المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشّـــــــريف الكتّانـــــــــــيّ



أهــل الحـديث
05-12-2012, 09:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الشّريف الكتّانيّ
محمود محمد شاكر


هما رجلان ألان الله لهما من صخرتي أوّلَ ما رأيتهما: السيد الجليل "محمد نصيف" كبير جُدّة وعمادُ الحجاز والأمل الممتدُّ في جزيرة العرب، وهذا السيد المبارك محقِّق العلم الإسلاميّ وعمدة التاريخ العربيّ "محمد عبد الحيّ بن عبد الكبير الكتّانيّ الإدريسيّ" واحد فاس، وكبير مرّاكش، والْعَلَم الشامخ بين أعلام الأمّة الإسلاميّة في هذا العصر ما بين الصّين إلى رباط الفتح من المغرب الأقصى.


وما عساي أقول في رَجُل كلّما أمسكت القلم لأكتبَ عنه تهيّبْتُهُ من غير خوف كما يتهيّبُ المؤمن قالةَ الحقّ تحيكُ في قلبه، خشيةَ أن يجور فيها لسانُه، أو أن يعدل بها سامعُها عن وجهٍ قصد إليه. وأنا حين أكتب هذه الكلمة -بعد أن لازمت الرجل أيّامه ولياليَه في القاهرة، وأخذت عنه، وقبست من نوره وعلمه وخُلُقه الغضّ، واستنشيتُ ريَّا شمائلِه- أجدني كالذي انتقل بروحه من عالَم كثيفٍ فيه من ثِقَل المادّة ما يهيض جناح الطّائر، إلى عالَم من الرُّوحانيّة المصفَّاةِ التي ألقت أوزار المادّة إلى مَثَارها ومعدنها من الأرض، وحلّقْتُ في جوّ السّماء بين نسمات النفحة الإلهية وفتنة الجمال العلوي... الجمالُ الذي ينتظمُ الكونَ كلَّه بأفلاكه وكواكبه ودقّة تدبيره وحكمة أمره.

رجلٌ منضَّر الوجه كالوردة الزاهية فيها سرُّ الجمال الإلهيّ الذي لا يذبُل، مُشرقُ الجبين كنور الفجر الصّادق الذي لا يتكذّب، وضّاح الثّنايا كالأُقحُوانة المبتسمة في ربيعها من الطّلّ والنّدى، صافي العينين كالماء النمير في مجرى من البلّور، كثّ اللحية محفوف الشّارب أهدب الأشفار أبلج الحاجبين في شعرهما وَطَفٌ، ضخم الهامة سابق الهيبة بادي الحنان، في جسمه بسطة تُذكّرك بما تقرأ في صفة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. هذا هو السّيّد الشّريف "الكتّانيّ" عالم الشّريعة الإسلاميّة وهذه صفته أوّلَ ما تكتحل عيناك بطلعته.

هو في الثامنة والأربعين من عمره، ولكن تطالعك هذه السنوات القلائل من عينيه بالْكَبْرة الملطفة بشباب القلب، المخفّفة بحياة النّفس العزيزة المتألّمة المثخَنة بالجراح من أحداث الدّهر وعواديه. ينظر إليك حينًا نظرةَ العالم المتمكّن الأمين المتثبّت الذي شغله العلم عن الحياة المادّيّة الغليظة، فتحملك نظرتُهُ هذه من مجلس بسيط وديع إلى بحر من العلم يفتنك هدوءه كما يروعك اصطخابه إذا ازدحمت فيه أسبابُ الحركة العلميّة. وينظر إليك حينًا وهو يستمع هادئًا نظرةَ المشفق الحريص الّذي يودّ أن يراك مصيبًا لم تُخْطئ. وأنت لا تزال في مجلسه بين أنواع من النظرات لها معانيها، ولهذه المعاني أسبابُها، ولهذه الأسباب بواعثُها، ولهذه البواعث محرِّكاتُها، وهذه المحرِّكات خفايا من وراء النّفس، منقمعة مكتومة لا تنفذ إليها إلا نظرات أروع وقّاد قد ابتلى دقائق النّفس الإنسانيّة بالممارسة والذّهن المتوقّد الّذي يرى من آيات الله آيات من البلاغة الإلهية التي تمسّ الروح مسّة تيّار كهربائيّ ترعَش به أعصابُ الإنسانيّة وتنتفض.

