المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة ( عمّي أبو الخوازيق )



أهــل الحـديث
17-11-2012, 10:51 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



قصة ( عمّي أبو الخوازيق )



https://fbcdn-sphotos-f-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash3/550205_438998176156720_1924861703_n.jpg


ملاحظة :
* لا يُهولنّك أخي القارئ الكريم طولُ المقال ، فإنّ المرءَ تنزغُه أحيانا الكتابة ، وتحولُ بينه وبين القراءة ، فيبذل جهْدَه ليقرأ وأنى له إذا تعنّتَ له الفكرُ المُبين لييبذّه على عكسِ القراءة؛ البيان. وإن هذا كلّه لاختصارٌ من اختصارٍ من اختصار ، والأمرُ يطولُ جدّا لو طار طائر الفكرُ ثمّ حَطّ ، ثُمْ جرى بنا القلم فخطّ .. ولكِنْ هذا جُهْدُ المُقلّ المُقتصِد ، واللهُ من وراءِ القصد ...
* الصورة لمسجد الجامعة ، وما لها دخل بمضمون ما في القصّة ..


(عمّي أبو الخوازيق !!)


عمّي الشيخ "مالك" (أبو عليّ) ، شيخٌ جليلٌ بحارتنا ذو وقار وسمْتٍ عجيبين ، كنْتُ ألمحُه دائمًا متخشّعًا صامتًا هادئَ البال، ناظرًا أمامَه لا غير ، فإذا تحرّك تحرّكَ جميعًا لا يلوي على شيءٍ عَن يمينِه أو يسارِه، ذو لحيةٍ بقدر قبضتِه سوداءَ مُفعَمةٍ ببيضِ الشيبِ ، وطالما كنتُ أرمقُه أتتبّعُه بعينيّ الاثنتين علَّ نظرتي تُوحي إليه أنّي بحاجةٍ إلى التفاتةٍ منه ، فقط أريد أن يُعبِّرَني ، يُشيح بوجهِهْ ، ولا فائدة!

صدّقوني ليس من طبعي أن أهتَمّ بأحد ٍاهتمامي بعمّي (أبي عليّ) هذا، على أنّي يُعجبُني الإمام بسكوتِه وهدوئِه ، ولكنّه كان ينافرُ أبا عليّ كما الجميع ينافره ، ولكِنْ مَا لي سَمٌّ ولا حَمٌّ غيرُ الشيخ مالك من بين المُصلّين معَ أنّ أكثرهم شباب ، وما ذلك إلا لأنّهم يُسمُّونه ( أبا الخوازيقَ ) ، فعلامَ سُمّي به ؟ ولِمهْ ؟ كان سُؤالا قويا يُراودني دائمًا ! يدفعُني إلى مُسارقته النظراتِ كالأبله !

العجيبُ - اليومَ - أنّه التفَتَ إليّ بعد الصلاةِ الوُسطى صلاةِ العصر إذ كنتُ عن يمينِه ، وحرّكَ حاجبيْهِ كالمُستغربِ من بلَهي المُعتاد ، ثمّ كأنَّه أومأ إليَّ تحديقُه في وجهي هُنيهةً أنّه يكنُّ بصدرِه ما يقولُه لي ، لعلّ الوهْمَ وزيادة الاهتمام خيَّلا لي ذلك، فإنّ طبْعَ المرءُ يسبِقُ إلى ما يميل إليه عقلُه ، حتّى ترى العاشِقَ يفسِّر النظرةَ الشعواء قصةً وأسطورةً ، هي في الحقيقة بعيدةٌ عن الواقع المُشاهَد ، قريبةٌ إلى الواقعِ من الطيّارة ، أمعَن في وجهي لُحيظات ، ثمّ ذهبَ ببصرِه إلى موضعِ سجودِه، وأطالَ فيه ناظرًا شزرًا ، كالّذي يتحفّظُ على هيبتِه، بإيجازِ نظرتِه ، وقال لي بعدَما سلَّمَ : كيفَ حالُك يا إبني محمود ؟ . اهـ

استطرْتُ فرحًا ، وكدْتُ أقولُ له لوهلةٍ : أهاه ، فعلْتَها أخيرًا عمّاه ؟!
لكنّي تماسكْتُ كأنّي أكاتِمُ نفسي دهشةَ الفرحة ، وفرحة الدهشة ، ولا فرْقَ بيني وبيني متماسكًا ومفروطًا !

