المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تعجيل الوصول لشرح متن الثلاثة أصول.



أهــل الحـديث
25-11-2012, 01:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


[SIZE="5"][COLOR="Black"]
تعجيل الوصول
لشرح متن
الثلاثة أصول
جمع وترتيب
أبي صهيب محمد بن السيد بن الباز
عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام في سطور: هو العلامة المجدد شيخ الإسلام أبو الحسين محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي مشرف آل معضاد المهيبي من بني حنظلة بن مالك التميمي.
* مولده: في ( العيينة ) من قرى اليمامة عام خمسة عشر ومائة وألف من الهجرة النبوية (1115 هـ ) فوالده الشيخ عبد الوهاب بن سليمان تُوفِّيَ سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف من الهجرة النبوية ، هو قاضي ( العيينة ) ، ومن علماء نجد المعروفين ، وجدّه سليمان بن علي هو مفتي نجد آنذاك، هذه البيئة الصالحة هيَّأت لهذا الإمام ولهذا الابن الجو المناسب للعلم ، ودفعه إلى الإقبال على العلم في وقتٍ مبكر ، مات رحمه الله في أواخر سنة ست ومائتين وألف من الهجرة النبوية (1206هـ )، عن إحدى وتسعين سنة قضاها في ميدان العلم والجهاد والدعوة .
محتوى الرسالة :
* احتوت هذه الرسالة على ثلاثة أشياء :
مقدمة ، وموضوع ، وخاتمة .
أما المقدمة: فمكونة من ثلاثة أشياء، كل واحد منها يُصَدِّرُها بقوله : اعلم رحمك الله ، اعلم أرشدك الله لطاعته .
الأولى : في بيان وإيضاح وجوب أربعة مسائل على كل مكلف .
الثانية : بيان وجوب ثلاث مسائل على كل مكلف أيضًا .
الثالثة : بيان وإيضاح حقيقة دعوة ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وأما موضوع الرسالة: هو الحديث عن الأصول الثلاثة :
الأصل الأول : معرفة الله جل وعلا .
الأصل الثاني : معرفة الدين ومراتبه الثلاثة: الإسلام ، والإيمان ، والإحسان .
الأصل الثالث : معرفة النبي  .
وأما الخاتمة: فقد ذكر فيها شيئاً مما يتعلق بالبعث والحساب، ثم تطرق إلى بيان وجوب الكفر بالطاغوت ، وبيَّن حقيقة الكفر بالطاغوت، وبيَّن رؤوس الطواغيت .
* الرسالة مختصرة بأسلوب واضح بيَّن، يهتم بذكر المسألة مقرونة بدليلها، وهذا يؤكد فيه رحمه الله أن دعوته دعوة سلفية قائمة على الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة .


* ثَمَّ مقدمة لا بد من معرفتها قبل الولوج في هذا الشرح وهي :
( معرفة التوحيد والعقيدة ) :
ـ في الأصل هما اسمان ، وهما متلازمان ، ولكن ثَمَّ فرقٌ بينهما :
أولاً : العقيدة :
العقيدة من حيث اللفظ مأخوذة من العَقْدِ فَعِيلَة بمعنى مَفْعُول ، يأتي فَعِيلَة بمعنى فاعل ، ويأتي فَعِيلَة بمعنى مفعول ، والمراد من العقد : رَبْطُ الشيءِ ، كعقد الحبل ، أي شَدُّ بعضِه ببعض، نقيض حلِّه ، عقدت الحبل شددت بعضه على بعض ، حللت الحبل أي فتحته أو فككته ونحو ذلك،ومادة عَقَد في اللغة مدارها على اللزوم والتأكيد والاستيثاق، ولذلك جاء في القرآن﴿لايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾[ المائدة : 89] تعقيد الأيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه ، لفظ صَاحَبَهُ قَصْدٌ وعَزْمٌ بخلاف اللغو في الأيمان فإنه لفظ لم يصاحبه قصد ولا عزم ، وتقول العرب : اعْتَقَدَ الشيء صلُب واشتد،واعتقدتُ كذا عقدت عليه القلب والضمير .
إذًا المراد بالعقيدة من حيث اللغة: أنه ما يكون فيه إشارة إلى اللزوم والشد والجزم ، ولذلك إذا كان مع المعتقِد جزمٌ فهي عقيدة صحيحة إن وافقت الشرع ، وإن لم يكن مجزومًا بها فحينئذٍ صارت شكًّا وظنًّا، والمعتقَد الأصل فيه أنه لا يقبل فيه الشك، ولا يقبل فيه الظنّ هذا هو الأصل وخاصة في أصول الإيمان ، لذلك جاء﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾[ الحجرات : 15]، فنفى الريب، وقال تعالى﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [ البقرة : 2]، وقال تعالى﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾[ آل عمران : 9] ، وقال تعالى﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾[ التوبة : 45]، فَذَمَّ المشركين على الريب، فالأصل في العقيدة أنه لا يصح معها شكٌّ ولا ظنٌّ، وإنما لا بد أن يكون معها جزم واستيثاق ولزوم وتأكيد .
وأما في الشرع: فيجمعها حديث جبريل لما سئل النبي  عن الإيمان ، فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» . (مسلم 1/ 28).
ثانياً التوحيد :
التوحيد في اللغة: من حيث الاشتقاق مشتق من الوحدة وهي الانفراد، فالتوحيد تَفْعِيْل، مصدر وحَّدَ يُوَحِّدُ توحيدًا، إذا جَعَلَهُ وَاحِدًا، والمراد بالجعل جعل ـ اتخاذ ـ الشيء واحد في قلبك، ليس في الخارج ،لأن الذي يقبل الشركة والتشريك هو ما كان في القلب وليس ما كان في الخارج ، وأما في الخارج فليس إلا الحق ، وليس المراد أنَّ كلَّ ما عبد من دون الله على الأرض فهو حق ، وإنما المراد أن الجعل اعتقاد الوحدانية ، وأن الله جل وعلا منفرد بألوهيته ، وربوبيته ، وأسمائه وصفاته .
وأما التوحيد في الشرع: هو إفراد الله تعالى بما يختصُّ به من الربوبية ، والألوهية ، والأسماء والصفات .
فالتوحيد والعقيدة متلازمان ، فلا توجد العقيدة إلا إذا وجد التوحيد ، ولا يوجد التوحيد إلا إذا وجدت العقيدة ، إذًا التلازم من حيث الوجود، ولكن ثَمَّ فرقٌ بينهما وذلك أن العقيدة تشمل شرح أركان الإيمان الستة ، لأن الذي يُشْرَحُ في باب المعتقد هو الإيمان بالله ، والإيمان بالملائكة ، والإيمان بالكتب ، والإيمان بالرسل ، والإيمان باليوم الآخر ، والإيمان بالقدر خيره وشره، فلو نظرنا في الركن الأول وهو الإيمان بالله لوجدنا أنه يبحث عن أربعة أمور:
الأول : الإيمان بإثبات ذات الربِّ جلَّ وعلا .
ثانيًا : الإيمان بربوبية الله جل وعلا .
الثالث : الإيمان بألوهية الله جل وعلا .
رابعًا : الإيمان بأسمائه وصفاته .
هذا هو الركن الأول وهو ما يبحث فيه عن التوحيد بأنواعه الثلاثة ،فإذا كان التوحيد إفراد الله جل وعلا بما يختص به من الربوبية والألوهية و الأسماء والصفات ، وهذا داخل في الركن الأول فقط من أركان الإيمان، أما باقي الأركان وهي الإيمان بالملائكة ، وبالرسل ، وبالكتب ،وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره فهذا يُبحث في العقيدة ولا يُبحث في التوحيد،إذاً فالعقيدة تزيد على مباحث التوحيد من حيثيات أخرى، مثل مسألة التلقي، من أين تُتَلقى العقيدة ، وهذه المسألة مما يخالف فيه أهل السنة والجماعة غيرَهم من أهل الفرق المنحرفة الضالة بأنواعها ، لأن مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هو الوحي فقط ، ولا مجال للعقل البتة في إثبات العقيدة ، ولذلك نقول أن العقيدة توقيفية، أي موقوفة على السماع ، دليلها سمعيّ بحت إما بالكتاب ، وإما بالسنة ، وإما بإجماع صحيح منقول عن السلف الصالح ، والعقل لا مجال له استقلالاً في إثبات مسألة عقائدية ، وإنما العقل تابع للنقل بمعنى أنه يُستنبط بواسطته أو يُتأمل ويُدرك بواسطته فهم النصوص فقط، لأنه لا يستقل بوضع مسائل في باب المعتقد، وكذلك يُبحث في العقيدة مسائل التعامل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما فارق أهلُ السنةِ والجماعة أهلَ البدعةِ ، وكذلك مسائل في طاعة ولاة الأمور فهذه ما تُذكر في كتب التوحيد التي أُلِّفَت لبيان توحيد العبادة ، وإنما تُبحث في باب المعتقد العام ،في الكتب التي تؤلف لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة التي تخالف أهل البدعة والضلالة ،كذلك الموقف من الصحابة ، والموقف من أمهات المؤمنين ونحو ذلك ، هذا يبحث في باب المعتقد ولا يذكر في التنصيص على التوحيد بأنواعه الثلاثة .
فنخلص من ذلك: أن التوحيد أخصُّ من العقيدة، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فالعقيدة أعمُّ من التوحيد ، فكلُّ توحيدٍ عقيدة ولا عكس.
* ( بسم الله الرحمن الرحيم ): بدأ الناظم على عادة أهل العلم بما استقر في عرفهم بالبسملة وذلك
لأمور:
أولاً: اقتداءًا بالكتاب العزيز،حيث بدأ بـ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الفاتحة1،2).
ثانيًا: اقتداءًا وتأسيًا بالسنة الفعلية، حيث كان النبيُّ  إذا كتب كتابًا قال:
((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ))(البخاري7).
ثالثًا: التبرك بالبسملة، لأنَّ الباء هنا للاستعانة أو للمصاحبة على وجه التبرك، والمعنى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حالة كوني مستعينًا وطالبًا التوفيق والإعانة من الله عز وجل على ما جعل البسملة مبدءًا له.
رابعًا: اقتداءًا بالأئمة المصنفين ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : «وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على أن يفتتحوا كتبَ العلم بالتسمية وكذا معظم كتب الرسائل».(فتح الباري1/9)
* ( الأصول الثلاثة ): الأصول جمع أصل فَعْلٍ ، يُجمع على فُعُول ، أَصْل يجمع على أصول ، والأصل في اللغة: هو ما يُبنى عليه غيره ، كأصل الجدار أي أساسه، وأما في الاصطلاح: فهو ما له فرع ، لأن الفرع لا ينشأ إلا عن أصل ، كل فرع لا بد وأن يكون له أصل قد نشأ منه وتفرع عنه .
وأما في الاصطلاح فيُطلق الأصل ويراد به أحد أربعة أمور :
أ- الدليل: فيقال: الأصل في تحريم الخمر الكتاب والسنة ، أي دليل تحريم الخمر الكتاب والسنة ، فيطلق الأصل ويراد به الدليل، وهذا هو الغالب عند الأصوليين .
ب- الرجحان: فيقال: الأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز، أي عند السامع يحمل الكلام على حقيقته دون مجازه .
ج - القاعدة المستمرة: فيقال: أَكْلُ الميتة على خلاف الأصل، يعني على خلاف الحالة المستمرة .
د- المقيس عليه: فيقال: النبيذ فرع، والخمر أصل، وهذا في باب القياس.


المقدمة الأولى التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
 
( اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربعِ مسائلَ:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة:الصبر على الأذى فيه.
والدليل قوله تعالى -بسم الله الرحمن الرحيم-: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3].
قال الشافعي - رحمه الله تعالى-: ( لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ).
وقال البخاري رحمه الله تعالى: ( بابُ: العلمِ قبلَ القولِ والعملِ؛ والدليل قوله تعالى﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد:19]، فبدأ بالعلم [قبل القول والعمل] ).
 
