المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفلسفة التاريخية لمذهب أهل الحديث الفقهي - عصر النصر



أهــل الحـديث
09-11-2012, 11:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الفلسفة التاريخية



لمذهب اهل الحديث الفقهي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين ، اما بعد :
فمن نظر في كتب اهل العلم لا سيما كتب علماء القرن الرابع الهجري، ومن جاء بعدهم يرى انهم ينسبون بعض المذاهب الفقهية الى اهل الحديث، فيقولون: "والى هذا ذهب اهل الحديث"، فمن هم اهل الحديث؟ وهل هذا المذهب له معالم محددة تميزه عن غيره؟ وهل هو باقٍ الى الآن ؟ وهل تصح النسبة اليهم هذه الايام؟
للوقوف في هذا الموضوع المهم على قدم ثابتة لا بد من تحرير مسألتين :
الأولى: ما يتعلق بـــــــــ"مصطلح اهل الحديث"، والمراد منه في اطلاقات اهل العلم، فيطلق "اهل الحديث" في مقابل أهل الرأي وهذا الاطلاق اطلاق فقهي؛ حيث يتضمن الاشارة الى المناهج التي خرجت من رحم مدرسة الصحابة وكبار التابعين، كما يطلق "اهل الحديث" في مقابل "المتكلمين"، وهذه اشارة الى منهج عقدي .

الثانية : الاطوار الفقهية التي مر بها الفقه :
مرّ الفقه الاسلامي بمراحل، كان لكل مرحلة منها ما يميزها عن غيرها، وهي متسقة ومتوائمة؛ حيث يمثل كل طور منها اصلاً لما سبقه.
فأما الطور الاول فهو طور الفقه في العهد النبوي، ثم طور فقه الصحابة، وهو يمثل شباب الفقه وقوته؛ إذ امتاز بقرب مآخذه ووضوح معالمه، وفيه ظهرت نواة المدارس العلمية...
وأما الطور الثاني فهو طور فقه كبار التابعين حيث اتخذ الفقه منحى اخر من خلال انحصار المدارس بمدرستين، مدرسة اهل الجحاز، ومدرسة اهل الكوفة، وكانت كل واحدة من هاتين المدرستين تمثل منهجا بحثيا وخطا اجتهاديا تعود جذوره الى فقه فقهاء الصحابة رضي الله عنهم .
وكان اشهر من عرف من فقهاء مدرسة الحجاز سعيد بن المسيب حتى عُد لسان اهل الحجاز وفقيههم، وقد عرفت المدرسة الحجازية بمدرسة اهل الحديث، وقد خرج من رحمها عدد من ائمة المذاهب منهم: مالك فقيه دار الهجرة، والشافعي ، واحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وابن جرير وغيرهم من الائمة، وهذا المنهج البحثي والطريقة الفقهية التي يطلق عليها مدرسة اهل الحديث هي المعبرة -تاريخيا- عن مذهب المحدثين، مع ان في مدرسة الكوفة كثيرا من المحدثين كإبراهيم النخعي, وسفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان, الا ان الكلام هنا عن منهج خاص تميز به اهل هذه المدرسة، وعلى كل فالخلاف بين المدرستين محفوظ ومسطور يعود في اصله كما قدمت الى منهجية البحث، خصوصا ما ظهر في مدرسة الكوفة من التوسع بالرأي وافتراض المسائل حتى بلغ الامر ان يسطر الخلاف في كتب العقائد المسندة وبعض مصنفات الحديث والكلام في ذلك مشهور .

اذن: ما يوجد في كلام اهل العلم عند ذكر مسائل الفقه من قولهم: "اهل الحديث" فمرادهم من قدمنا من الائمة من اتباع مدرسة الحجاز، وان كان بعضهم اشهر من الاخر و اكثر تعبيرا عن حقيقة مدرسة الحديث.
وبعبارة اخرى نستطيع ان نقول: ان هذه النسبة وان كان الجميع يشترك بها الا ان من فيها يختلفون في التعبير عنها قربا وبعدا فمثلا يعد احمد واسحاق من اعمق من مثل مذهب المحدثين واما الشافعي فهو اقل منهم-والمقارنة هنا نسبية- وهذا يعود الى ما فعله الامام الشافعي من مزج فقه اهل الحجاز الذي اخذه عن جماعة من اشهرهم الامام مالك مع فقه اهل الكوفة حيث تتلمذ على يد محمد بن الحسن صاحب الامام ابي حنيفة رحم الله الجميع، وكان لهذا المزج اثر ظهر في فقه الامام الشافعي, وفي مذهب الاصحاب من بعده، بينما كان لذلك العمق الحديثي اثر في فقه الامام احمد وفقه اصحابه من بعده .