ولأنّ المظنّةَ بالحريصِ على أُبَّهتِه وفخامتِه أمامَ الناس، أن تكونَ هِجِّيراه استقصاءَها فيهم ..
اختصرْتُ المُطوَّلاتِ ، لئلّا تزولَ هيبَتي أيضًا عندَه ..
فقلتُ : تمام يا عمِّ أبا عليّ ، الحمدُ لله .. اهـ

ثمّ صَمَتَ ، فلمّا أنْ صمَتْ خيّمَ على أسارير وجهِه سحابٌ قاتِمٌ يقضُّ مضجعَ الهانئ، ويُحزنُ العروسَ ليلة زواجه ، وافتَرَّ عن عينيه أسىً مُؤرِّق، وشجَنٌ مُحرِّق، فابتدرْتُه قُبيلَ ينتهي ما دارَ بيننا ، كأنّي أسائِلُه سؤالا ، وأسألُه معونةً وإفضالا ، فقلتُ :
تقبَّل الله ، عمّي !

فقال :
لا قبِلَ الله لا منّا ومنكم ، يا إبني قُمْ فأعدِ الصلاة ! اهـ
فصعقني صعقةً ! فعلَتْ بِيَ الأفاعيل ! حتّى تهيّأتُني صِرْتُ الجاحظَ إلا في علْمِه وأدبِه وحسَبِه ونسبِه ..
ثم تنهَّدَ طويلا ، وحمْلقَ فِيّ وحدَّق ، فرأى في عينيَّ فضولا للاستماع، ورأيتُ في عينيه الخاشِعَتين بثًّا وشكاةً..
آهٍ لكأنَّ شمسَ الكلام ، تُضيءُ قمر السّماع ، لتؤنِسَ ليلَ الهمّ والغمّ ، فأبان المكنونَ بسكون ، فقال :

( إنّا كُنّا من قديم الزمانِ قبل أن تُولدَ .. بل قبلَ أن يولَد أبوك .. بل قبل أمِّك .. [ فقلْتُ في نفسي مازِحًا معَها : ويحَكَ، أمِّك لوحْدِك ! ]
يقول الشيخ : ( .. كُنّا أهلَ الحارةِ في هذا المسجد نُصلّي كلّ يومٍ ما يتخلّفُ منّا أحد عن جماعة ، فإذا تخلّفَ لمرض أو عرض زُرناه فواسيناه أو عزّيناه ، وكان إذ ذاكَ إمامٌ يجمعُنا على الصلواتِ والجُمعاتِ بخُطَبِ أمنٍ ودروسِ أمانٍ ، نطيعه في منشَطِنا ومكرهِنا ، في عُسْرِنا ويُسْرِنا ، إلا أنّه كان مُحدِثًا ومبتدِعًا ، ولكنّه لم يصِلْ ببدعتِه تلك إلى ما يخرجه عن الدّين فكُنتُ أعذرُه ، فهو كبيرُ السِّنِّ جَهولٌ غَفولٌ ، والنّاسُ الفُضلاء يُرقِّعون ما يخرق منه، ويجبرون ما هِيْضَ فيه ، فلقد كان مسْجدُ الحيّ عند الناس مضرَبَ مثالٍ للاقتفاء، ومعلَمًا بارزاً للعلم والعُلماء .. إلا أنّ المسجدَ كان لا يرتادُه إلا الكِبار ، والشباب قِلةٌ يومئذ المصلّون منهم ، وأمّةٌ قُوّادُها غيرُ شبابِها لا تُنجِب ..