* ( اعْلَمْ ): فعل أمر من العلم ، وهي كلمة تنبيه مثل ( ألا ) ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وكقوله  :«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر...» الحديث، لحث وتنبيه السامع أن ما بعد هذه الأداة مما ينبغي أن يعتني به وأن يُصغي له ،فهي كلمة يؤتى بها عند ذكر الأشياء المهمة ، وما سيذكره رحمه الله من بيان المسائل الأربعة المشتملة على بيان طريق النجاة في الدنيا والآخرة من أهم المهمات .
* ( اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ ): هذه جملة خبريةٌ لفظًا ، إنشائيةٌ معنى لأن المراد بها الدعاء للمتعلم ، دعا المصنف للقارئ ، دعا للمستمع ، دعا للمتعلم أن يرحمه الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة ، لذلك نقول : هي خبرية لفظًا إنشائية معنى ، لأن (رَحِمَكَ اللهُ) هذا إخبار بإيقاع الرحمة حَصَلَ ، قام زيد ، حصل القيام ، ( رَحِمَكَ اللهُ ) حصلت الرحمة ، لكن من جهة المعنى المراد بها الدعاء،كأنه قال : اللهم ارحم عبدك القارئ فلان مثلاً ، فنقول : هذه الجملة من جهة اللفظ هي خبرية ، لأنها تحتمل الصدق والكذب ، ومن جهة المعنى إنشائية لأنها دعاء للمتعلم ،والرحمة إن كانت غير مقترنة بالمغفرة فحينئذٍ تشمل الماضي والمستقبل، (رَحِمَكَ اللهُ) يعني غفر الله لك ما مضى من ذنوبك ، ووفقك ، وعصمك وسلمك من شرور الذنوب وعاقبتها في الزمان المستقبل ، فشملت الماضي والمستقبل ، مغفرة الذنوب في الماضي ، والسلامة من عاقبة الذنوب وشرِّها في المستقبل ، هذا إن أفردت الرحمة ،وإن قُرِنَت بالمغفرة فحينئذٍ المغفرة لما مضى ، والرحمة تكون لما يُستقبل.
* ( اعلم رَحِمَكَ اللهُ ): هذا دعاء للمتعلم بالرحمة ، وهذا فيه تلطف وتنبيه على أن مبنى هذا العلم التلطف والرحمة بالمتعلمين﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [ آل عمران : 159] ، ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ التوبة : 128] ، إذًا لا بد من الرحمة في مجال العلم والتعلم .
* ( اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أَرْبَعِ مَسَائِل ): ( أَنَّهُ ) الضمير هنا يُسمَّى ضمير الشأن، ( اعْلَمْ رَحِمَكَ ) أن الحال والشأن ( يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أَرْبَعِ مَسَائِل ) .
( يَجِبُ عَلَيْنَا ): يجب فعل مضارع مأخوذ من الوجوب ،وهو مشتق من وَجَبَ يَجِبُ وُجُوبًا ووَجْبَةً ، فالواجب في اللغة : الساقط واللازم ، والثابت ، وَجَبَ يَجِبُ وَجْبَةً سقط ، وقال في المصباح : وَجَبَ الحَقُّ والبَيْعُ يَجِبُ وُجُوبًا ووَجْبَةً لزم وثبت ،إذ الواجب يأتي بمعنى الثابت ، « أسألك موجبات رحمتك » . يعني الكلمات المثبتة للرحمة﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [ الحج : 36] بمعنى سقطت .
أما في الاصطلاح : فهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا،ويثاب فاعله امتثالاً و يستحق العقوبة تاركه .
ـ فالواجب عند أهل العلم أوسع مما أراده المصنف ،لأنه قد يكون داخل الماهية ، ولا تقوم تلك الماهية إلا به ، وهو ما يسمى بالركن ، وقد يكون خارجًا عن الماهية ولا تقوم تلك الماهية إلا به ، وهذا يُسَمَّى الشرط ، إذًا الواجب قد يكون ركنًا، وقد يكون شرطًا، وما كان دون ذلك فحينئذٍ يُعبر عنه بالواجب، فالركن واجب وزيادة ، وكذلك الشرط واجب وزيادة وهذه الزيادة هي توقف الماهية على وجوده ، يعني لا توجد الماهية إلا بوجود هذا الواجب ، فإذا انتفى هذا الواجب انتفت الماهية .
وَالرُّكْنُ جُزْءُ الذَّاتِ وَالشَّرْطُ خَرَجْ وَصِيْغَةٌ دَلِيلُهَا فِي المُنْتَهَجْ
ـ فالواجب قد يكون ركنًا: مثل الركوع و السجود والتسليمة الأولى ،كل هذه أركان وداخلة في ماهية الصلاة ، فلا تقوم حقيقة الصلاة إلا بوجود هذه الأركان، فالركوع و السجود والتسليمة الأولى من واجبات الصلاة لأنه يصدق عليها حد الواجب وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا .
ـ وقد يكون شرطًا: مثل الطهارة للصلاة يُسمِّيها أهل العلم شرط ، و الواجب وصف للشرط ، لأن الطهارة طلب الشارع فعلها طلبًا جازمًا ، فلو قام وكبر عامدًا متعمدًا ولم يتطهر وهو ذاكر ، فتكون صلاته باطلة .
* ( أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا ): ودليل الوجوب أمران:
الأول : حديث «طلب العلم فريضة على كل مسلم».( ابن ماجه 224،الجامع 3913)، أي العلم العيني .
ثانيًا : إجماع أهل العلم ، على وجوب هذه المسائل الأربع .
* ( عَلَيْنَا): الحكم عام يشمل الإنس و الجنّ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ويشمل الكفار أيضاً، لأن الكافر مخاطب بأصول الشريعة وهذا محل اتفاق ، وبفروع الشريعة على الصحيح .
* فائدة: الكافر مخاطب بأصول الشريعة لعموم الأدلة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ [ البقرة : 21] ، ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ أي وحِّدوا الله ، وقال﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ والناس تشمل المؤمنين والكافرين، فنخلص من ذلك أن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة ، ولا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، ويبقى مسألة الفروع كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، ونحو ذلك ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، هذا فيه خلاف بين أهل العلم ، والصواب أنهم مخاطبون كذلك بفروع الشريعة ، ولذلك جاء قوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر : 42-43] و ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت : 6-7] وقوله : ﴿ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان : 68-69]، فرتب العقاب ورتب مضاعفة العذاب على الوقوع في الشرك﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾، أي يدعو غير الله فقد وقع في الشرك ، ولذلك جاء ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ﴾ الخلود هنا المقابل للشرك ، ﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ فقتلوا هذه معصية﴿ وَلا يَزْنُونَ﴾ فزنوا ، ففعلوا الشرك وفعلوا كبيرتين لا تخرجهم من الملة إذا فعلهما المسلم، وهما قتل النفس المعصومة بغير حق، وفعل الزنا، قال: ﴿يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان : 69] فالمضاعفة هنا في مقابلة فعل الشرك وارتكابهم للكبيرتين ،وقال تعالى﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل : 88] أي العذاب المقابل للشرك ، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ فالعذاب الذي رتبه الربُّ جل وعلا هو لوقوعهم في الكفر والشرك ، فحينئذٍ زدناهم عذابًا لصدهم عن الحق ، وصدهم عن سبيل الحق ، ومع أنهم مخاطبون بفروع الشريعة إلا أنهم لا يطالبون بها في حال كفرهم وهذا محل اتفاق ، لأن من صحة العبادة الإخلاص﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة :5] وهذا انتفى في حقه الإخلاص ، فيمتنع أن يصلي وهو كافر لانتفاء النية والقصد، ولا يطالبون بقضائها بعد إسلامهم وهذا محل اتفاق أيضاً لقوله جل وعلا﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال :38] ، كل ما قد سلف فهو مغفور لهم ، ولقوله  «الإسلام يجب ما قبله»( صحيح الجامع2777 )، وبالإجماع العملي ،فالنبي  كان يأتيه من يُسلم أو يُسلم على يديه ، والصحابة كذلك من بعده لم يطالبوا أحدًا البتة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه طالب كافرًا بقضاء الصلوات والصيام ونحو ذلك ،فحينئذٍ نقول :أن الفائدة من كون الكفار مخاطبون بفروع الشريعة تكون فائدة أخروية فحسب وليست دنيوية ، أخروية في مضاعفة العذاب.
ـ فائدة: ذهب بعض العلماء إلى أن الكافر يعذب على الطيبات واستدل بقوله جل وعلا ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأعراف : 32 ] إذًا ليست للكفار ، فكل ما كان من الطيبات فالأصل أنها للمؤمنين، فإذا تلبَّسوا وأكلوا وشربوا فقد فعلوا ما ليس ملكًا لهم ، بل هو ملك للمؤمنين ، فيكون فيه اعتداء فيعذب على ذلك ، وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى .
* ( مَسَائِل ): جمع مسألة مشتقة من السؤال، وهو ما يُبرهن عنه في العلم ، أي ما يُثبت له الدليل ، ويُطلب ويُسأل عنه.
( الأُوْلَى العِلْمُ ) : العلم نوعان علم دنيوي محض كالهندسة والطب ونحو ذلك ، وعلم شرعي مصدره الوحيان من الكتاب والسنة ، والمقصود بالعلم هنا هو العلم الشرعي .
( العِلْمُ ) : قال ابن القيم رحمه الله في العلم الشرعي هو معرفة الهدى ـــ الوحيّ قرآنًا وسنةً ـــ بدليله .
الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الهُدَى بِدَلِيْلِهِ مَا ذَاكَ وَالتَّقْلِيْدُ يَسْتَوِيَانِ
ــ والعلم إما واجب وإما مستحب ، والواجب إما أن يكون واجبًا عينياً أو كفائياً،والواجب العيني سُمِّيَ عينيًّا لتعلقه بكل عين ،بمعنى أنه يجب على كل فردٍ من المكلفين ، لا يقوم أحد مقام الآخر ، ولا ينوب أحد مناب الآخر ، ولا يُعذر أحد بجهله البتة ، و تاركه آثم ، وأما الواجب الكفائي هو ما كان متعلِّقًا بجملة المسلمين ، إذا قام به البعض سقط عن الأخرين ، والمراد بالعلم هنا هو العلم العينيّ لأنه قال :( يَجِبُ عَلَيْنَا )على كل فردٍ من المكلفين، فدل على أن هذه المسائل الأربعة التي سيذكرها كلها واجبات ، فبقوله : ( يَجِبُ عَلَيْنَا ) أخرج المستحبات من الأربعة مسائل .
* (العلم هو مَعْرِفَةُ ): عرَّف المصنف العلم بالمعرفة ، وهذا محل نزاع عند أهل العلم ،و أكثر أهل العلم - والمسألة لغوية - أن العلم بمعنى المعرفة ، والمعرفة بمعنى العلم فهما مترادفان ، وبهذا قال أبو الخطاب في شرح (( التمهيد)) ، واستدل بقوله تعالى : ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :146] قال : ﴿ يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ ثم قال : ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعلمون أنك رسول الله ، حينئذٍ عبَّر عن المعرفة بالعلم ، فدلّ على أن المعرفة هي العلم ، وهذا اختيار المصنف هنا كما هو الظاهر ،فالعلم والمعرفة عنده سيَّان ، وذهب بعضهم إلى التفريق ولم يوجد ضابط صحيح يمكن التعويل عليه في الفرق بين المعرفة والعلم ،و ذكر ابن القيم فروقًا بين المعرفة والعلم في ( مدارج السالكين 2 / 472 ) فقال رحمه الله تعالى :
والفرق بين العلم والمعرفة من وجوه ثلاثة :
أحدها: أن المعرفة لب العلم ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان وهي علم خاص متعلقها أخفى من متعلق العلم وأدق . [المعرفة لب العلم بمعنى أنها أخصُّ منه ، ولُبُّ العلمِ خُلاصته ، كأن أقول الإخلاص خلاصة العبادة ]، [ونسبةُ العلم إلى المعرفة كنسبة الإيمان إلى الإحسان ، والإحسان دائرة أضيق من دائرة الإيمان ].
والثاني: أن المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بمُوجَبه ومقتضاه فهي علم تتصل به الرعاية.[بمعنى أن العلم قد يعمل به صاحبه ، وقد لا يعمل به ، فإن عَمِلَ به حينئذٍ صار علمًا ومعرفةً وإلا فهو علم بحت ، حينئذٍ صارت المعرفة أخص ، لأنها علم مع رعاية ،بمعنى أنه يلاحظ معلوماته فيطبقها، يعلم مثلاًحقيقة الإخلاص فيحاول أن يتلبس بالإخلاص ، ووسائل الإخلاص فهذه رعاية العلم ،وهي العمل بالعلم ] .
والثالث: أن المعرفة شاهد لنفسها وهي بمنزلة الأمور الوجدانية التي لا يمكن صاحبها أن يشك فيها ولا ينتقل عنها وكشف المعرفة أتم من كشف العلم والله سبحانه وتعالى أعلم .اهـ
* ( وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ  وَمَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ بِالأَدِلَّةِ ): وهذه ثلاثة أركان وهي أركان العلم العيني الذي قصده المصنف رحمه الله تعالى وهذه الأركان متلازمة بمعنى أنه لا يمكن لأحد أن ينفرد بواحد منها ثُمّ يعادي الآخر ، يقول : أنا عرفتُ الله و لا أريد أن أعرف نبيه  ، وكذلك لو قال : أريد أن أعرف محمدًا  ولكن لا أريد أن أعرف الله عز وجل ، وهذا يستحيل ، لأن معرفة المُرسَل فرع عن معرفة المُرسِل ، فهذه الأركان متلازمة.
الركن الأول :
* ( وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ ): قدَّم المصنف رحمه الله معرفة الله على معرفةِ النبي  و معرفةِ الدين لأن العبد لا يمكن أن يتلبس بدينه إلا إذا عرف الله عز وجل ، و المقصود بالمعرفة هنا هي المعرفة الشرعية لا المعرفة الفطرية لأنه قد يعرف ربه ولكن لا يتحقق فيه الوصف الذي جعله قيدًا في معرفة الربِّ جل وعلا ، لأن إبليس يعرف ربه قال﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف :12] فأثبت أنه خالق ، بل وأقسم به﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص 82]،فالمقصود بالمعرفة هنا هي المعرفة الشرعية ، لأن ضابط المعرفة الشرعية أن تستلزم قبول ما جاء به النبي  من جهة المشرِّع وهو الله عز وجل ، فهي معرفة تستلزم قبول ما شرعه ، والإذعان ، والانقياد له ، وتحكيم شريعته التي جاء بها رسوله محمد  ، فإن لم تستلزم ذلك فلا عبرة بها ، لأنها موجودة عند إبليس ، وعند فرعون ، وعند الكفار أجمعين ، ويتعرف العبد على ربه بالنظر في الآيات الشرعية في كتاب الله جل وعلا ، وسنة رسوله  ، والنظر في الآيات الكونية ، لأن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات ازداد علمًا بخالقه ومعبوده ، قال الله عز وجل﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات : 20-21] و هذا هو الركن الأول من العلم الذي عناه المصنف.
الركن الثاني :
( وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ) : وهي معرفة بالقلب تستلزم قبول ما جاء به النبي  ، فإن لم تكن كذلك فحينئذٍ لا عبرة بهذه المعرفة ، لأنه ليس المراد معرفة فطرية قلبية فحسب بل لابد أن تكون مثمرة للقبول ، والانقياد ، والطاعة ، ولذلك نُفِيَ الإيمان عن من عرف النبي  ولم يُحَكِّمْ شَرْعَهُ قال الله عز وجل ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء :65] ، و قال تعالى ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور :63] فسماها مخالفة لأنها تنافي مقتضى المعرفة ، لأنه لو عرف النبيَّ  ولم يحكِّم النبي  وخالف أمره ، فتكون هذه المخالفة قد اقتضت وجود النافي لهذه المعرفة فكأنها غير موجودة ، ولذلك قال : ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فهذا نَفْيٌ لأصل الإيمان يعني بل كفار ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال تعالى أيضاً ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور :51] فأثبت لهم الفلاح ، وضدُّ الفلاح الخسران ، و قال تعالى أيضاً﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء :59] فقيده هنا بالشرط ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ فحينئذٍ يكون التحاكم إلى النبي  مفهومه إن لم تكونوا مؤمنين فحينئذٍ لا تردوه إلى الله ورسوله ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أيِّ شيء ،فـــ﴿ شَيْءٍ﴾ نكرة في سياق الشرط فتعم، و لو في عود أراك اختلف المسلمون فيه فحينئذٍ يتحاكمون إلى الشرع ولا يجوز التحاكم إلى غيره ، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾إلى الله يعني إلى كتابه ، وإلى الرسول  إذا كان حيًّا أو إلى سنته ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[النساء :59] ، إذًا لا بد أن تكون معرفة النبي  مستلزمة لقبول ما جاء به عليه الصلاة والسلام امتثالاً لأوامره ، واجتنابًا لنواهيه ، وتصديقًا لأخباره  ، وتحكيمًا لشريعته ، والرضا بحكمه عليه الصلاة والسلام .
* فائدة: قال المصنف رحمه الله ( وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ) والنبي أعم من الرسول ،لأن القاعدة عند الجمهور : أن كل رسول نبي ولا عكس،لأن الرسول أوحي إليه بشرعٍ وأمر بتبليغه وإلا فهو نبي، وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (النبوات صـ185) النبي من أُرسل إلى قومٍ موافقين، والرسول من أرسل إلى قومٍ مخالفين، بمعنى أنه جاء بشرع جديد ، والنبي جاء بشرع من قبله، والمصنف هنا قال ( وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ) فأثبت الأعم ،وإثبات النبوة لا تستلزم إثبات الرسالة لأن القاعدة تقول (إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص ، وإثبات الأخص يستلزم إثبات الأعم ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم )،فنقول أن مراد المصنف بالنبي هو المرادف للرسول ، ففي هذا الموضع النبي والرسول مترادفان ، لأن المصنف لم يرد بيان حقيقة النبوة أو الرسالة ، وإنما مراده أنه من عند الله جل وعلا ، وأنه جاء بشرعٍ وهو العلم الشرعي ،و قصد العلم الشرعي الذي جاء به محمد  ، ومعرفة محمد  أصل لمعرفة ذلك العلم الشرعي .
الركن الثالث :
* ( وَمَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ بِالأَدِلَّةِ ): دين الإسلام الدِّين يتضمن الخضوع والذُّل ، يقال : دِنْتَهُ فَدَانَ أَي أَذللته فذلَّ ، إذًا دين الإسلام : هو الخضوع وعبادة الله جَلَّ وعلا بما جاء به محمد  ، والإسلام له معنيان : معنى عام ، ومعنى خاص، فدين الإسلام الذي جاء به محمد  ناسخ لجميع الأديان السابقة ، لكن جاء وصف مَن سبق بالإسلام ،فقد جاء على لسان إبراهيم عليه السلام : ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة : 128] فوصفها بالإسلام ، كذلك جاء في وصف التوراة وأنبياء بني إسرائيل ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ [المائدة :44] وصفهم بالإسلام ، كذلك قال موسى لقومه﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [ يونس :84] وصفهم بالإسلام﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [ الذاريات : 36] ، فالمراد بالإسلام هنا هو الإسلام العام ، و يفسر بالقدر المشترك بين الأنبياء وهو التوحيد﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء : 25] إذ دين الأنبياء واحد ، وهو الدعوة إلى عبادة الله جل وعلا ونبذ كل ما سواه﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[البقرة :256] ، وقال تعالى﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل :36] ، ففسر لا إله إلا الله التي جاءت في﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وهذه الكلمة مدلولها اعبدوا الله ، وهي التي جاء فيها﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [النحل :36] والمعنى واحد ، لأن معنى لا إله إلا الله هو الأمر بعبادة الله جل وعلا ، وهي التوحيد الذي جاء في السنة، وهذا إسلام عام والمراد به عبادة الله جل وعلا وحده ، ونبذ كل ما سواه سبحانه من الآلهة الباطلة ،وأما الإسلام الخاص فهو ما جاء به محمد  أصلاً وفرعًا ، يعني الأصول التي شارك فيها غيره من الأنبياء كأصول التوحيد والإيمان ، وكذلك الفروع التي هي كالصلاة والزكاة ونحو ذلك ، فصار عَلَمًا بالغلبة في أمة محمد  إذا أُطلق انصرف إلى ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، وإلا فالأصل هو وصفٌ عامٌّ لكل ما جاء به الأنبياء ثم صار علمًا بالغلبة لما جاء به محمد  .
* ( بِالأَدِلَّةِ ): الأدلة جمع دليل، فَعِيل بمعنى فاعل، والدلالة المراد بها الإرشاد، والمراد بالدليل في الاصطلاح: ما يُرشد إلى المطلوب، فكل ما أرشد غيره إلى مطلوب له يُسمى دليلاً ، ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا﴾ [آل عمران :130] هذا نهي ، والنهي الأصل فيه أنه للتحريم ، إذا الربا محرم ، ما الذي أرشد إلى هذا المطلوب أن الربا محرم قوله تعالى﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا ﴾ [آل عمران :130] ، إذاً كل ما أرشد إلى المطلوب فهو دليل ، سواء كان في المعنويات أو المعقولات أو المحسوسات .
ــ و الأدلة قد تكون سمعية خبرية ، وقد تكون أدلة عقلية، فالسَّمْعِي : ما يدرك بالسمع و يكون مسموعًا من كتاب الله جل وعلا وكلام رسوله  ، والعقلية : ما يكون ثابتًا بالنظر والتأمل .
فائدة: قوله ( بِالأَدِلَّةِ ): على القاعدة النحوية ( أن الجار والمجرور يكون متعلقًا بالأخير ) ، أي متعلقًا بقوله : ( مَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ )، ويحتمل أن المراد معرفة الله ( بِالأَدِلَّةِ ) ، ومعرفة نبيه  ( بِالأَدِلَّةِ ) ، ومعرفة دين الإسلام (بالأدلة)، وجهان محتملان في تفسير النص ، وهما متقاربان ، وكلٌّ منهما يدل على الآخر، وإذا جعلنا( بالأدلة ) متعلقة بالمتأخر - أي بمعرفة دين الإسلام - فنقول : أن دين الإسلام أصول وفروع ، فأما الفروع فلم يقل أحد من أهل العلم أنه يُشترط في معرفة الإسلام في أخذ الفروع أن يكون كل فرع مأخوذًا بالأدلة ،وأما الأصول فمنها ما يثبت به توحيد المكلّف ويخرج به عن دائرة الكفر والشرك ، ومنها ما هو دون ذلك ،والقول بكون كل الأصول لا بد من معرفتها بالأدلة لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة وإنما هو قول مأثور عن المعتزلة وأكثر الأشاعرة ، فإذا قال المكلَّف : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وأقام الصلاة ، وكفر بالطاغوت ،وعرف مدلول لا إله إلا الله إثباتًا ونفيًا ، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله ونفى ما نفته لا إله إلا الله بهذا دخل في الإسلام ، وحقق التوحيد ،وإن مات ولم يعلم بالملائكة ولم يؤمن بها فهذا لا يؤثر في توحيده ، وأما مسألة أن المكلف لابد أن يأخذ هذه المسائل الثلاث وهي (مَعْرِفَةُ اللهِ وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ  وَمَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ ) بِالأَدِلَّةِ ، فمحل نزاع بين أهل العلم ، وهو ما يعنون له أهل العلم بـــ (صحة إيمان المقلد)
والتقليد في اللغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به ، وشرعاً : قبول قول الغير بدون حجة .
وهذه المسائلة ـــ صحة إيمان المقلد ـــ على قولين لأهل العلم :
قال السفاريني ــ أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي ــ في ( لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية ( 1 / 26) ) :
«فصل في ذكر الخلاف في صحة إيمان المقلد في العقائد وعدمها وفي جوازه وعدمه»
القول الأول التحريم :
« قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى ، وفي التوحيد والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ، ونحوها مما تواتر واشتهر ، عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - والأكثر وذكره أبو الخطاب عن عامة العلماء ، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله في شرح التحرير ، قال : وأطلق الحلواني من أصحابنا وغيره منع التقليد في أصول الدين ، واستدلوا لتحريم التقليد بأمره سبحانه وتعالى بالتدبر والتفكر والنظر .
وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآيات قال - - :
« ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن ، ويل له ، ويل له ».
والإجماع على وجوب معرفة الله تعالى ، ولا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر ، واستحالة حصولها ، كمن قلد في حدوث العالم ، وكمن قلد في قدمه ، ولأن التقليد لو أفاد علما ، فإما بالضرورة ، وهو باطل ، وإما بالنظر ، فيستلزم الدليل والأصل عدمه ، والعلم يحصل بالنظر ، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح ، ولأن الله تعالى ذم التقليد بقوله تعالى ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ ولقوله تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ فألزم الشارع بالعلم ، ويلزمنا نحن أيضا ؛ لقوله : ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ .
فتعين طلب اليقين في الوحدانية ، ويقاس عليها غيرها ، والتقليد لا يفيد إلا الظن ، ولهذا قال معللا للمنع عنه بقوله ( لأنه ) أي الشأن والأمر والقصة ( لا يكتفى ) في أصول الدين ، ومعرفة الله رب العالمين ( بالظن ) الذي هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فالراجح هو الظن ، والمرجوح الوهم ، فلا يكتفى به في أصول الدين ( لذي ) أي لصاحب ( الحجى ) كإلى أي العقل والفطنة ( في قول أهل الفن ) من الأئمة وعلماء المنقول والمعقول من الأصوليين والمتكلمة وغيرهم .
قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : كل ما يطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه ، والأخذ فيه بالظن لأنه لا يفيده ، وإنما يفيده دليل قطعي ،
القول الثاني الجواز:
قال : في شرح مختصر التحرير : وأجازه - يعني في التقليد في أصول الدين - جمع ، قال بعضهم : ولو بطريق فاسد.
قال العلامة ابن مفلح : وأجازه بعض الشافعية لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلها هل نظرت ؟ وسمعه الإمام ابن عقيل ، عن أبي القاسم ابن التبان المعتزلي قال : وإنه يكتفى بطريق فاسد ، وقال هذا المعتزلي : إذا عرف الله ، وصدق رسوله ، وسكن قلبه إلى ذلك ، واطمأن به ، فلا علينا من طريق تقليد كان أو نظرا أو استدلالا ، وإلى هذا الإشارة بقوله ( وقيل يكفي ) في أصول الدين ( الجزم ) ولو تقليدا ( إجماعيا ) ( ب ) كل ( ما ) أي حكم ( يطلب ) بضم أوله مبنيا لما لم يسم فاعله ، ونائب الفاعل مضمر يعود على الجزم ( فيه ) أي فيه ذلك المطلوب من أصول الدين ( عند بعض العلماء ) من علماء مذهبنا والشافعية والمعتزلة وغيرهم .
قال العنبري وغيره يجوز التقليد في أصول الدين ، ولا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم ، لأنه -  - كان يكتفي في الإيمان من الأعراب - وليسوا أهلا للنظر - بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم ، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه .
وقال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وقيل يكفي الجزم يعني بالظن إجماعا بما يطلب فيه الجزم ، ( فالجازمون ) حينئذ بعقدهم ، ولو تقليدا ( من عوام البشر ) الذين ليسوا بأهل للنظر والاستدلال ، بما لا يتم الإسلام بدونه ( ف ) على الصواب هم ( مسلمون عند أهل الأثر ) وأكثر النظار والمحققين وإن عجزوا عن بيان ما لم يتم الإسلام إلا به .
وقال ابن حامد من علمائنا : لا يشترط أن يجزم عن دليل - يعني بل يكفي الجزم ولو عن تقليد ، وقيل الناس كلهم مؤمنون حكما في النكاح والإرث وغيرهما ، ولا يدرى ما هم عند الله ، انتهى .
وقال العلامة المحقق ابن قاضي الجبل من علمائنا في أصوله : قال ابن عقيل : القياس النقلي حجة يجب العمل به ، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع ، قال : ولا يجوز التقليد ، والحق الذي لا محيد عنه ، ولا انفكاك لأحد منه صحة إيمان المقلد تقليدا جازما صحيحا ، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين ، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة ، نعم يجب النظر على من لا يحصل له التصديق الجازم أول ما تبلغه الدعوة .
قال بعض علماء الشافعية : اعلم أن وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظر واستدلال ، بل يكفي اعتقاد جازم بذلك ، إذ المختار الذي عليه السلف وأئمة الفتوى من الخلف وعامة الفقهاء ، صحة إيمان المقلد ، قال : وأما ما نقل عن الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري من عدم صحة إيمان المقلد ، فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري .
ثم قال : ومما يرد على زاعمي بطلان إيمان المقلد أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فتحوا أكثر العجم ، وقبلوا إيمان عوامهم ، كأجلاف العرب ، وإن كان تحت السيف ، أو تبعا لكبير منهم أسلم ، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظر ، ولا سألوه عن دليل تصديقه ، ولا أرجئوا أمره حتى ينظر.
والعقل يجزم في نحو هذا بعدم وقوع الاستدلال منهم لاستحالته حينئذ ، فكان ما أطبقوا عليه دليلا أي دليل على إيمان المقلد ، وقال : إن التقليد أن يسمع من نشأ بقلة جبل الناس يقولون للخلق رب خلقهم ، وخلق كل شيء من غير شريك له ، ويستحق العبادة عليهم ، فيجزم بذلك إجلالا لهم عن الخطأ ، وتحسينا للظن بهم ، فإذا تم جزمه بأن لم يجز نقيض ما أخبروا به ، فقد حصل واجب الإيمان ، وإن فاته الاستدلال لأنه غير مقصود لذاته بل للتوصل به للجزم وقد حصل .
وقال الإمام النووي : الآتي بالشهادتين مؤمن حقا ، وإن كان مقلدا على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف ، لأنه -  - اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل ، وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي ، انتهى .
وبما تقرر تعلم أن النظر ليس بشرط في حصول المعرفة مطلقا ، وإلا لما وجدت بدونه لوجوب انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، لكنها قد توجد فظهر أن النظر لا يتعين على كل أحد ، وإنما يتعين على من لا طريق له سواه ، بأن بلغته دعوة النبي - - أول ما بلغته دعوته ، وصدق به تصديقا جازما بلا تردد ، فمع صحة إيمانه بالاتفاق لا يأثم بترك النظر ، وإن كان ظاهر ما تقدم الإثم مع حصول الإيمان ، لأن المقصود الذي لأجله طلب النظر من المكلف وهو التصديق الجازم قد حصل بدون النظر فلا حاجة إليه ، نعم في رتبته انحطاط ، وربما كان متزلزل الإيمان فالحق أنه يأثم بترك النظر وإن حصل له الإيمان ، ومن ثم نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه لأن جزمه حينئذ لا ثقة به ، إذ لو عرضت له شبهة عكرت عليه ، وصار مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال ، فإنه لا يفوت بذلك ، والله تعالى ولي التوفيق ».
ـ المسألة الثانية : ( العَمَلُ بِهِ ): والضمير هنا يعود على العلم ، إذًا يجب العمل بالعلم، والمراد بالعمل هنا العمل بالعلم الواجب ، أما المستحب فليس داخلاً في كلام المصنف، والنصوص الشرعية وردت في وجوب إتباع العلم بالعمل ، وورد الوعيد الشديد لتارك العمل بما عَلِم لذلك جاء في الحديث : « لن تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع»، وذكر منها «وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»، حينئذٍ لا يحل له أن يعلم ثم يترك ، ولذلك هاتان المسألتان متلازمتان ، لا علم نافع إلا بعمل به، ولا عمل إلا بعلم .
وَعَالِمٌ بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الوَثَنْ
قال الفضيل بن عياض في بيان أهمية العمل بالعلم ومكانة العالم: «لا يزال العالم جاهلاً حتى يعمل بعلمه»(تاريخ دمشق 48/427)، والذي يعمل بعلمه يزداد نورًا وبصيرة كما هو مفهوم من قوله جل وعلا﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد :17]، والعمل هو ثمرة العلم ، فمن عمل بلا علم فقد شابه النصارى ، ومن عَلِمَ ولم يعمل فقد شابه اليهود لأن الطوائف ثلاث قد بيَّنها الله عز وجل في آخر سورة الفاتحة﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾ [ الفاتحة : 7 ] غير المغضوب عليهم وهم اليهود وهم الذين عَلِمُوا ولم يَعْمَلُوا، والضَّالين هم النصارى الذين عَمِلُوا ولم يَعْلَمُوا، وقد قال النبي  : « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(أبو داود4031)، من تشبَّه بقوم: نكرة في سياق الشرط فيعمّ ، ليس التشبه خاصًّا بالكفار فقط ، وإنما هو عام للفساق ونحوهم، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «مجموع الفتاوى4/53»: «ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول تُوجب صحة الفروع».
ـ المسألة الثَّالِثَةُ: من المسائل الواجبة ( الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ ): الضمير هنا يعود إلى أقرب مذكور، فيكون التقدير ( الدعوة إلى العمل بالعلم ) وهذا يتضمن العلم الشرعي لأنه لا عمل صحيح إلا بعلم صحيح، قال ابن القيم رحمه الله في«مفتاح دار السعادة»(1/56): « فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل».
ـ المسألة الرابعة: من المسائل الواجبة ( الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيْهِ ):
ـ الصبر لغة: الحبس والمنع .
واصطلاحًا: حبس النفس عن التسخط ، واللسان عن التّشكي ، والجوارح عن لطم الخدود ونحو ذلك.
ـ والصبر نوعان:
1) صبر واجب. 2) وصبر مستحب.
أولاً: الصبر واجب: وهذا يكون فيما أوجب الله الصبر عليه، وهو ثلاثة :
الأول: الصبر على الطاعات ، والطاعات هذا عام يشمل المستحبات ويشمل الواجبات ، والمراد هنا الصبر على الواجبات الفرائض.
الثاني: الصبر عن المحرمات .
الثالث: الصبر على الأقدار المؤلمة ، والمصائب الموجعة.
ثانياً: وصبر مستحب: والمستحب هو ما زاد على ذلك، كالصبر على قيام الليل مستحب، والصبر على صيام النهار في غير الواجب مستحب وغير ذلك.
( عَلَى الأَذَى فِيْهِ ): ( أل ) هذه للعموم ، فتشمل الأذى سواء كان الأذى في البدن ، أو الأذى في المال ، أو الأذى في النفس،لأن من قام بدين الإسلام ، ودعا الناس إليه ، فقد قام مقام الرسل وتحمل عبئًا عظيمًا، فيلزمك الصبر والاحتساب قال تعالى﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا ﴾ [الأنعام : 34]، وقال تعالى﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف : 35]، وقال تعالى﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ﴾[الإنسان :23] - نزول القرآن نعمة - فكان الناظر ينتظر أن يقال : فاشكر نعمة ربك، ولكنه قال : ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ لأنه فيه إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن فلا بد أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر ، انظر إلى حال النبيحين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». فعلى الداعية أن يكون صابرًا محتسبًا.
( والدَّلِيْلُ ): أي على وجوب المسائل الأربعة السابقة الذكر.
* قَوْلُهُ تَعَالَىچ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ پ پ پ پ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡچ (العصر: 1 - 3).
( قَوْلُهُ تَعَالَى ): دليل سمعي، والدليل السمعي هو ما يدرك بواسطة السمع ، والدليل العقلي هو ما يدرك بالنظر والتأمل.
* ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾: الواو هنا واو القسم، فأقسم الرب جل وعلا بالعصر وهو المُقسِم ، والمقسَم به العصر ، والمقسَم عليه هو خسارة الإنسان، والقسم المراد به التأكيد والتقوية على شيء معين، وإذا أقسم الله بشيء دل على أنه مهم وأن له مكانة وشرفًا يفوق غيره من المخلوقات، فالرب جل وعلا يقسم بما شاء من مخلوقاته أو يقسم بذاته سبحانه وتعالى ، وأما المخلوق فليس له أن يقسم أو يحلف إلا بخالقه جل وعلا، لأن القسم فيه معنى التعظيم ، ولا يُعظَّم إلا الرب جل وعلا من جهة المخلوق.
ـ وقال«القرطبي»بتصرف يسير(20/178ـ 179)في معنى﴿ وَالْعَصْرِ ﴾:
1) هو الدهر ـ قول جمهور أهل العلم ـ ، وهو قول ابن عباس وغيره، ومنه قول الشاعر:
سَبِيْلُ الهَوَى وَعْرٌ وَبَحْرُ الهَوَى غَمْرُ وَيَوْمُ الهَوَى شَهْرٌ وَشَهْرُ الهَوَى دَهْرُ
أي عصر أقسم الله به عز وجل، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع.
2) وقيل: العصر: الليل والنهار.
3) وقيل: إنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة، ومنه قول الشاعر:
تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الاولى الغنيمة والاجر
وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار.
4) وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى، لأنها أفضل الصلوات، قاله مقاتل.
يقال: أذن للعصر، أي لصلاة العصر.
5) وقيل: هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله بتجديد النبوة فيه.
6) وقيل: معناه ورب العصر.أهـ.
ـ والأصح من هذه الأقوال أن كلمة العصر تعُمُّ كل ما قيل، ويعم ما قيل الدهر، لأن الدهر يقع فيه العشي، ويقع فيه صلاة العصر ، ويقع فيه آخر ساعة من ساعات النهار، والقاعدة العامة عند المحققين من أهل التفسير: ( أن اللفظ القرآني إذا جاء محتملاً لعدة معانٍ، وكلُّ معنى من هذه المعاني صالح لأن يدخل تحت هذا اللفظ، فحينئذٍ يُحمل على كل المعاني، فيكون مشتركاً أو مُطلقًا فتحته أفراد، فيصدق على تلك الأفراد إلا إذا جاء دليل من كتاب أو سنة يخصص تلك المعاني أو يخصص ذلك اللفظ ببعض أفراده ).
* قال الطبري في«تفسيره»(24/589): «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر( وَالْعَصْرِ ) اسم للدهر، وهو العشيّ والليل والنهار، ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى، فكلّ ما لزِمه هذا الاسم، فداخل فيما أقسم به جلّ ثناؤه».
* ﴿إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ﴾: جواب القسم.
ـ وقال«القرطبي»بتصرف يسير(20/178ـ 179)في معنى﴿الإِنْسَانَ﴾:
1) والمراد به الكافر، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح.
2) وقيل: يعني بالإنسان جنس الناس. أهـ
ـ ولأن ( أل ) تفيد الاستغراق والشمول، بدليل صحة وقوع لفظة كل محلها، وبدليل الاستثناء منها، والجمهور على أن المراد بالإنسان هنا جنس الإنسان.
* قال الطبري في«تفسيره»(24/589)﴿لَفِي خُسْرٍ﴾: «إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان».
* وقال«القرطبي»بتصرف يسير(20/178ـ 179)في معنى﴿لَفِي خُسْرٍ﴾: لفي غبن، وقال الأخفش: هلكة، وقال الفراء: عقوبة، ومنه قوله تعالى﴿وكان عاقبة أمرها خسرا﴾[ الطلاق: 9 ]، وقال ابن زيد: لفي شر، وقيل: لفي نقص، المعنى متقارب.أهـ
* ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾: في تفيد الظرفية، إذًا هو داخل في الخسر بمعني أن الخسر محيط به من كل مكان.
* وقال ابن الجوزي في«زاد الميسر»(9/225): «والإنسان هاهنا بمعنى الناس كما تقول كثر الدرهم في أيدي الناس تريد الدراهم والخسر والخسران في معنى واحد قال أهل المعاني الخسر هلاك رأس المال أو نقصه فالإنسان إذا لم يستعمل نفسه فيما يوجب له الربح الدائم فهو في خسران لأنه عمل في إهلاك نفسه وهما أكبر رأس ماله إلا الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا بالطاعة وتواصوا بالحق أي بالتوحيد والقرآن واتباع الرسول وتواصوا بالصبر على طاعة الله والقيام بشريعته».
* وقد ذكر في هذه السورة ثلاث مؤكدات:
- والعصر: قسم مؤكد مقوي للكلام .
- إنَّ: حرف نصب وتوكيد .
- لفي خُسْرٍ: اللام واقعة في جواب خبر إنَّ فهي مؤكدة .
ـ ومن المعلوم في كلام العرب: ( أنه لا يُؤكد إلا إذا كان المخاطب مترددًا أو منكرًا ، وأما خالي الذهن فهذا لا يصح له التوكيد إلا على تأويل )، إذاً الحكمة من هذه المؤكدات أنها وقعت جواباً لحال كفار قريش، لأنهم اعتقدوا أن ما هم عليه - بلسان حالهم ومقالهم - من الكفر، والذب عن دينهم، وقتالهم المؤمنين دفاعًا عن أصنامهم، ظنوا أنهم سلكوا طريق النجاة إلى الله عز وجل، فهم في الحقيقة مترددون أو منكرون أن طريق النجاة منحصر فيما جاء به النبي .
* ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: آمنوا أي اتصفوا بصفة الإيمان، والإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان .
* ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: فيها إثبات صفة الإيمان فدل بدلالة التضمن على المسألة الأولى وهي العلم ، لأن العلم ركن من أركان الإيمان ، وليس بخارج عن الإيمان حتى يدل عليه .
* ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: قال الطبري في«تفسيره»(24/590): « إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد».
* قال«القرطبي» (20/181)في معنى﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾: «ومعنى (وتواصوا) أي تحابوا، أوصى بعضهم بعضا، وحث بعضهم بعضا،(بالحق) أي بالتوحيد، كذا روى الضحاك عن ابن عباس.قال قتادة: ( بالحق ) أي القرآن،وقال السدي: الحق هنا هو الله عز وجل،(وتواصوا بالصبر) على طاعة الله عز وجل، والصبر عن معاصيه».
* قال ابن القيم رحمه الله في«مفتاح دار السعادة»(1/56): «قَوْلُهُ تَعَالَىچ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ پ پ پ پ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡچقال الشافعي رضي الله عنه لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله أحداها معرفة الحق الثانية عمله به الثالثة تعليمه من لا يحسنه الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة واقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر إن كل احد في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا فهذه مرتبة ثالثة وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذا نهاية الكمال فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل فهذه السورة على اختصارها هي من اجمع سور القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه شافيا من كل داء هاديا إلى كل خير».
* وقال رحمه الله أيضاً في«زاد المعاد»(3/9): « جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات».
* ( لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً ): أي شيء يُحتج به على الخلق وبرهانًا ودليلاً على أنه أقام الحجة على الخلق .
* ( عَلَى خَلْقِهِ ): أي الإنس والجن، وهذا شامل للإنس والجن لأنهم مكلفون قال تعالى﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
* ( إِلَّا هَذِهِ السُّوْرَةَ ): مع اختصارها وشمولها أو اشتمالها على ثلاث آيات مختصرات.
* ( لَكَفَتْهُمْ ): أي لصارت كافية .
* قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «مراده أن هذه السورة كافية للخلق - مجزئة للخلق - في الحث على التمسك بدين الله، بالإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مراده
رحمه الله أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة».
* ( وقال البخاري رحمه الله «باب العلم قبل القول والعمل» والدليل قوله تعالى}فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك{(محمد 19)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل ):
* قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «أستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل وهذا دليل أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولاً ثم يعمل ثانياً ، وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول والعمل وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً حتى يكون على وفق الشريعة ، ولا يمكن أن يعلم الإنسان أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعمل، ولكن هناك أشياء يعلمها الإنسان بفطرته كالعلم بأن الله إله واحد فإن هذا قد فطر عليه العبد ولهذا لا يحتاج إلى عناء كبير في التعلم ، أما المسائل الجزئية المنتشرة فهي التي تحتاج إلى تعلم وتكريس جهود».
( فَاعْلَمْ ) خطاب للنبي ، وهذا الخطاب عام لكل الأمة فتأخذ نفس الحكم، كما قال في«مراقي السعود»:
وَمَا بِهِ قَدْ خُوْطِبَ النَّبِيُّ تَعْمِيْمُهُ فِي المَذْهَبِ السَّنِيُّ
*( أَنَّهُ ) أي الحال والشأن، ( لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) لا معبود بحق إلا الله، ( وَاسْتَغْفِرْ ) وهذا نوع من أنواع العمل.
} *فأعلم أنه لا إله إلا الله{: وفيها دلالتان :
الأولى: فضل العلم. الثانية: أن العلم مقدم على العمل.


















المقدمة الثانية التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
 
* أعلم رحمك الله: أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن:
الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيل﴾[المزمل: 15، 16].
 
