المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأسئلة الملحة .. والأجوبة المراوغة



أهــل الحـديث
18-11-2012, 02:40 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


من أقوى ما يساعد على وضوح الأفكار وجلاء المفاهيم صياغة الأسئلة المعبرة عنها بصورة دقيقة , فهي من أشد ما يعين على تحرير مواضع البحث ويساعد على ضبط مسارات الحوار , ومحاكمة الأقوال والأفكار .

ومتى ما صيغت الأسئلة بصورة خاطئة أو غير دقيقة , فإن ذلك مؤشر خطير على أن الأجوبة المطروحة عنها ستكون بعيدة عن محل الإشكال , وذاهبة في مجالات أخرى مختلفة عن موطن الاستفهام .

وفي أحيان أخرى تكون صياغة الأسئلة في غاية الوضوح والجلاء , ولكن الأجوبة المقدمة عنها تنحرف انحرافا كبيرا عن المعنى , إما لعدم تصور معنى السؤال من قِبَل المجيب , أو لفقدانه الجواب المقنع والدليل المؤيد , فيتخذ الحيدة عن الجواب والولوج في أبواب أخرى وسيلة لتبرير موقفه .

وكلا الحالين – السؤال الخاطئ والجواب المراوغ – أدخلا الفكر في حالات من التشتت والاضطراب وعدم وضوح في الرؤية والأفكار , وأصيب الفكر جراءها بالدخول في حالة من الصراعات الفكرية الطويلة التي لا تكاد تنتهي .

والمتابع لكثير من الحوارات المرئية أو المقروءة حول عدد من القضايا الشائكة والمطروقة بكثرة في واقعنا يجد ذلك الاضطراب باديا للعيان بصورة واضحة جدا .
وسأوضح الصورة في هذه المقالة بمثالين من الأسئلة , وهما من أكثر الأسئلة الملحة في واقعنا , التي مورس فيه البحث المراوغة في الجواب عليها بشكل غريب جدا , وكانت هذه المراوغة من أسباب كثرة الجدل حولها واضطراب الرؤية لدى عدد من المتابعين لما طرح عنها

السؤال الأول : ما حكم طرح الشريعة الإسلامية للتصويت ؟
وتلاحظ أخي القارئ أن هذا السؤال متوجه بصورة مباشرة جدا إلى البحث عن الحكم الشرعي لطرح الشريعة للتصويت والاقتراع , والجواب المطابق عليه يكون بذكر الأحكام الشرعية المعروفة : إما الإباحة أو الوجوب أو التحريم .

وعادة ما يطرح هذا السؤال من قبل المعترضين على النظام الديمقراطي , فهم يرون أن جوهر النظام الديمقراطي يستلزم بالضرورة إنزال الشريعة للتصويت , وهو أمر يرون أنه محرم في الشريعة, ولديهم أدلة كثيرة على ذلك .
ومن تلك الأدلة : الأول : إجماع العلماء على أن الشورى لا تكون في الأمور المنصوص عليها , وإنما فيما لا نص فيه , والثاني : قول الحباب بن المنذر حين أراد أن يشير على النبي صلى الله عليه وسلم برأي في غزوة بدر حيث قال :"يا رسول الله أريت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟!", فهذا التعامل يدل على أن الصحابة كانوا مدركين بأن ما جاء فيه النص من الله ليس فيه إلا الامتثال والتنفيذ , وهو غير قابل للأخذ والحوار والاستشارة .
ولكن الغريب حقا أن الجواب المعتمد على هذا السؤال لدى كثير من المتبنين للدعوة إلى النظام الديمقراطي هو : : أن الشعب المسلم لن يختار إلا الإسلام , فلا خوف على الشريعة من طرحها للتصويت .
وهذا الجواب لقي انتشارا كبيرا في الأوساط الفكرية , ويبدو في ظاهره مقنعا للكثيرين , ولكننا عند التأمل نجده خارجا عن محل البحث , ونكشف أنه جواب على سؤال آخر مختلف تمام الاختلاف عن قضيتنا , وذلك أن عندنا سؤالين : الأول : ما حكم طرح الشريعة للتصويت والاستفتاء؟

والثاني : ماذا سيختار الشعب المسلم لو طرحت الشريعة للتصويت ؟!