أنت من مجلسه في مجلس الحافظ لسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والفقيه الذي قلّب آيات الفقه الإسلاميّ بالبصر والبصيرة، والمؤرّخ الذي انفتق له السور عن تاريخ العرب والأمة الإسلاميّة في مشارق الأرض ومغاربها، والألمعيّ ذي الدهاء الذي ركَّبت الأحداث في نفسه آلة إحساس دقيقة تحسّ بالبعيد إحساسَها بالقريب ولا تكاد تخطئ إلّا بمقدار ما في النّفس الإنسانيّة من أسباب الخطأ الذي لا تنفيه إلّا العصمة الّتي لم يقض الله لأحد من النّاس أن يبلغها. وهو وراء ذلك أحد المتصوّفة الّذين عرفوا حقيقةَ التّصوّف لا أوهامه الّتي ملأ بها الدّخلاءُ ساحةَ التّصوّف، وأحد الذين يَزِنون العلم الحديث وما نشأ عنه من أحوال الاجتماع بميزان يفرق بين الخير والشر والحق والباطل، فهو يطّلع عليه اطّلاع المتبصّر الذي لا يرضى لنفسه أن يكون من الغوغاء أتباع كلِّ نظريّة هوجاء لا قرار لها على حال.

ولهذا الرجل إحساس علميٌّ عجيب، فهو لا يكاد يسمع بأديب أو فقيه أو عالم أو فيلسوف إلّا حنّ إليه وقلق إلى رؤيته، ورغب في التحدث إليه وسبر غوره، فلا تصرفه شواغله وهو في دار الغربة عن أن يقدم أهل العلم - أيًّا كانوا- بالزيارة بل تراه يبدؤهم بها. ويرحل من بلد إلى بلد لأنّ فيه عالما جليلاً قد قرأ آثاره أو سمع به. وأنت فظُنَّ كيف تقدّر رجلًا من أقصى المغرب بفاس، لا يُذكر أمامه اسمُ عالم وغيره في مصر أو الشام أو الجزيرة العربية أو العراق أو الهند أو الأفغان أو الترك إلا عرفهُ وقصّ لك من أخباره وعدّد لك من كتبه. ومن هؤلاء الناشئ والمغمور الذي لا يعرفه أهل بلده على حين أنّه منهم بمنزلة البنان من راحته. بل... يسمع اسم الرجل يراهُ أمامه فيطمئنّ قليلًا ثمّ يسأله من أيِّ بلدة هو؟ فما يجيب حتى يسأله عن علماء هذه البلدة من مات منهم ومن حيّ وعن كتبهم كيف كان مصيرها، ثمّ يعدّد له بعضَ ما ألّفوا... ويذكر له روايته عنهم إن كان روى عنهم شيئا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك.

فمِنْ أجل هذا الإحساس العلميّ المركَّب فيه أُتيح له أن يجمع مكتبةً في داره بفاس تُعَدُّ من أغنى المكاتب الخاصّة وأنفسها في العالم العربيّ كلِّه، فيها من النّفائس والنّوادر والغرائب ما لا يوجد في غيرها. وهو لا يكاد يسمع بكتاب نادر حتّى يسارع إلى استنساخه أو تصويره بالفوتوغراف. وها هو قد نزل مصر فجمع من شوارد المخطوطات ونوادرها أشياء كانت بين سمع دور كتبنا وبصرها ثم غفلت عنها. ويجلس هذا الرجل في نُزُله فيأتيه الورّاقون بالمخطوطات حديثها وعتيقها فما يفتح أحدها حتى يعرف ما الكتاب ومن صاحبُه ويفرح بالكتاب النّادر فرح الّذي ضنّ عليه الزمن طويلًا ثمّ جاد. وبالله أشهد صادقًا لكأنِّي أرى الكتاب بين يديه يكاد يحنّ إليه حنين القلب الممزَّق المفطور إلى سبب من أسباب سلوته وراحته، ولكأنّي أراه يمسك الكتاب براحته كما يمسك أحدنا الشيء فيه من آثار قلبه وحبِّه وآماله ورغباته ما فيه، ويُلقي عليه نظرةً عاطفةً تكاد تُحييه من عطفها وحنانها وحدَبها وأشواقِها.

هذا هو الرجل العالم المتيَّم بالكتب، الذي يطّلع جاهدًا على آثار النّاس وما ينشرون في الكتب والصّحف والمجلّات، ويعي أسماءهم ويسأل عنهم ويرغب في رؤيتهم ويرحل إليهم بادئًا بالزيارة. وفي هذا الرجل رجل آخر قد جعلت من عينيّ جاسوسًا مقتدرًا نفاذًا يتتبّع نظراتِه وحركاته وما يبدو على وجهه وجبينه من آيات التّغيّر والتّبدّل حتّى عرفتُه أو كدت.