* ( أَنَّه يَجِبُ ): الوجوب العيني .
* ( عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ ): لابد من تقدير مكلَّف، لأن الوجوب حكم شرعي، والأحكام الشرعية التكليفية لا تثبت إلا في حق المكلفين، وقد ذكر المسلمة بعد المسلم تأكيدًا على المعنى فيكون المخاطب بهذا الواجب العيني كل فرد من أفراد المسلمين ، وكل فرد من أفراد المسلمات، سوء كانوا من الجن أو الإنس.
* ( تَعَلُّمُ ): أي اعتقاد معاني هذه المسائل الثلاث على ما قرره الرب جل وعلا في كتابه، وعلى لسان رسوله، وهذا الاعتقاد وهذه المعاني مرجعها إلى الشرع، كما أن إثبات الألفاظ الشرعية مرجعها إلى الشرع فتثبت اللفظ من جهة الشرع وتثبت المعنى الذي دل عليه الشرع لذلك اللفظ وهو ما يسمى بالحقيقة الشرعية.
* ( ثَلاَثِ ): لا مفهوم له.
* ( تَعَلُّمُ ثَلاَثِ هذه المسائل ): المسائل جمع مسألة ، وهي ما يُبرهن عنه في العلم ، أي ما يُسأل عنه في العلم ويُذكر له برهانٌ ودليلٌ من قول الله جل وعلا أو قول رسوله، ولا شك أن هذه المسائل أمور معنوية معقولة وليست بمحسوسة، وهذه اسم إشارة، والأصل في وضع اسم الإشارة أن يكون لأمر محسوس، ولكن لما كان الواجب هنا متعيِّنًا، وكان المقصود أن هذه المسائل الثلاث تكون واضحة بينة شبَّهها بالأمر المحسوس، فكأنه شيء محسوس يُشار إليه بما وُضِعَ للإشارة الحسية، فالمراد هنا أن يميز هذه المسائل عن غيرها أتمَّ تمييز، بحيث إن الناظر فيها يُدركها علمًا وعملاً كأنه يدرك المحسوس، ولذلك أشار إليه بهذه كما يقول المصنفون في أوائل الكتب أما بعد فهذا مختصر ، والمختصر إنما يكون في الذهن، ولكن جعله في مقام المحسوس، لأنه لَمَّا برز وتَمَّ في ذهنه وصار متميّزاً عن غيره نزَّله منزلة المحسوس، ولذلك يقال : نزّل المعقول منزلة المحسوس .
* ( الأُوْلَى ): وهذه المسألة لم يقع فيها نزاع بين الرسل وأقوامهم، الكل ممن آمن بالرسل وممن خالف الرسل، يُقِرُّونَ بتوحيد الربوبية، بأنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله، فحصل الاتفاق في الجملة في هذا النوع، فقدَّمه لأنه تمهيد وطريق إلى إثبات توحيد الإلوهية، لأن توحيد الإلوهية هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد صلاة ، زكاة ، صيام ، دعاء ، نذر إلى آخره، وهذه لا يستحقها إلا من كان متفردًا بالخلق، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، إذًا صار توحيد الربوبية كالتمهيد لتوحيد الإلوهية.
* ( خَلَقْنَا ): أي أوجدنا بعد عدم مسبوقٍ بتقدير، لأن الأصل في لغة العرب أن الخلق بمعنى التقدير.
* ( أَنَّ اللهَ خَلَقْنَا ): وهذا ثابت بدليل السمع والعقل، أما السمع فقوله تعالى﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾[الأعراف : 54]، وقوله تعالى ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾[فاطر : 3]، وقوله تعالى﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[الزمر : 62]، وقوله تعالى﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات :56]، وأما الدليل العقلي فهو ما جاء في الكتاب أيضًا في سورة الطور﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾[الطور : 35] ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾ أي مِنْ عدم ﴿ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ لأنفسهم ، والعدم لا يخلق ، وهم ليسوا خالقين لأنفسهم ، فدل على أن ثَمَّ خالقًا وهو الرب جل وعلا، لأن القسمة العقلية تقتضي ثلاثة احتمالات :
1) أن يكونوا خلقوا من غير شيء، وهو عدم، والعدم ليس بشي ،فلا يكون موجودًا وهذا باطل محال.
2) ﴿ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾لأنفسهم، أوجدوا أنفسهم عدم، إذًا اقتضى أنهم أوجدوا أنفسهم أولاً ثم أوجدوا أنفسهم مرة ثانية، وهذا باطل.
3) الاحتمال الثالث ولم يذكر في الآية لوضوحه وبروزه وهو أن الله تعالى هو الخالق.
* ( وَرَزَقَنَا ): وهذا ثابت بدليل السمع والعقل، أما السمع فقوله تعالى﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾[الذاريات : 58] ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ﴾وفيه حصر أنه لا رازق إلا الله، لأن قوله ﴿ هُوَ ﴾ هذا ضمير فصل جيء به للتأكيد﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[البقرة : 5] ﴿أولئك﴾مبتدأ ، و﴿المفلحون﴾خبره، و﴿هم﴾وقع بين المبتدأ والخبر لدلالته على التأكيد، وأن الخبر محصور في المبتدأ، وكذلك﴿ إِنَّ اللَّهَ﴾ الله اسم إنَّ، وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب﴿الرَّزَّاقُ﴾خبر إنَّ، وجيء بضمير الفصل من باب التأكيد والحصر أنَّ هذه الصفة محصورة في الرب جل وعلا ومنفية عن غيره سبحانه.

* والرزق ينقسم إلى نوعين:
والرزق ما ينفع من حلال أو ضِدِهِ فحُل عن المحال
لأنه رازق كل خلق وليس مخلوق بغير رزق
الأول: ما يقوم به البدن: سواء أخذه من حِلٍّ أم من حرام، فمن عاش حياته كلها لا يأكل إلا الخنزير فهذا قوام بدنه الخنزير، وهذا رزق من عند الله جل وعلا ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [البقرة : 60]، فإذا أراد الحلال عرف طريق الحلال، وإذا أراد الحرام عرف طريق الحرام، وكل يُسمى رزقًا من عند الله جل وعلا.
الثاني: ما يقوم به الدين: وهذا خاص بالحلال، لأنه لا تبعة على المسلم فيه وهو ما كان قوامًا له على الطاعة، فيدخل في قوله تعالى ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف : 32] فدَلّ على أن هذه الطيبات مختصة بالمؤمنين، فحينئذ المؤمن الذي يجانب ويبتعد عن الحرام هو المرزوق وهذا الرزق خاص به لأنه سلك طريقه وهو طلب الحلال.
* فالله ( خَلَقْنَا ) لطاعته ولعبادته ولتحقيق التوحيد ( وَرَزَقَنَا ) النعم لنستعين بها على عبادته وطاعته.
ـ فائدة: يفرق أهل العلم بين الرِّزق والرَّزق ، فالرِّزق هو العين المرزوقة المخلوق، والرَّزق بفتح الراء هو فاعل الرب جل وعلا كالخلق والمخلوق.
*( وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا ): أي مهملين معطلين كالبهائم لا نؤمر ولا ننهى، وهَمَلاً لم يَرِد في كتاب الله وإنما ورد عبث وورد السُّدى وكلها بمعنى واحد قال تعالى﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾[المؤمنون : 115]، وقال تعالى﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾[القيامة : 36] جمهور المفسرين على تفسير سدى بأنه: لا يُؤمر ولا يُنهى.
* ( بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً ): والخطاب هنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم،فأرسله بالهدى وهو العلم النافع، ودين الحق وهو العمل الصالح، والغاية من إرساله الطاعة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾[النساء : 64].
* ( فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ ): فرتب الجزاء على هذه الطاعة وهي الجنة أو النار، فمن أطاعه من اسم شرط فتعم كل من أطاعه من الإنس أو الجن، والطاعة: هي موافقة أمر الشرع بفعل المأمور واجتناب المحظور على جهة الاختيار، وهي أعم من القربة، فكل قربة طاعة ولا عكس، لأن القربة يشترط فيها التقرب إلى الله تعالى بالنية كالعبادات المتمحضة، وأما الطاعة فأعم من ذلك فتصدق على الوجبات التي لا يُشترط فيها النية كرد الديون والنفقة على الزوجات ونحو ذلك.
* (﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيل﴾ [المزمل: 15، 16]): وقد اختير موسى عليه السلام مع فرعون وقومه لأنهم كانوا يعرفون حال فرعون وما جرى له في الدنيا وما يكون له في الآخرة، فكان ذلك معلومًا عند كفار قريش واضحًا بينًا فحصل بذلك الاعتبار بالتشبيه، فأنتم يا أمة محمد  قد أرسلنا إليكم رسولاً فإن عصيتم كما عصى فرعون فسيترتب ويحل بكم ما حلَّ بفرعون، وهذا وجه الاستدلال بالآية.
 
* الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾[الجن: 18].
 
* ( أَنَّ الله لا يَرْضَى ): الرضا صفة قائمة بذات الرب جل وعلا، لازمها المحبة والإنعام والعطاء، وإذا انتفى الرضا ثبت ضده وهو السُّخْطُ، لأن متعلق نفى الرضا هنا هو الشرك ، وهو أكبر الكبائر وأعظم الذنوب
* ( لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ ): أن حرف مصدر، ويُشرك فعل مضارع مغير الصيغة، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، والمصدر هذا يُفسر من مادة الشرك أي من المصدر الذي اشتق منه هذا الفعل، أَشْرَكَ يُشْرِكُ إِشْرَاكًا، والمعنى أن الله لا يرضى إشراكًا، وإشراكًا نكرة وَقَعَت في سياق النفي فتعم ، أي لا يرضى الشرك أكبره وأصغره، ظاهره وخفيه، كل نوع من أنواع الشرك قليلاً أو كثيًرا ، ظاهرًا، جليًّا أو خفيًّا مستترًا، والشرك لا يرضاه الله، فهو منفيٌّ بالإرادة الشرعية، وقد وقع لأنه مراد كونًا لحكمة أرادها جل وعلا، والشرك في اللغة: النصيب، يقال : أَشْرَكَ زيدٌ عَمْرًا في ماله، بمعنى أنه قد جعل له نصيبًا من ماله، أو أشركه في عمله، واصطلاحاً: بالمعنى العام أن تجعل لله ندًّا في الإلوهية أو في الربوبية أو في الأسماء والصفات، فالشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام، كما أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: شرك في الربوبية، وهو أن تجعل لله ندًّا في الخلق والملك والتدبير .
القسم الثاني: شرك في الإلوهية، وهو أن تجعل لله ندًّا في العبادة .
القسم الثالث: الشرك في الأسماء والصفات، وهو أن تجعل لله ندًّا فيما يختص به من الأسماء والصفات .
وقد خصّ المصنف الشرك هنا في العبادة لأنه هو الذي كان في زمنه وعموم البلوى منذ أن بعث الله الرسل إلى أن تقوم الساعة في هذا النوع.
* ( مَعَهُ أَحَدُ ): نكرة في سياق النفي فيعمّ كائنًا من كان لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، لا جماد ولا حيوان ، لا صنم ولا شجر ولا جبل ولا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، فكل ما يمكن أن يقع أو يُصرف له شيء من العبادة فهو منفي بقوله: ( أَنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ ).
* ( فِي عِبَادَتِهِ ): العبادة لغة «تاج العروس(8/330)»: «مأخوذة من التذلل والخضوع، والعِبَادَةُ: بالكسر الطَّاعةُ ، وقال بعضُ أَئِمَّةِ الاشتقاق أَصْلُ العُبُودِيّةِ الذُّلُّ والخُضُوعُ»، يقال: طريق معبد: أي مذلل، أي وَطَّأَتْهُ الأقدام وذَلَّلَتْهُ بكثرة المشي عليه.
وأما في الاصطلاح فلها نظران:
1) العبادة بالمعنى المصدري: أي بمعنى التعبد وهي فعل العابد، تفسر بالتذلل والخضوع لله بالطاعة، يقال: هذا مُتَعَبِّدٌ لله أي أنه متذلل لله تعالى بالخضوع والذل، وعرفها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «بأنها التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه»، وعرفها ابن القيم في نونيته فقال:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
وللعبادة شرطان:
1) الإخلاص: فإن الله لا يقبل من العمل إلا الخالص لوجهه سبحانه، قال تعالى﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة : 5)، وقَال تعالى﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر : 3) .
2) المتابعة للرسول : فإن الله لا يقبل من العمل إلا الموافق لهدي الرسول ، قال الله تعالى﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر : 7)، وقَال تعالى﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء : 65) .
* وللعبادة ركنان:
الأول: كمال الخضوع والذل، والمراد أن يستكين العبد لله ويخضع ويذل و ينقاد له، كلما سمع أمرًا أو نهيًا انقاد سمعاً وطاعةً.
الثاني: كمال المحبة، كما قال تعالى﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، قال ابن القيم في«مدارج السالكين»(3/26): «وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له وأصل التأله التعبد والتعبد آخر مراتب الحب ـ أعلاها ـ يقال عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه فالمحبة حقيقة العبودية»، واستدل أهل العلم بأن أله بمعنى عبد بقول رؤبة بن العجاج:
لِلَّهِ دَرُّ الغانِيَات الْمُدَّهِ سبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي
ـ فائدة: الْمُدَّهِ: المدح، تَأَلُّهِي: تعبدي.
* قال بعض السلف: «مَنْ عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد».
2) العبادة بالمعنى الاسمي: أي المتعبد به من صلاة وصيام وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا ما يصدق عليه تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بأنها: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة».
* والعبادة نوعان:
1) عبادة كونية: وتسمى عبودية الربوبية، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد لقوله تعالى﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾[ مريم : 93]، فهي شاملة للمؤمن والكافر، و البر والفاجر .
2) عبادة شرعية: وتسمّى عبادة الطاعة والامتثال، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى وأتبع ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾ [ الفرقان : 63].
* ( لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ): وهذا من باب ضرب المثل، لأن باب المعتقد باب الإيضاح، وليس باب إجمال وإلغاز، واختص الإمام الملك والنبي لأنهم من أعظم الخلق عند الناس.
* ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً )[الجن: 18]: وللمفسرين في تفسير المساجد قولان : قيل المساجد جمع مسجد والمراد به السجود أو أعضاء السجود، وقيل: المساجد وعليه الجمهور بيوت الله جل وعلا التي تبنى للصلاة والذكر والاعتكاف والتلاوة.
( ﴿ لِلَّهِ ﴾ ): اللام هنا للاستحقاق، أو للاختصاص ، فهذه المساجد على التفسيرين مختصة بالله جل وعلا، إذا كانت بمعنى السجود فلا إشكال، وإن كانت بمعنى بيوت الله جل وعلا فحينئذٍ يقال: هذه بيوت الله فلا يفعل فيها إلا ما يُتَقَرَّبُ به إليه جل وعلا، فلا يحل لك أن تصرف ما يُفعل في بيوت الله لغير الله جل وعلا.
* ( ﴿ فَلَا تَدْعُوا ﴾ ): ( لا ) ناهية، والنهي يقتضي التحريم، وإذا حرَّم الله شيئًا دل على أنه لا يُحِبّه ولا يرضاه، لأن الرب جل وعلا إما أن يأمر، وإما أن ينهى، فإذا أمر بشيء بما مصلحته خالصة أو راجحة دل على حبه له ورضاه، وإذا نهى عن شيء سواء كانت المفسدة خالصة أو راجحة فحينئذٍ دل على أنه لا يحبه ولا يرضاه، وفي هذا نهي عام لجميع الخلق .
* ( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ): الدعاء عند أهل العلم نوعان:
1) دعاء المسألة: هو ما صُدِّرَ بياء النداء: يا الله ، يا أرحم الراحمين.
2) ودعاء العبادة: هو أفعال وأفراد التعبدات التي تكون بالذكر باللسان دون السؤال بياء الندائية، أو بالعمل بالجوارح كالصلاة والصيام والحج ونحو ذلك، إذًا فالأول سؤال باللسان، والثاني سؤال بالحال.
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: « في قوله تعالى مخبراً عن قول إبراهيم ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (مريم48،49)،فأخبر عن إبراهيم أنه قال﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ ثم قال جل وعلا ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ أي وما تعبدون؛ لأن الله جل في وعلا قال بعدها﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾، وهذا من الأدلة الظاهرة من أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة».
 
* الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى}لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا غباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون {{سورة المجادلة، الآية: 22}.
 
* ( من أطاع الرسول ): من شرطية، فتعم كل مكلّف، كل من أطاع الرسولمن الجنّ والإنس، والمراد بالرسول هو محمد بن عبد الله، لأن ( أل ) للعهد الذهني، لأنه يخاطب أمة محمدسواء كانت أمة الإجابة أو أمة الدعوة، وأمة الإجابة هم من آمنوا وصَدَّقُوا وأَقَرُّوا بالنبيوعملوا بما جاء به من شرع ونحوه، وأمة الدعوة تعمُّ كل من أرسل إليهم النبيقال تعالى﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : 158]، سواء كانوا كافرين أم مؤمنين، وطاعة الرسول ليست لذاتها ، وإنما يطاع النبيطاعة لله،والنبي واسطة في معرفة الشرع الذي أراده الله عز وجل من الخلق.
* ( وَوَحَّدَ اللّه ): في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته على فهم السلف رضي الله تعالى عنهم، وظاهر كلام المصنف بـ ( وَوَحَّدَ اللّه ): أي أفرده بالعبادة، ولذلك سيأتي( وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ : إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ )، ولأنه هو الذي وقع فيه الخصومة بين الرسل وأممهم.
* ( أن من أطاع الرسول ووحد الله ): ومن مقتضيات هذه الطاعة وهذا التوحيد أن يوالِيَ أهل التوحيد، ويحب التوحيد، ويحب أهل التوحيد، وأن يبغض الشرك، ويبغض أهل الشرك ، ويعادي أهل الشرك، ويحاد أهل الشرك، فصار هذا الحكم من لوازم الشهادتين.
* ( لا يجوز له موالاة ): لا يجوز أي يحرم عليه، والضمير في له يعود على المطيع الموحد، والموالاة مأخوذة من الوَلاية﴿هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾(الكهف44)، والمراد بالموالاة المحبة والمودة والمصادقة والمتابعة والموافقة، كل ما يُقرب إلى الشرك والمشركين فهو داخل في الموالاة إلا ما جاء استثناؤه من جهة الشرع، ولذلك قال بعضهم: الموالاة مأخوذة في الأصل من وَلِيَ الشيء إذا قرب منه، والقرب قد يكون بالقلب وهذا هو الأصل، وقد يكون بالقول، وقد يكون باللسان، والمنهي عنه الموالاة مطلقًا سواء كانت بالقلب أو ما يتبعه من قول اللسان وعمل الجوارح.
* ( لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب ): من اسم موصول يعم سواء كان بعيدًا أو قريبًا، بعيدًا أي في النسب أو في الأرض، أو قريبًا في النسب أو في الأرض، وهذه الإخوة منفية لوجود المحادة لله ولرسوله، فتنتفي المحبة وتنتفي النصرة لهؤلاء المحادين لله ورسوله، وحادَّ مأخوذة من الحدّ وهو الفصل، وقيل: مشتق من الحديد، فحادّ مأخوذ من الحديد، كناية عن آلة الحرب، والمراد بحَادَّ أي عادى وخالف وجانب الله ورسوله، وهذا لا يصدق إلا على الكفار، سواء كانوا أصليين أو مرتدين، وعلى المنافقين نفاقًا اعتقاديًّا، ومن عداهم فلا يصدق عليه هذا التعبير، لأن المسلم ولو كان عاصيًا والمؤمن ولو كان عاصيًا فإنه في حدّ الله جل وعلا، لم يخرج من دائرة الإسلام ومعه أصل المحبة، ومعه أصل النُّصرة وموالاة المؤمنين.
* (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبَاءهُمْ أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون):
(لا): نافية، وعُبِّرَ بالنفي عن النهي لكونه أبلغ في لسان العرب، ولأن النهي يكون في المستقبل، والنفي يكون في جميع الأزمنة، في أي وقت من الأوقات، (لا تجد): أي مؤمنين بالله واليوم الآخر من صفتهم أنهم (يوادُّون): أي يحبون ويصادقون الكافرين، لأنه لا يجتمع الإيمان ـ سواء أصل الإيمان أو كماله الواجب ـ مع الموادّة، قال ابن الجوزي في«زاد الميسر»(8/199) عند تفسير هذه الآية:« وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان وأن من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته»، (قوما): نكرة في سياق النفي فيعم،فيشمل الذكور والإناث، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ): خصه لأهميته، لأن له آثار ينزجر العبد إذا سمع الإيمان باليوم الآخر، فيتذكر أنه لم يخلق في هذه الدنيا عبثًا، وأنه سيبعث ويحاسب إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشرّ، ولذلك يذكر مقرونًا بالإيمان لأنه داع وزاجر، داعٍ إلى فعل المأمورات، وزاجر عن ترك المنهيات، (وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ): إشارة إلى الأصول وهم آباؤهم وإن علوا ، (أَوْ أَبْنَاءهُمْ): إشارة إلى الفروع وإن نزلوا، (أَوْ إِخْوَانَهُمْ): إشارة إلى الأعوان لأن النصرة تحصل بالأعوان، (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ): والعشيرة هم أقاربه الذين يَتَكَثَّرُ بهم، (كتب): والْكَتْب يدور حول مادة الجمع والضّمّ، والمراد به هنا ﴿ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ﴾أي جمع الإيمان في قلوبهم وثبته في قلوبهم وجعله راسخًا ثابتًا، قال«الطبري»(23/258) عند تفسير هذه الآية:«قضى لقلوبهم الإيمان، ففي بمعنى اللام»،(وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ): قال«الطبري»(23/258):«وقواهم ببرهان منه ونورٍ وهدى»، (بِرُوحٍ مِّنْهُ): فسرها ابن عباس وكذلك الحسن بنصرٍ، بروح منه أي بنصر، وقيل : الإيمان، قاله السُّدّي، وقيل: القرآن، قاله الربيع ، وقيل: الرحمة . قاله مقاتل، وقيل: جبريل عليه السلام، ذكره الماوردي ولا بأس أن يكون اللفظ عامًّا للجميع، فكل لفظ احتمل معانٍ، وهذا المعنى صحيح فيحمل اللفظ على كل المعاني، (خَالِدِينَ فِيهَا): أي ماكثين فيها، والخلود في لسان العرب يُطلق بمعنى المكث الطويل، (وَرَضُوا عَنْهُ): رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا، ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة، فحصل التراضي وحصل الرضا من الجهتين، من جهة الرب جل وعلا وهو أعظم، ومن جهة المؤمنين وهو أدنى، قال ابن كثير(8/55): «وفي قوله﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم»، (حِزْبُ اللَّهِ): أي جند الله وأولياؤه، والأصل في الحزب التجمع، فقد تحزبوا واجتمعوا على التوحيد، (هُمُ الْمُفْلِحُونَ ): مأخوذة من الفلاح وهو الفوز ، وهذه الكلمة قيل: أجمع كلمة في لسان العرب للخير بحذافيره، هي كلمة الفلاح وهى حصول المطلوب، والأمن من المرهوب.
* تنقسم الموالاة إلى قسمين:
1) موالاة كبرى وهي ما تسمى بكفر التولي.
2) موالاة صغرى.
النوع الأول: الموالاة الكبرى وهي ما تسمى بكفر التولي أو الموالاة المطلقة أو مظاهرة المشركين، وهي مخرجة من الملة: وهذا النوع دل عليه قوله تعالى﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[ المائدة : 51]،
وتشتمل على أمور:
أولاً: محبة الكفار والمشركين لدينهم . ثانياً: الرضا بكفرهم.
ثالثاً: عدم تكفيرهم مطلقًا سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المجوس أو على غير الملة.
رابعاً: تصحيح مذهبهم. خامساً: الشك في كفرهم .
سادساً: مدح دينهم .
النوع الثاني: الموالاة الصغرى، وهي صغرى باعتبار الأولى، وإلا فهي في نفسها من أكبر الكبائر، وليست مخرجة من الملة، واستدلوا بأن هذه الموالاة ليست مخرجة من الملة بقوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (الممتحنة:1)، وسبب نزول هذه الآية ما رواه«البخاري»(4890) من حديث علي رضي الله عنه قال:« بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ  أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ قَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ قُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنَقْلِبَنَّ الثِّيَابَ قَالَ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَخَذْنَا الْكِتَابَ فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ  فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ كَانَ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾».
المقدمة الثالثة التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
 
* اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله وحده، مخلصاً له الدِّين، وبذلك أمر الله جميع النَّاسِ، وخلقهم لها؛ كما قال تعالى﴿وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُوِن﴾ [الذاريات:56]، ومعنى يَعْبُدُوِن: يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو: إفراد الله بالعبادة. وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً﴾ [النساء:36].
 
* ( أَرْشَدَكَ ): مأخوذ من الرشاد، والرشاد ضد الغيّ، ( أَرْشَدَكَ اللَّهُ ): أي هداك إلى الرشد ووفقك إليه ودلَّك عليه، والرشد هو الاستقامة على طريق الحق ولذلك وصف به في قوله جل وعلا﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾[ الحجرات : 7]، أي من حبب إليه الإيمان والعمل الصالح وكُرِّهَ إليه الكفر والفسوق فهو من الراشدين وهذا هو معنى الاستقامة على طريق الحق.
* ( لِطَاعَتِهِ ): اللام هنا بمعنى إلى، أي أرشدك الله إلى طاعته.
* ( الْحَنِيفِيَّةَ ): الحنيف لغة «لسان العرب(9/57)»:«مأخوذ من الحنف وهو الميل»، قال ابن القيم في«شفاء العليل»(صـ286): «والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام»، والْحَنِيفِيَّةَ شرعاً: هي «الميل عن الشرك إلى التوحيد مع الثبات عليه والاستقامة عليه».
* ( مِلَّةَ ): لغة «لسان العرب(11/631)»: «الشريعة والدين»، وشرعاً: «الطريقة والشِّرْعَة والنِّحْلَة والدين».
ـ فائدة: «الحنيفية والملة بمعنى واحد في الشرع، وأما في اللغة فبينهما فرق».
* ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ): الإضافة هنا للاختصاص لأنها إضافة لامية، أي ملة لإبراهيم، وأضيفت الملة إلى إبراهيم عليه السلام لعدة أمور:
1) لأن إبراهيم عليه السلام هو خليل الرحمن كما قال الله عز وجل﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾[ النساء : 125] .
2) لأن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء أي أب لأقوام الأنبياء .
3) ولأنه من أولي العزم، وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للاقتداء به .
4) وأيضًا هو لفظ القرآن،قال تعالى﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾[ البقرة : 135]، أي بل أتبع ملة إبراهيم.
5) أن النبي  جاء إلى أقوام وطوائف متعددة، كل منهم يدعي أنه على ملة إبراهيم، فقريش تنتسب إلى ملة إبراهيم وتَدَّعِي أنها أولى به، وكذلك اليهود والنصارى كل منهم يَدَّعِي أنه على ملة إبراهيم ، ولذلك جاء قوله تعالى﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [ آل عمران : 65]، ثم قال سبحانه بعد ذلك : ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[ آل عمران : 67، 68].
ـ فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرحه للأصول الثلاثة: «وملة إبراهيم هي التوحيد؛ لأنه هو الذي تركه فيمن بعده؛ حيث قال جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾[الزخرف:26-27]، هذه الكلمة (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت على نفي في الشق الأول، وعلى إثبات في الشق الثاني، (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراءة نفيٌ، ثم أثبت فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فتبرأ من المعبودات المختلفة، وأثبت أنه عابد للذي فطره وحده، وهذا هو معنى كلمة التوحيد، ولهذا قال جل وعلا بعدها ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:28]، يعني لعلهم يرجعون إليها، وعقب إبراهيم عليه السلام منهم العرب، ومنهم أتباع الأنبياء، فهو أبو الأنبياء، ومعنى ذلك، أنه أبٌ لأقوام الأنبياء».
* ( أَنْ تَعْبُدَ الْلَّهَ ): أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر أن، أن الحنيفية ملة إبراهيم عبادة الله مخلصًا له الدين.
* ( مُخْلِصًا لَهُ الْدِّينَ ): مخلصًا اسم فاعل من الإخلاص، وهو حال من فاعل تعبد، والإخلاص لغة «المعجم الوسيط(1/249)»: هو الخالص الصافي وهو ما زال عنه الشوائب، وشرعاً: قال الشيخ ابن عثيمين: « الإخلاص: هو التنقية ـ للعمل الظاهر والباطن ـ والمراد به أن يقصد المرء بعبادته وجه الله عز وجل والوصول إلى دار كرامته بحيث لا يعبد معه غيره لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً قال الله تعالى﴿ ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾(النحل123)»، لَهُ الْدِّينَ: اللام للاستحقاق، والضمير يعود إلى الله، فيكون المعنى مخلصاً لله العبادة، والعبادة تُطلق ويراد بها عمل القلب واللسان والجوارح والأركان، لأن متعلقات العبادة : القلب، واللسان، والجوارح، فهذه محال للعبادة، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في«مدارج السالكين(1/109)»: «ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح»، ومعنى من كملها: أي عرف ما الذي يحرم اعتقاده فتركه ، وما الذي يجب اعتقاده فأتى به لزومًا، وما الذي يستحب اعتقاده فأتى به، وما الذي يكره اعتقاده فتركه، وما الذي يباح له أن يعتقده، فيكون امتثل الأحكام الشرعية الخمسة في عمل القلب واللسان والجوارح والأركان.
* ( وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّاسِ ): أي مسلمهم وكافرهم، ولو قال : الخلق، لكان أفضل ليشمل الجن والملائكة.
* ( وَخَلَقَهُمْ ): أي خلق الجن والإنس، ( لَهَا ): أي لهذه العبادة، والضمير في لَهَا: يعود للعبادة الخالصة، واللام للتعليل ، أي لبيان الحكمة من الخلق وهي العبادة، والمراد بالعبادة هنا العبادة الشرعية لا الكونية.
* (﴿وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُوِن﴾):
﴿وَمَا﴾: نافية، ﴿خَلَقتُ﴾: أوجدت، ﴿الجِنَّ﴾: عالم غيبي مخفي عنا لا نراه وقد يراه البعض لأمر ما، لكن الأصل فيه أنه لا يُرى، وهم مخلوقون من نار، قال تعالى﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [ الرحمن : 15] ، وسُمُّوا جِنًّا لاجتنانهم، وهو استتارهم، والاجتنان: هو الاستتار عن العيون ﴿ وَالإِنسَ﴾: هم البشر، وسُمُّوا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض.
* ( وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ ): ففسر العبادة بمعنى التوحيد وهو أخص، وهو تفسير للعبادة ببعض أفرادها، قال ابن عباس«تفسير الطبري(1/157)» في قوله تعالى{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك، وقال علي بن أبي طالب«تفسير البغوي(7/380)»: «(إلا ليعبدون) أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي»وهذا أعم ولذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية «درء تعارض العقل والنقل(4/332)».
* ( وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو: إفراد الله بالعبادة. ):
التوحيد في اللغة: من حيث الاشتقاق مشتق من الوحدة وهي الانفراد، فالتوحيد تَفْعِيْل، مصدر وحَّدَ يُوَحِّدُ توحيدًا، إذا جَعَلَهُ وَاحِدًا، والمراد بالجعل جعل ـ اتخاذ ـ الشيء واحد في قلبك، ليس في الخارج ،لأن الذي يقبل الشركة والتشريك هو ما كان في القلب وليس ما كان في الخارج ، وأما في الخارج فليس إلا الحق ، وليس المراد أنَّ كلَّ ما عبد من دون الله على الأرض فهو حق ، وإنما المراد أن الجعل اعتقاد الوحدانية ، وأن الله جل وعلا منفرد بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته.
وأما التوحيد في الشرع: هو إفراد الله تعالى بما يختصُّ به من الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات .

وأنواع التوحيد ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية: «وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق، والملك والتدبير»، قال الله عز وجل﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الزمر62)، وقال تعالى﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ (فاطر3)، وقال تعالى﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الملك1)، وقال تعالى﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف، الآية54).
الثاني: توحيد الألوهية: «وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ».
الثالث: توحيد الأسماء والصفات: «وهو إفراد الله تعالى بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله  وذلك بإثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل».
* فائدة: هذا التقسيم الثلاثي تقسيم شرعي، له حقيقة شرعية، قد أجمع السلف ومن تبعهم على أن التوحيد منحصر في ثلاثة أقسام لا زائد عليها، فنقف على ما وقف عليه السلف، ومستند الإجماع: التتبع والاستقراء.
* ( التوحيد، وهو: إفراد الله بالعبادة. ): أل للعهد الحضوري لأنه سيذكره فيما بعد، وهو: إفراد الله بالعبادة، وهذا ما يسمى بتوحيد الإلوهية، أو بتوحيد العبادة، أو بالتوحيد الطلبي، أو الإرادي أو القصدي، فعرف التوحيد بمعنى خاص، وهذا النوع من التوحيد يستلزم أمران:
الأمر الأول: أن يتوجه العبد بجميع أنواع العبادة لله جل وعلا، ولا يُصرف منها شيء لغير الله .
الأمر الثاني: يقتضي من العبد أن يعرف ما هي هذه العبادة .
* ( وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً﴾ [النساء:36]. ): والنهي هنا للتحريم، الشرك وهو: دعوة غيره معه، والدعوة يعبر بها عن العبادة، قال تعالى﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ [ الجن18] ، فالجمهور على أنها فلا تعبدوا مع الله أحدًا، فيفسر الدعاء بالعبادة، وهذا يستلزم دعاء المسألة لأنه عبادة أيضًا، وهناك تعريف آخر للشرك وهو الأولى لأنه أقرب لما جاء في الكتاب والسنة، فالشرك: هو اتخاذ الند مع الله جل وعلا، قال تعالى﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً﴾ [ البقرة22]، وهذه الآية فيها النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله بأي وجه من الوجوه، وهذا هو حقيقة الشرك، وجاء في حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ  أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ».(البخاري(4477)، مسلم(86))، وقَالَ النَّبِيُّ : «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ».(البخاري(4497))، والشرك نوعان:
النوع الأول: الشرك الأكبر: وهو كل شرك أطلقه الشارع وكان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه.
النوع الثاني: الشرك الأصغر: كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر وجاء في النصوص تسميته شركاً.
* والفرق بين الشرك الأكبر و الشرك الأصغر:
1) الشرك الأكبر لا يغفر لصاحبه بالنص﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [ النساء : 48] ، وأما الشرك الأصغر فهو تحت المشيئة على الصحيح.
2) الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال لقوله تعالى﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾ [ الفرقان 23]، وقوله جل وعلا﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [ الزمر65]، وأما الشرك الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه فقط.
3) الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر لا يخلد صاحبه في النار، فهو كغيره من الذنوب.
* ( والدليل قوله تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً﴾ [النساء:36].): ﴿وَاعْبُدُوا﴾: أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وهذا خطاب موجه للمسلمين والكافرين، ﴿وَلاَ تُشرِكُوا﴾: لا الناهية، والنهي يقتضي التحريم، لأن العبادة لا تتم إلا باجتناب الشرك قليله وكثيره، ظاهره وخفيّه، لأنه اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام في سطور: هو العلامة المجدد شيخ الإسلام أبو الحسين محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي مشرف آل معضاد المهيبي من بني حنظلة بن مالك التميمي.
* مولده: في ( العيينة ) من قرى اليمامة عام خمسة عشر ومائة وألف من الهجرة النبوية (1115 هـ ) فوالده الشيخ عبد الوهاب بن سليمان تُوفِّيَ سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف من الهجرة النبوية ، هو قاضي ( العيينة ) ، ومن علماء نجد المعروفين ، وجدّه سليمان بن علي هو مفتي نجد آنذاك، هذه البيئة الصالحة هيَّأت لهذا الإمام ولهذا الابن الجو المناسب للعلم ، ودفعه إلى الإقبال على العلم في وقتٍ مبكر ، مات رحمه الله في أواخر سنة ست ومائتين وألف من الهجرة النبوية (1206هـ )، عن إحدى وتسعين سنة قضاها في ميدان العلم والجهاد والدعوة .
محتوى الرسالة :
* احتوت هذه الرسالة على ثلاثة أشياء :
مقدمة ، وموضوع ، وخاتمة .
أما المقدمة: فمكونة من ثلاثة أشياء، كل واحد منها يُصَدِّرُها بقوله : اعلم رحمك الله ، اعلم أرشدك الله لطاعته .
الأولى : في بيان وإيضاح وجوب أربعة مسائل على كل مكلف .
الثانية : بيان وجوب ثلاث مسائل على كل مكلف أيضًا .
الثالثة : بيان وإيضاح حقيقة دعوة ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وأما موضوع الرسالة: هو الحديث عن الأصول الثلاثة :
الأصل الأول : معرفة الله جل وعلا .
الأصل الثاني : معرفة الدين ومراتبه الثلاثة: الإسلام ، والإيمان ، والإحسان .
الأصل الثالث : معرفة النبي  .
وأما الخاتمة: فقد ذكر فيها شيئاً مما يتعلق بالبعث والحساب، ثم تطرق إلى بيان وجوب الكفر بالطاغوت ، وبيَّن حقيقة الكفر بالطاغوت، وبيَّن رؤوس الطواغيت .
* الرسالة مختصرة بأسلوب واضح بيَّن، يهتم بذكر المسألة مقرونة بدليلها، وهذا يؤكد فيه رحمه الله أن دعوته دعوة سلفية قائمة على الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة .


* ثَمَّ مقدمة لا بد من معرفتها قبل الولوج في هذا الشرح وهي :
( معرفة التوحيد والعقيدة ) :
ـ في الأصل هما اسمان ، وهما متلازمان ، ولكن ثَمَّ فرقٌ بينهما :
أولاً : العقيدة :
العقيدة من حيث اللفظ مأخوذة من العَقْدِ فَعِيلَة بمعنى مَفْعُول ، يأتي فَعِيلَة بمعنى فاعل ، ويأتي فَعِيلَة بمعنى مفعول ، والمراد من العقد : رَبْطُ الشيءِ ، كعقد الحبل ، أي شَدُّ بعضِه ببعض، نقيض حلِّه ، عقدت الحبل شددت بعضه على بعض ، حللت الحبل أي فتحته أو فككته ونحو ذلك،ومادة عَقَد في اللغة مدارها على اللزوم والتأكيد والاستيثاق، ولذلك جاء في القرآن﴿لايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾[ المائدة : 89] تعقيد الأيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه ، لفظ صَاحَبَهُ قَصْدٌ وعَزْمٌ بخلاف اللغو في الأيمان فإنه لفظ لم يصاحبه قصد ولا عزم ، وتقول العرب : اعْتَقَدَ الشيء صلُب واشتد،واعتقدتُ كذا عقدت عليه القلب والضمير .
إذًا المراد بالعقيدة من حيث اللغة: أنه ما يكون فيه إشارة إلى اللزوم والشد والجزم ، ولذلك إذا كان مع المعتقِد جزمٌ فهي عقيدة صحيحة إن وافقت الشرع ، وإن لم يكن مجزومًا بها فحينئذٍ صارت شكًّا وظنًّا، والمعتقَد الأصل فيه أنه لا يقبل فيه الشك، ولا يقبل فيه الظنّ هذا هو الأصل وخاصة في أصول الإيمان ، لذلك جاء﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾[ الحجرات : 15]، فنفى الريب، وقال تعالى﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [ البقرة : 2]، وقال تعالى﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾[ آل عمران : 9] ، وقال تعالى﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾[ التوبة : 45]، فَذَمَّ المشركين على الريب، فالأصل في العقيدة أنه لا يصح معها شكٌّ ولا ظنٌّ، وإنما لا بد أن يكون معها جزم واستيثاق ولزوم وتأكيد .
وأما في الشرع: فيجمعها حديث جبريل لما سئل النبي  عن الإيمان ، فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» . (مسلم 1/ 28).
ثانياً التوحيد :
التوحيد في اللغة: من حيث الاشتقاق مشتق من الوحدة وهي الانفراد، فالتوحيد تَفْعِيْل، مصدر وحَّدَ يُوَحِّدُ توحيدًا، إذا جَعَلَهُ وَاحِدًا، والمراد بالجعل جعل ـ اتخاذ ـ الشيء واحد في قلبك، ليس في الخارج ،لأن الذي يقبل الشركة والتشريك هو ما كان في القلب وليس ما كان في الخارج ، وأما في الخارج فليس إلا الحق ، وليس المراد أنَّ كلَّ ما عبد من دون الله على الأرض فهو حق ، وإنما المراد أن الجعل اعتقاد الوحدانية ، وأن الله جل وعلا منفرد بألوهيته ، وربوبيته ، وأسمائه وصفاته .
وأما التوحيد في الشرع: هو إفراد الله تعالى بما يختصُّ به من الربوبية ، والألوهية ، والأسماء والصفات .
فالتوحيد والعقيدة متلازمان ، فلا توجد العقيدة إلا إذا وجد التوحيد ، ولا يوجد التوحيد إلا إذا وجدت العقيدة ، إذًا التلازم من حيث الوجود، ولكن ثَمَّ فرقٌ بينهما وذلك أن العقيدة تشمل شرح أركان الإيمان الستة ، لأن الذي يُشْرَحُ في باب المعتقد هو الإيمان بالله ، والإيمان بالملائكة ، والإيمان بالكتب ، والإيمان بالرسل ، والإيمان باليوم الآخر ، والإيمان بالقدر خيره وشره، فلو نظرنا في الركن الأول وهو الإيمان بالله لوجدنا أنه يبحث عن أربعة أمور:
الأول : الإيمان بإثبات ذات الربِّ جلَّ وعلا .
ثانيًا : الإيمان بربوبية الله جل وعلا .
الثالث : الإيمان بألوهية الله جل وعلا .
رابعًا : الإيمان بأسمائه وصفاته .
هذا هو الركن الأول وهو ما يبحث فيه عن التوحيد بأنواعه الثلاثة ،فإذا كان التوحيد إفراد الله جل وعلا بما يختص به من الربوبية والألوهية و الأسماء والصفات ، وهذا داخل في الركن الأول فقط من أركان الإيمان، أما باقي الأركان وهي الإيمان بالملائكة ، وبالرسل ، وبالكتب ،وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره فهذا يُبحث في العقيدة ولا يُبحث في التوحيد،إذاً فالعقيدة تزيد على مباحث التوحيد من حيثيات أخرى، مثل مسألة التلقي، من أين تُتَلقى العقيدة ، وهذه المسألة مما يخالف فيه أهل السنة والجماعة غيرَهم من أهل الفرق المنحرفة الضالة بأنواعها ، لأن مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هو الوحي فقط ، ولا مجال للعقل البتة في إثبات العقيدة ، ولذلك نقول أن العقيدة توقيفية، أي موقوفة على السماع ، دليلها سمعيّ بحت إما بالكتاب ، وإما بالسنة ، وإما بإجماع صحيح منقول عن السلف الصالح ، والعقل لا مجال له استقلالاً في إثبات مسألة عقائدية ، وإنما العقل تابع للنقل بمعنى أنه يُستنبط بواسطته أو يُتأمل ويُدرك بواسطته فهم النصوص فقط، لأنه لا يستقل بوضع مسائل في باب المعتقد، وكذلك يُبحث في العقيدة مسائل التعامل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما فارق أهلُ السنةِ والجماعة أهلَ البدعةِ ، وكذلك مسائل في طاعة ولاة الأمور فهذه ما تُذكر في كتب التوحيد التي أُلِّفَت لبيان توحيد العبادة ، وإنما تُبحث في باب المعتقد العام ،في الكتب التي تؤلف لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة التي تخالف أهل البدعة والضلالة ،كذلك الموقف من الصحابة ، والموقف من أمهات المؤمنين ونحو ذلك ، هذا يبحث في باب المعتقد ولا يذكر في التنصيص على التوحيد بأنواعه الثلاثة .
فنخلص من ذلك: أن التوحيد أخصُّ من العقيدة، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فالعقيدة أعمُّ من التوحيد ، فكلُّ توحيدٍ عقيدة ولا عكس.
* ( بسم الله الرحمن الرحيم ): بدأ الناظم على عادة أهل العلم بما استقر في عرفهم بالبسملة وذلك
لأمور:
أولاً: اقتداءًا بالكتاب العزيز،حيث بدأ بـ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الفاتحة1،2).
ثانيًا: اقتداءًا وتأسيًا بالسنة الفعلية، حيث كان النبيُّ  إذا كتب كتابًا قال:
((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ))(البخاري7).
ثالثًا: التبرك بالبسملة، لأنَّ الباء هنا للاستعانة أو للمصاحبة على وجه التبرك، والمعنى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حالة كوني مستعينًا وطالبًا التوفيق والإعانة من الله عز وجل على ما جعل البسملة مبدءًا له.
رابعًا: اقتداءًا بالأئمة المصنفين ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : «وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على أن يفتتحوا كتبَ العلم بالتسمية وكذا معظم كتب الرسائل».(فتح الباري1/9)
* ( الأصول الثلاثة ): الأصول جمع أصل فَعْلٍ ، يُجمع على فُعُول ، أَصْل يجمع على أصول ، والأصل في اللغة: هو ما يُبنى عليه غيره ، كأصل الجدار أي أساسه، وأما في الاصطلاح: فهو ما له فرع ، لأن الفرع لا ينشأ إلا عن أصل ، كل فرع لا بد وأن يكون له أصل قد نشأ منه وتفرع عنه .
وأما في الاصطلاح فيُطلق الأصل ويراد به أحد أربعة أمور :
أ- الدليل: فيقال: الأصل في تحريم الخمر الكتاب والسنة ، أي دليل تحريم الخمر الكتاب والسنة ، فيطلق الأصل ويراد به الدليل، وهذا هو الغالب عند الأصوليين .
ب- الرجحان: فيقال: الأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز، أي عند السامع يحمل الكلام على حقيقته دون مجازه .
ج - القاعدة المستمرة: فيقال: أَكْلُ الميتة على خلاف الأصل، يعني على خلاف الحالة المستمرة .
د- المقيس عليه: فيقال: النبيذ فرع، والخمر أصل، وهذا في باب القياس.


المقدمة الأولى التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
 
( اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربعِ مسائلَ:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة:الصبر على الأذى فيه.
والدليل قوله تعالى -بسم الله الرحمن الرحيم-: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3].
قال الشافعي - رحمه الله تعالى-: ( لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ).
وقال البخاري رحمه الله تعالى: ( بابُ: العلمِ قبلَ القولِ والعملِ؛ والدليل قوله تعالى﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد:19]، فبدأ بالعلم [قبل القول والعمل] ).
 