وبينا نحْنُ نصلّي ذاتَ يومٍ إحدى صلَواتِ العَشيّ -وكنتُ في الصفوف الخلفيّة- ، إذ سمعْتُ في الصّفوف الأولى لجلجةً وعجعجةً ، ولا غرْوَ أن يُسمَعَ هذا عندَنا ، فالــــ"خَتايرة" عادةً إذا أحسّوا بريبةٍ وانتابَهم شكٌّ، أو حنَقٌ على إمام، أو طولُ مَقام ، معمَعوا وجعجعوا لا جرَم، ولا حرج ..
قُضيَتِ الصلاةُ ، وانتشروا في الأرضِ، فخرَجَتِ السّرَعانُ من المسجد ، إلا بقيّةٌ من أهلِه ، فجاءني مِنهم شابٌ بعمرِكَ ، بل يصغرُك، بل يكبُرك ، بل ... )

وصارَ الشيخُ مالك يتعتع ..
فكأنّني حينَ فعلَ ذلك ، هززتُ برأسي أنْ أتِمَّ ، وأشرْتُ بعينيَّ أنْ أكمِلْ ، فما الخبرُ الهيِّنُ هذا بخطْبٍ جَللٍ ، فلمّا رأى منّي هذه الحركات البغيضة عندَه ، كأنّه أنِفَ وأبَتْ هيبتُه عليه، فدَرَّ عِرْقٌ له في جبهتِه لغضَبِه، واحمرّ وجهُه فلقدْ رأيتُه كالبندورةِ البلديّة ، وانكمشَ مُقطِّبًا كعودِ سِواك ، يُشعرُني أنّي وخزْتُه وأزعجْتُه ، وكلّ هذا وهو مُكْمِلٌ حديثَه لا يلهو ولا يألو :

( جاءني هذا الشاب بعد انتهاء الصلاة والأذكار ... جاءَني ، فجلسَ بين يديَّ ، وهو يوازيني في العمر ، ولكنّ الشباب وقتذاك يُعظِّمون طالِبَ العلم الشرعيّ والمُطَّلع وذا اللحيةِ ويسمّونَه "ملتزمًا " ، فلمّا جلسَ قال : يا شيخ مالك ! كيف حالُك ؟ فقلتُ : يا أهلا، بحمدِه سُبحانه ، فقال : سؤال يا أبا عليّ، فقلْتُ : هلُمّ ! فسَلْ !.. ) اهــ قال الشيخ مالك معلِّقًا : ( وما لي من الولد حينَها لا عليّ ولا عُمر ، ولا أمُّهما )

وأكملَ أبو عليّ : ( وجلسَ بجانبي ، -فلَعمْري- لَأنْتَ منّي اليومَ في مكانِه بالأمس ، وإنّي لأفتأ أذكرُ ذلك لا أنساه حتّى أكونَ حرضًا أو أكونَ من الهالكين ، وما أقصّ عليك هذا الخبرَ يا محمود إلا لأنّا سمعنا في غضون الصلاةِ همهمةً وضجَّة ذكّرتْني اليومَ ذاك، ولأنّكَ أشبهْتَ خَلْقَ الشاب وخُلُقَه فأذكرْتَنيه ، فإنّه أنشأَ بعد الصلاة تلْكَ وبعد عُلُوّ الأصواتِ في المسجد ، يسألُني حتّى ضجِرَ ، وأضجرَني ، فقال :
يا أبا عليّ .. الإمامُ ينتقِضُ وضوءُه في الصلاة .. فما الحُكْمُ !
فقلْتُ: بُنيّ .. ببساطة .. الإمام إذا انتقض وضوءُه في الصلاة ، صحّتْ صلاةُ المأمومين إذا هو خرجَ منها .. أو هرَب منها ! وأوكلَ غيرَه ..
قلتُ [أبو علي] : أوكَانّ ذلك كائنًا ؟ فقال [الشاب] : لا ، قلتُ : فإنّ السؤال بُغيةَ جلْبِ المَقال لا لُتبنى عليه الأفعال من الإشغال ! فما الداعي لذلك وما تبرير سؤالك ؟
فقال : حدثَ ذلك غيرَ بعيد ! ، قال : فإن بقي ؟؟ في الصلاة !
قلْتُ : فإذا بقِيَ في الصلاة ولَمْ يدرِ أحَدٌ عن ذلكَ النّقض ، ثمّ التفَتَ إليهم بصفاقةٍ يتبسَّم ، صحَّتْ صلاتُهم جميعًا لعدَمِ علْمِهم، وبطُلَتْ صلاتُه هو، وهو يتبسَّم! )