- تدوين فقه اهل الحديث :
كان الفقه في تلك المرحلة كغيره من العلوم التي تتطور وتنمو غير مدون بالصورة التي ظهرت في الطور الاخير للفقه وهو طور المذاهب، وانما كان المعبر عنه هي المسائل سواء ما يتناقله العلماء وطلبة العلم والعامة بينهم او ما كتب من اجوبة هؤلاء الائمة وهذا الذي اشار اليه الامام الترمذي في كتابه العلل عندما ذكر اسانيده للمسائل الفقهية التي نقلها عن الائمة .

هل ما زال مذهب اهل الحديث موجودا؟
الناظر في تاريخ الفقه الاسلامي يرى ان مذهب اهل الحديث على ما وصفناه طور من اطوار الفقه كما انه نواة لما بعده من المراحل، والناظر يجد ان هذا المذهب الحديثي خرج من رحمه عدد من المذاهب كما قدمت الا ان اشهر هذه المذاهب، هي المذاهب التي بقيت، كمذهب مالك، والشافعي، واحمد،ويمكن ان يضاف اليها مذهب داود الظاهري.
هذه المذاهب هي المعبر عن مذهب اهل الحديث، وهي التي حملت خصائصه المنهجية والبحثية مع اثبات الخلاف بينها لاعتبارات معينة ذكرها من ارخ للفقه كابن خلدون في مقدمته وغيره من اهل العلم...
مع ما تقدم لا بد من الاشارة الى ان مذاهب الائمة التي انحصرت وانحصر العمل بها حتى اندثرت بالكلية بقيت اقوال اصحابها تُتناقل في كتب الفقه كأقوال هي جزء من مذهب اهل الحديث الا انها لم يكتب لها البقاء, كما ان فيها الصحيح وفيها الضعيف.
اذن: في مضامين المذاهب الفقهية المدونة وجد مذهب اهل الحديث, وهنا لا بد من الاشارة الى ان الاطوار الفقهية احتاج كل طور منها الى ما بعده من اجل تهذيبه وترتيبه وهذا يعود الى طبيعة العلوم عموما وهو متعلق بتطورها، كما لا بد من التنبيه الى ان مذهب اهل الحديث ليس قسيما للمذاهب الفقهة المدونة بل هو اصلها كما تقدم، ومع هذا كله لا يمنع من نقل الاقوال المنسوبة لاهل الحديث وهي مدونة في كثير من الكتب خصوصا المصنفات كمصنف عبد الرزاق ومصنف ابن ابي شيبة وفي بعض كتب السنن, كسنن الترمذي وفي المدونات الفقهية وكتب الخلاف العالي.
لذلك نستطيع القول ان مذهب اهل الحديث الذي هو طور من اطوار الفقه انتهى بعد تدوين المذاهب وتعدد مدارسها ومثل هذا يقال في مذهب اهل الكوفة او مذهب اهل الرأي، فالمذهبان –الحديث والرأي– عبرا عن مرحلة زمنية انتهت عند تدوين المذاهب الفقهية، وقد دخل عليهما من التطور في طريقة معالجة الفروع الفقهية ومنهج البحث فيه ما اوجب انتقاله عن اصله حتى اصبح اصل ما بعده من المدراس الفقهية .