* ( اعْلَمْ ): فعل أمر من العلم ، وهي كلمة تنبيه مثل ( ألا ) ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وكقوله  :«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر...» الحديث، لحث وتنبيه السامع أن ما بعد هذه الأداة مما ينبغي أن يعتني به وأن يُصغي له ،فهي كلمة يؤتى بها عند ذكر الأشياء المهمة ، وما سيذكره رحمه الله من بيان المسائل الأربعة المشتملة على بيان طريق النجاة في الدنيا والآخرة من أهم المهمات .
* ( اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ ): هذه جملة خبريةٌ لفظًا ، إنشائيةٌ معنى لأن المراد بها الدعاء للمتعلم ، دعا المصنف للقارئ ، دعا للمستمع ، دعا للمتعلم أن يرحمه الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة ، لذلك نقول : هي خبرية لفظًا إنشائية معنى ، لأن (رَحِمَكَ اللهُ) هذا إخبار بإيقاع الرحمة حَصَلَ ، قام زيد ، حصل القيام ، ( رَحِمَكَ اللهُ ) حصلت الرحمة ، لكن من جهة المعنى المراد بها الدعاء،كأنه قال : اللهم ارحم عبدك القارئ فلان مثلاً ، فنقول : هذه الجملة من جهة اللفظ هي خبرية ، لأنها تحتمل الصدق والكذب ، ومن جهة المعنى إنشائية لأنها دعاء للمتعلم ،والرحمة إن كانت غير مقترنة بالمغفرة فحينئذٍ تشمل الماضي والمستقبل، (رَحِمَكَ اللهُ) يعني غفر الله لك ما مضى من ذنوبك ، ووفقك ، وعصمك وسلمك من شرور الذنوب وعاقبتها في الزمان المستقبل ، فشملت الماضي والمستقبل ، مغفرة الذنوب في الماضي ، والسلامة من عاقبة الذنوب وشرِّها في المستقبل ، هذا إن أفردت الرحمة ،وإن قُرِنَت بالمغفرة فحينئذٍ المغفرة لما مضى ، والرحمة تكون لما يُستقبل.
* ( اعلم رَحِمَكَ اللهُ ): هذا دعاء للمتعلم بالرحمة ، وهذا فيه تلطف وتنبيه على أن مبنى هذا العلم التلطف والرحمة بالمتعلمين﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [ آل عمران : 159] ، ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ التوبة : 128] ، إذًا لا بد من الرحمة في مجال العلم والتعلم .
* ( اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أَرْبَعِ مَسَائِل ): ( أَنَّهُ ) الضمير هنا يُسمَّى ضمير الشأن، ( اعْلَمْ رَحِمَكَ ) أن الحال والشأن ( يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أَرْبَعِ مَسَائِل ) .
( يَجِبُ عَلَيْنَا ): يجب فعل مضارع مأخوذ من الوجوب ،وهو مشتق من وَجَبَ يَجِبُ وُجُوبًا ووَجْبَةً ، فالواجب في اللغة : الساقط واللازم ، والثابت ، وَجَبَ يَجِبُ وَجْبَةً سقط ، وقال في المصباح : وَجَبَ الحَقُّ والبَيْعُ يَجِبُ وُجُوبًا ووَجْبَةً لزم وثبت ،إذ الواجب يأتي بمعنى الثابت ، « أسألك موجبات رحمتك » . يعني الكلمات المثبتة للرحمة﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [ الحج : 36] بمعنى سقطت .
أما في الاصطلاح : فهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا،ويثاب فاعله امتثالاً و يستحق العقوبة تاركه .
ـ فالواجب عند أهل العلم أوسع مما أراده المصنف ،لأنه قد يكون داخل الماهية ، ولا تقوم تلك الماهية إلا به ، وهو ما يسمى بالركن ، وقد يكون خارجًا عن الماهية ولا تقوم تلك الماهية إلا به ، وهذا يُسَمَّى الشرط ، إذًا الواجب قد يكون ركنًا، وقد يكون شرطًا، وما كان دون ذلك فحينئذٍ يُعبر عنه بالواجب، فالركن واجب وزيادة ، وكذلك الشرط واجب وزيادة وهذه الزيادة هي توقف الماهية على وجوده ، يعني لا توجد الماهية إلا بوجود هذا الواجب ، فإذا انتفى هذا الواجب انتفت الماهية .
وَالرُّكْنُ جُزْءُ الذَّاتِ وَالشَّرْطُ خَرَجْ وَصِيْغَةٌ دَلِيلُهَا فِي المُنْتَهَجْ
ـ فالواجب قد يكون ركنًا: مثل الركوع و السجود والتسليمة الأولى ،كل هذه أركان وداخلة في ماهية الصلاة ، فلا تقوم حقيقة الصلاة إلا بوجود هذه الأركان، فالركوع و السجود والتسليمة الأولى من واجبات الصلاة لأنه يصدق عليها حد الواجب وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا .
ـ وقد يكون شرطًا: مثل الطهارة للصلاة يُسمِّيها أهل العلم شرط ، و الواجب وصف للشرط ، لأن الطهارة طلب الشارع فعلها طلبًا جازمًا ، فلو قام وكبر عامدًا متعمدًا ولم يتطهر وهو ذاكر ، فتكون صلاته باطلة .
* ( أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا ): ودليل الوجوب أمران:
الأول : حديث «طلب العلم فريضة على كل مسلم».( ابن ماجه 224،الجامع 3913)، أي العلم العيني .
ثانيًا : إجماع أهل العلم ، على وجوب هذه المسائل الأربع .
* ( عَلَيْنَا): الحكم عام يشمل الإنس و الجنّ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ويشمل الكفار أيضاً، لأن الكافر مخاطب بأصول الشريعة وهذا محل اتفاق ، وبفروع الشريعة على الصحيح .
* فائدة: الكافر مخاطب بأصول الشريعة لعموم الأدلة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ [ البقرة : 21] ، ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ أي وحِّدوا الله ، وقال﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ والناس تشمل المؤمنين والكافرين، فنخلص من ذلك أن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة ، ولا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، ويبقى مسألة الفروع كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، ونحو ذلك ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، هذا فيه خلاف بين أهل العلم ، والصواب أنهم مخاطبون كذلك بفروع الشريعة ، ولذلك جاء قوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر : 42-43] و ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت : 6-7] وقوله : ﴿ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان : 68-69]، فرتب العقاب ورتب مضاعفة العذاب على الوقوع في الشرك﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾، أي يدعو غير الله فقد وقع في الشرك ، ولذلك جاء ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ﴾ الخلود هنا المقابل للشرك ، ﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ فقتلوا هذه معصية﴿ وَلا يَزْنُونَ﴾ فزنوا ، ففعلوا الشرك وفعلوا كبيرتين لا تخرجهم من الملة إذا فعلهما المسلم، وهما قتل النفس المعصومة بغير حق، وفعل الزنا، قال: ﴿يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان : 69] فالمضاعفة هنا في مقابلة فعل الشرك وارتكابهم للكبيرتين ،وقال تعالى﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل : 88] أي العذاب المقابل للشرك ، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ فالعذاب الذي رتبه الربُّ جل وعلا هو لوقوعهم في الكفر والشرك ، فحينئذٍ زدناهم عذابًا لصدهم عن الحق ، وصدهم عن سبيل الحق ، ومع أنهم مخاطبون بفروع الشريعة إلا أنهم لا يطالبون بها في حال كفرهم وهذا محل اتفاق ، لأن من صحة العبادة الإخلاص﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة :5] وهذا انتفى في حقه الإخلاص ، فيمتنع أن يصلي وهو كافر لانتفاء النية والقصد، ولا يطالبون بقضائها بعد إسلامهم وهذا محل اتفاق أيضاً لقوله جل وعلا﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال :38] ، كل ما قد سلف فهو مغفور لهم ، ولقوله  «الإسلام يجب ما قبله»( صحيح الجامع2777 )، وبالإجماع العملي ،فالنبي  كان يأتيه من يُسلم أو يُسلم على يديه ، والصحابة كذلك من بعده لم يطالبوا أحدًا البتة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه طالب كافرًا بقضاء الصلوات والصيام ونحو ذلك ،فحينئذٍ نقول :أن الفائدة من كون الكفار مخاطبون بفروع الشريعة تكون فائدة أخروية فحسب وليست دنيوية ، أخروية في مضاعفة العذاب.
ـ فائدة: ذهب بعض العلماء إلى أن الكافر يعذب على الطيبات واستدل بقوله جل وعلا ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأعراف : 32 ] إذًا ليست للكفار ، فكل ما كان من الطيبات فالأصل أنها للمؤمنين، فإذا تلبَّسوا وأكلوا وشربوا فقد فعلوا ما ليس ملكًا لهم ، بل هو ملك للمؤمنين ، فيكون فيه اعتداء فيعذب على ذلك ، وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى .
* ( مَسَائِل ): جمع مسألة مشتقة من السؤال، وهو ما يُبرهن عنه في العلم ، أي ما يُثبت له الدليل ، ويُطلب ويُسأل عنه.
( الأُوْلَى العِلْمُ ) : العلم نوعان علم دنيوي محض كالهندسة والطب ونحو ذلك ، وعلم شرعي مصدره الوحيان من الكتاب والسنة ، والمقصود بالعلم هنا هو العلم الشرعي .
( العِلْمُ ) : قال ابن القيم رحمه الله في العلم الشرعي هو معرفة الهدى ـــ الوحيّ قرآنًا وسنةً ـــ بدليله .
الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الهُدَى بِدَلِيْلِهِ مَا ذَاكَ وَالتَّقْلِيْدُ يَسْتَوِيَانِ
ــ والعلم إما واجب وإما مستحب ، والواجب إما أن يكون واجبًا عينياً أو كفائياً،والواجب العيني سُمِّيَ عينيًّا لتعلقه بكل عين ،بمعنى أنه يجب على كل فردٍ من المكلفين ، لا يقوم أحد مقام الآخر ، ولا ينوب أحد مناب الآخر ، ولا يُعذر أحد بجهله البتة ، و تاركه آثم ، وأما الواجب الكفائي هو ما كان متعلِّقًا بجملة المسلمين ، إذا قام به البعض سقط عن الأخرين ، والمراد بالعلم هنا هو العلم العينيّ لأنه قال :( يَجِبُ عَلَيْنَا )على كل فردٍ من المكلفين، فدل على أن هذه المسائل الأربعة التي سيذكرها كلها واجبات ، فبقوله : ( يَجِبُ عَلَيْنَا ) أخرج المستحبات من الأربعة مسائل .
* (العلم هو مَعْرِفَةُ ): عرَّف المصنف العلم بالمعرفة ، وهذا محل نزاع عند أهل العلم ،و أكثر أهل العلم - والمسألة لغوية - أن العلم بمعنى المعرفة ، والمعرفة بمعنى العلم فهما مترادفان ، وبهذا قال أبو الخطاب في شرح (( التمهيد)) ، واستدل بقوله تعالى : ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :146] قال : ﴿ يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ ثم قال : ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعلمون أنك رسول الله ، حينئذٍ عبَّر عن المعرفة بالعلم ، فدلّ على أن المعرفة هي العلم ، وهذا اختيار المصنف هنا كما هو الظاهر ،فالعلم والمعرفة عنده سيَّان ، وذهب بعضهم إلى التفريق ولم يوجد ضابط صحيح يمكن التعويل عليه في الفرق بين المعرفة والعلم ،و ذكر ابن القيم فروقًا بين المعرفة والعلم في ( مدارج السالكين 2 / 472 ) فقال رحمه الله تعالى :
والفرق بين العلم والمعرفة من وجوه ثلاثة :
أحدها: أن المعرفة لب العلم ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان وهي علم خاص متعلقها أخفى من متعلق العلم وأدق . [المعرفة لب العلم بمعنى أنها أخصُّ منه ، ولُبُّ العلمِ خُلاصته ، كأن أقول الإخلاص خلاصة العبادة ]، [ونسبةُ العلم إلى المعرفة كنسبة الإيمان إلى الإحسان ، والإحسان دائرة أضيق من دائرة الإيمان ].
والثاني: أن المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بمُوجَبه ومقتضاه فهي علم تتصل به الرعاية.[بمعنى أن العلم قد يعمل به صاحبه ، وقد لا يعمل به ، فإن عَمِلَ به حينئذٍ صار علمًا ومعرفةً وإلا فهو علم بحت ، حينئذٍ صارت المعرفة أخص ، لأنها علم مع رعاية ،بمعنى أنه يلاحظ معلوماته فيطبقها، يعلم مثلاًحقيقة الإخلاص فيحاول أن يتلبس بالإخلاص ، ووسائل الإخلاص فهذه رعاية العلم ،وهي العمل بالعلم ] .
والثالث: أن المعرفة شاهد لنفسها وهي بمنزلة الأمور الوجدانية التي لا يمكن صاحبها أن يشك فيها ولا ينتقل عنها وكشف المعرفة أتم من كشف العلم والله سبحانه وتعالى أعلم .اهـ
* ( وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ  وَمَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ بِالأَدِلَّةِ ): وهذه ثلاثة أركان وهي أركان العلم العيني الذي قصده المصنف رحمه الله تعالى وهذه الأركان متلازمة بمعنى أنه لا يمكن لأحد أن ينفرد بواحد منها ثُمّ يعادي الآخر ، يقول : أنا عرفتُ الله و لا أريد أن أعرف نبيه  ، وكذلك لو قال : أريد أن أعرف محمدًا  ولكن لا أريد أن أعرف الله عز وجل ، وهذا يستحيل ، لأن معرفة المُرسَل فرع عن معرفة المُرسِل ، فهذه الأركان متلازمة.
الركن الأول :
* ( وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ ): قدَّم المصنف رحمه الله معرفة الله على معرفةِ النبي  و معرفةِ الدين لأن العبد لا يمكن أن يتلبس بدينه إلا إذا عرف الله عز وجل ، و المقصود بالمعرفة هنا هي المعرفة الشرعية لا المعرفة الفطرية لأنه قد يعرف ربه ولكن لا يتحقق فيه الوصف الذي جعله قيدًا في معرفة الربِّ جل وعلا ، لأن إبليس يعرف ربه قال﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف :12] فأثبت أنه خالق ، بل وأقسم به﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص 82]،فالمقصود بالمعرفة هنا هي المعرفة الشرعية ، لأن ضابط المعرفة الشرعية أن تستلزم قبول ما جاء به النبي  من جهة المشرِّع وهو الله عز وجل ، فهي معرفة تستلزم قبول ما شرعه ، والإذعان ، والانقياد له ، وتحكيم شريعته التي جاء بها رسوله محمد  ، فإن لم تستلزم ذلك فلا عبرة بها ، لأنها موجودة عند إبليس ، وعند فرعون ، وعند الكفار أجمعين ، ويتعرف العبد على ربه بالنظر في الآيات الشرعية في كتاب الله جل وعلا ، وسنة رسوله  ، والنظر في الآيات الكونية ، لأن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات ازداد علمًا بخالقه ومعبوده ، قال الله عز وجل﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات : 20-21] و هذا هو الركن الأول من العلم الذي عناه المصنف.
الركن الثاني :
( وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ) : وهي معرفة بالقلب تستلزم قبول ما جاء به النبي  ، فإن لم تكن كذلك فحينئذٍ لا عبرة بهذه المعرفة ، لأنه ليس المراد معرفة فطرية قلبية فحسب بل لابد أن تكون مثمرة للقبول ، والانقياد ، والطاعة ، ولذلك نُفِيَ الإيمان عن من عرف النبي  ولم يُحَكِّمْ شَرْعَهُ قال الله عز وجل ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء :65] ، و قال تعالى ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور :63] فسماها مخالفة لأنها تنافي مقتضى المعرفة ، لأنه لو عرف النبيَّ  ولم يحكِّم النبي  وخالف أمره ، فتكون هذه المخالفة قد اقتضت وجود النافي لهذه المعرفة فكأنها غير موجودة ، ولذلك قال : ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فهذا نَفْيٌ لأصل الإيمان يعني بل كفار ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال تعالى أيضاً ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور :51] فأثبت لهم الفلاح ، وضدُّ الفلاح الخسران ، و قال تعالى أيضاً﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء :59] فقيده هنا بالشرط ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ فحينئذٍ يكون التحاكم إلى النبي  مفهومه إن لم تكونوا مؤمنين فحينئذٍ لا تردوه إلى الله ورسوله ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أيِّ شيء ،فـــ﴿ شَيْءٍ﴾ نكرة في سياق الشرط فتعم، و لو في عود أراك اختلف المسلمون فيه فحينئذٍ يتحاكمون إلى الشرع ولا يجوز التحاكم إلى غيره ، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾إلى الله يعني إلى كتابه ، وإلى الرسول  إذا كان حيًّا أو إلى سنته ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[النساء :59] ، إذًا لا بد أن تكون معرفة النبي  مستلزمة لقبول ما جاء به عليه الصلاة والسلام امتثالاً لأوامره ، واجتنابًا لنواهيه ، وتصديقًا لأخباره  ، وتحكيمًا لشريعته ، والرضا بحكمه عليه الصلاة والسلام .
* فائدة: قال المصنف رحمه الله ( وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ) والنبي أعم من الرسول ،لأن القاعدة عند الجمهور : أن كل رسول نبي ولا عكس،لأن الرسول أوحي إليه بشرعٍ وأمر بتبليغه وإلا فهو نبي، وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (النبوات صـ185) النبي من أُرسل إلى قومٍ موافقين، والرسول من أرسل إلى قومٍ مخالفين، بمعنى أنه جاء بشرع جديد ، والنبي جاء بشرع من قبله، والمصنف هنا قال ( وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ) فأثبت الأعم ،وإثبات النبوة لا تستلزم إثبات الرسالة لأن القاعدة تقول (إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص ، وإثبات الأخص يستلزم إثبات الأعم ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم )،فنقول أن مراد المصنف بالنبي هو المرادف للرسول ، ففي هذا الموضع النبي والرسول مترادفان ، لأن المصنف لم يرد بيان حقيقة النبوة أو الرسالة ، وإنما مراده أنه من عند الله جل وعلا ، وأنه جاء بشرعٍ وهو العلم الشرعي ،و قصد العلم الشرعي الذي جاء به محمد  ، ومعرفة محمد  أصل لمعرفة ذلك العلم الشرعي .
الركن الثالث :
* ( وَمَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ بِالأَدِلَّةِ ): دين الإسلام الدِّين يتضمن الخضوع والذُّل ، يقال : دِنْتَهُ فَدَانَ أَي أَذللته فذلَّ ، إذًا دين الإسلام : هو الخضوع وعبادة الله جَلَّ وعلا بما جاء به محمد  ، والإسلام له معنيان : معنى عام ، ومعنى خاص، فدين الإسلام الذي جاء به محمد  ناسخ لجميع الأديان السابقة ، لكن جاء وصف مَن سبق بالإسلام ،فقد جاء على لسان إبراهيم عليه السلام : ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة : 128] فوصفها بالإسلام ، كذلك جاء في وصف التوراة وأنبياء بني إسرائيل ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ [المائدة :44] وصفهم بالإسلام ، كذلك قال موسى لقومه﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [ يونس :84] وصفهم بالإسلام﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [ الذاريات : 36] ، فالمراد بالإسلام هنا هو الإسلام العام ، و يفسر بالقدر المشترك بين الأنبياء وهو التوحيد﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء : 25] إذ دين الأنبياء واحد ، وهو الدعوة إلى عبادة الله جل وعلا ونبذ كل ما سواه﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[البقرة :256] ، وقال تعالى﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل :36] ، ففسر لا إله إلا الله التي جاءت في﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وهذه الكلمة مدلولها اعبدوا الله ، وهي التي جاء فيها﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [النحل :36] والمعنى واحد ، لأن معنى لا إله إلا الله هو الأمر بعبادة الله جل وعلا ، وهي التوحيد الذي جاء في السنة، وهذا إسلام عام والمراد به عبادة الله جل وعلا وحده ، ونبذ كل ما سواه سبحانه من الآلهة الباطلة ،وأما الإسلام الخاص فهو ما جاء به محمد  أصلاً وفرعًا ، يعني الأصول التي شارك فيها غيره من الأنبياء كأصول التوحيد والإيمان ، وكذلك الفروع التي هي كالصلاة والزكاة ونحو ذلك ، فصار عَلَمًا بالغلبة في أمة محمد  إذا أُطلق انصرف إلى ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، وإلا فالأصل هو وصفٌ عامٌّ لكل ما جاء به الأنبياء ثم صار علمًا بالغلبة لما جاء به محمد  .
* ( بِالأَدِلَّةِ ): الأدلة جمع دليل، فَعِيل بمعنى فاعل، والدلالة المراد بها الإرشاد، والمراد بالدليل في الاصطلاح: ما يُرشد إلى المطلوب، فكل ما أرشد غيره إلى مطلوب له يُسمى دليلاً ، ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا﴾ [آل عمران :130] هذا نهي ، والنهي الأصل فيه أنه للتحريم ، إذا الربا محرم ، ما الذي أرشد إلى هذا المطلوب أن الربا محرم قوله تعالى﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا ﴾ [آل عمران :130] ، إذاً كل ما أرشد إلى المطلوب فهو دليل ، سواء كان في المعنويات أو المعقولات أو المحسوسات .
ــ و الأدلة قد تكون سمعية خبرية ، وقد تكون أدلة عقلية، فالسَّمْعِي : ما يدرك بالسمع و يكون مسموعًا من كتاب الله جل وعلا وكلام رسوله  ، والعقلية : ما يكون ثابتًا بالنظر والتأمل .
فائدة: قوله ( بِالأَدِلَّةِ ): على القاعدة النحوية ( أن الجار والمجرور يكون متعلقًا بالأخير ) ، أي متعلقًا بقوله : ( مَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ )، ويحتمل أن المراد معرفة الله ( بِالأَدِلَّةِ ) ، ومعرفة نبيه  ( بِالأَدِلَّةِ ) ، ومعرفة دين الإسلام (بالأدلة)، وجهان محتملان في تفسير النص ، وهما متقاربان ، وكلٌّ منهما يدل على الآخر، وإذا جعلنا( بالأدلة ) متعلقة بالمتأخر - أي بمعرفة دين الإسلام - فنقول : أن دين الإسلام أصول وفروع ، فأما الفروع فلم يقل أحد من أهل العلم أنه يُشترط في معرفة الإسلام في أخذ الفروع أن يكون كل فرع مأخوذًا بالأدلة ،وأما الأصول فمنها ما يثبت به توحيد المكلّف ويخرج به عن دائرة الكفر والشرك ، ومنها ما هو دون ذلك ،والقول بكون كل الأصول لا بد من معرفتها بالأدلة لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة وإنما هو قول مأثور عن المعتزلة وأكثر الأشاعرة ، فإذا قال المكلَّف : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وأقام الصلاة ، وكفر بالطاغوت ،وعرف مدلول لا إله إلا الله إثباتًا ونفيًا ، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله ونفى ما نفته لا إله إلا الله بهذا دخل في الإسلام ، وحقق التوحيد ،وإن مات ولم يعلم بالملائكة ولم يؤمن بها فهذا لا يؤثر في توحيده ، وأما مسألة أن المكلف لابد أن يأخذ هذه المسائل الثلاث وهي (مَعْرِفَةُ اللهِ وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ  وَمَعْرِفَةُ دِيْنِ الإِسْلاَمِ ) بِالأَدِلَّةِ ، فمحل نزاع بين أهل العلم ، وهو ما يعنون له أهل العلم بـــ (صحة إيمان المقلد)
والتقليد في اللغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به ، وشرعاً : قبول قول الغير بدون حجة .
وهذه المسائلة ـــ صحة إيمان المقلد ـــ على قولين لأهل العلم :
قال السفاريني ــ أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي ــ في ( لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية ( 1 / 26) ) :
«فصل في ذكر الخلاف في صحة إيمان المقلد في العقائد وعدمها وفي جوازه وعدمه»
القول الأول التحريم :
« قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى ، وفي التوحيد والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ، ونحوها مما تواتر واشتهر ، عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - والأكثر وذكره أبو الخطاب عن عامة العلماء ، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله في شرح التحرير ، قال : وأطلق الحلواني من أصحابنا وغيره منع التقليد في أصول الدين ، واستدلوا لتحريم التقليد بأمره سبحانه وتعالى بالتدبر والتفكر والنظر .
وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآيات قال - - :
« ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن ، ويل له ، ويل له ».
والإجماع على وجوب معرفة الله تعالى ، ولا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر ، واستحالة حصولها ، كمن قلد في حدوث العالم ، وكمن قلد في قدمه ، ولأن التقليد لو أفاد علما ، فإما بالضرورة ، وهو باطل ، وإما بالنظر ، فيستلزم الدليل والأصل عدمه ، والعلم يحصل بالنظر ، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح ، ولأن الله تعالى ذم التقليد بقوله تعالى ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ ولقوله تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ فألزم الشارع بالعلم ، ويلزمنا نحن أيضا ؛ لقوله : ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ .
فتعين طلب اليقين في الوحدانية ، ويقاس عليها غيرها ، والتقليد لا يفيد إلا الظن ، ولهذا قال معللا للمنع عنه بقوله ( لأنه ) أي الشأن والأمر والقصة ( لا يكتفى ) في أصول الدين ، ومعرفة الله رب العالمين ( بالظن ) الذي هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فالراجح هو الظن ، والمرجوح الوهم ، فلا يكتفى به في أصول الدين ( لذي ) أي لصاحب ( الحجى ) كإلى أي العقل والفطنة ( في قول أهل الفن ) من الأئمة وعلماء المنقول والمعقول من الأصوليين والمتكلمة وغيرهم .
قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : كل ما يطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه ، والأخذ فيه بالظن لأنه لا يفيده ، وإنما يفيده دليل قطعي ،
القول الثاني الجواز:
قال : في شرح مختصر التحرير : وأجازه - يعني في التقليد في أصول الدين - جمع ، قال بعضهم : ولو بطريق فاسد.
قال العلامة ابن مفلح : وأجازه بعض الشافعية لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلها هل نظرت ؟ وسمعه الإمام ابن عقيل ، عن أبي القاسم ابن التبان المعتزلي قال : وإنه يكتفى بطريق فاسد ، وقال هذا المعتزلي : إذا عرف الله ، وصدق رسوله ، وسكن قلبه إلى ذلك ، واطمأن به ، فلا علينا من طريق تقليد كان أو نظرا أو استدلالا ، وإلى هذا الإشارة بقوله ( وقيل يكفي ) في أصول الدين ( الجزم ) ولو تقليدا ( إجماعيا ) ( ب ) كل ( ما ) أي حكم ( يطلب ) بضم أوله مبنيا لما لم يسم فاعله ، ونائب الفاعل مضمر يعود على الجزم ( فيه ) أي فيه ذلك المطلوب من أصول الدين ( عند بعض العلماء ) من علماء مذهبنا والشافعية والمعتزلة وغيرهم .
قال العنبري وغيره يجوز التقليد في أصول الدين ، ولا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم ، لأنه -  - كان يكتفي في الإيمان من الأعراب - وليسوا أهلا للنظر - بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم ، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه .
وقال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وقيل يكفي الجزم يعني بالظن إجماعا بما يطلب فيه الجزم ، ( فالجازمون ) حينئذ بعقدهم ، ولو تقليدا ( من عوام البشر ) الذين ليسوا بأهل للنظر والاستدلال ، بما لا يتم الإسلام بدونه ( ف ) على الصواب هم ( مسلمون عند أهل الأثر ) وأكثر النظار والمحققين وإن عجزوا عن بيان ما لم يتم الإسلام إلا به .
وقال ابن حامد من علمائنا : لا يشترط أن يجزم عن دليل - يعني بل يكفي الجزم ولو عن تقليد ، وقيل الناس كلهم مؤمنون حكما في النكاح والإرث وغيرهما ، ولا يدرى ما هم عند الله ، انتهى .
وقال العلامة المحقق ابن قاضي الجبل من علمائنا في أصوله : قال ابن عقيل : القياس النقلي حجة يجب العمل به ، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع ، قال : ولا يجوز التقليد ، والحق الذي لا محيد عنه ، ولا انفكاك لأحد منه صحة إيمان المقلد تقليدا جازما صحيحا ، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين ، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة ، نعم يجب النظر على من لا يحصل له التصديق الجازم أول ما تبلغه الدعوة .
قال بعض علماء الشافعية : اعلم أن وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظر واستدلال ، بل يكفي اعتقاد جازم بذلك ، إذ المختار الذي عليه السلف وأئمة الفتوى من الخلف وعامة الفقهاء ، صحة إيمان المقلد ، قال : وأما ما نقل عن الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري من عدم صحة إيمان المقلد ، فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري .
ثم قال : ومما يرد على زاعمي بطلان إيمان المقلد أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فتحوا أكثر العجم ، وقبلوا إيمان عوامهم ، كأجلاف العرب ، وإن كان تحت السيف ، أو تبعا لكبير منهم أسلم ، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظر ، ولا سألوه عن دليل تصديقه ، ولا أرجئوا أمره حتى ينظر.
والعقل يجزم في نحو هذا بعدم وقوع الاستدلال منهم لاستحالته حينئذ ، فكان ما أطبقوا عليه دليلا أي دليل على إيمان المقلد ، وقال : إن التقليد أن يسمع من نشأ بقلة جبل الناس يقولون للخلق رب خلقهم ، وخلق كل شيء من غير شريك له ، ويستحق العبادة عليهم ، فيجزم بذلك إجلالا لهم عن الخطأ ، وتحسينا للظن بهم ، فإذا تم جزمه بأن لم يجز نقيض ما أخبروا به ، فقد حصل واجب الإيمان ، وإن فاته الاستدلال لأنه غير مقصود لذاته بل للتوصل به للجزم وقد حصل .
وقال الإمام النووي : الآتي بالشهادتين مؤمن حقا ، وإن كان مقلدا على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف ، لأنه -  - اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل ، وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي ، انتهى .
وبما تقرر تعلم أن النظر ليس بشرط في حصول المعرفة مطلقا ، وإلا لما وجدت بدونه لوجوب انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، لكنها قد توجد فظهر أن النظر لا يتعين على كل أحد ، وإنما يتعين على من لا طريق له سواه ، بأن بلغته دعوة النبي - - أول ما بلغته دعوته ، وصدق به تصديقا جازما بلا تردد ، فمع صحة إيمانه بالاتفاق لا يأثم بترك النظر ، وإن كان ظاهر ما تقدم الإثم مع حصول الإيمان ، لأن المقصود الذي لأجله طلب النظر من المكلف وهو التصديق الجازم قد حصل بدون النظر فلا حاجة إليه ، نعم في رتبته انحطاط ، وربما كان متزلزل الإيمان فالحق أنه يأثم بترك النظر وإن حصل له الإيمان ، ومن ثم نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه لأن جزمه حينئذ لا ثقة به ، إذ لو عرضت له شبهة عكرت عليه ، وصار مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال ، فإنه لا يفوت بذلك ، والله تعالى ولي التوفيق ».
ـ المسألة الثانية : ( العَمَلُ بِهِ ): والضمير هنا يعود على العلم ، إذًا يجب العمل بالعلم، والمراد بالعمل هنا العمل بالعلم الواجب ، أما المستحب فليس داخلاً في كلام المصنف، والنصوص الشرعية وردت في وجوب إتباع العلم بالعمل ، وورد الوعيد الشديد لتارك العمل بما عَلِم لذلك جاء في الحديث : « لن تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع»، وذكر منها «وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»، حينئذٍ لا يحل له أن يعلم ثم يترك ، ولذلك هاتان المسألتان متلازمتان ، لا علم نافع إلا بعمل به، ولا عمل إلا بعلم .
وَعَالِمٌ بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الوَثَنْ
قال الفضيل بن عياض في بيان أهمية العمل بالعلم ومكانة العالم: «لا يزال العالم جاهلاً حتى يعمل بعلمه»(تاريخ دمشق 48/427)، والذي يعمل بعلمه يزداد نورًا وبصيرة كما هو مفهوم من قوله جل وعلا﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد :17]، والعمل هو ثمرة العلم ، فمن عمل بلا علم فقد شابه النصارى ، ومن عَلِمَ ولم يعمل فقد شابه اليهود لأن الطوائف ثلاث قد بيَّنها الله عز وجل في آخر سورة الفاتحة﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾ [ الفاتحة : 7 ] غير المغضوب عليهم وهم اليهود وهم الذين عَلِمُوا ولم يَعْمَلُوا، والضَّالين هم النصارى الذين عَمِلُوا ولم يَعْلَمُوا، وقد قال النبي  : « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(أبو داود4031)، من تشبَّه بقوم: نكرة في سياق الشرط فيعمّ ، ليس التشبه خاصًّا بالكفار فقط ، وإنما هو عام للفساق ونحوهم، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «مجموع الفتاوى4/53»: «ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول تُوجب صحة الفروع».
ـ المسألة الثَّالِثَةُ: من المسائل الواجبة ( الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ ): الضمير هنا يعود إلى أقرب مذكور، فيكون التقدير ( الدعوة إلى العمل بالعلم ) وهذا يتضمن العلم الشرعي لأنه لا عمل صحيح إلا بعلم صحيح، قال ابن القيم رحمه الله في«مفتاح دار السعادة»(1/56): « فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل».
ـ المسألة الرابعة: من المسائل الواجبة ( الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيْهِ ):
ـ الصبر لغة: الحبس والمنع .
واصطلاحًا: حبس النفس عن التسخط ، واللسان عن التّشكي ، والجوارح عن لطم الخدود ونحو ذلك.
ـ والصبر نوعان:
1) صبر واجب. 2) وصبر مستحب.
أولاً: الصبر واجب: وهذا يكون فيما أوجب الله الصبر عليه، وهو ثلاثة :
الأول: الصبر على الطاعات ، والطاعات هذا عام يشمل المستحبات ويشمل الواجبات ، والمراد هنا الصبر على الواجبات الفرائض.
الثاني: الصبر عن المحرمات .
الثالث: الصبر على الأقدار المؤلمة ، والمصائب الموجعة.
ثانياً: وصبر مستحب: والمستحب هو ما زاد على ذلك، كالصبر على قيام الليل مستحب، والصبر على صيام النهار في غير الواجب مستحب وغير ذلك.
( عَلَى الأَذَى فِيْهِ ): ( أل ) هذه للعموم ، فتشمل الأذى سواء كان الأذى في البدن ، أو الأذى في المال ، أو الأذى في النفس،لأن من قام بدين الإسلام ، ودعا الناس إليه ، فقد قام مقام الرسل وتحمل عبئًا عظيمًا، فيلزمك الصبر والاحتساب قال تعالى﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا ﴾ [الأنعام : 34]، وقال تعالى﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف : 35]، وقال تعالى﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ﴾[الإنسان :23] - نزول القرآن نعمة - فكان الناظر ينتظر أن يقال : فاشكر نعمة ربك، ولكنه قال : ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ لأنه فيه إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن فلا بد أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر ، انظر إلى حال النبيحين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». فعلى الداعية أن يكون صابرًا محتسبًا.
( والدَّلِيْلُ ): أي على وجوب المسائل الأربعة السابقة الذكر.
* قَوْلُهُ تَعَالَىچ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ پ پ پ پ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡچ (العصر: 1 - 3).
( قَوْلُهُ تَعَالَى ): دليل سمعي، والدليل السمعي هو ما يدرك بواسطة السمع ، والدليل العقلي هو ما يدرك بالنظر والتأمل.
* ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾: الواو هنا واو القسم، فأقسم الرب جل وعلا بالعصر وهو المُقسِم ، والمقسَم به العصر ، والمقسَم عليه هو خسارة الإنسان، والقسم المراد به التأكيد والتقوية على شيء معين، وإذا أقسم الله بشيء دل على أنه مهم وأن له مكانة وشرفًا يفوق غيره من المخلوقات، فالرب جل وعلا يقسم بما شاء من مخلوقاته أو يقسم بذاته سبحانه وتعالى ، وأما المخلوق فليس له أن يقسم أو يحلف إلا بخالقه جل وعلا، لأن القسم فيه معنى التعظيم ، ولا يُعظَّم إلا الرب جل وعلا من جهة المخلوق.
ـ وقال«القرطبي»بتصرف يسير(20/178ـ 179)في معنى﴿ وَالْعَصْرِ ﴾:
1) هو الدهر ـ قول جمهور أهل العلم ـ ، وهو قول ابن عباس وغيره، ومنه قول الشاعر:
سَبِيْلُ الهَوَى وَعْرٌ وَبَحْرُ الهَوَى غَمْرُ وَيَوْمُ الهَوَى شَهْرٌ وَشَهْرُ الهَوَى دَهْرُ
أي عصر أقسم الله به عز وجل، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع.
2) وقيل: العصر: الليل والنهار.
3) وقيل: إنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة، ومنه قول الشاعر:
تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الاولى الغنيمة والاجر
وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار.
4) وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى، لأنها أفضل الصلوات، قاله مقاتل.
يقال: أذن للعصر، أي لصلاة العصر.
5) وقيل: هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله بتجديد النبوة فيه.
6) وقيل: معناه ورب العصر.أهـ.
ـ والأصح من هذه الأقوال أن كلمة العصر تعُمُّ كل ما قيل، ويعم ما قيل الدهر، لأن الدهر يقع فيه العشي، ويقع فيه صلاة العصر ، ويقع فيه آخر ساعة من ساعات النهار، والقاعدة العامة عند المحققين من أهل التفسير: ( أن اللفظ القرآني إذا جاء محتملاً لعدة معانٍ، وكلُّ معنى من هذه المعاني صالح لأن يدخل تحت هذا اللفظ، فحينئذٍ يُحمل على كل المعاني، فيكون مشتركاً أو مُطلقًا فتحته أفراد، فيصدق على تلك الأفراد إلا إذا جاء دليل من كتاب أو سنة يخصص تلك المعاني أو يخصص ذلك اللفظ ببعض أفراده ).
* قال الطبري في«تفسيره»(24/589): «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر( وَالْعَصْرِ ) اسم للدهر، وهو العشيّ والليل والنهار، ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى، فكلّ ما لزِمه هذا الاسم، فداخل فيما أقسم به جلّ ثناؤه».
* ﴿إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ﴾: جواب القسم.
ـ وقال«القرطبي»بتصرف يسير(20/178ـ 179)في معنى﴿الإِنْسَانَ﴾:
1) والمراد به الكافر، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح.
2) وقيل: يعني بالإنسان جنس الناس. أهـ
ـ ولأن ( أل ) تفيد الاستغراق والشمول، بدليل صحة وقوع لفظة كل محلها، وبدليل الاستثناء منها، والجمهور على أن المراد بالإنسان هنا جنس الإنسان.
* قال الطبري في«تفسيره»(24/589)﴿لَفِي خُسْرٍ﴾: «إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان».
* وقال«القرطبي»بتصرف يسير(20/178ـ 179)في معنى﴿لَفِي خُسْرٍ﴾: لفي غبن، وقال الأخفش: هلكة، وقال الفراء: عقوبة، ومنه قوله تعالى﴿وكان عاقبة أمرها خسرا﴾[ الطلاق: 9 ]، وقال ابن زيد: لفي شر، وقيل: لفي نقص، المعنى متقارب.أهـ
* ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾: في تفيد الظرفية، إذًا هو داخل في الخسر بمعني أن الخسر محيط به من كل مكان.
* وقال ابن الجوزي في«زاد الميسر»(9/225): «والإنسان هاهنا بمعنى الناس كما تقول كثر الدرهم في أيدي الناس تريد الدراهم والخسر والخسران في معنى واحد قال أهل المعاني الخسر هلاك رأس المال أو نقصه فالإنسان إذا لم يستعمل نفسه فيما يوجب له الربح الدائم فهو في خسران لأنه عمل في إهلاك نفسه وهما أكبر رأس ماله إلا الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا بالطاعة وتواصوا بالحق أي بالتوحيد والقرآن واتباع الرسول وتواصوا بالصبر على طاعة الله والقيام بشريعته».
* وقد ذكر في هذه السورة ثلاث مؤكدات:
- والعصر: قسم مؤكد مقوي للكلام .
- إنَّ: حرف نصب وتوكيد .
- لفي خُسْرٍ: اللام واقعة في جواب خبر إنَّ فهي مؤكدة .
ـ ومن المعلوم في كلام العرب: ( أنه لا يُؤكد إلا إذا كان المخاطب مترددًا أو منكرًا ، وأما خالي الذهن فهذا لا يصح له التوكيد إلا على تأويل )، إذاً الحكمة من هذه المؤكدات أنها وقعت جواباً لحال كفار قريش، لأنهم اعتقدوا أن ما هم عليه - بلسان حالهم ومقالهم - من الكفر، والذب عن دينهم، وقتالهم المؤمنين دفاعًا عن أصنامهم، ظنوا أنهم سلكوا طريق النجاة إلى الله عز وجل، فهم في الحقيقة مترددون أو منكرون أن طريق النجاة منحصر فيما جاء به النبي .
* ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: آمنوا أي اتصفوا بصفة الإيمان، والإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان .
* ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: فيها إثبات صفة الإيمان فدل بدلالة التضمن على المسألة الأولى وهي العلم ، لأن العلم ركن من أركان الإيمان ، وليس بخارج عن الإيمان حتى يدل عليه .
* ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: قال الطبري في«تفسيره»(24/590): « إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد».
* قال«القرطبي» (20/181)في معنى﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾: «ومعنى (وتواصوا) أي تحابوا، أوصى بعضهم بعضا، وحث بعضهم بعضا،(بالحق) أي بالتوحيد، كذا روى الضحاك عن ابن عباس.قال قتادة: ( بالحق ) أي القرآن،وقال السدي: الحق هنا هو الله عز وجل،(وتواصوا بالصبر) على طاعة الله عز وجل، والصبر عن معاصيه».
* قال ابن القيم رحمه الله في«مفتاح دار السعادة»(1/56): «قَوْلُهُ تَعَالَىچ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ پ پ پ پ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡچقال الشافعي رضي الله عنه لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله أحداها معرفة الحق الثانية عمله به الثالثة تعليمه من لا يحسنه الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة واقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر إن كل احد في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا فهذه مرتبة ثالثة وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذا نهاية الكمال فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل فهذه السورة على اختصارها هي من اجمع سور القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه شافيا من كل داء هاديا إلى كل خير».
* وقال رحمه الله أيضاً في«زاد المعاد»(3/9): « جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات».
* ( لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً ): أي شيء يُحتج به على الخلق وبرهانًا ودليلاً على أنه أقام الحجة على الخلق .
* ( عَلَى خَلْقِهِ ): أي الإنس والجن، وهذا شامل للإنس والجن لأنهم مكلفون قال تعالى﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
* ( إِلَّا هَذِهِ السُّوْرَةَ ): مع اختصارها وشمولها أو اشتمالها على ثلاث آيات مختصرات.
* ( لَكَفَتْهُمْ ): أي لصارت كافية .
* قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «مراده أن هذه السورة كافية للخلق - مجزئة للخلق - في الحث على التمسك بدين الله، بالإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مراده
رحمه الله أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة».
* ( وقال البخاري رحمه الله «باب العلم قبل القول والعمل» والدليل قوله تعالى}فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك{(محمد 19)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل ):
* قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «أستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل وهذا دليل أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولاً ثم يعمل ثانياً ، وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول والعمل وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً حتى يكون على وفق الشريعة ، ولا يمكن أن يعلم الإنسان أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعمل، ولكن هناك أشياء يعلمها الإنسان بفطرته كالعلم بأن الله إله واحد فإن هذا قد فطر عليه العبد ولهذا لا يحتاج إلى عناء كبير في التعلم ، أما المسائل الجزئية المنتشرة فهي التي تحتاج إلى تعلم وتكريس جهود».
( فَاعْلَمْ ) خطاب للنبي ، وهذا الخطاب عام لكل الأمة فتأخذ نفس الحكم، كما قال في«مراقي السعود»:
وَمَا بِهِ قَدْ خُوْطِبَ النَّبِيُّ تَعْمِيْمُهُ فِي المَذْهَبِ السَّنِيُّ
*( أَنَّهُ ) أي الحال والشأن، ( لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) لا معبود بحق إلا الله، ( وَاسْتَغْفِرْ ) وهذا نوع من أنواع العمل.
} *فأعلم أنه لا إله إلا الله{: وفيها دلالتان :
الأولى: فضل العلم. الثانية: أن العلم مقدم على العمل.
المقدمة الثانية التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
 
* أعلم رحمك الله: أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن:
الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيل﴾[المزمل: 15، 16].
 
