرغوه لأنفسهم إن استطاعوا أن يفيدوا إخوانهم خاصة الذين لا يكتبون فيستفيدون من هذا حتى تثبت مثل هذه الأمور لأن الدلالة على الطريق هي نصفه ، الذي يرشدك للطريق فكأنما دلَّك على النصف الممكن من أخذك بالعلم ، وإذا بقيت في ظلمة التيه لا تدرك الطريق غمض عليك الوصول إلى مطلوبك .
فوائد من الأسئلة.
· لا نريد أن يتعلم الناس من أن يُسَلِّمُوا ، نريد أن يتعلم الناس الفهم الصحيح ، وإذا بات أن ما ذكرناه لكم خلاف الفهم الصحيح الواجبُ عليهم أن ينبهونا إلى ذلك .
كما أني بحمد الله لستُ مغرباً بتنظير, و أرجو أن أكون ممن يقول و يفعل, فإن التنظير قد يسهل على كل أحد, و قد تنعت أشياء هي إلى الخيال أقرب منها إلى الواقع العملي لكن هذا ليس مرادنا, وليس شيءُ من ذلك مما ذكرناه من قبيل الخيال و نعرف من يحفظ هذه المحفوظات ومن تفهم, هذا ليس صعباً لكنه يريد فقط سلوكاً صحيحاً لهُ.
· لا يشترط لفهم الفقه أن تدرس الفقه كله على وتيرة واحدة ، هذا يشق على النفوس ويصعب تقبله .
هل ينصح بحفظ المنظومات في الفقه ؟ لا ينصح به ، لأن الفقه إما دلائل وإما مسائل ، والدلائل لا ينبغي أن يحفظ فيها شيء منظوم .
تعرفون نظم عمدة الأحكام لعبدالله بن محمد الأمير, و نظم بلوغ المرام لابيه محمد بن إسماعيل الأمير فائدتها قليلة ، يمكن يحفظ منها أبيات من بلوغ المرام في ضبط بعض الأحكام على الحديث لا بأس, و أما يحفظ نفس المتن ما فيها فائدة.
الدلائل لا تحفظ منظوماتها ، وكذلك المسائل الفقهية خاصة دون غيرها ، العبارة الفقهية لها أثر في التلقي وفي الفتوى ، وهذا لا يوجد في المنظوم لأن الشعر له عُسر, و يحمل الإنسان على تغيير العبارة و تحويلها مثل ما قال في السلم المنورق:


ما احتملَ الصِّدْقَ لذاتهِ جَرى بـينهُمُ قَـضِيَّةً و خَـبَرا

باقي ايش؟ الكذب ضاق النظم عنه, عاد الشراح يقولون: ترك الكذب تأدباً, ضاق الشعر عنه فتركه, هذا يوجد في الشعر, هذا ما ينفع في الفقه ، حفظ بعض الضوابط على شكل منظومة لا بأس ، لكن إنسان حفظ الزاد ثم أراد أن يحفظ السبل السوية فلا بأس ولا يكون أصلاً .
· دراستنا للمذهب الحنبلي باعتبار أنه المذهب الرسمي للبلاد في نظام الحكم, وهو مذهب الإمام احمد بن حنبل, والمعمول به رسمياً, ولا يجوز في الفتوى الشائعة على خلاف المذهب في الأمر الظاهر للناس إلا بإذن ولي الأمر كأن يكون المفتي العام ، فالمفتي العام له إذن من ولي الأمر إما أن يأتي واحد دونه ويصدر فتوى في جواز شيء مما يحتاج إليه الناس في عموم حوائجهم كزكاة الفطر والحج هذا لا يجوز.
· والأفضل أن تحفظ متناً وافياً, إذا حفظ الإنسان العمدة والبلوغ وأراد الزيادة بعد ذلك من أحاديث الأحكام هذا شيء آخر ، لكن نتكلم على الشيء الأصلي الذي ينبغي أن يكون عليه الأمر وكذلك الكتب الكبيرة لكن تأخذ بما درج أهل العلم على العناية به هذا هو القانون الجادة التي ينبغي أن تسلك فاسلك .