فكشّر أبو عليّ عن أسنانِه ، مُتبسّمًا بسمةً برّاقةً لم أرها من قبلُ على مُحيّاه ، فهو وهو عابسٌ ما كان أحسنَه وأبهاه ! فكيفَ إذا انبلجَتِ الأسارير وبانت الأنيابُ ، وأكمَلَ :

( فابتسَمَ الشابّ حينَها لجوابي ) ،

فواللهِ لقد ابتسمْتُ لبسمتِه ، وسعدْتُ بطرفتِه ، حتّى -ظننْتُ- أنْ لو أكملْتُها لشقّتِ البسمةُ خدّيّ ، ولكنّي استعضْتُ عنها بضحكةٍ أضحكَتْه هو أيضًا ، وحينَها أدركْتُ أنّه قد سقطَتِ المؤونةُ والحفيظةُ بيننا ، فما أدري ذا الشيخُ بوقاره ورزانتِه أيُفتي أم يفتعِلُ الطرفةَ والنُّكتةَ مع مَن أمامَه .. وما كنتُ لأبتَسِمَ إلا لرجلٍ أمضَّهُ الضّنى وعلاهُ الوقار ، ثمّ هو معي في مُزاح وهِزار ، فللهِ درُّه !

أكملَ أبو عليّ مٌبتسِمًا قائلا :
( فقال الشابّ : فإذا بقي فيها ، ثمّ هو أخبرَهم بعدما انتهى منها أنّه قد أحدثَ حدثًا عظيمًا ؟؟ ..
فكأنّ الشابّ لمّا سألَني استعظمَ السؤالَ واستصعبَه على مَن هو مثلي مسكينٌ لوجودِ كلمة " عظيما" ، ولا فرْقَ عندنا في الفقه بين الحدث العظيم وغيره ، فكلاهما ناقضٌ للوضوء مُبطِلٌ للصلاة .. والعفيفُ عفيفٌ أبدا لا يقربَنّ الخبيث ، والخبيثُ في دركاتٍ بعد ذلك ، والإخلاصُ لا يكون حتّى لا تخالطه ذرة رياء، فإنْ فلَنْ ، والصادقُ صادقٌ أبدًا ، لقد قالوا: أيكذب المسلم يا رسول الله ، قال : لا ! اهـ فمن كذبَ ولو كِذبةً واحدةً حقيرةً انتفى عنهُ الصدق ، فإذا أدمنَه ، فهو "كذّاب" ، وكلاهما ( الكاذب والكذّاب ) ليسا بصادقَيْن .. فما أقبحَ الأبيضَ بأسودَ يشوبُه ..)

ثمّ ابتسمَ أبو عليّ ، واستوفزَ بدنُه ، فشخرَ بأنفِه واحدةً كالمتُعجّبِ مَعَ هزّة الرأسِ لأعلى ، ونظرَ إليّ وقال :
( تلكَ أيّامٌ قضَتْ قبلَ أن يأكلَ لحيتي الشيبُ فيختلط سوادها ببياضها)
واكتفيتُ أنا بحركاتِ الوجهِ الخفيفة، والمسايرة في الحديث معَ حديثِه حسبَما تقتضيه الحال ..
وأكملَ أبو عليّ الإجابة : فقال :
( فأجبْتُه :فإذا بقِيَ الإمامُ في الصلاة، ثمّ التفَتَ إليهم بعد الصلاةِ، وأعلَمَهم بنقضِ وُضوئِه ، بطُلَتْ صلاتُهم وصلاتُه، وتقبّل الله منّا ومنكم. وهذا نادر الحدوث جدّا ! فأعيدوا الصلاة ..
أوكان ذلك يا بُنيّ ؟ ، قال: يا عمُّ قد كان في ماضي الزمان وليس الآن !
قلْتُ: بُنيَّ ، أفَتُفَتِّرُ في ما كان ومضى وانقضى وتغفُلُ عمّا يكونُ ولا يُرتضى ؟ فما حالُك وأنتَ شابّ إلا كحال إمامِ المسجد ، يذكرُ ماضيكَ ويتغزّلُ به ، فليتَهُ لمّا كانَكَ أحبَّه واغتنمَهُ ، ولكِنْ هيهات وقد مات ما فات !