* ( أَنَّه يَجِبُ ): الوجوب العيني .
* ( عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ ): لابد من تقدير مكلَّف، لأن الوجوب حكم شرعي، والأحكام الشرعية التكليفية لا تثبت إلا في حق المكلفين، وقد ذكر المسلمة بعد المسلم تأكيدًا على المعنى فيكون المخاطب بهذا الواجب العيني كل فرد من أفراد المسلمين ، وكل فرد من أفراد المسلمات، سوء كانوا من الجن أو الإنس.
* ( تَعَلُّمُ ): أي اعتقاد معاني هذه المسائل الثلاث على ما قرره الرب جل وعلا في كتابه، وعلى لسان رسوله، وهذا الاعتقاد وهذه المعاني مرجعها إلى الشرع، كما أن إثبات الألفاظ الشرعية مرجعها إلى الشرع فتثبت اللفظ من جهة الشرع وتثبت المعنى الذي دل عليه الشرع لذلك اللفظ وهو ما يسمى بالحقيقة الشرعية.
* ( ثَلاَثِ ): لا مفهوم له.
* ( تَعَلُّمُ ثَلاَثِ هذه المسائل ): المسائل جمع مسألة ، وهي ما يُبرهن عنه في العلم ، أي ما يُسأل عنه في العلم ويُذكر له برهانٌ ودليلٌ من قول الله جل وعلا أو قول رسوله، ولا شك أن هذه المسائل أمور معنوية معقولة وليست بمحسوسة، وهذه اسم إشارة، والأصل في وضع اسم الإشارة أن يكون لأمر محسوس، ولكن لما كان الواجب هنا متعيِّنًا، وكان المقصود أن هذه المسائل الثلاث تكون واضحة بينة شبَّهها بالأمر المحسوس، فكأنه شيء محسوس يُشار إليه بما وُضِعَ للإشارة الحسية، فالمراد هنا أن يميز هذه المسائل عن غيرها أتمَّ تمييز، بحيث إن الناظر فيها يُدركها علمًا وعملاً كأنه يدرك المحسوس، ولذلك أشار إليه بهذه كما يقول المصنفون في أوائل الكتب أما بعد فهذا مختصر ، والمختصر إنما يكون في الذهن، ولكن جعله في مقام المحسوس، لأنه لَمَّا برز وتَمَّ في ذهنه وصار متميّزاً عن غيره نزَّله منزلة المحسوس، ولذلك يقال : نزّل المعقول منزلة المحسوس .
* ( الأُوْلَى ): وهذه المسألة لم يقع فيها نزاع بين الرسل وأقوامهم، الكل ممن آمن بالرسل وممن خالف الرسل، يُقِرُّونَ بتوحيد الربوبية، بأنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله، فحصل الاتفاق في الجملة في هذا النوع، فقدَّمه لأنه تمهيد وطريق إلى إثبات توحيد الإلوهية، لأن توحيد الإلوهية هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد صلاة ، زكاة ، صيام ، دعاء ، نذر إلى آخره، وهذه لا يستحقها إلا من كان متفردًا بالخلق، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، إذًا صار توحيد الربوبية كالتمهيد لتوحيد الإلوهية.
* ( خَلَقْنَا ): أي أوجدنا بعد عدم مسبوقٍ بتقدير، لأن الأصل في لغة العرب أن الخلق بمعنى التقدير.
* ( أَنَّ اللهَ خَلَقْنَا ): وهذا ثابت بدليل السمع والعقل، أما السمع فقوله تعالى﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾[الأعراف : 54]، وقوله تعالى ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾[فاطر : 3]، وقوله تعالى﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[الزمر : 62]، وقوله تعالى﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات :56]، وأما الدليل العقلي فهو ما جاء في الكتاب أيضًا في سورة الطور﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾[الطور : 35] ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾ أي مِنْ عدم ﴿ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ لأنفسهم ، والعدم لا يخلق ، وهم ليسوا خالقين لأنفسهم ، فدل على أن ثَمَّ خالقًا وهو الرب جل وعلا، لأن القسمة العقلية تقتضي ثلاثة احتمالات :
1) أن يكونوا خلقوا من غير شيء، وهو عدم، والعدم ليس بشي ،فلا يكون موجودًا وهذا باطل محال.
2) ﴿ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾لأنفسهم، أوجدوا أنفسهم عدم، إذًا اقتضى أنهم أوجدوا أنفسهم أولاً ثم أوجدوا أنفسهم مرة ثانية، وهذا باطل.
3) الاحتمال الثالث ولم يذكر في الآية لوضوحه وبروزه وهو أن الله تعالى هو الخالق.
* ( وَرَزَقَنَا ): وهذا ثابت بدليل السمع والعقل، أما السمع فقوله تعالى﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾[الذاريات : 58] ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ﴾وفيه حصر أنه لا رازق إلا الله، لأن قوله ﴿ هُوَ ﴾ هذا ضمير فصل جيء به للتأكيد﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[البقرة : 5] ﴿أولئك﴾مبتدأ ، و﴿المفلحون﴾خبره، و﴿هم﴾وقع بين المبتدأ والخبر لدلالته على التأكيد، وأن الخبر محصور في المبتدأ، وكذلك﴿ إِنَّ اللَّهَ﴾ الله اسم إنَّ، وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب﴿الرَّزَّاقُ﴾خبر إنَّ، وجيء بضمير الفصل من باب التأكيد والحصر أنَّ هذه الصفة محصورة في الرب جل وعلا ومنفية عن غيره سبحانه.

* والرزق ينقسم إلى نوعين:
والرزق ما ينفع من حلال أو ضِدِهِ فحُل عن المحال
لأنه رازق كل خلق وليس مخلوق بغير رزق
الأول: ما يقوم به البدن: سواء أخذه من حِلٍّ أم من حرام، فمن عاش حياته كلها لا يأكل إلا الخنزير فهذا قوام بدنه الخنزير، وهذا رزق من عند الله جل وعلا ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [البقرة : 60]، فإذا أراد الحلال عرف طريق الحلال، وإذا أراد الحرام عرف طريق الحرام، وكل يُسمى رزقًا من عند الله جل وعلا.
الثاني: ما يقوم به الدين: وهذا خاص بالحلال، لأنه لا تبعة على المسلم فيه وهو ما كان قوامًا له على الطاعة، فيدخل في قوله تعالى ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف : 32] فدَلّ على أن هذه الطيبات مختصة بالمؤمنين، فحينئذ المؤمن الذي يجانب ويبتعد عن الحرام هو المرزوق وهذا الرزق خاص به لأنه سلك طريقه وهو طلب الحلال.
* فالله ( خَلَقْنَا ) لطاعته ولعبادته ولتحقيق التوحيد ( وَرَزَقَنَا ) النعم لنستعين بها على عبادته وطاعته.
ـ فائدة: يفرق أهل العلم بين الرِّزق والرَّزق ، فالرِّزق هو العين المرزوقة المخلوق، والرَّزق بفتح الراء هو فاعل الرب جل وعلا كالخلق والمخلوق.
*( وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا ): أي مهملين معطلين كالبهائم لا نؤمر ولا ننهى، وهَمَلاً لم يَرِد في كتاب الله وإنما ورد عبث وورد السُّدى وكلها بمعنى واحد قال تعالى﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾[المؤمنون : 115]، وقال تعالى﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾[القيامة : 36] جمهور المفسرين على تفسير سدى بأنه: لا يُؤمر ولا يُنهى.
* ( بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً ): والخطاب هنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم،فأرسله بالهدى وهو العلم النافع، ودين الحق وهو العمل الصالح، والغاية من إرساله الطاعة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾[النساء : 64].
* ( فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ ): فرتب الجزاء على هذه الطاعة وهي الجنة أو النار، فمن أطاعه من اسم شرط فتعم كل من أطاعه من الإنس أو الجن، والطاعة: هي موافقة أمر الشرع بفعل المأمور واجتناب المحظور على جهة الاختيار، وهي أعم من القربة، فكل قربة طاعة ولا عكس، لأن القربة يشترط فيها التقرب إلى الله تعالى بالنية كالعبادات المتمحضة، وأما الطاعة فأعم من ذلك فتصدق على الوجبات التي لا يُشترط فيها النية كرد الديون والنفقة على الزوجات ونحو ذلك.
* (﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيل﴾ [المزمل: 15، 16]): وقد اختير موسى عليه السلام مع فرعون وقومه لأنهم كانوا يعرفون حال فرعون وما جرى له في الدنيا وما يكون له في الآخرة، فكان ذلك معلومًا عند كفار قريش واضحًا بينًا فحصل بذلك الاعتبار بالتشبيه، فأنتم يا أمة محمد  قد أرسلنا إليكم رسولاً فإن عصيتم كما عصى فرعون فسيترتب ويحل بكم ما حلَّ بفرعون، وهذا وجه الاستدلال بالآية.
 
* الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾[الجن: 18].
 
* ( أَنَّ الله لا يَرْضَى ): الرضا صفة قائمة بذات الرب جل وعلا، لازمها المحبة والإنعام والعطاء، وإذا انتفى الرضا ثبت ضده وهو السُّخْطُ، لأن متعلق نفى الرضا هنا هو الشرك ، وهو أكبر الكبائر وأعظم الذنوب
* ( لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ ): أن حرف مصدر، ويُشرك فعل مضارع مغير الصيغة، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، والمصدر هذا يُفسر من مادة الشرك أي من المصدر الذي اشتق منه هذا الفعل، أَشْرَكَ يُشْرِكُ إِشْرَاكًا، والمعنى أن الله لا يرضى إشراكًا، وإشراكًا نكرة وَقَعَت في سياق النفي فتعم ، أي لا يرضى الشرك أكبره وأصغره، ظاهره وخفيه، كل نوع من أنواع الشرك قليلاً أو كثيًرا ، ظاهرًا، جليًّا أو خفيًّا مستترًا، والشرك لا يرضاه الله، فهو منفيٌّ بالإرادة الشرعية، وقد وقع لأنه مراد كونًا لحكمة أرادها جل وعلا، والشرك في اللغة: النصيب، يقال : أَشْرَكَ زيدٌ عَمْرًا في ماله، بمعنى أنه قد جعل له نصيبًا من ماله، أو أشركه في عمله، واصطلاحاً: بالمعنى العام أن تجعل لله ندًّا في الإلوهية أو في الربوبية أو في الأسماء والصفات، فالشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام، كما أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: شرك في الربوبية، وهو أن تجعل لله ندًّا في الخلق والملك والتدبير .
القسم الثاني: شرك في الإلوهية، وهو أن تجعل لله ندًّا في العبادة .
القسم الثالث: الشرك في الأسماء والصفات، وهو أن تجعل لله ندًّا فيما يختص به من الأسماء والصفات .
وقد خصّ المصنف الشرك هنا في العبادة لأنه هو الذي كان في زمنه وعموم البلوى منذ أن بعث الله الرسل إلى أن تقوم الساعة في هذا النوع.
* ( مَعَهُ أَحَدُ ): نكرة في سياق النفي فيعمّ كائنًا من كان لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، لا جماد ولا حيوان ، لا صنم ولا شجر ولا جبل ولا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، فكل ما يمكن أن يقع أو يُصرف له شيء من العبادة فهو منفي بقوله: ( أَنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ ).
* ( فِي عِبَادَتِهِ ): العبادة لغة «تاج العروس(8/330)»: «مأخوذة من التذلل والخضوع، والعِبَادَةُ: بالكسر الطَّاعةُ ، وقال بعضُ أَئِمَّةِ الاشتقاق أَصْلُ العُبُودِيّةِ الذُّلُّ والخُضُوعُ»، يقال: طريق معبد: أي مذلل، أي وَطَّأَتْهُ الأقدام وذَلَّلَتْهُ بكثرة المشي عليه.
وأما في الاصطلاح فلها نظران:
1) العبادة بالمعنى المصدري: أي بمعنى التعبد وهي فعل العابد، تفسر بالتذلل والخضوع لله بالطاعة، يقال: هذا مُتَعَبِّدٌ لله أي أنه متذلل لله تعالى بالخضوع والذل، وعرفها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «بأنها التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه»، وعرفها ابن القيم في نونيته فقال:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
وللعبادة شرطان:
1) الإخلاص: فإن الله لا يقبل من العمل إلا الخالص لوجهه سبحانه، قال تعالى﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة : 5)، وقَال تعالى﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر : 3) .
2) المتابعة للرسول : فإن الله لا يقبل من العمل إلا الموافق لهدي الرسول ، قال الله تعالى﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر : 7)، وقَال تعالى﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء : 65) .
* وللعبادة ركنان:
الأول: كمال الخضوع والذل، والمراد أن يستكين العبد لله ويخضع ويذل و ينقاد له، كلما سمع أمرًا أو نهيًا انقاد سمعاً وطاعةً.
الثاني: كمال المحبة، كما قال تعالى﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، قال ابن القيم في«مدارج السالكين»(3/26): «وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له وأصل التأله التعبد والتعبد آخر مراتب الحب ـ أعلاها ـ يقال عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه فالمحبة حقيقة العبودية»، واستدل أهل العلم بأن أله بمعنى عبد بقول رؤبة بن العجاج:
لِلَّهِ دَرُّ الغانِيَات الْمُدَّهِ سبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي
ـ فائدة: الْمُدَّهِ: المدح، تَأَلُّهِي: تعبدي.
* قال بعض السلف: «مَنْ عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد».
2) العبادة بالمعنى الاسمي: أي المتعبد به من صلاة وصيام وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا ما يصدق عليه تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بأنها: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة».
* والعبادة نوعان:
1) عبادة كونية: وتسمى عبودية الربوبية، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد لقوله تعالى﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾[ مريم : 93]، فهي شاملة للمؤمن والكافر، و البر والفاجر .
2) عبادة شرعية: وتسمّى عبادة الطاعة والامتثال، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى وأتبع ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾ [ الفرقان : 63].
* ( لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ): وهذا من باب ضرب المثل، لأن باب المعتقد باب الإيضاح، وليس باب إجمال وإلغاز، واختص الإمام الملك والنبي لأنهم من أعظم الخلق عند الناس.
* ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً )[الجن: 18]: وللمفسرين في تفسير المساجد قولان : قيل المساجد جمع مسجد والمراد به السجود أو أعضاء السجود، وقيل: المساجد وعليه الجمهور بيوت الله جل وعلا التي تبنى للصلاة والذكر والاعتكاف والتلاوة.
( ﴿ لِلَّهِ ﴾ ): اللام هنا للاستحقاق، أو للاختصاص ، فهذه المساجد على التفسيرين مختصة بالله جل وعلا، إذا كانت بمعنى السجود فلا إشكال، وإن كانت بمعنى بيوت الله جل وعلا فحينئذٍ يقال: هذه بيوت الله فلا يفعل فيها إلا ما يُتَقَرَّبُ به إليه جل وعلا، فلا يحل لك أن تصرف ما يُفعل في بيوت الله لغير الله جل وعلا.
* ( ﴿ فَلَا تَدْعُوا ﴾ ): ( لا ) ناهية، والنهي يقتضي التحريم، وإذا حرَّم الله شيئًا دل على أنه لا يُحِبّه ولا يرضاه، لأن الرب جل وعلا إما أن يأمر، وإما أن ينهى، فإذا أمر بشيء بما مصلحته خالصة أو راجحة دل على حبه له ورضاه، وإذا نهى عن شيء سواء كانت المفسدة خالصة أو راجحة فحينئذٍ دل على أنه لا يحبه ولا يرضاه، وفي هذا نهي عام لجميع الخلق .
* ( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ): الدعاء عند أهل العلم نوعان:
1) دعاء المسألة: هو ما صُدِّرَ بياء النداء: يا الله ، يا أرحم الراحمين.
2) ودعاء العبادة: هو أفعال وأفراد التعبدات التي تكون بالذكر باللسان دون السؤال بياء الندائية، أو بالعمل بالجوارح كالصلاة والصيام والحج ونحو ذلك، إذًا فالأول سؤال باللسان، والثاني سؤال بالحال.
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: « في قوله تعالى مخبراً عن قول إبراهيم ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (مريم48،49)،فأخبر عن إبراهيم أنه قال﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ ثم قال جل وعلا ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ أي وما تعبدون؛ لأن الله جل في وعلا قال بعدها﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾، وهذا من الأدلة الظاهرة من أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة».
 
* الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى}لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا غباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون {{سورة المجادلة، الآية: 22}.
 
* ( من أطاع الرسول ): من شرطية، فتعم كل مكلّف، كل من أطاع الرسولمن الجنّ والإنس، والمراد بالرسول هو محمد بن عبد الله، لأن ( أل ) للعهد الذهني، لأنه يخاطب أمة محمدسواء كانت أمة الإجابة أو أمة الدعوة، وأمة الإجابة هم من آمنوا وصَدَّقُوا وأَقَرُّوا بالنبيوعملوا بما جاء به من شرع ونحوه، وأمة الدعوة تعمُّ كل من أرسل إليهم النبيقال تعالى﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : 158]، سواء كانوا كافرين أم مؤمنين، وطاعة الرسول ليست لذاتها ، وإنما يطاع النبيطاعة لله،والنبي واسطة في معرفة الشرع الذي أراده الله عز وجل من الخلق.
* ( وَوَحَّدَ اللّه ): في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته على فهم السلف رضي الله تعالى عنهم، وظاهر كلام المصنف بـ ( وَوَحَّدَ اللّه ): أي أفرده بالعبادة، ولذلك سيأتي( وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ : إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ )، ولأنه هو الذي وقع فيه الخصومة بين الرسل وأممهم.
* ( أن من أطاع الرسول ووحد الله ): ومن مقتضيات هذه الطاعة وهذا التوحيد أن يوالِيَ أهل التوحيد، ويحب التوحيد، ويحب أهل التوحيد، وأن يبغض الشرك، ويبغض أهل الشرك ، ويعادي أهل الشرك، ويحاد أهل الشرك، فصار هذا الحكم من لوازم الشهادتين.
* ( لا يجوز له موالاة ): لا يجوز أي يحرم عليه، والضمير في له يعود على المطيع الموحد، والموالاة مأخوذة من الوَلاية﴿هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾(الكهف44)، والمراد بالموالاة المحبة والمودة والمصادقة والمتابعة والموافقة، كل ما يُقرب إلى الشرك والمشركين فهو داخل في الموالاة إلا ما جاء استثناؤه من جهة الشرع، ولذلك قال بعضهم: الموالاة مأخوذة في الأصل من وَلِيَ الشيء إذا قرب منه، والقرب قد يكون بالقلب وهذا هو الأصل، وقد يكون بالقول، وقد يكون باللسان، والمنهي عنه الموالاة مطلقًا سواء كانت بالقلب أو ما يتبعه من قول اللسان وعمل الجوارح.
* ( لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب ): من اسم موصول يعم سواء كان بعيدًا أو قريبًا، بعيدًا أي في النسب أو في الأرض، أو قريبًا في النسب أو في الأرض، وهذه الإخوة منفية لوجود المحادة لله ولرسوله، فتنتفي المحبة وتنتفي النصرة لهؤلاء المحادين لله ورسوله، وحادَّ مأخوذة من الحدّ وهو الفصل، وقيل: مشتق من الحديد، فحادّ مأخوذ من الحديد، كناية عن آلة الحرب، والمراد بحَادَّ أي عادى وخالف وجانب الله ورسوله، وهذا لا يصدق إلا على الكفار، سواء كانوا أصليين أو مرتدين، وعلى المنافقين نفاقًا اعتقاديًّا، ومن عداهم فلا يصدق عليه هذا التعبير، لأن المسلم ولو كان عاصيًا والمؤمن ولو كان عاصيًا فإنه في حدّ الله جل وعلا، لم يخرج من دائرة الإسلام ومعه أصل المحبة، ومعه أصل النُّصرة وموالاة المؤمنين.
* (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبَاءهُمْ أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون):
(لا): نافية، وعُبِّرَ بالنفي عن النهي لكونه أبلغ في لسان العرب، ولأن النهي يكون في المستقبل، والنفي يكون في جميع الأزمنة، في أي وقت من الأوقات، (لا تجد): أي مؤمنين بالله واليوم الآخر من صفتهم أنهم (يوادُّون): أي يحبون ويصادقون الكافرين، لأنه لا يجتمع الإيمان ـ سواء أصل الإيمان أو كماله الواجب ـ مع الموادّة، قال ابن الجوزي في«زاد الميسر»(8/199) عند تفسير هذه الآية:« وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان وأن من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته»، (قوما): نكرة في سياق النفي فيعم،فيشمل الذكور والإناث، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ): خصه لأهميته، لأن له آثار ينزجر العبد إذا سمع الإيمان باليوم الآخر، فيتذكر أنه لم يخلق في هذه الدنيا عبثًا، وأنه سيبعث ويحاسب إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشرّ، ولذلك يذكر مقرونًا بالإيمان لأنه داع وزاجر، داعٍ إلى فعل المأمورات، وزاجر عن ترك المنهيات، (وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ): إشارة إلى الأصول وهم آباؤهم وإن علوا ، (أَوْ أَبْنَاءهُمْ): إشارة إلى الفروع وإن نزلوا، (أَوْ إِخْوَانَهُمْ): إشارة إلى الأعوان لأن النصرة تحصل بالأعوان، (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ): والعشيرة هم أقاربه الذين يَتَكَثَّرُ بهم، (كتب): والْكَتْب يدور حول مادة الجمع والضّمّ، والمراد به هنا ﴿ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ﴾أي جمع الإيمان في قلوبهم وثبته في قلوبهم وجعله راسخًا ثابتًا، قال«الطبري»(23/258) عند تفسير هذه الآية:«قضى لقلوبهم الإيمان، ففي بمعنى اللام»،(وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ): قال«الطبري»(23/258):«وقواهم ببرهان منه ونورٍ وهدى»، (بِرُوحٍ مِّنْهُ): فسرها ابن عباس وكذلك الحسن بنصرٍ، بروح منه أي بنصر، وقيل : الإيمان، قاله السُّدّي، وقيل: القرآن، قاله الربيع ، وقيل: الرحمة . قاله مقاتل، وقيل: جبريل عليه السلام، ذكره الماوردي ولا بأس أن يكون اللفظ عامًّا للجميع، فكل لفظ احتمل معانٍ، وهذا المعنى صحيح فيحمل اللفظ على كل المعاني، (خَالِدِينَ فِيهَا): أي ماكثين فيها، والخلود في لسان العرب يُطلق بمعنى المكث الطويل، (وَرَضُوا عَنْهُ): رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا، ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة، فحصل التراضي وحصل الرضا من الجهتين، من جهة الرب جل وعلا وهو أعظم، ومن جهة المؤمنين وهو أدنى، قال ابن كثير(8/55): «وفي قوله﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم»، (حِزْبُ اللَّهِ): أي جند الله وأولياؤه، والأصل في الحزب التجمع، فقد تحزبوا واجتمعوا على التوحيد، (هُمُ الْمُفْلِحُونَ ): مأخوذة من الفلاح وهو الفوز ، وهذه الكلمة قيل: أجمع كلمة في لسان العرب للخير بحذافيره، هي كلمة الفلاح وهى حصول المطلوب، والأمن من المرهوب.
* تنقسم الموالاة إلى قسمين:
1) موالاة كبرى وهي ما تسمى بكفر التولي.
2) موالاة صغرى.
النوع الأول: الموالاة الكبرى وهي ما تسمى بكفر التولي أو الموالاة المطلقة أو مظاهرة المشركين، وهي مخرجة من الملة: وهذا النوع دل عليه قوله تعالى﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[ المائدة : 51]،
وتشتمل على أمور:
أولاً: محبة الكفار والمشركين لدينهم . ثانياً: الرضا بكفرهم.
ثالثاً: عدم تكفيرهم مطلقًا سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المجوس أو على غير الملة.
رابعاً: تصحيح مذهبهم. خامساً: الشك في كفرهم .
سادساً: مدح دينهم .
النوع الثاني: الموالاة الصغرى، وهي صغرى باعتبار الأولى، وإلا فهي في نفسها من أكبر الكبائر، وليست مخرجة من الملة، واستدلوا بأن هذه الموالاة ليست مخرجة من الملة بقوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (الممتحنة:1)، وسبب نزول هذه الآية ما رواه«البخاري»(4890) من حديث علي رضي الله عنه قال:« بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ  أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ قَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ قُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنَقْلِبَنَّ الثِّيَابَ قَالَ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَخَذْنَا الْكِتَابَ فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ  فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ كَانَ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾».
المقدمة الثالثة التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
 
* اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله وحده، مخلصاً له الدِّين، وبذلك أمر الله جميع النَّاسِ، وخلقهم لها؛ كما قال تعالى﴿وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُوِن﴾ [الذاريات:56]، ومعنى يَعْبُدُوِن: يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو: إفراد الله بالعبادة. وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً﴾ [النساء:36].
 
