المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحلة الحج



عميد اتحادي
20-10-2012, 04:50 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



إن تغير الاتجاه لإنسان ما عن المجرى الذي تمضي فيه حياته الزمنية لا يتم إلا إذا أراد الله له أن تبلور في ذهنه فكرة معينة، تستولي عليه. ويسعى جاهداً لتحقيقها.
وعندما تلوح الفكرة الجديدة يبدأ المرء في اتخاذ الأسباب لتحقيقها. وربما لم يكن ليخطر له على بال أن يجهد نفسه من أجل هذه الأسباب أو يشقي نفسه بالسعي وراءها.
وعندما تكون الفكرة هادفة لتحقيق غاية طيبة، فإن التفكير فيها يحول المرء تحويلاً كاملاً ليصبح إنساناً طيباً صالحاً ومنتجاً.
والتفكير في رحلة الحج وفي أدائه بداية لمشروع متكامل يحول المسلم في البلاد الإسلامية إلى شخصية جديدة حيث تتحول الفكرة لديه إلى مشروع له بداية وتخطيط فإعداد وتجهيز، ثم بدء وتنفيذ.
ولا شك أن الغايات الإسلامية تدفع بالمسلم نحو العمل لرفع مستواه من أجل هذه الغايات.
ألا ترى معي أن الإنسان الذي يحافظ على الصلاة، يظل حريصاً طول يومه على نظافة ثيابه على الدوام، لتكون ثيابه طاهرة كما يظل طول يومه يشعر بحاجته إلى الماء ليتطهر به عندما يهم بالوقوف بين مولاه، كما أنه يتجنب الخبث في بدنه ليكون مستعداً لأداء الصلاة.
ومن هذا القبيل ما يحدث لبعض الناس الذين يجدون في أنفسهم رغبة عارمة لبناء مشروع خيري لبناء مسجد أو مدرسة، وهو لا يجد بين يديه ما يحقق هدفه، فتراه يفكر في أن يكون له عمل مريح يعيش عليه ويقتصد منه لتنفيذ ما نواه.
بل ولقد يبلغ العزم به حد النذر لهذه الغاية، وهو بعد لم يشرع بل ولا يمتلك المبررات.
وكذلك الأمر عندما تنشأ فكرة الحج لدى بعض المعدمين من المسلمين. ومع أن الإسلام لا يفرض الحج إلا على المستطيع. ولكننا نجد الرغبة قوية لدى بعض أفراد المسلمين في كل أرجاء الوطن الإسلامي لرؤية الأماكن المقدسة، وللوصول إليها حاجين ومعتمرين. وقد يكون الحج بالنسبة لهم شاقاً للغاية، لأنه بعيد المنال منهم ولكن الفكرة عندما يعطيها الله للعبد يهيئ له الأسباب للوصول إليها ويهيئ له الشروع في وسائل تحقيقها.
طريقة تربوية متكاملة:
وعلماء التربية من قديم وهم يبحثون عن أقوم الوسائل وأفضلها في التربية وقد استحسن الكثير منهم ما يسمونه " بطريقة المشروع " وهي تعتمد على انتقاء فكرة معينة يتفق عليها المدرس مع تلاميذه، ثم يدرسون الوسائل لتحقيقها وللوصول إليها. ولو فرضنا أن المشروع المختار عبارة عن رحلة إلى مكان بعيد فإنه يلزم لتحقيق ذلك إلمام الطلاب بفكرة عن علم الجغرافيا لمعرفة طبيعة المسافات والأجواء ودراسة عن التاريخ، مع دراسة لوسائل المواصلات وهكذا يتعرف الطلاب إلى عناصر متعددة للوصول إلى غرض معين.
واعتقادي أن رحلة الحج هي المشروع الإسلامي الذي اختارته الشريعة للكثيرين من عوام المسلمين الذين يعيشون داخل المصانع أو بجوار المزارع لا يبرحونها، أو يعيشون في مدن صغيرة أغلقت أبوابها عليهم لا يفارقونها.
فإذا ما وجدت فكرة القيام بأداء الحج بدأ المسلم يعد لها، ومن لحظتها يبدأ التفكير والتخطيط والإعداد ثم التنفيذ. وهذا كله لا يتم إلا إذا درس الراغب في الحج الكثير من الأمور.
واسمحوا أن أقول محقاً: إن بعض الحجاج الذين يفدون على مكة المكرمة ربما لم يكن أحدهم قبل هذه الرحلة يمتلك حقيبة سفر، أو ربما لم يركب قطاراً، أو باخرة، أو طائرة، ورحلة الحج ستلفت نظره إلى كل هذه الأمور، وليس كالانتقال والارتحال شيء يفتح العيون ويوقظ البصائر.
ثم يأتي دور الحج في تذكير المسلم العادي بالاقتصاد لأن الآلاف من المسلمين البسطاء لا يعرفون من أسلوب العيش سوى أن يعمل وينفق كل ما يكسبه على طعامه وشرابه ولا يفكر في ادخار أي جزء من دخله للغد فإذا ما وجدت فكرة الحج عرف المسلم البسيط الطريق إلى تنظيم دخله وإلى ادخار جزء من هذا الدخل.
وهذا التفكير لا ينتهي به إلى الادخار فحسب وإنما يدعوه إلى الابتعاد عن الكثير من العادات الضارة مثل الإسراف في شرب الشاي أو الإنفاق الزائد أو التدخين أو كافة المكيفات المذمومة.
