المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المخالطة الإليكترونية وأسباب الحوار المثمر



أهــل الحـديث
25-11-2012, 10:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



المخالطة الإليكترونية وأسباب الحوار التفاعلي المثمر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
[1] المخالطة الإليكترونية:
قال اللهُ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]. يقول: (إنّا خلقناكم أجمعكم من آدم وحوّاء، ثم جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، لا لتكاثروا، ولا لتنافسوا؛ فإذا كانت الأصول: تربة، ونطفة، وعلقة - فالتفاخر بماذا؟!). (لطائف القشيري بتصرُّف). ويقول: (يا أيها الناس! يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرّقون شعوبا وقبائل! إنكم من أصل واحد؛ فلا تختلفوا ولا تتفرّقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بِدَدا. يا أيها الناس! والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية مِن جعلكم شعوبا وقبائل = إنها ليست التناحر والخصام؛ إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوّع لا يقتضي النزاع والشقاق؛ بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف، والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله؛ إنما هنالك ميزان واحد تتحدَّد به القِيَم، ويُعرَف به فضل الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) .. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان. وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد؛ كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله). (الظلال).
ولا ريب أنّ التعارف والمخالطة -وما كان في معناهما-، قد ينتج عنهما ما يؤذي العبد بشتّى أنواع الإيذاء.. ومن أسباب التعارف والمخالطة: ما يقع بين العباد من أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر؛ ولمّا كان ذلك لا يحصل إلا بمخالطة، وكان من لوازمه حصول الأذى، قال تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17]. وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) : تنبيه على أن من قام لله بحقٍّ، امتُحِنَ في الله، فسبيله أن يصبر لله؛ فإنّ مَن صبر لله لا يخسر على الله. (لطائف القشيري).
ومن أسباب التعارف والمخالطة كذلك: التعاون الضروري بين العباد، في شتى الأصناف والجهات، قال عزَّ مِنْ قائل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]. (يُقال: المعاونة على البِرِّ: بحسن النصيحة، وجميل الإشارة للمؤمنين. والمعاونة على التقوى: بالقبض على أيدى الخطّائين بما يقتضيه الحال: من جميل الوعظ، وبليغ الزجر، وتمام المنع - على ما يقتضيه شرط العلم. والمعاونة على الإثم والعدوان: بأنْ تعمل شيئا مما يُقتدَى بك فيه لا يرضاه الدِّين، فيكون ذلك سُنّة سيّئة تظهرها، وعليك تبعة وزرها. وكذلك المعاونة على البر والتقوى، أي: الاتّصاف بجميل الخصال على الوجه الذي يُقتدَى بك فيه). (لطائف القشيري بتصرُّف).
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه معلّقا موقوفا: (خالط الناس، ودِينك لا تَكْلِمَنَّه). و(تَكْلِمَنَّه): بفتح أوله وسكون الكاف وكسر اللام وفتح الميم من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام، وهو الجرح وزنًا ومعنًى.
وإذا كان من الأمور الضروريّة، جعْل التعارف ثم التعاون بين البريَّة، ونحو ذلك من المعاني والأسباب الشرعيّة؛ فإنَّ العبدَ ينبغي أنْ يعلمَ أنَّ الأذى سُنَّة قدريّة، فعليه أنْ يصبر ويحتسب، وأنه مصاب على سَنن من وُصِب، وأنْ لا يجزع فيعتزل فإنْ فعل فلم يُصِب؛ أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ مِن الصبر». وأخرج البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُصِب منه». وقوله: (يصب): أكثر المحدِّثين على كسر الصاد، وقيل بفتحها. والمعنى: "ابتلاه بالمصائب ليثيبه عليها، والمصيبة: الأمر المكروه ينزل بالإنسان". (راجع: تهذيب اللغة والنهاية والفتح).
وأخرج ابنُ ماجَهْ عن يحيى بن وثّاب، عن ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (إسناده حسن).
ورواه الترمذي عن ابن وثّاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عن ابن وثّاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
قال الدارقطني في العلل: (والصحيح قول من قال: عن يحيى بن وثاب، عن ابن عمر).
وقوله: (لا يخالط الناس) أي: يساكنهم ويعاملهم. والحديث: يدل على أنّ المخالط الصابر خيرٌ من المُعتَزِل. (السندي على ابن ماجَهْ).
والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، ولكل حال مقال. (الأمير في سبل السلام).