* ( أَرْشَدَكَ ): مأخوذ من الرشاد، والرشاد ضد الغيّ، ( أَرْشَدَكَ اللَّهُ ): أي هداك إلى الرشد ووفقك إليه ودلَّك عليه، والرشد هو الاستقامة على طريق الحق ولذلك وصف به في قوله جل وعلا﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾[ الحجرات : 7]، أي من حبب إليه الإيمان والعمل الصالح وكُرِّهَ إليه الكفر والفسوق فهو من الراشدين وهذا هو معنى الاستقامة على طريق الحق.
* ( لِطَاعَتِهِ ): اللام هنا بمعنى إلى، أي أرشدك الله إلى طاعته.
* ( الْحَنِيفِيَّةَ ): الحنيف لغة «لسان العرب(9/57)»:«مأخوذ من الحنف وهو الميل»، قال ابن القيم في«شفاء العليل»(صـ286): «والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام»، والْحَنِيفِيَّةَ شرعاً: هي «الميل عن الشرك إلى التوحيد مع الثبات عليه والاستقامة عليه».
* ( مِلَّةَ ): لغة «لسان العرب(11/631)»: «الشريعة والدين»، وشرعاً: «الطريقة والشِّرْعَة والنِّحْلَة والدين».
ـ فائدة: «الحنيفية والملة بمعنى واحد في الشرع، وأما في اللغة فبينهما فرق».
* ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ): الإضافة هنا للاختصاص لأنها إضافة لامية، أي ملة لإبراهيم، وأضيفت الملة إلى إبراهيم عليه السلام لعدة أمور:
1) لأن إبراهيم عليه السلام هو خليل الرحمن كما قال الله عز وجل﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾[ النساء : 125] .
2) لأن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء أي أب لأقوام الأنبياء .
3) ولأنه من أولي العزم، وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للاقتداء به .
4) وأيضًا هو لفظ القرآن،قال تعالى﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾[ البقرة : 135]، أي بل أتبع ملة إبراهيم.
5) أن النبي  جاء إلى أقوام وطوائف متعددة، كل منهم يدعي أنه على ملة إبراهيم، فقريش تنتسب إلى ملة إبراهيم وتَدَّعِي أنها أولى به، وكذلك اليهود والنصارى كل منهم يَدَّعِي أنه على ملة إبراهيم ، ولذلك جاء قوله تعالى﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [ آل عمران : 65]، ثم قال سبحانه بعد ذلك : ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[ آل عمران : 67، 68].
ـ فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرحه للأصول الثلاثة: «وملة إبراهيم هي التوحيد؛ لأنه هو الذي تركه فيمن بعده؛ حيث قال جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾[الزخرف:26-27]، هذه الكلمة (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت على نفي في الشق الأول، وعلى إثبات في الشق الثاني، (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراءة نفيٌ، ثم أثبت فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فتبرأ من المعبودات المختلفة، وأثبت أنه عابد للذي فطره وحده، وهذا هو معنى كلمة التوحيد، ولهذا قال جل وعلا بعدها ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:28]، يعني لعلهم يرجعون إليها، وعقب إبراهيم عليه السلام منهم العرب، ومنهم أتباع الأنبياء، فهو أبو الأنبياء، ومعنى ذلك، أنه أبٌ لأقوام الأنبياء».
* ( أَنْ تَعْبُدَ الْلَّهَ ): أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر أن، أن الحنيفية ملة إبراهيم عبادة الله مخلصًا له الدين.
* ( مُخْلِصًا لَهُ الْدِّينَ ): مخلصًا اسم فاعل من الإخلاص، وهو حال من فاعل تعبد، والإخلاص لغة «المعجم الوسيط(1/249)»: هو الخالص الصافي وهو ما زال عنه الشوائب، وشرعاً: قال الشيخ ابن عثيمين: « الإخلاص: هو التنقية ـ للعمل الظاهر والباطن ـ والمراد به أن يقصد المرء بعبادته وجه الله عز وجل والوصول إلى دار كرامته بحيث لا يعبد معه غيره لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً قال الله تعالى﴿ ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾(النحل123)»، لَهُ الْدِّينَ: اللام للاستحقاق، والضمير يعود إلى الله، فيكون المعنى مخلصاً لله العبادة، والعبادة تُطلق ويراد بها عمل القلب واللسان والجوارح والأركان، لأن متعلقات العبادة : القلب، واللسان، والجوارح، فهذه محال للعبادة، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في«مدارج السالكين(1/109)»: «ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح»، ومعنى من كملها: أي عرف ما الذي يحرم اعتقاده فتركه ، وما الذي يجب اعتقاده فأتى به لزومًا، وما الذي يستحب اعتقاده فأتى به، وما الذي يكره اعتقاده فتركه، وما الذي يباح له أن يعتقده، فيكون امتثل الأحكام الشرعية الخمسة في عمل القلب واللسان والجوارح والأركان.
* ( وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّاسِ ): أي مسلمهم وكافرهم، ولو قال : الخلق، لكان أفضل ليشمل الجن والملائكة.
* ( وَخَلَقَهُمْ ): أي خلق الجن والإنس، ( لَهَا ): أي لهذه العبادة، والضمير في لَهَا: يعود للعبادة الخالصة، واللام للتعليل ، أي لبيان الحكمة من الخلق وهي العبادة، والمراد بالعبادة هنا العبادة الشرعية لا الكونية.
* (﴿وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُوِن﴾):
﴿وَمَا﴾: نافية، ﴿خَلَقتُ﴾: أوجدت، ﴿الجِنَّ﴾: عالم غيبي مخفي عنا لا نراه وقد يراه البعض لأمر ما، لكن الأصل فيه أنه لا يُرى، وهم مخلوقون من نار، قال تعالى﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [ الرحمن : 15] ، وسُمُّوا جِنًّا لاجتنانهم، وهو استتارهم، والاجتنان: هو الاستتار عن العيون ﴿ وَالإِنسَ﴾: هم البشر، وسُمُّوا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض.
* ( وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ ): ففسر العبادة بمعنى التوحيد وهو أخص، وهو تفسير للعبادة ببعض أفرادها، قال ابن عباس«تفسير الطبري(1/157)» في قوله تعالى{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك، وقال علي بن أبي طالب«تفسير البغوي(7/380)»: «(إلا ليعبدون) أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي»وهذا أعم ولذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية «درء تعارض العقل والنقل(4/332)».
* ( وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو: إفراد الله بالعبادة. ):
التوحيد في اللغة: من حيث الاشتقاق مشتق من الوحدة وهي الانفراد، فالتوحيد تَفْعِيْل، مصدر وحَّدَ يُوَحِّدُ توحيدًا، إذا جَعَلَهُ وَاحِدًا، والمراد بالجعل جعل ـ اتخاذ ـ الشيء واحد في قلبك، ليس في الخارج ،لأن الذي يقبل الشركة والتشريك هو ما كان في القلب وليس ما كان في الخارج ، وأما في الخارج فليس إلا الحق ، وليس المراد أنَّ كلَّ ما عبد من دون الله على الأرض فهو حق ، وإنما المراد أن الجعل اعتقاد الوحدانية ، وأن الله جل وعلا منفرد بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته.
وأما التوحيد في الشرع: هو إفراد الله تعالى بما يختصُّ به من الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات .

وأنواع التوحيد ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية: «وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق، والملك والتدبير»، قال الله عز وجل﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الزمر62)، وقال تعالى﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ (فاطر3)، وقال تعالى﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الملك1)، وقال تعالى﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف، الآية54).
الثاني: توحيد الألوهية: «وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ».
الثالث: توحيد الأسماء والصفات: «وهو إفراد الله تعالى بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله  وذلك بإثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل».
* فائدة: هذا التقسيم الثلاثي تقسيم شرعي، له حقيقة شرعية، قد أجمع السلف ومن تبعهم على أن التوحيد منحصر في ثلاثة أقسام لا زائد عليها، فنقف على ما وقف عليه السلف، ومستند الإجماع: التتبع والاستقراء.
* ( التوحيد، وهو: إفراد الله بالعبادة. ): أل للعهد الحضوري لأنه سيذكره فيما بعد، وهو: إفراد الله بالعبادة، وهذا ما يسمى بتوحيد الإلوهية، أو بتوحيد العبادة، أو بالتوحيد الطلبي، أو الإرادي أو القصدي، فعرف التوحيد بمعنى خاص، وهذا النوع من التوحيد يستلزم أمران:
الأمر الأول: أن يتوجه العبد بجميع أنواع العبادة لله جل وعلا، ولا يُصرف منها شيء لغير الله .
الأمر الثاني: يقتضي من العبد أن يعرف ما هي هذه العبادة .
* ( وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً﴾ [النساء:36]. ): والنهي هنا للتحريم، الشرك وهو: دعوة غيره معه، والدعوة يعبر بها عن العبادة، قال تعالى﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ [ الجن18] ، فالجمهور على أنها فلا تعبدوا مع الله أحدًا، فيفسر الدعاء بالعبادة، وهذا يستلزم دعاء المسألة لأنه عبادة أيضًا، وهناك تعريف آخر للشرك وهو الأولى لأنه أقرب لما جاء في الكتاب والسنة، فالشرك: هو اتخاذ الند مع الله جل وعلا، قال تعالى﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً﴾ [ البقرة22]، وهذه الآية فيها النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله بأي وجه من الوجوه، وهذا هو حقيقة الشرك، وجاء في حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ  أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ».(البخاري(4477)، مسلم(86))، وقَالَ النَّبِيُّ : «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ».(البخاري(4497))، والشرك نوعان:
النوع الأول: الشرك الأكبر: وهو كل شرك أطلقه الشارع وكان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه.
النوع الثاني: الشرك الأصغر: كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر وجاء في النصوص تسميته شركاً.
* والفرق بين الشرك الأكبر و الشرك الأصغر:
1) الشرك الأكبر لا يغفر لصاحبه بالنص﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [ النساء : 48] ، وأما الشرك الأصغر فهو تحت المشيئة على الصحيح.
2) الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال لقوله تعالى﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾ [ الفرقان 23]، وقوله جل وعلا﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [ الزمر65]، وأما الشرك الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه فقط.
3) الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر لا يخلد صاحبه في النار، فهو كغيره من الذنوب.
* ( والدليل قوله تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً﴾ [النساء:36].): ﴿وَاعْبُدُوا﴾: أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وهذا خطاب موجه للمسلمين والكافرين، ﴿وَلاَ تُشرِكُوا﴾: لا الناهية، والنهي يقتضي التحريم، لأن العبادة لا تتم إلا باجتناب الشرك قليله وكثيره، ظاهره وخفيّه، لأنه اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة.

الأصل الأول
 
* فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟
فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدًا .
فإذا قيل لك:من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي ليس لي معبود سواه؛ والدليل قوله تعالى﴿الحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْن﴾ [الفاتحة:2].وكلُّ من سوى الله عالم، وأن واحد من ذلك العالم.
 
* ( فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة ): وهذا الابتداء من المصنف رحمه الله تعالى، لبيان المقصود من تأليف هذه الرسالة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذه المسألة بصيغة السؤال وذلك من أجل أن ينتبه الإنسان لها؛ لأنها مسألة عظيمة وأصول كبيرة» ، وقد أوردها المصنف بصيغة السؤال والجواب، على جهة التعليم والتيسير للعلم لأنه أدعى للفهم، وأقرب إلى التعليم، وأوقع في النفس، ولأجل أن ينتبه لها الإنسان، وقد ذكر أهل البيان أن الشيء إذا ذكر إجمالاً تشوقت النفس فتطلعت إلى معرفتها على جهة التفصيل.
* ( فإذا قيل ): قدره العلامة ابن القاسم رحمه الله: «فإذا سألك سائل»، أي سائل.
* ( معرفتها؟ فقل ): أي اعتقاد معانيهن، فيعتقد معنى هذه الأصول، ولا بد أن يُتْبِعَ ذلك بالعمل بمقتضى هذه الأصول، (فقل): جازمًا في جوابك واعتقادك.
* ( معرفة العبد ربه ): قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «يعني معرفة العبد معبوده؛ لأن الربوبية في هذا المقام يُراد بها العبودية، لأن الابتلاء للأنبياء والمرسلين لم يقع في معاني الربوبية، ألم ترَ أن الله جل وعلا قال﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ فهذه مقتضيات الربوبية ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس31]، المشركون في كل زمان لم يكونوا ينازعون في تَوَحُّدِ الله جل وعلا في ربوبيته، ولهذا فسر العلماء سؤال القبر من ربك؟ بمن معبودك؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية، وقد سئل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى عن الفرق بين الربوبية والألوهية في بعض النصوص -في أحد الأسئلة التي وجهت إليه- فكان من جوابه أن قال: هذه مسألة عظيمة، وذلك أن الربوبية إذا أُطلِقَت، أو إذا أفردت فإنه يدخل فيها الألوهية؛ لأن الربوبية تستلزم الألوهية، والألوهية تتضمن الربوبية، لأن الموحد لله جل وعلا في ألوهيته هو ضمنا مُقِر بأن الله جل وعلا هو واحد في ربوبيته، ومن أيقن أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته استلزم ذلك أن يكون مقرا بأن الله جل وعلا واحد في استحقاق العبادة، ولهذا تجد في القرآن أكثر الآيات فيها إلزام للمشركين بما أقروا به، ألا وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه، ألا وهو توحيد الإلهية، مثل قول الله جل وعلا في سورة الزمر﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾(الزمر38)، فقال بعدها ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾(الزمر38)� � فقوله﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ﴾الفاء هنا رتبت ما بعدها على ما قبلها؛ وما قبلها هو توحيد الربوبية وما بعدها هو توحيد الإلهية، وقال جل وعلا ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران80], فـ(أَرْبَابًا) أي معبودين وكذلك قوله تعالى﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[التوبة31]، أي معبودين لأن عدي ابن حاتم لما قال للنبي: إنا لم نعبدهم. ففهم معنى الربوبية في الآية بمعنى العبادة، وهذا هو الذي يفهمه من يعرف اللسان العربي، فقال النبي -كما هو معروف-: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه» قال: بلى. فقال: «فتلك عبادتهم»(الترمذي3095). إذن الربوبية تطلق ويراد منها العبودية في بعض المواضع، تارة بالاستلزام، وتارة بالقصد، وبعض علمائنا: قال إن لفظ الألوهية والربوبية يمكن أن يُدخَلَ في الألفاظ التي يقال إنها إذا اجتمعت تفرقت، وإذا تفرقت اجتمعت، وهذا وجيه».
* ( فإذا قيل لك: من ربك؟ ): الفاء في «فإذا» تسمى فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر.
* ( فقل: ربي الله الذي رباني ): معنى الرب في اللغة«لسان العرب»(1/399): « يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبر و المربي والقيم والمنعم ولا يطلق غير مضاف إلا على الله عز وجل وإذا أطلق على غيره أضيف فقيل رب كذا»، وكل هذه الألفاظ تدور بمعنى التربية، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « التربية: هي عبارة عن الرعاية التي يكون بها تقويم المربى، ويُشعر كلام المؤلف رحمه الله أن الرب مأخوذ من التربية، لأنه قال: «الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه».
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «لفظ الربوبية فيه معنى التربية, رباه تربية ومعنى التربية تدريج المربى في مصاعد الكمال، كل كمال بحسبه، وأعظم أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا الناس أن بعث لهم الرسل يعلمونهم، ويرشدونهم ما يقربهم إلى الله جل وعلا، وهذه هي أعظم نعمة، قال جل وعلا ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس58]، وهناك أنواع كثيرة من التربية؛ تربية الأجسام، تربية الغرائز، تربية الفكر، تربية العقل، كل هذا قد مَنَّ الله جل وعلا على ابن آدم به، وكذلك إذا نظرت إلى أوسع من ذلك من خلق الله جل وعلا الواسع، فتجد أن معاني الربوبية ـ في هذا المعنى الذي هو التربية ـ ظاهر جداً، والله جل وعلا أعلم بما يَصلح﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[القصص68]».
* ( بنعمه ): ظاهرة وباطنة، فالظاهرة التي تدرك بالحواس، والباطنة التي لا تدرك بالحواس، وهذه النعم تبدأ مع الإنسان في بطن أمه، نعمة الإيجاد، ونعمة التغذية، ولذلك جاء في الحديث أن الملك الذي يرسل إلى الجنين يؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب ( رزقه ) هذا ابتداء النعم وهو في بطن أمه ، إلى أن ينشأ ويتدرج في مراحل النمو، إلى أن يموت وهو في نعم الله جل وعلا يصبح ويمسي.
* ( وَهُوَ مَعْبُودِي ): قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « أي وهو الذي أعبده وأتذلل له خضوعاً ومحبة وتعظيماً ، أفعل ما يأمرني به، وأترك ما ينهاني عنه ، فليس لي أحد أعبده سوى الله عز وجل ، قال الله تبارك وتعالى﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء25)، وقال تعالى﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(البينة5)».
* ( لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ ): ليس نفي، وسواه إثبات، فجمع بين النفي والإثبات، وهما الركنان في شهادة التوحيد.
* ( والدليل قوله تعالى﴿الحَمْدُ للّهِ ٍ * رَبِّ الْعَالَمِيْن﴾[الفاتحة:2] ): قال ابن القيم رحمه الله «بدائع الفوائد»(2/325): « الحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه »، قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «(الْحَمْدُ): أي كل حمدٍ، لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ والحمد معناه الثناء بصفات الكمال، وهذا الحمد إنما هو لله، واللام هنا للاستحقاق أي مستحَقًّا لله جل وعلا، فكل أنواع الحمد لله، وجميع أنواع المحامد مستحقة لله»، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « العالم كل من سوى الله، وسمو عالماً لأنهم علم على خالقهم ومالكهم ومدبرهم، ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد»، وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «(الْعَالَمِينَ): جمع عالم، والعالم اسم لأجناس ما يُعلم، وهو كل ما سوى الله جل وعلا، كما قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وكل من سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم) فهناك عالم الإنسان، وعالم الطير، وعالم النبات، وعالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم السماوات، إلى آخره».
* ( وأن واحد من ذلك العالم ): أي من جملة ذلك العالم.
 
فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟
فقل: بآياته ومخلوقاته، ومن آياته: الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومن مخلوقاته: السماوات السبع، والأرضون السبع، ومن فيهن، وما بينهما؛ والدليل قوله تعالى﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت:37]، وقوله تعالى﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54].
 
* ( بم عرفت ربك؟ ): الباء في (بم) سببية أي: بم استدللت على معرفتك ربك ؟ لأن الله تعالى لا يُرى في الدنيا، فصار غيبًا، وإذا كان كذلك فما الذي يستدل به على وجوده وعلى أنه هو الخالق لهذا الكون المشاهَد بالبصر والْمُدْرَك بالسمع؟ لا بد من دليل وآية وبرهان وحجة تدل على ذلك الغيب جل وعلا، فالأدلة على وجود الرب جل وعلا: فطرية وعقلية ونقلية.
* (فقل: بآياته ومخلوقاته ): استدل المصنف بالدليل العقلي لكنه لم يمحضه بل عضده بدليل نقليّ فجمع بينهما، لأن الأدلة العقلية قد يفهم البعض أن مصدرها العقل فقط، وهذا ليس بصواب، فالأدلة العقلية مأخوذة من الوحيين، فكل مثل ضرب في القرآن فهو دليل عقليّ، وكل تشبيه في القرآن فهو دليل عقليّ، قال تعالى﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾[ فصلت 37]، فهذا دليل عقلي مصدره النقل، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « الآيات: جمع آية وهي العلامة على الشيء التي تدل عليه وتبينه، وآيات الله تعالى نوعان: كونية وشرعية، فالكونية هي المخلوقات، والشرعية هي الوحي الذي أنزله الله على رسله ، وعلى هذا يكون قول المؤلف رحمه الله «بآياته ومخلوقاته» من باب عطف الخاص على العام إذا فسرنا الآيات بأنها الآيات الكونية والشرعية، أو من باب عطف المباين المغاير إذا خصصنا الآيات بالآيات الشرعية»، وعطف الخاص على العام يكون للاهتمام، قال العلامة الشنقيطي في«مراقي السعود»: وما به قد خُوطِبَ النبي تعميمه في المذهب السَّنِيّ
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «فرق الشيخ رحمه الله بين الآيات والمخلوقات، مع أنه في القرآن ما يثبت أن السماوات والأرض من الآيات. فلما فرَّق؟ الجواب أن تفريق الشيخ رحمه الله تعالى بينهما دقيق جدا، وذلك أن الآيات جمع آية، والآية هي البينة الواضحة الدالة على المراد، كما قال تعالى﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الشعراء190] يعني دلالة بينة واضحة على المراد منها، وقال تعالى﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾[الحجر75] يعني لدلالات واضحات بينات على المراد منها، والليل والنهار والشمس والقمر وصفت بأنها آيات متغيرة متقلبة، تذهب وتجيء، أما السماء فالعبد يصبح ويراها، وكذلك الأرض، فإِلفُه للسماء وللأرض يحجب عنه كون هذه آيات، لكن الأشياء المتغيرة التي تذهب وتجيء أظهر في كونها آية، ولهذا طلب إبراهيم الخليل الاستدلال بالمتغيرات، فقال جل وعلا﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾[الأنعام75-76]، لأنه استدل بهذه الحركة على الحدوث، فاستدل بهذا التنقل على أنه آية لغيره، فلما رأى القمر بازغا -استدل بالقمر-، فلما رأى الشمس بازغة -استدل بالشمس- لأنها متغيرات، أما السماوات والأرض فهي آيات ودلالات ثابتة، وتلك متغيرات والتغير يثير السؤال، لم ذهب؟ ولم جاء؟ لم أتى الليل؟ ولم أتى النهار؟ لم زاد الليل؟ ولم نقص النهار؟ وهكذا فهي في الدلالة أكثر من دلالة المخلوقات مع أن في الجميع دلالة، لهذا قال الشيخ: (فإذا قيل لك بما عرفت ربك ؟ قل بآياته ومخلوقاته) فالآيات والمخلوقات تدل على معرفة الله والعلم بالله، لكن ما سمّاه آيات أخص مما سمّاه مخلوقات».
* ( ومن آياته ): من للتبعيض، ليست كل الآيات.
* (والدليل قوله تعالى﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت:37] ): خص السجود بالذكر لأنه عبارة عن نهاية التعظيم، فالغاية في التعظيم هو السجود.
* (وقوله تعالى﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعراف:54].):قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « وفيها من آيات الله:
أولاً: أن الله خلق هذه المخلوقات العظيمة في ستة أيام ولو شاء لخلقها بلحظة ولكنه ربط المسببات بأسبابها كما تقتضيه حكمته .
ثانياً: أنه أستوى على العرش أي علا عليه علواً خاصاً به كما يليق بجلاله وعظمته وهذا عنوان كمال الملك والسلطان.
ثالثاً: أنه يغشى الليل النهار أن يجعل الليل غشاء للنهار، أي غطاء له فهو كالثوب يسدل على ضوء النهار فيغطيه.
رابعاً: أنه جعل الشمس والقمر والنجوم مذللات بأمره جل سلطانه يأمرهن بما يشاء لمصلحة العباد .
خامساً: عموم ملكه وتمام سلطانه حيث كان له الخلق والأمر لا لغيره.
سادساً: عموم ربوبيته للعالمين كلهم»، ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾: أي كل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، أي سريعًا، ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾: أي مذللات جارية في مجاريها بتسخير الله جل وعلا لها، لا تتقدم ولا تتأخر، ﴿تَبَارَكَ﴾: تعالى وعظُم وكثر خيره وإحسانه جل وعلا.
 
والرب هو: المعبود؛ والدليل قوله تعالى﴿يَأيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا ربَّكُمُ الذَِّي خَلَقَكُم وَالذِّينَ مِن قَبلكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ (21) الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ فِرَاشًا وَالسَّمآءَ بِنآءً وَأنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَاَءً فَأخرَجَ بِهِ مِن الثَّمراتِ رِزقًا لّكُم فَلاَ تَجعَلُواْ لَلَّهِ أندَادًا وَأنتُم تَعَلُمونَ﴾ [البقرة:22،21]. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: ( الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة ).
 
* ( والرب هو: المعبود ): أي المستحق لأن يعبد دون ما سواه.
* (قوله تعالى﴿يَأيُّهَا النَّاسُ﴾): الناس لفظ عام يشمل المؤمن والكافر، ﴿اعبُدُوا ربَّكُمُ﴾: أي أطيعوا
ربكم بالإيمان ، وتذللوا له بالطاعة محبة وتعظيمًا، ﴿الذَِّي خَلَقَكُم﴾: أي أوجدكم من العدم ، ورباكم
بالنعم، ﴿وَالذِّّينَ مِن قَبلكُم﴾:أي وخلق الذين من قبلكم، وأوجدهم من العدم، ﴿ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}: أي من
أجل أن تحصلوا على التقوى، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «والتقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله
جل وعلا بإتباع أوامره واجتناب نواهيه»،﴿الّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾: أيها المخلوقون، ﴿الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾: أي
بساطًا مهيئًا تنتفعون بها من السير فيها والمكث عليها، ﴿وَالسَّمآءَ بِنآءً﴾: أي قبة مضروبة عليكم وسقفًا
محفوظًا، فالسماء بناء لأهل الأرض وهي سقف محفوظ كما قال الله تعالى﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء32]، ﴿وَأنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ﴾: أي السحاب، لأن كل ما علا في لسان
العرب يُسمى سماء، ﴿مَاَءً﴾: أي مطراً، ﴿فَأخرَجَ بِهِ﴾: الفاء للتعقيب، ﴿مِن الثَّمراتِ﴾: جمع ثمرة، وهي ما تخرجه الأرض من حبوب وخضار ونحوها، ﴿رِزقًا لّكُم﴾: أي عطاء لكم، ﴿فَلاَ تَجعَلُواْ﴾: الفاء للسببية وتعقيبية، ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لَلَّهِ أَنْدَادًا﴾: نهي بأن لا تتخذوا مع الله ندًّا تصرفون إليه شيئًا من العبادات، وهو الذي خلقكم، وجعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً، وأنزل من السماء ماء، فإن الذي خلق هذه المخلوقات، والذي فعل بكم هذه الأمور لمصالحكم العامة، هو المستحق للعبادة جل وعلا دون ما سواه، وفي النهي أيضاً قطع لأسباب الشرك كأنه قال فلا تشركوا، وتجعلون نظراء وأمثالاً تصرفون إليهم العبادة أو شيئًا منها، ، ﴿وَأَنْتُمْ تَعَلُمُونَ﴾: تعلمون أنها ليست مماثلة لله جل وعلا، وأنها لا تستحق العبادة، لأنهم يعترفون بأن الله هو الخالق﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[الزمر 38]، فاعترفوا بأن الله هو الخالق.
* قال ابن كثير رحمه الله: ( الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة ): استدل بتوحيد الربوبية على توحيد العبادة، وهذا أسلوب القرآن في تقرير توحيد العبادة، ( الْخَالِقُ ): أي الذي خلق هذه الأشياء والآيات السابقة من السماوات وما عُطِفَ عليها وأوجدها من العدم، على غير مثال سابق، هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه .
 
وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثلُ: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه: الدعاء، والخوف، والرجاء،
والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة،
والذبح، والنذر، وغيرُ ذلك من أنواعِ العبادةِ التي أمر الله بها، كلُّها لله تعالى؛ والدليل قوله تعالى﴿وَأنَّ المَسَاجِد لِلَّهِ فَلا تَدعُوا مَعَ اللَّهِ أحَداً﴾ [الجن:18].
فمن صرف منها شيئاً لغير الله، فهو مشرك كافر؛ والدليل قوله تعالى﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:117].
وفي الحديث: «الدعاء مخُّ العبادة»(الترمذي3371)، والدليل قوله تعالى﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60].
ودليل الخوفِ؛ قوله تعالى﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175 ].
ودليل الرجاء؛ قوله تعالى﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف:110].
ودليل التوكل؛ قوله تعالى﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23]، وقوله﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3].
ودليل الرغبة، والرهبة، والخشوع، قوله تعالى﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].
ودليل الخشية؛ قوله تعالى﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ [البقرة:150].
ودليل الإنابة؛ قوله تعالى﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر:45].
ودليل الاستعانة؛ قوله تعالى﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة]، وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله».
ودليل الاستعاذة؛ قوله تعالى﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق]، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس:1].
ودليل الاستغاثة؛ قوله تعالى﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال:9].
ودليل الذبح؛ قوله تعالى﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام:163]. ومن السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله».
ودليل النذر قوله تعالى﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ [الإنسان:7].
 