فقال الشابّ : فإذا لم يُخبِرِ الإمامُ أحدًا هنالِك ، وعرَفَ أحدُهم بذلِك ، وغيرُه كَذلِك ، فما ترى شيخَنا "مالِك" ؟ فقلتُ له : أعِدْ ، وائتِني بسؤالِك !
فعرفَ الشاب منّي ما أبغضُ ، فأعادَ السؤال بلا تكلُّفٍ ، فقال : إذا أحدثَ الإمام ، ولم يُخبِرْ أحدًا بذلك ، ولكنّ بعض المُصلّين علموا بنقْضِ وضوئِه !؟؟
قلْتُ: كيف ذا يكون ؟
قال الشاب : يكونُ بلُغةِ الفقهاء أمثالك : إذا التفَتَ إليهِمْ وهو يتبسَّم ولم يُخبِرْ أحدًا بشيء، على أنّا كُنّا قد سمعْنا هَوْلا عنيفًا ، وتنسَّمْنا ريحًا عصيفًا !
قلْتُ : فأخرِجُوهُ من المسجد وهو يتبسَّم ، وقوموا إلى صلاتِكم يرحمكم الله !
وابحثوا عنْ مَن هو حقيقٌ على أن تأتمّوا به ..
فعاودَ الشابّ يتأكّد من إجابتي ، فرددْتُه بما بدأتُ ، فعادَ فرَدّ فرُدّ ، فقلتُ: أفكائنٌ ذلك ؟؟ أوَحدَثَ هذا ؟
قال : بلى واللهِ يا أبا عليِّ ، بلى واللهِ يا شيخ مالك !
قلتُ : أين ؟
قالَ : دونَك إمامَنا ، فواللهِ لقد أحدثَ في الصلاةَ أحداثًا ، لهي أشدُّ ممّا أحدَثَه في دينِ الله من البدع والخُرافات ، ولقدْ سمعْناهُ عَيانًا ، ورأيناهُ بُرهاناً ! فما أحَدٌ يدري حُكْمَه ولا حُكْمَ نفسِه ولا حُكْمَ صلاتنا .. !!
فقلْتُ : آلله ؟؟ فقال : آلله !
فقُمْتُ من فوري ، وكنْتُ شابّا غليظًا في القولِ، قويَّ الشكيمة ، صعْبَ المراس، ذا صرْعةٍ واستعارْ ، ينتهِضُني أدنى اعتِراض، ولا تأخذني في الله لومة لائم ، إلا أن تكونَ نصيحةً أو آيةً في كتاب الله ، فأقمْتُ فيمن بقي من الناسِ الصلاةَ ، ولم أعنِّفْ الإمامَ فإنّي ليِّنٌ مع إخواني إذا زلّوا وجهِلوا ، وقلْتُ إلى صلاتِكم فإنّها واللهِ باطلة !
فما قامَ معي واحدٌ منهم، حتّى الشابّ السائل فإنّه تضعضع وتقهقر ، وفزع من جُرأتي فأدبر، فلو رأيتني كلُّهم يرمونني بالتُّهَمِ بالمكاييل جُزافًا ، وبادّعاءِ أنّي أتزعّمُهم وهُم شيوخٌ "ختايرة " فما خرجْتُ من المسجد إلا على شتائِمِهم، وخذلانِهم لي ، وصلّيْتُ وحيدًا في بيتي ، وتقبّلَ الله منّا ومنهم .. وحالي قولُ الشاعر :
فكانَ ما كانَ ممّا لسْتُ أذكرُه ** فظُنّ شرّا ولا تسألْ عن الخَبَرِ !)

قلْتُ : يا أبا عليّ ، ولهذا سُمّيتَ ....
قال مقاطعا : ( أبو الخوازيق ! صرْتُ من أبي عليّ ، إلى أبي الخوازيق ، فلقدْ آذاني كلّ أهل المسجد إلا مَن به نزْرُ عقلٍ، وقليلٌ ما هُمْ، وصرْتُ المعذولَ المَلومَ على ألسُنِ الجميع الصالح والطالح منهم ، فلا أجلس في هذا المسجد إلا جلسة الصلاة ، وإلّا قصدْتُ مسجدًا آخر ..
إنه قد ورَدَ في تفسير قول الله تعالى ( وعلّم آدمَ الأسماءَ كُلها ) أنّ الله علّمه اسمَ كُلِّ شيء ، حتّى قالَ بعضهم : الفسْوةَ والفُسيّة ، فلا أدري ما العيبُ في أن يخرجَ الرجلُ من الصلاةِ بعدَهما ، خاصّةً وقد انكشفَ الأمر ، وانهتَك الستر ! )