هل تصح النسبة لاهل الحديث في عصرنا الحاضر ؟
لو تجاوزنا ما تقدم ذكره من ان مدرسة اهل الحديث تمثل طورا فقهيا انتهى بتدوين المذاهب الفقهية ، فلا بد من طرح سؤال للاجابة عن السؤال الاول، وهو هل مدرسة الحديث المتأخرة التي يمكن ان تحدد زمنيا بظهور الامام الشوكاني رحمه الله تتوافق مع مذهب المحدثين المتقدمين؟
والجواب عن ذلك يكون بالاتي :
اولا: من حيث المنهج الاصولي والطريق الاجتهادي:
فمن نظر في مدرسة المتقدمين من اهل الحديث يرى ان منهج البحث عندهم هو المعبر عنه بمدرسة المتكلمين الأصولية وهي التي يقوم اساسها على تقعيد القواعد الاصولية ابتداء من غير تطرق الى الفروع الفقهية من خلال إعمال اللغة العربية، واستقراء الادلة الشرعية ومنهج الصحابة في التعامل معها، ومع الاشتراك في عموم الاصول الا ان لكل مذهب من المذاهب الفقهية ما يميزه، فقد تميز المذهب المالكي بمدرك فقهي هو القول بعمل اهل المدينة والتوسع بالمصالح المرسلة، بينما عرف عن الشافعي القول بنفي الاستحسان، وتوسع الحنابلة بالاخذ باقوال الصحابة واعمال ظواهر الادلة وتقديم النصوص، بينما مدرسة المتأخرين من حيث الاصل لا يوجد لها منهج بحثي يمكن ان يرجع اليه، وانما يقوم الامر عند المتأخرين على اختيار ما ترجح لهم من مناهج اصولية وطرق اجتهادية وقد تمثل هذا بعدد من الكتب مثل كتاب الفقه الاسلامي وادلته, والوجيز..وغيرهما.
ومن اهم الكتب التي مثلت هذا المنهج كتاب: "ارشاد الفحول" للشوكاني رحمه الله، ومن نظر في كتابه هذا رأى منهجا مغايرا للمتقدمين من اهل الحديث، بينما يضيق من القول بالقياس والمفاهيم وينفي الاخذ بقول الصحابي، فتجده يتوسع بالاخذ بظواهر الادلة...
اذن: هناك فرق بين منهج المتكلمين الاصولي ومنهج المتاخرين حيث قام كما تقدم على الترجيح والاختيار بل لم يقتصر على مدرسة واحدة وهي مدرسة المتكلمين وانما كان الاختيار من مدرسة الراي كذلك، وكل هذا يقوم على اختيار صاحب الكتاب، والمجتهد في مسألة ما.

ثانيا : من حيث المنهج الحديثي الخاص:
فقد رأينا فرقا منهجيا بين مدرسة الحديث عند المتقدمين والمتأخرين ويمكن ان يظهر هذا من خلال التتبع فيظهر لنا ان المنهج الفقهي عند علماء الحديث المتقدمين يختلف عنه عند المتأخرين واقصد بهم الذين جاؤوا بعد الإمام الشوكاني رحمه الله, ويمكن ان نحصر الفرق في قضيتين منهجيتين وبيانهما على النحو الآتي:
القضية الأولى: في العمل على وفق الحديث او مخالفته.
القضية الثانية: في التعامل مع مراتب الأحاديث من جهة الصحة والضعف.

اما المسالة الأولى: العمل على وفق الحديث او مخالفته:
فقد اتفق اهل العلم على ان السنة النبوية الأصل الثاني بعد القرآن, وانها مفسرة للقران ومعبرة عنه ومبينة له، كما انها تستقل بالتشريع.كما اتفق أهل الحديث على ان الحديث اذا توفرت فيه شروط الصحة صحت نسبته الى النبي صلى الله عليه وسلم وقطع بمضمونه .
ومن هنا كان الأصل ان يعمل أهل العلم بما تدل عليه الأحاديث النبوية –كما تقدم– إلا أن لهذا الأصل استثناءاتٍ، فقد يعتري الحديث مانع يمنع من العمل به، قال الثوري -رحمه الله- : "قد جاءت أحاديث لا يؤخذ بها "[1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn1)، ومن نظر في أقوال أهل العلم يرى أنهم يطلقون على بعض الأحاديث ان العمل يجري على خلافها، ومن ذلك قولهم : لم يعمل به.
ومن هنا تجد ان من مقاصد كثير من المصنفين ان يودع في كتابه الأحاديث التي جرى عليها العمل واحتج بها الفقهاء، وأحيانا يتوسعون فيدخلون كل حديث عمل به فقيه.
قال ابو داود –رحمه الله-: "والاحاديث التي وضعتها في كتاب السنن اكثرها مشاهير"[2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn2). وقال الترمذي: "جميع ما في هذا الكتاب –اي السنن- من الحديث معمول به, وقد اخذ به بعض اهل العلم, ما خلا حديثين"[3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn3)، واما الدارقطني رحمه الله فقد توسع حتى ادخل الأحاديث الغريبة والمعلولة التي عمل بها الفقهاء ومن هنا كثرت الاحاديث المنكرة والغريبة في سننه ونزلت رتبة كتابه مقارنة بالكتب الستة.[4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn4)
اذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الأحاديث التي خرجت عن الأصول المعتبرة عند اهل الحديث كالكتب الستة ومسند احمد، حيث جمعت هذه الكتب اصول السنة النبوية ، فالاحاديث التي جمعتها كتب الطبراني او كتب الفوائد كفوائد تمام او كتب التاريخ مثل تاريخ بغداد او الكتب المعللة كمسند البزار ... ونحو هذه الكتب، أحاديث تكثر فيها العلل، وان لم ينص على ترك العمل بها الا ان استنباط الاحكام منها والعمل بها يحتاج الى تأنٍ ، فان لم يكن للحديث اصل في الكتب المعتمدة ، فهذا دليل أولي على تركه ضمنا، ومن نظر في كتب قوانين الرواية او كتب اصول الفقه يرى انهم قد وضعوا قواعد وقوانين تضبط مسالة العمل والاحتجاج بالاحاديث عموما .
ونخلص الى ان مسألة عمل العلماء بالحديث مسألة معتبرة عند العلماء في المذاهب الفقهية ، وهذا ما لم نجده عند المتأخرين من بعد الإمام الشوكاني رحمه الله .