[2] الجفاء الإليكتروني:
إنّ الناظر في "المجتمع الإليكتروني" يجد من أسباب الجفاء ودواعيه الشيء الكثير .. بدءً من "أدوات التواصل الماديّة": شاشة، لوحة المفاتيح، فأرة، أسلاك .. إلخ .. إلى غير ذلك من الحواجز النفسيّة المادّيّة، ومن الحواجز النفسيّة: اختلاف: النشأة، والطباع، والأخلاق، والعادات، وضعف البيان عن مكنونات القلوب؛ ولا شكّ أنّ لهذه الحواجز جميعها من الآثار غير الإيجابية على "صحّة الحوار التفاعلي المثمِر البنّاء"..
وفي الوجه المقابل نجد أنّ "التواصل المباشر" أكثر إيجابيّة في إنتاج محاورات إنسانيّة راقية.. ومن وسائل "التواصل المباشر" المعِينة على إنتاج "حوار مثمر بنّاء:" المصافحة وتلامس الأيدي، والتقاء الأعين بحنوّ وشفقة، وابتسامة رقيقة صادقة - فجميع هذه الوسائل ونحوها: تعين بشكل كبير على سدّ فرجات الشيطان بين المتحاورين، وعلى تآلف القلوب لا اختلافها، ولِين الجوارح الذي تتداعى له الأرواح استجابةً ولينا .. ونجد هذه المعاني جليّة في أحاديث، منها: مرسل عطاء الخراساني: "تصافحوا يذهب الغِل"، وحديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه: "استووا ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم" (م)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه - وفي وصله كلام -: "أقيموا الصفوف؛ فإنما تَصُفُّون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخلل، ولِينُوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشياطين"، وقال النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه: "رأيت الرجل منا يُلْزِقُ كعبَه بكعب صاحبِه" .. إلى غير ذلك من الأخبار ..

[3] مُجلبات وأسباب الحوار المثمر:
ومن الأمور المعِينة على إنتاج "حوار مثمر بنّاء":
1) ينبغي تهيئة النيّة الصالحة في جميع مراحل الحوار..
2) ينبغي الاجتهاد في التحرُّر من الأغراض النفسيّة السيّئة، وترك الكِبر والعُجب والاعتداد بالنفس..
3) ينبغي التحرُّز من إرسال الدعاوى وإطلاقها، وإثبات العرش قبل النقش، وتحقيق مباني الكلام قبل المضيّ في تأويل معانيه..
4) ينبغي بذل الوسع في معايشة المحاوَر، ومحاولة فهمه كما يريد على التحقيق هو لا كما نريده نحن، ويحصل ذلك: باستقراء الملف العلمي = ومنه يقف المحاوِر على نظرة كليّة تعِينه على استظهار شخصيّة محاوره. وينبغي أن نتحرّى في تكوين هذه النظرة: الموضوعيّة والحَيدة - قدر الطاقة البشريّة - ..
5) ينبغي السعي في فَهْم المحاوَر علميّا، ويتم ذلك بالوقوف: على أصوله العلميّة التي ينطلق منها، وتفسير مصطلحاته التي يُكثر من تداولها ..؛ وذلك حتى لا يتم الغلط عليه ..
6) ينبغي التحلّي بالأمانة العلميّة، وترك المحاكاة "التقمّص" لشخصيّات أخرى في الأسلوب أو الطريقة، بل الواجب: مجاهدة ذلك، والسعي نحو صناعة شخصيّة مستقلة للمحاوِر، وقد قيل: "المحاكاة خاصيّة القِرَدة".. وصدق أبو الطيِّب المتنبِّي:

وَأَسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّرًا * تَكَلُّفُ شَيْءٍ في طِبَاعِكَ ضِدّه
7) ينبغي تحقيق نقطة البحث، وتحرير موطن النزاع والخلاف، وعدم الالتفات إلى الالتفات، وترك الانتقال إلى نقطة جديدة إلا بعد الانتهاء من الأولى ..
8) ينبغي ترك الدفع بالصدر في مناقشة المسائل العلميّة، ومحاولة معرفة وجه القول أو اللفظ لا دفعه ابتداء. وتحرير وجه القول: لا يعني التزامه، ولكنه يعينك على التواصل الراقي الذي يدفعك دفعا إلى إحسان الظن بالمحاوِر وأنه ما أراد إلا سلوك المنهج العلمي المجرّد عن الهوى..
9) ينبغي ترك التسليم المطلق لكل موروث علمي محل بحثٍ ونظر، والواجب في ذلك: تمحيص كل مادّة علميّة، وإعادة النظر فيها، لا سيّما في المسائل المشتبهة = غير القطعيّة أو المجمع عليها ..
10) ينبغي أن يتحلّى أطراف الحوار بالتواضع والحكمة، والأناة، والتؤدة والتروّي، وترك العجلة في تكذيب الآخر أو رميه بالوهم أو الخطأ دون أدلّة أو بيّنات أو قرائن معتبرة..
11) ينبغي إحسان الخُلُق والظن المتبادل، وانتقاء أطايب الكلام، والعدول عن اللفظ القاسي أو الجارح إلى اللفظ السهل المحبّب إلى النفس، مع حياطة ذلك بالدعاء الصادق الخالي عن الهمز واللمز والتعريض
12) الارتقاء بالحوار والعلاقات الإنسانيّة، وإنْ أراد أن ينزل بها أحد أطراف الحوار، فلا يلتفِت إلى سلوكه، بل يُجاهد نفسه في ترك النزول إليه، وأن يسلك سبيل المحسنين .. وليس الواصل بالمكافىء..
13) ينبغي الاستجابة للحق إذا ظهر جليّا، أو تعليق الحوار إذا كان مشتبها، أو الانفضاض عنه إذا ظهر بلا مرية أن الطرف الآخر: لا يريد إلا المراء، أو كان من المعاندين أرباب الهوى..
14) ينبغي - قدر الطاقة والإمكان - ختام الحوار بالمحافظة على أواصر المودّة بين المتحاورين

والحمد لله رب العالمين
***