* ( وَأَنْوَاعُ ): جمع نوع، والمراد بالنوع هنا المثال أو الصنف .
* (مثلُ: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه): بدأ المصنف بذكر أصول العبادات والتي ترجع إليها الأنواع كلها، ولذلك فصل وقال: ( وَمِنْهُ ): من هنا للتبعيض، والضمير يعود على أنواع، فكان الأصل أن يقول: ومنها لأن أنواع مؤنث ووجه تأنيثه من جهتين:
أولاً: هو جمع، وكل جمع مؤنث، كما قال الزمخشري .
ثانياً: أن أنواعًا أضيفت إلى العبادة وهى مؤنث، فاكتسب التأنيث من المضاف إليه.
* (ومنه: الدعاء): يفسر الدعاء بدعاء المسألة والطلب،لأن الدعاء لو فسر بالعبادة، لن يدخل في أفراد العبادة، فكيف يكون العام المرادف للعام داخلاً تحته؟، إذاً قد يكون الدعاء أعم من العبادة باعتبار، وقد تكون العبادة أعم من الدعاء باعتبار آخر، إن فسرت العبادة بالمعنى المصدري والدعاء بمعنى السؤال والطلب صار الدعاء أخص والعبادة أعم، وإن فسرت العبادة بالمعنى الاسمي والدعاء بمعنييه الشرعي صار الدعاء أعم من العبادة.
* ( وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ ): كالصبر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والجهاد ونحو ذلك، كلها من أنواع العبادات التي يُنوى بها التقرب إلى الله جل وعلا.
* ({وَأنَّ المَسَاجِد لِلَّهِ فَلا تَدعُوا مَعَ اللَّهِ أحَداً} [الجن:18] ): هذه الآية عامة، لأنه لا يلزم أن يأتي كل نص في عبادة خاصة بأن صرفها لغير الله فهو شرك.
* (فمن صرف منها شيئاً لغير الله، فهو مشرك كافر): فَمَنْ شرطية، وهي من صيغ العموم، فتعم كل شخصٍ من الأشخاص سواء كان مسلمًا في الأصل، أو كافرًا، رجلاً أو امرأة، كبيرًا أو صغيرًا، عاقلاً أو مجنونًا فحكمه أنه مشرك كافر، لكن يُستثنى الصغير والمجنون لرفع القلم عنهما ، فمن صرف: أي توجه، ( مِنْهَا ): أي من أنواع العبادة شيئًا وإن قل، ولا يفرق فيها بين القليل والكثير، فكل عبادة إذا ثبتت لا يجوز صرفها لغير الله، قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «(من صرف) يعني من توجه بشيء من أنواع تلك العبادات لغير الله فهو مشرك كافر، يريد الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، والشرك حقيقته اتخاذ الند مع الله جل وعلا، وهو المذكور في قوله﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22] ».
* (والدليل قوله تعالى﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:117].): ﴿وَمَن يَدْعُ﴾: وَمَن شرطية فتعم كل الأشخاص، و يَدْعُ فعل مضارع في سياق الشرط فيعم،لأنه منسبك من مصدر نكرة ، والنكرة إذا وقعت في سياق الشرط تعم، فتعم الدعاء قل أو كثُر، ﴿إِلَهاً﴾: نكرة في سياق الشرط فتعم، أيًّا كان ذلك المدعو، ﴿لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾: البرهان في اللغة هو الحجة والدليل، وهي صفة كاشفة مبيِّنة للأمر وليست صفة مقيدة للاحتراز تُخرج ما فيه برهان، لأنه لا يمكن أن يكون هناك برهان على أن مع الله إلهًا آخر، ومعنى الآية ليس لذلك الإله الآخر الْمُتَّخَذ معبودًا مع الله ليس له برهان وحجة صحيحة، ﴿فَإِنَّمَا﴾: جواب الشرط، ﴿حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾: وهذا تهديد، ووعيد لكل من دعا غير الله بأن حسابه عند الله، وثمرة هذا الحساب نفي الفلاح ، والفلاح أجمع كلمة للخير في لسان العرب، فإذا نُفِيَ الفلاح من أصله ثبت الهلاك وأنه من أهل النار، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾: يُفْلِحُ نكرة في سياق النفي فيعم أدنى الفلاح، وسماهم الله كافرين لدعائهم مع الله غيره، فجمعوا بين الشرك والكفر، وفي هذا دليل على أن من صرف شيئًا من العبادة لغير الله فهو مشرك كافر.
* (وفي الحديث: «الدعاء مخُّ العبادة»(الترمذي3371)، والدليل قوله تعالى﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60].): وفي الحديث أل للعهد الذهني، أي حديث النبي ، مخُّ العبادة: أي لبها وخلاصتها وجوهرها، وجاء في حديث آخر«الْدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةِ»(أبو داود1479)، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾: وجه الدلالة من الآية صيغة الأمر في﴿ادْعُونِي﴾لأن كل أمرـ سوء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب ـ أمر الله به فهو عبادة، وإذا أثنى الله عليه أو على أهله فهو عبادة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾: سمى الدعاء عبادة، ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾: حقيرين ذليلين صاغرين، قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «والأدلة على هذه المسألة على نوعين:
النوع الأول: أن يُستدل بدليل يُثبِتُ كون تلك المسألة من العبادة, فإذا ثبت كونه من العبادة، أُستدل بالأدلة السابقة كقوله تعالى﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن18]، وقوله «الدعاء هو العبادة», «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة», ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾[غافر60]، ونحوها من الأدلة العامة؛ بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
النوع الثاني: خاص؛ وهو أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص، يُثبِتُ أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة»، ومسألة الحكم على من صرف الدعاء لغير الله على تفصيل:
1) إن كان يدعو ميتًا فهو شرك مطلقًا، لا يُفصل فيما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه.
2) وإن كان حيًّا، فإما أن يكون غائبًا، وإما أن يكون حاضرًا، فإن كان غائبًا يعتبر شركًا أكبر، وإن كان حاضرًا فيُفَصّل فيه بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فإن سُئل ما لا يقدر عليه، كأن يقول: يا فلان اشفِ مريضي، فهذا يعتبر شركًا أكبر ولو كان حيًّا حاضرًا، وإن كان فيما يقدر عليه فلا يكون شركاً.
* (ودليل الخوفِ؛ قوله تعالى﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175 ].): قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرراً أو أذى، والخوف ثلاثة أنواع:
النوع الأولى: «خوف طبيعي» كخوف الإنسان من السبع والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ (القصص18)، لكن إذا كان هذا الخوف كما ذكر الشيخ رحمه الله سبباً لترك واجب أو فعل محرم كان حراماً؛ لأن ما كان سبباً لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ودليل قوله تعالى﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ( آل عمران175)، والخوف من الله تعالى يكون محموداً ، ويكون غير محموداً .
فالمحمود: ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات، فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه.
وغير المحمود: ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: «خوف العبادة» أن يخاف أحداً يتعبد بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى، وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: «خوف السر» كأن يخاف صاحب القبر، أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة سر فهذا أيضاً ذكره العلماء من الشرك»، قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «وفيه ـ أي هذا الدليل ـ أن الخوف من غير الله منهي عنه، وأن الخوف من الله جل وعلا مأمور به، وما دام أن الله جل وعلا أمر بالخوف منه فإنه يصدق على الخوف تعريف العبادة؛ لأنه إذ أمر بالخوف منه فمعنى ذلك أن الخوف منه محبوب له، مرضي عنده، فيصدق عليه تعريف شيخ الإسلام للعبادة».
* (﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾): ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ﴾: أي لا تخافوا أولياء الشيطان، ﴿وَخَافُونِ﴾: أمر بالخوف منه، ثم أكده وبيّن حقيقته بأن علق عليه صحة الإيمان فقال تعالى ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: فإن وقع الخوف فقد سُلبتم الإيمان، لذلك هو شرط لصحة الإيمان .
* ( ودليل الرجاء؛ قوله تعالى﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف:110].): الرجاء في أصل اللغة: ضد اليأس، وهو الطمع أو انتظار الشيء المحبوب، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الرجاء طمع الإنسان في أمر قريب المنال، وقد يكون في بعيد المنال تنزيلاً له منزلة القريب».
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «الرجاء عبادة قلبية، حقيقتها الطمع بالحصول على شيء مرجو»، والرجاء نوعان:
1) رجاء عادة: ويُسمّى رجاء طَبيعِيًّا، مثاله: أرجو أن تحضر لأنه يمكنك أن تحضر، أرجوك أن تفعل، ويمكنك أن تفعل، فيصير بذلك رجاءً طبيعيًّا، وهو من الأمور الجلية الفطرية.
2) رجاء عبادة: وهو نوعان:
أ ـ رجاء محمود: لمن طَمِع في ثواب الله عز وجل مع العمل بطاعته، فيرجو رحمة الله ويعمل.
ب ـ ورجاء مذموم: وهذا الرجاء يكون فيه طمعًا ورجاء في رحمة الله تعالى، لكنه لم يقرن بالعمل الصالح وإنما بالتسويف والتمادي في الخطايا والتفريط، فلذلك سُمي رجاء مذموم.
* (﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف:110].): {فَمَن كَانَ يَرْجُو﴾: أي يرجو ثواب الله تبارك وتعالى ويخاف عقابه، ويأمل لقاءه ورؤيته، ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾: أمر بالعمل، ﴿عَمَلاً صَالِحاً﴾: قال ابن كثير(5/205): «ما كان موافقًا لشرع الله﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابُا على شريعة رسول الله »، فانتفاء الركن الأول وهو الإخلاص يوقع في الشرك، وانتفاء الركن الثاني وهو الصواب يوقع في البدعة، قال تعالى﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة 5]، وقال
:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا - ديننا - فهو رد»(مسلم1718)، أي مردود عليه، وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾: اللقاء فُسر بالملاقاة، وفُسر بالمعاينة، وفُسر بالرؤية؛ رؤية الله جل وعلا, ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾: لملاقاة الله جل وعلا والرجوع إليه، أو فمن كان يرجو رؤية ربه، لأن اللقاء يحتمل هذا وذاك وهما تفسيران مشهوران عن السلف».
* ( ودليل التوكل؛ قوله تعالى﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23]، وقوله﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3]. ): التوكل في اللغة: التفويض والاعتماد، وفي الشرع: الاعتماد على الله تعالى لجلب خير أو دفع شر، قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «التوكل من العبادات القلبية، وحقيقته أنه يجمع شيئين:
الأول: تفويض الأمر إلى الله جل وعلا. الثاني: عدم رؤية السبب بعد عمله.
والتفويض وعدم رؤية السبب شيئان قلبيان، فالعبد المؤمن إذا فعل السبب، وهو جزء بما تحصل به حقيقة التوكل، فإنه لا يلتفت لهذا السبب، لأنه يعلم أن هذا السبب لا يُحَصِّل المقصود، ولا يحصل المراد به وحده، وإنما قد يحصل المراد به وقد لا يحصل؛ لأن حصول المرادات يكون بأشياء:
1) منها السبب. 2) ومنها صلاحية المحل. 3) ومنها خلو الأمر من المضاد.
فثَم ثلاثة أشياء تحصل بها المرادات:
أول سبب: نعلم ِبمَا خلق الله جل وعلا خلقه عليه أن هذا السبب يُنتج المسبَّب؛ النتيجة.
الثاني: صلاحية المحل لقيام الأمر به؛ الأمر المراد.
الثالث: خلو الأمر أو المحل من المضاد له.
مثال: الدواء، فالنبي  أمر بالدواء فقال «تداووا عباد الله»(ابن ماجه3436)، فالمسلم الموحد يتناول الدواء باعتباره سببا للشفاء، لكنه ليس سببا أو ليس علة وحيدة، بل لا يحصل الشفاء بهذا وحده، وإنما لابد من أشياء أخر، منها أن يكون المحل الذي هو داخل الإنسان-باطن متناول الدواء- يكون صالحا لقبول ذلك الدواء، وهذا معنى قولي: أن يكون المحل صالحا، وأيضا من العلل التي يكمل بها المراد أن يكون السبب الذي عمل خاليا من المعارض له، فقد يتناول شيئاً وفي البدن ما يفسد ذلك الشيء، فلا يصل إلى المقصود، ومنها وهو الأعظم أن يأذن الله جل وعلا بأن يكون السبب مؤثرا منتجا للمسبّب، وهذا يعطيك أن فعل السبب ليس كافيا في حصول المراد،وقال علماؤنا -علماء التوحيد من أئمة السلف فمن بعدهم-: «الالتفات إلى الأسباب قدح في التوكل، الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد, ومحو الأسباب قدح في العقل, فإذا التفت القلب إلى السبب وأنه ينتج المسبب فهذا قدح في التوحيد»، ودليل التوكل قوله تعالى ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة23]، فأمر بالتوكل, وما دام أنه أمر به فهو عبادة؛ لأن العبادة ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطراد عرفي, وما دام أنه أمر به فهو راض له أن يُتوكل عليه, وهذا معناه كونه عبادة, ثم أيضا في هذا الدليل أنه جعل التوكل شرطَ الإيمان, فقال ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾فمعنى ذلك أنه لا يحصل الإيمان إلا بالتوكل على الله وحده، وأيضاً قدم الجارّ والمجرور فقال ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾، وتقديم ما حقه التأخير في علم المعاني يفيد الحصر والقصر, أو يفيد الاختصاص، وهنا يفيدهما؛ يفيد الاختصاص, ويفيد القصر والحصر, فمعنى هذه الآية بقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾يعني أحصروا توكلكم في الله, اقصروا توكلكم على الله إن كنتم مؤمنين, وخُصُّوا الله بتوكلكم إن كنتم مؤمنين».
فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « وأعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان وعلامات صدقه وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة ، أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفاً سرياً في الكون، ولا فر ق بين أن يكون نبياً، أو ولياً، أو طاغوتاً عدوا لله تعالى.
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه، فهذا نوع من الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه، أما لو أعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به، إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله.
الرابع: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل: بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة ، والإجماع فقد قال يعقوب لبنيه ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ (سورة يوسف87)، وَوَكَّل النبي  على الصدقة عمالاً وحفاظاً، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها وجِلالِها ، وأن ينحر ما بقى من المئة بعد أن نحر  بيده ثلاثاً وستين، وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة».
* ( ودليل الرغبة، والرهبة، والخشوع، قوله تعالى﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].):
الرغبة: لغة«المفردات في غريب القرآن(صـ198)»: «أصل الرغبة السعة في الشيء يقال رغب الشيء اتسع»، وشرعاً: قال أهل العلم: هي السؤال والطلب والابتهال والتضرع، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « هي محبة الوصول إلى الشيء المحبوب، والرهبة: هي الخوف المثمر للهرب من المخوف فهي خوف مقرون بعمل،والخشوع: هو الذل والتطامن لعظمة الله بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي». * (قوله تعالى﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].): لما ذكر سبحانه بعض الأنبياء والمرسلين أثنى عليهم جل وعلا بقوله﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ﴾وهذا مقام المدح والثناء والإطراء، فمدحهم الله جل وعلا وأثنى عليهم بالمسارعة في الخيرات، والخيرات جنس يعم كل خير قلبي أو لساني أو عملي﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا﴾ أي في ثوابنا ورحمتنا ﴿ وَرَهَبًا ﴾ أي من عقوبتنا،﴿ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ أي خاضعين متذللين ، ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ قدم ما حقه التأخير فأفاد القصر والحصر، أي وكانوا خاشعين لنا، أي ذليلين متذللين خاضعين لنا.
* ( ودليل الخشية؛ قوله تعالى﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ [البقرة:150].):
قال الزمخشري«المفردات في غريب القرآن(صـ149)»: «الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علمٍ بما يخشى منه ولهذا خص العلماء بها فقال﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾»، وقيل الخشية: هي الخوف المبني على العلم بعظمة من يخشاه وكمال سلطانه لقوله تعالى﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ أي العلماء بعظمته وكماله سلطانه، فهي أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما - أي بين الخوف والخشية – بالمثال: فإذا خِفْتَ من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا ؟ فهنا خوف مع جهل فهذا هو الخوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية، ويقال في أقسام الخشية ما قيل في أقسام الخوف.
* ( ودليل الإنابة؛ قوله تعالى﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر:45].):
قال في«المفردات في غريب القرآن(صـ508)»: «النوب رجوع الشيء مرة بعدأخرى يقال ناب نوبا ونوبة وسمي النحل نوبا لرجوعها إلى مقارها ونابته نائبة أي حادثة من شأنها أن تنوب دائبا والإنابة إلى الله تعالى الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل قال تعالى ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾،﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾،﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾،﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾، وفلان ينتاب فلانا أي يقصده مرة بعد أخرى»، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « الإنابة: هي الرجوع إلى الله بالقيام بطاعته واجتناب معصيته وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه ولا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والمراد بقوله تعالى﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾الإسلام الشرعي وهو الاستسلام لأحكام الله الشرعية، وذلك أن الإسلام لله تعالى نوعان:
الأول: إسلام كوني: وهو الاستسلام لحكمه الكوني وهذا عام لكل من في السماوات والأرض من مؤمن وكافر، وبر وفاجر لا يمكن لأحد أن يستكبر عنه ودليله قوله تعالى﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران83)
الثاني: إسلام شرعي: وهو الاستسلام لحكمه الشرعي وهذا خاص بمن قام بطاعته من الرسل وإتباعهم بإحسان، ودليله في القرآن كثير ومنه هذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله».
* فائدة: قال ابن القيم رحمه الله«مدارج السالكين(1/435)»: « الإنابة إنابتان : إنابة لربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر قال الله تعالى﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ (الروم33)، فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر كما قال تعالى في حق هؤلاء﴿ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ (الروم33)،فهذا حالهم بعد إنابتهم والإنابة الثانية إنابة أوليائه وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة وهي تتضمن أربعة أمور: محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم و المنيب إلى الله : المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه، قال صاحب المنازل : الإنابة في اللغة : الرجوع وهي ههنا الرجوع إلى الحق وهى ثلاثة أشياء : الرجوع إلى الحق إصلاحا كما رجع إليه اعتذارا والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدا والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك : رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته كما قال﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ (الفرقان70)
، وقال﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾ (البقرة160) ، فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح : ترك لما يكره وفعل لما يحب تخل عن معصيته وتحل بطاعته وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيا».
* ( ودليل الاستعانة؛ قوله تعالى﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة]، وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله».):
الاستعانة: السين للطلب، مثل استغفر أي طلب المغفرة، واستنصر أي طلب النصر، ومعناها طلب العون من الله جل وعلا، وهي تجمع أصلين:
1) الثقة بالله تعالى. 2) والاعتماد عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: « الإستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الإستعانة بالله: وهي الإستعانة المتضمنة لكمال الذل من العبد لربه ، وتفويض الأمر إليه، واعتقاد كفايته وهذه لا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول﴿إِيَّاكَ﴾، وقاعدة اللغة التي نزل بها القرآن: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى شركاً مخرجاً عن الملة.
الثاني: الإستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه: فهذه على حسب المستعان عليه فإن كانت على بر فهي جائزة للمستعين مشروعة للمعين لقوله تعالى﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة2)، وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير، ومن ثم تكون في حقه مشروعة لقوله تعالى﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ( البقرة195).
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر: فهذه لغو لا طائل تحتها، مثل أن يستعين بشخص ضعيف على حمل شيء ثقيل.
الرابع: الإستعانة بالأموات مطلقاً أو بالأحياء على أمر الغائب لا يقدرون على مباشرته: فهذا شرك لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفيا في الكون.
الخامس: الإستعانة بالأعمال والأحوال المحبوبة إلى الله تعالى: وهذه مشروعة بأمر الله تعالى في قوله﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ (البقرة153)».
* ( قوله تعالى﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة] ): قدم العبادة لأنها أعظمُ شأنًا، وأجلُّ خطرًا، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: فيه تبرؤ من الشرك، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: فيه تبرؤ من الحول والقوة، فلولا الله عز وجل أن مكن وأقدر الإنسان المسلم وقطع الأسباب المثبطة والعوائق، لما استطاع أن يعبد الله عز وجل، فلابد من معين يعين على فعل هذه العبادة، وهذا معنى﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
* ( وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله».): أي إذا كنت متوجهًا بالاستعانة فلا تستعن إلا بالله تعالى، فاستعن: أمر والأمر يقتضي الوجوب، وجاء في جواب الشرط، وهذا مسلك من مسالك الشرط عند أهل اللغة﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[ النحل98]، أي إذا انتهيت من القرآن قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هذا ظاهره، لكن يؤول على أنه إذا أردت القراءة ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾أي إذا أردت وعزمت وقصدت إلى قراءة القرآن قبل أن تشرع فاستعذ بالله.
* ( ودليل الاستعاذة؛ قوله تعالى﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق]، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس:1].):
الاستعاذة: السين للطلب، طلب العوذ مما فيه شرّ، فالعياذ لدفع المكروه، واللياذ لطلب المحبوب، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الاستعاذة: طلب الإعاذة، والإعاذة الحماية من مكروه فالمستعيذ محتمٍ بمن استعاذ به، ومعتصم به، والاستعاذة أنواع:
الأول: الاستعاذة بالله تعالى: وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه، والاعتصام به، واعتقاد كفايته، وتمام حمايته من كل شيء حاضر أو مستقبل، صغير أو كبير، بشر أو غير بشر ودليلها قوله تعالى﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾إلى آخر السورة وقوله تعالى﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾إلى آخر السورة.
الثاني: الاستعاذة بصفة من صفاته: ككلامه وعظمته وعزته ونحو ذلك، ودليل ذلك قوله : «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»(مسلم2708)، وقوله : «أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي»(أبو داود5074)، وقوله: في دعاء الألم «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»(مسلم2202)، وقوله: « أعوذ برضاك من سخطك»(مسلم486)، وقوله  حين نزل قوله تعالى﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ (الأنعام65)،فقال:«أعوذ بوجهك»(البخاري7313).
الثالث: الاستعاذة بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ: فهذا شرك ومنه قوله تعالى ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ (الجن6).
الرابع: الاستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر أو الأماكن أو غيرها: فهذا جائز ودليله قوله  في ذكر الفتن : «من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذبه»(البخاري3601)، وقد بين هذا الملجأ والمعاذ بقوله: «فمن كان له إبل فليلحق بإبله»(مسلم2887)، وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي  قال:«يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث»(مسلم1689)الحديث، ولكن إن استعاذ من شر ظالم وجب إيواؤه وإعاذته بقدر الإمكان ، وإن استعاذ ليتوصل إلى فعل محظور أو الهرب من واجب حرم إيواؤه».
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «الاستعاذة: هي طلب العوذ, وأعوذ: معناها ألتجئُ وأعتصمُ وأتحرز, تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, معناها ألتجئ وأعتصم وأتحرز بالله من شر الشيطان الرجيم, فهي من حيث كونها طلب ظاهرة, ومن حيث كونها فيها الاعتصام والالتجاء والتّحرُّز صارت عبادة قلبية, ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن الاستعاذة عبادة قلبية،وطلب العوذ يكون باللسان, بقول أحد لآخر: أعوذ بك, أعذني ونحو ذلك، ولكنها تقوم بالقلب؛ يعني يقوم بالقلب الاعتصام والالتجاء والتحرز بهذا المطلوب منه العوذ, فإذا قام بالقلب هذه الأشياء وهذه الأمور صار مستعيذا، ولو لم يُفصح لسانه بطلب العوذ, يعني أنها عبادة قلبية, لأن حقيقتها طلب العوذ, فإذا قام بالقلب اعتصامه بالله احترازه وتحرُّزُه بالله, التجاءه إلى الله من شر من فيه شر, صار ذلك استعاذة، قد يُفصح اللسان عنها, يطلب اللهم أعذني من مُضِلاَّت الفتن, بقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أعوذ برب الفلق ونحو ذلك, أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يعني ألتجئ وأعتصم وأتحرز بكلمات الله الكونية التامة التي لا يلحقها نقص من شر كل من فيه شر, مما خلقه الله جل وعلا ونحو ذلك، لأجل هذا المعنى قال جمع من أهل العلم: إنه لا يجوز أن يقول قائل أعوذ بالله ثُم بك، وذلك لأن العوذ عبادة قلبية, وهذا هو الصحيح, فإن العوذ إذا قيل أعوذ بالله ثم بك, الاستعاذة عمل قلبي بحت, لهذا لا يصلح أن يتعلق بغير الله جل وعلا، وقال آخرون من أهل العلم: الاستعاذة طلب للَّجَئ والاحتراز والاعتصام, وقد يكون المطلوب منه يمكن ويملك أن يعطي طالب الاستعاذة ما يطلبه, وأن يقيه شرا, كأن: يأتي واحد من الناس إلى قوي من الناس إلى كبير, ملك, أو أمير أو رئيس قبيلة أو نحو ذلك, فيقول له أعوذ بك، أو أعوذ بالله ثم بك من شر هذا الذي أتاني؛ فيقولون هذا يمكن أن يقيه شراً، وأن يمنعه ممن يريد به سوءا, فيجوز أن يقول أعوذ بالله ثم بك، ولكن قَول أعوذ بك, هذا أبعد في الإجازة، من قول أعوذ بالله ثم بك, ولكن الأظهر أن العوذ عبادة قلبية, وأنها إنما تكون بالله جل وعلا».
* ( ودليل الاستغاثة؛ قوله تعالى﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال:9].):
الاستغاثة: السين للطلب أي طلب الغوث، وهو الإنقاذ من الشدة والضيق، ولذلك يقال غياث المستغيثين أي المدرك لعباده في الضيق ونحوه، فالاستعاذة طلب دفع: أي طلب دفع وقوع الشر قبل نزوله، والاستغاثة طلب رفع: أي طلب رفع هذا بعد نزوله،قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الاستغاثة: هي طلب الغوث وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك، وهي أقسام:
الأول: الاستغاثة بالله عز وجل: وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل وأتباعهم ، ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، وكان ذلك في غزوة بدر حين نظر النبي  إلى المشركين في ألف رجل وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فدخل العريش يناشد ربه عز وجل رافعاً يديه مستقبل القبلة يقول: « اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة الإسلام لا تعبد في الأرض»(مسلم1763)، وما زال يستغيث بربه رافعاً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر رضي الله عنه رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك وعدك فأنزل الله هذه الآية.
الثاني: الاستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة: فهذا شرك ؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفياً في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية قال الله تعالى﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (النمل62).
الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة: فهذا جائز كالاستعانة بهم قال الله تعالى في قصة موسى﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ (القصص15).
الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية: مثل أن يستغيث الغريق برجل مشلول فهذا لغو وسخرية بمن استغاث به فيمنع منه لهذه العله، ولعلة أخرى وهي الغريق ربما أغتر بذلك غيره فتوهم أن لهذا المشلول قوة خفية ينقذ بها من الشدة».
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «الاستغاثة: طلب الغوث, والغوث يُفسر بأنه الإغاثة, المدد، النصرة ونحو ذلك, والاستغاثة عبادة؛ ووجه كونها عبادة أن الله جل وعلا قال﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ووجه الاستدلال أنه أتى بها في معرض الثناء عليهم, وأنه رتّب عليها الإجابة, وما دام الله جل وعلا رتّب على استغاثتهم به إجابته جل وعلا دل على أنه يحبها, وقد رضيها منهم, فنتج أنها من العبادة، والاستغاثة عمل ظاهر, ولهذا يجوز أن يستغيث المرء بمخلوق, لكن بشروط, وهي أن يكون هذا المطلوب منه الغوث, أن يكون حيا، حاضرا، قادرا، سامعاً, فإذا لم يكن حيا كان ميتا صارت الاستغاثة بهذا الميت كفرا، ﴿إِذْ﴾: هنا بمعنى حين﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾: أي حين﴿تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾».
* ( ودليل الذبح؛ قوله تعالى﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام:163]. ومن السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله».):
الذبح لغة«المفردات في غريب القرآن(صـ177)»: الشقّ، وأما ذبح العبادة: هو إراقة الدماء على وجه التقرب والتعظيم، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الذبح: إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ويقع على وجوه:
الأول: أن يقع عبادة بأن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه فهذا لا يكون إلا لله تعالى على الوجه الذي شرعه الله تعالى، وصرفه لغير الله شرك أكبر ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله وهو قوله تعالى﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ﴾.
الثاني: أن يقع إكراماً لضيف أو وليمة لعرس أو نحو ذلك، فهذا مأمور به إما وجوباً أو استحباباً لقوله : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (البخاري6018)، وقوله  لعبد الرحمن بن عوف «أو لم ولو بشاة»(البخاري5155).
الثالث: أن يقع على وجه التمتع بالأكل، أو الاتجار به ونحو ذلك، فهذا من قسم المباح فالأصل فيه الإباحة، لقوله تعالى﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ (يس71،72)، وقد يكون مطلوباً أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة له».
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: « الذبح عبادة ظاهرة يتبعها أو يكون معها عبادة باطنة قلبية، فمن ذبح لغير الله وقع في شرك ظاهر؛ لأن هذه عبادة فصرفها لغير الله، وكذلك قلبه تعلق بغير الله، فصار شركه من جهتين، قال العلماء إن العبد حال الذبح يجتمع في قلبه أنواع من العبوديات: منها الذل لربه جل وعلا، والتعظيم لله جل وعلا، ورجاء ما عند الله حال الذبح، ومنها طلب البركة؛ لأنه ما ذبح إلا لله».
* ( ودليل النذر قوله تعالى﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ [الإنسان:7].):
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «ودليل كون النذر من العبادة قوله تعالى﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾، ووجه الدلالة من الآية أن الله أثنى عليهم لإيفائهم النذر وهذا يدل على أن الله يحب ذلك، وكل محبوب لله من الأعمال فهو عبادة، ويؤيد ذلك قوله﴿وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾».
فائدة: قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: «النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئا لم يجب عليه، وتارة يكون النذر مطلقا، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد، والنذر المطلق غير مكروه، والنذر المقيد مكروه، لهذا استشكل جمع من أهل العلم كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه، والنبي  يقول في النذر «إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل»(مسلم1639)، يقولون: إذا كان مكروها كيف يكون عبادة؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا، والنذر يكون مكروها كما دل عليه هذا الحديث، فكيف إذا كان مكروها يكون عبادة؟ وهذا الاستشكال منهم غير وارد أصلا؛ لأن النذر ينقسم إلى قسمين: نذر مطلق، ونذر مقيد.
النذر المطلق: لا يكون عن مقابلة، وهذا غير مكروه، أن يوجب على نفسه عبادة لله جل وعلا بدون مقابلة، مثلا يقول قائل: لله عليَّ نذر أن أصلّي الليلة عشرة ركعات طويلات، بدون مقابلة، هذا إيجاب المرء على نفسه عبادة لم تجب عليه دون أن يقابلها شيء، هذا النوع مطلق، وهو محمود.
النوع الثاني المكروه: وهو ما كان عن مقابلة، كأن يقول قائل مثلا: إن شفى الله جل وعلا مريضي صُمْتُ يوما، إن نجحت في الاختبار صليت ركعتين، فهذا مشروط يوجب عبادة على نفسه، مشروطة بشيء يحصل له قدرا، فمن الذي يحصل الشيء ويجعله كائنا؟ هو الله جل وعلا، فكأنه قال إن أعطيتني هذه الزوجة، وإن يسرت لي الزواج بها، صليت لك ركعتين أو تصدقت بكذا، وهذا كما قال النبي :«إنما يُستخرج به من البخيل»، لأن المؤمن المقبل على ربه ما يعبد الله جل وعلا بالمقايضة، يعبد الله جل وعلا ويتقرب إليه لأن الله يستحق ذلك منه، فهذا النوع مكروه، والوفاء بالنذر في كلا الأمرين واجب كما قال النبي : «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»(البخاري6696)، فتحصل عندنا أن النذر في أربعة أشياء: نذر محمود ولا نقول نذر مشروع فيفهم أحد أنه واجب أو مستحب, نقول محمود، غير مكروه في الشرع، محمود وهو المطلق الذي ما فيه مقايضة ولا مقابلة،النوع الثاني مكروه وهو الذي يكون عن مقابلة, الوفاء بالأول بنذر التبرّر والطاعة واجب, الوفاء بالثاني حتى ولو كان مكروها واجب، وهو الذي أثنى الله جل وعلا على أهله في الحالين بقوله﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾لأنه أوجب على نفسه، فلما كان واجبا صار الوفاء به واجبا، فامتثل للوجوب الذي أوجبه على نفسه لأنه يخشى عقابه، فتحصّل من هذه الأربع منها اثنتان واجبتان وهما الوفاء، وواحد محمود، وواحد مكروه، ولهذا صار غالب الحال-إذ كان عبادة- هو الحال التي أنه محمود فيها أو واجب، وبهذا صار النذر عبادة من العبادات التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، إلا في حال واحدة وهي حال نذر المقابلة».