حدّثَتَا عنه فقالتا: هذا رجل في عِظَم هامته واتّساع جبينه والتماع عينيه دليل على قوّة مستحكمة شديدة. وهذه القوّة -مع ما فيها من شدّة- هادئة وادعة مسالمة، تتريّث مفكِّرة، فلا تظهر ولا تستعلن إلّا ساعة الجدّ حين تعلم أن قد دنا أوانُها، وأنّ موضع الفصل قد استبان، وأنّها لن تخطئ. وهو رجل في أسالة خدّه ورقّة نظرته شاهدٌ على طيب الْخُلُق، ودماثة الكنف، وحسن العشرة، وكمال الحنان والعطف، وهو رجل في تفاجِّ ثناياه وانطباق شفتيه وطول صمته -إذا لم يُدعَ إلى كلام- وعمق نظراته في هذا الصمت برهان على الصّبر في كلّ ملمّة ومع كلِّ أحد. قالتا: ثمّ هو رجلٌ حُلْوُ النّفس صادق مخلص أمين على ما يؤتمن عليه رضيّ الشمائل في كلّ حين... أما تراه يبتسم ابتسامة رقيقة لا تكاد تخلص إلا عن قلوب الأطفال المبرَّئين أو الكرام الصالحين فإذا ضحك اهتزّ جميعُه؛ لأنّ ضحكته تصدر عن قلبه الطّيّع الكريم الذي يتحكّم في كلّ عضو من أعضائه. وهو بعدُ رجلٌ كَتُومٌ يحمل الآلام بين جنبيه وهي تُمزِّقُ قلبَه وتفتك فيه. ينظر النّظرةَ المتراميةَ في مفاوز الماضي البعيد فيرجع بالذّكرى الأليمة، وعلى نظراته معنى البكاء الذي لا يجد في الدمع ترجمانًا ولا معينًا. وهذه وحدها نظرة لو أُلقيت على جبل أصمّ لا يألم لوجد لها مسًّا كمسّ الرّحمة في القب الرقيق. ويُخيِّلُ إليك وهو يغضّ من طرفه ويُرخي جفنيه أنّ الصّبر والجلَد والرّجولة الصّادقة أرادت بذلك أن تُخفِيَ عنك نظراتٍ هي أحاديثُ أيّام، أشفق على نفسك أن تسمعها أو تلمّ بها.

وتراه حين يتكلّم حتّى في العلم يفيض حنانًا ورقّةً وكرمًا ووفاءً ثمّ يشتدّ بعد تمهُّل حتّى يأخذ عليك نفسك هيبةً ووقارًا من ورعه وتُقاه، ثمّ تتعرّفُ فيه إذا خالطتَهُ ذهنا قد اجتمعت له أسبابُ الإحاطة بأحوال النّاس في كلّ أمّة وجيل ثمّ يدقّ يكاد يُغْمِضُ عليك إذا لم تُلْقِ إليه بسمعك وبصرك وقلبك جاهدًا متفهِّمًا. وإن تعجب فعجب لهذا الرّجل الّذي اتّسع أُفُقُه حتّى ألّف ما أناف على مائتي كتاب فيها موضوعات عجيبة، لم يُسبَقْ إليها بمثل تحقيقه ودقته على الأسلوب الذي يفهمه عن أهله ومن عرف مذاهب القوم في كتبهم ومؤلّفاتهم.

كلمةٌ مقتضَبةٌ في رجل بحر كريم الأصل والمنصب سليل جدِّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوةٌ من هذه الأمّة العربيّة التي تدفّقت في الأرض تدفُّق السّيل من رؤوس الجبال فأنبتت في كلّ أرض نباتًا حسنًا زكا مَغْرَسُهُ وطاب ثمره. كلمة نصل بها أرحامًا تقطَّعَتْ أو كادت في زمن توالت علينا أحداثُهُ واستمرّتْ علينا عواديه وتركنا لُطماءَ.

يَأْشَرُ الْفارغُ الْخَلِيُّ، ويَأْسَى * مُتْرَعُ الصَّدْرِ مِنْ جوَى مَلْآنُهْ

جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمّد شاكر 2/630 ـ 634 .