السؤال الأول استفهام عن حكم شرعي يجاب عليه إما بالإباحة أو الوجوب أو التحريم , بناء ً على أدلة الشريعة ومقتضياته , ولكن الغريب حقا أنه عادة ما يجاب عليه بجواب السؤال الثاني , فيقال : إن الشعب المسلم لن يختار إلا الشريعة ! وهذا قفز على السؤال الأول , وهروب من محل البحث والنقاش , وتغافل عن محل الإشكال .
فمن يطرح ذلك السؤال لا يريد أن يناقش في الموقف الذي سيتخذه الشعب المسلم من الشريعة , وإنما يريد أن يعترض على مبدأ طرح الشريعة نفسها للتصويت وإخضاع شرعية تطبيقها في الواقع لصوت الأغلبية , وهو معنى آخر متخلف , وله أدلة شرعية عديدة .
وكان المتابعون ينتظرون من المتبني للدعوة إلى النظام الديمقراطي أن يجيب جوابا صريحا مطابقا للمعنى المطلوب في السؤال , ثم يقدم أدلته الشرعية ويجيب على الأدلة المعارضة لقوله , ولكن العادة الغالبة أو الكلية أن ذلك لا يحصل , وإنما يقال : إن الشعب المسلم لن يختار إلا الشريعة فلا خوف عليها!!
السؤال الثاني : ما حقيقة التصويت والاستفتاء على الشريعة , وماذا يعني إنزال الشريعة لصناديق الاختراع ؟!
وفي سياق الجواب على هذا السؤال حاول كثير من المتبنين للدعوة إلى النظام الديمقراطي التحسين من صورة الاستفتاء , والقول بأنه لا يقتضي التخيير ولا التعليق, وإنما هو مجرد استبيان لمعرفة إرادة الأمة والكشف عن رغبتها , وليس هو لطرح تحكيم الشريعة لاختيار الناس وإرادتهم , فغاية ما في الاستفتاء إتاحة الفرصة للناس ليعبروا تعبيراً حراً عما في نفوسهم وعما في عقولهم سواء سمي ديمقراطية أو سمي بأي اسم آخر إنما يكشف لنا الحقيقة ويتيح لنا معرفة الحقيقة فهل هناك أحد ضد كشف الحقيقة وضد معرفة الحقيقة.
ولكن هذا التبرير غير متوافق مع الواقع ؛ لأن المطالبين بإخضاع الشريعة للتصويت لا يقصدون به إظهار حقيقة الأمر فقط , ولا يقصدون به إتاحة الفرصة للناس ليعبروا عن إرادتهم فحسب , ولو كان هذا هو الهدف لكانت هناك أكثر من طريقة للوصول إليه , وإنما يبحثون عن الشرط الذي يعطي الشرعية لتطبيق الشريعة , ولو لم يتحقق ذلك الشرط وهو الحصول على الأغلبية لكان تطبيق الشرعية غير مباح .
ومما يؤكد ذلك : أنه لو طُبقت الشريعة بغير استفتاء لكان ذلك فعلا محرما وممنوعا ومخالفا للنظام الإسلامي في الحكم , فهذا يدل على أن حقيقة موقفهم هو تعليق لتطبيق الشريعة وتقييد لها حتى يتوفر الشرط , فإن لم يتوفر فإنها لا تطبق , فالتصويت لديهم ليس مجرد استبيان لكشف الحقيقة , وإنما هو بحث عن الشروط التي يرونها أنها مصححة لتطبيق الشريعة في الواقع .
ثم إن نتائج الاستفتاء عندهم ليست مجرد معلومة كاشفة , وإنما هي ملزمة , وعدم الأخذ بها قبيح ومخالف للشريعة في تصورهم .
ومن خلال هذين السؤالين والأجوبة المراوغة التي قدمت في الجواب عنها نقف على مقدار الأثر العميق الذي تحدثه مثل تلك العمليات الانتقالية التي تخرج عن محل البحث وتنقل ذهن المتابع إلى قضايا آخر ليس لها تعلق بمحل البحث والحوار , وتدخله في مسارات لا تقدم له نفعا في تحرير أفكاره ولا في ضبط تصوراته .
ونحن في حاجة ماسة إلى تعلم المهارات التي تساعدنا على حسن صياغة الأسئلة المعبرة بدقة عن محل الإشكالات المعرفية لدينا , وتعيننا على تكوين العبارات لمباشرتها في الدلالة على المعنى المطلوب من السؤال , ونحن في حاجة ماسة أيضا إلى تعلم المهارات التي تساعدنا على تقديم الأجوبة المطابقة للمعنى المطلوب من السؤال , وعلى اكتشاف المراوغات التي قد يستعملها البعض في الهروب من الجواب المباشر أو القفز على المعنى الذي يمثل محلا للإشكال والحوار .

سلطان بن عبدالرحمن العميري