واما مسالة الثانية: التعامل مع مراتب الأحاديث من جهة الصحة الضعف :
فهي مسألة متعلقة بسابقتها، حيث يعتمد اهل العلم على الحديث الصحيح بقسيمة في الاحتجاج وهذا من حيث الجملة لا خلاف فيه. الا ان الناظر في كتب اهل العلم من الفقهاء والمحدثين يرى أنهم يحتجون بأحاديث ضعيفة قد أنخرم فيها شروط من شروط الصحة بل هذا يكاد يكون منهجا عاما في المذاهب الفقهية الأربعة ، وهو محل اتفاق عند الأئمة – من أصحاب المذاهب -.
ان الناظر في هذه المسألة يلحظ ان محل النظر في الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث هو المعنى الذي اشتملت عليه، ومن هنا سوّغ بعض أهل العلم إطلاق الصحة على بعض الأحاديث القريبة الضعف حيث يكون النظر الى المعنى الذي اشتملت عليه مع ضعف الإسناد ، وبهذا علل الحافظ ابن رجب احتجاج الإمام احمد بالمرسل مع قوله بضعفه ومثله الإمام الشافعي وهذا الأخير -اي النظر إلى الإسناد المعين- هو محل نظر المحدثين ، على ان لمسالة الاحتجاج بهذا النوع من الحديث شروطها المعتبرة التي من أهمها خلو الباب الفقهي من حديث صحيح ، وقد عُرف الإمام احمد بمثل هذا المسلك ومثله تلميذه ابو داود وهذا بطبيعة الحال لا يعني الصحة الاصطلاحية كما قدمت التي يكون النظر فيها إلى الإسناد المعين من خلال توفر شروط الصحة المعروفة فيه .
إذن من تأمل في هذين المنهجين عند الفقهاء المتقدمين يرى ان هناك بونا شاسعا بينهم وبين الفقهاء المتأخرين ، الذين اغفلوا مثل هذه المناهج مما اثر في ملامح الفقه عندهم.
ومما تقدم يظهر لنا ان النسبة الى اهل الحديث المتقدمين غير دقيقة ، وان كانت بعض المسائل تصح نسبتها الى قائليها ولكن هي اقوال فردية لا تضاف الى مدرسة الحديث, وان مدرسة الحديث فعليا آلت الى المذاهب الفقهية المتقدمة.



والله اعلم



وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين


كتبه:
عصر بن محمد النصر الأردني
باحث دكتوراة في علوم السنة النبوية


[1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftnref1)-(شرح العلل لابن رجب 1\332)

[2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftnref2)-(رسالة ابي داود, ضمن مجموع ثلاثة رسائل في علم مصطلح الحديث,ص 47)

[3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftnref3)- ( ينظر شرح العلل 1\323)

[4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftnref4)- ينظر رسالة الشيخ ابي غدة السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص22-26.