بل قد يدعوه ذلك من أجل الحصول على المزيد من الدخل زيادة ساعات عمله أو الارتقاء بأسلوب العمل. هذا إلى جانب ما يقوم به من محاولة للحد من الانصياع للرغبات المادية التي لا نفع فيها... وهذا هو الدرس الأول.
الدرس الثاني: ويأتي الدرس الثاني وذلك عن طريق الإعداد للرحلة ويبدأ بالبحث عن الرفقة واختيارهم. ثم البحث عن أوعية الزاد، مع دراسة لكل ما يحتاج إليه الطريق. ثم دراسة لوسيلة السفر، سواء أكانت براً أو بحراً أو جواً.
كل هذه المعلومات تهمه ولابد أن يشغل نفسه بها ولولا مشروع الحج ما اهتم ولا سأل ولا درس.. والآلاف من الريفيين في الكثير من البلاد الإسلامية ينظرون إلى الطائرة فوق رؤوسهم مع السحاب ولا يسمح لفكره بأن يتصور أنه سيكون في داخلها يوما ما. ولكن رحلة الحج تحوله من شخص قانع بسيط متكاسل، إلى شخص طموح يركب المشاق ويواجه المعاناة، ويصبح من ركاب الطائرة يوما ما. فمن أين جاء هذا الانقلاب العظيم، بل من أين جاءت الشجاعة للنساء الضعيفات والمسنات وقد بدا لهن الاندفاع لركوب الأهوال والصعاب إنها ولا شك رحلة الحج التي حولت الطبائع والنفوس، وحركتها من بيتها إلى بيت ربها، وفي قوة وعزم وإصرار. وشجاعة وبطولة وإقدام.
الدرس الثالث: وخلال مشروع الحج الفعلي يتلقى الحجاج التجربة في الاعتماد على النفس اعتماداً كلياً في الفعلي يتلقى الحجاج التجربة في الاعتماد على النفس اعتماداً كلياً في إعداد الطعام لنفسه إن لم تكن معه امرأة، كما تتحمل المرأة المسؤولية كاملة عندما لا يكون معها زوجها، فتصبح هي المسؤولة عن إدارة أعمالها في الداخل والخارج، ومسؤولية حماية نفسها وتنظيم أمورها. وخلال السير يشاهد الحاج الكثير من المشاهد التي لم يشهدها، ويلتقي بأقوام لم يرهم، ويتذوق أطعمة جديدة لم يألفها، بعضها يستطيبه، وبعضها لا يستطيبها، ويمضي الحاج في طريقه حتى يرى القمة، يرى البيت الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، ويرى المحور الذي يتجه المسلمون إليه في كل بقاع العالم، ويرى الكعبة، التي جعلت رمزاً للوحدة بكل صورها وكل معانيها.
وحدة المعبود، ووحدة الاتجاه، ووحدة الإنسانية. ثم يسير إلى عرفات فيتعارف مع أجناس لا عهد له بهم، ويرى خلائق لم يفكر فيها من قبل ويهتز تسليما وإذعانا للواحد الخلاق، الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا شبيه ولا نظير.
عودة المنتصر:
ويمضي الحاج في مشروع الحج يتعلم ويتثقف، ويجرب ويتدرب ويحصل ويستفيد، ثم يعود مغفور الذنوب، مستور العيوب، راضي النفس، قرير العين، ومستبشرا متفائلا قد تلقى أعظم درس جماعي وتجريبي وعملي من خلال الرحلة.
هذا كله إلى جانب ما يرى في تلك البلاد من مشاعر إسلامية أصلية، فيرى مشاعر التوحيد جلية صادقة نقية خالصة، بعيدة عن الخلط والمزج. وإنما تبدو صافية موجهة إلى الواحد الأحد الله الذي لا إله إلا هو والذي لم يلد ولم يولد.
ثم يشهد ويمارس مع الوسط الذي يعيش إلى جواره في هذه الفترة نظام الاستجابة إلى الصلاة في وقتها ويأخذ نفسه باحترام النداء. ويشعر أن كلمة ( الله أكبر حي على الصلاة ) تذكير بالخالق ودعوة منه إلى بيته لأداء حقه. فيعتاد على أداء الصلاة لوقتها وكثير من المسلمين لا يبدؤون الانتظام في الصلاة إلا بعد الحج، متأثرين بالمظهر الجماعي الذي يتم فيه أداء الصلاة بصورة لا مثيل لها في مكانأ أخر.
والحقيقة التي لا شك فيها أن نسبة عظمى الحجاج تعود إلى أوطانها وقد قر قرارهم على اتخاذ نهج جديد وأسلوب أخر، واتباع نظام أرفع مما كانوا عليه قبل الحج فترى الكثيرين يحافظون على الصلاة، وكثير منهم ينهضون لأدائها لوقتها بعد أن كانوا متراخين في أدائها. وتستطيع أن تقول في صدق أن الحج مدرسة للدين وللحياة، وللأخلاق وللمعرفة وللدراسة وللتعليم ولإعطاء فرصة للمسلم لتصحيح أخطائه وللشروع في منهج أفضل لحياته.
وفي البلاد الإسلامية عندما ترى العامة شخصاً حج البيت يتصرف بما يخالف المنهج الصحيح، يردونه عنه قائلين له: عيب يا شيخ، أنت حجيت إلى بيت الله الحرام.
والله ولى التوفيق وهو المستعان، ومنه القبول وله الفضل العظيم..

وجزاكم الله خيرا.