قلْتُ : يا أبا عليّ ، واللهِ إنّي لأعجبُ أشدَّ العجب ، أفيفعلُ الإمامُ هذه الأفاعيلَ ، ويسمَعونه النّاس ، ويرونَه ، ثمّ هُمْ لا يعبأون بِهْ ويتركونَه على ما هو عليه ؟؟ يا أبا عليّ ، وإن تعجبْ فعجبٌ حالُه هو ، ألَهُ وجْهٌ يخرج به إلى الناسِ بعدَ هذا ؟؟

فقال أبو عليّ وهو يبتسِم :
بُنيَّ محمود ، ذلك لأنّ مِن خلفِه لضرَّاطين كُثرْ ! اهــ

فواللهِ لقد أضحكني حتّى أبكاني .. وحالي قولُ الشاعر :
طفحَ السّرورُ علَيَّ حتى أنني ** من عظم ما قد سرّني أبكاني
يا عينُ صارَ الدمعُ منكِ سجيةً ** تبكينَ في فرحٍ وفي أحزاني

قلْتُ مُمازِحًا : ولكنّهم ككبيرهم الذي علّمَهم الغثارة ، ولكّنهم على الصامت ..
أسأل الله أن يقبلَ منّي ومنك يا أبا عليّ ..

فقال :
(يا محمودُ أنتُم الآنَ جبلٌ صاعد ، وجيلٌ واعِد ، وطموحٌ لا يتزحزح ، وهمّة لا تهدأ ، وبركان ثائر !!
فسيروا في الدّربِ الّذي سلكْناه جموعًا جميعًا ولا تتفرّقوا ... ) وأخذ يشدّ من همّتي ويستثير عزيمتي ..
فقاطعتُه قائلا : خلِّ عنْكَ يا أبا عليّ .. قل لي فمَنْ هُو الإمام هذا ..؟؟
قال : ماتَ ، والميْتُ إلا نترحّمْ عليه ، لا نسبُّه ، ولا نذكره بشرِّه فقد ولّى وأفضى إلى ما قدَّم ..
قلتُ : فمن الشابّ هذا ؟؟ الّذي سألَك ..
قال : هُوَذا ... اهـ
فأشارَ الشيخُ مالك تلقاءَ رجُلٍ ، فإذا هوَ الإمام ، فوقعَ قلبي من صدري حتّى التمسْتُه في عقِبَيّ ، فقلتُ : الإمام ؟!؟
فقال أبو عليّ : نعَم ، وسمعْتَ الضجّة ، وهاهو فانظر إليه ، فإنّه يتبسّم ! اهـ

فواللهِ لقدْ قُمْتُ عن الشيخِ مالِك ، وعينُه تسكُبُ العبَرات ، لقد رثيْتُ له فبكيت، شَجَّ فؤادي وأبكى قلبي وأذرفَ دمعي ، ومُذ فارقْتُه ما أخطأَتْ دموعُ العين مآقيها كلّما رأيتُه ..
فقال لي آخر ما قال : اللهُ معَك يا بُنيّ ، الله معك ! اهــــ

فقمْتُ فيهم مُقيمًا الصلاةَ ، مُؤذِنًا ببطلانِ الأولى ، وقامَ كثيرٌ من شباب المسجد معي ، وإنّ بعضَ المُتحذْلقين قال : عجّلْ وكبِّرْ ، قلتُ : لا واللهِ ، حتّى يخرجَ الإمامُ المأسُ ، فإنْ يخرُجْ من المسجدِ فإنّا داخلون في الصلاة !! . وأبَيْتُ إلا ذاكَ وأبى مَن كان معي ...

ألا فقوموا إلى صلاتِكم يرحمْكم الله !
يؤمُّكم أبو علي ، أبو الخوازيق ، الشيخ عليّ - رضي الله عنه وأرضاه - ..



محمود الصقور
(أبو عبد الله الرياني)
17/11/2012